الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَفْسَدَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَخْذُ بَعْضِهِمْ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الطَّرِيقِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ شَابٍّ لِيَكُونُوا مِنْ خَوَاصِّهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَحْلِقُونَ شَعْرَ رَأْسِ مَنْ يَتُوبُ عَلَى أَيْدِيهِمْ حِينَ يَأْخُذُونَ عَلَيْهِمْ الْعَهْدَ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِالْعَهْدِ وَمَاهِيَّتِه وَكَيْفِيَّتِهِ وَحَلْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ الْبِدَعِ، وَقَدْ كَانَ فِي عَهْدِ السَّلَفِ رضي الله عنهم مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَعَلَامَةً عَلَيْهِمْ. هَذَا إذَا كَانَ الْحَلْقُ لِأَجْلِ الدُّخُولِ فِي الطَّرِيقِ وَأَمَّا حَلْقُهُ لِكَثْرَةِ الدَّوَابِّ أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ جَائِزٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ.
[فَصْلٌ تَعْلِيقُ السُّبْحَةِ فِي عُنُقِهِ]
{فَصْلٌ} وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَعْلِيقِ السُّبْحَةِ فِي عُنُقِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ: أَنَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فَاعْرِفُونِي، وَمَا كَانَ مُرَادُهُ إلَّا أَنْ يُذَكِّرَ النَّاسَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَأْمُورِ بِإِظْهَارِهَا وَإِشَاعَتِهَا، وَإِظْهَارُ السُّبْحَةِ وَالتَّزَيُّنُ بِهَا لَا مَدْخَلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ، بَلْ لِلشُّهْرَةِ وَالْبِدْعَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فَيَتَّخِذَ السُّبْحَةَ فِي يَدِهِ كَاِتِّخَاذِ الْمَرْأَةِ السِّوَارَ فِي يَدِهَا وَيُلَازِمُهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَحَدَّثُ مَعَ النَّاسِ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهَا وَيَرْفَعُ يَدَهُ وَيُحَرِّكُهَا فِي ذِرَاعِهِ، وَبَعْضُهُمْ يُمْسِكُهَا فِي يَدِهِ ظَاهِرَةً لِلنَّاسِ يَنْقُلُهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً كَأَنَّهُ يَعُدُّ مَا يَذْكُرُ عَلَيْهَا، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّاسِ فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ وَمَا جَرَى لِفُلَانٍ وَمَا جَرَى عَلَى فُلَانٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا لِسَانٌ وَاحِدٌ فَعَدُّهُ عَلَى السُّبْحَةِ عَلَى هَذَا بَاطِلٌ إذْ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ لِسَانٌ آخَرُ حَتَّى يَكُونَ بِهَذَا اللِّسَانِ يَذْكُرُ وَاللِّسَانُ الْآخَرُ يَتَكَلَّمُ بِهِ فِيمَا يَخْتَارُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذُهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ الشُّهْرَةِ وَالرِّيَاءِ وَالْبِدْعَةِ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَعُدُّ عَلَى السُّبْحَةِ حَقِيقَةً وَيَحْصُرُ مَا يُحَصِّلُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا يَعُدُّ مَا اجْتَرَحَهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ.
وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا» فَأَرْشَدَ عليه الصلاة والسلام إلَى مُحَاسَبَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِاعْتِقَادِهِ
وَجَوَارِحِهِ وَيَعْرِضُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فَمَا وَافَقَ مِنْ ذَلِكَ حَمَدَ اللَّهَ عز وجل وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَبَقِيَ خَائِفًا وَجِلًا خَشْيَةً مِنْ دَسَائِسَ وَقَعَتْ لَهُ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا وَمَا لَمْ يُوَافِقْ احْتَسَبَ الْمُصِيبَةَ فِي ذَلِكَ وَرَجَعَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِالتَّوْبَةِ، وَالْإِقْلَاعِ فَلَعَلَّ بَرَكَةَ التَّوْبَةِ تَمْحُو الْحَوْبَةَ وَيَنْجَبِرُ بِذَلِكَ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ الْخَلَلِ.
وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ أَصْلُ عَمَلِهَا لِلتَّحَفُّظِ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالْهَوَاجِسِ وَالْخَوَاطِرِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ فِي كَسْبِ الْحَسَنَاتِ.
وَقَدْ قَالُوا: إنَّ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ أَوْجَبُ مِنْ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ» .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ بَكَى أَرْبَعِينَ سَنَةً فَسُئِلَ عَنْ سَبَبِ بُكَائِهِ فَقَالَ: اسْتَضَافَنِي أَخٌ لِي فَقَدَّمْتُ لَهُ سَمَكًا فَأَكَلَ، ثُمَّ أَخَذْتُ تُرَابًا مِنْ حَائِطِ جَارٍ لِي فَغَسَلَ بِهِ يَدَيْهِ فَأَنَا أَبْكِي عَلَى ذَلِكَ التُّرَابِ الَّذِي أَخَذْتُهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَحُكِيَ عَنْ آخَرَ مِثْلُهُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: طَلَعَ لِي طُلُوعٌ فَرَقَيْتُهُ فَاسْتَرَحْتُ مِنْهُ فَأَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ لِعَدَمِ رِضَائِي بِمَا فَعَلَهُ اللَّهُ بِي، أَوْ كَمَا قَالَ وَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُمْ فِي مِثْلِ مَا وَصَفْنَاهُ عَنْهُمْ فَمَا بَالُكَ بِمَنْ يَحْمِلُ الْأَثْقَالَ وَأَيُّ أَثْقَالٍ، ثُمَّ يَحْصُرُ الْحَسَنَاتِ وَلَا يُفَكِّرُ فِي ضِدِّهَا؟ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَحْتَجُّ بِأَنَّهَا مُحَرِّكَةٌ وَمُذَكِّرَةٌ فَوَا سَوْأَتَاهُ إنْ لَمْ يَكُنْ التَّحْرِيكُ وَالتَّذْكِيرُ مِنْ الْقَلْبِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ سبحانه وتعالى وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ:«إنَّ عَمَلَ السِّرِّ يَفْضُلُ عَمَلَ الْجَهْرِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا» هَذَا، وَهُوَ عَمَلٌ فَمَا بَالُكَ بِإِظْهَارِ شَيْءٍ لَيْسَ بِعَمَلٍ، وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ عَمَلٍ وَمَا زَالَ النَّاسُ يُخْفُونَ أَعْمَالَهُمْ مَعَ وُجُودِ الْإِخْلَاصِ الْعَظِيمِ مِنْهُمْ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ دُخُولِهِ الدَّسَائِسَ عَلَيْهِمْ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَفِعْلُ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الشُّهْرَةِ مَا فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّاجِرَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمُحَاوَلَةِ مَا يَتَّجِرُ فِيهِ فَلَا يَتْرُكُ مَا لَهُ فِيهِ سَبْعُونَ ضِعْفًا وَيَأْخُذُ مَالَهُ فِيهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هَذَا مَعَ السَّلَامَةِ