الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- عليه السلام فِي وَصِيَّتِهِ لِوَلَدِهِ يَا بُنَيَّ عَلَيْك بِذَوِي التَّجَارِبِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَرَّبَ قَدْ دَخَلَ فِي الْمَخَاضَةِ، وَعَرَفَهَا، وَعَرَفَ مَوْضِعَ السَّلَامَةِ فِيهَا، وَمَوْضِعَ الْعَطَبِ فَعَلِمَ مَا يَتَجَنَّبُ مِنْهَا، وَمَا يَحْذَرُ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ، وَمَا يُسْتَعَانُ بِهِ
[فَصْلٌ فِي التَّعَلُّقُ بِرَبِّهِ وَالسُّكُونُ إلَيْهِ وَانْقِطَاعُ رَجَائِهِ مِمَّنْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِثْلُهُ]
(فَصْلٌ) : وَآكُد مَا عَلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ التَّعَلُّقُ بِرَبِّهِ، وَالسُّكُونُ إلَيْهِ، وَانْقِطَاعُ رَجَائِهِ مِمَّنْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِثْلُهُ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ رحمه الله: وَلَقَدْ قَالَ شَقِيقٌ الْبَلْخِيُّ رحمه الله: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ مَعْرِفَتَهُ بِاَللَّهِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَا وَعَدَهُ اللَّهُ، وَوَعَدَهُ النَّاسُ بِأَيِّهِمَا قَلْبُهُ أَوْثَقُ، وَقَالَ: اتَّقِ الْأَغْنِيَاءَ فَإِنَّك مَتَى عَقَدْت قَلْبَك مَعَهُمْ، وَطَمِعْت فِيهِمْ فَقَدْ اتَّخَذْتهمْ رَبًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقَالَ: إذَا أَرَدْت أَنْ تَكُونَ فِي رَاحَةٍ فَكُلْ مَا أَصَبْت، وَالْبَسْ مَا وَجَدْت، وَارْضَ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْك، وَقَالَ: مَنْ دَارَ حَوْلَ الشَّهَوَاتِ فَإِنَّهُ يَدُورُ بِدَرَجَاتِهِ فِي الْجَنَّةِ لِيَأْكُلَهَا فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ: الْعِبَادَةُ حِرْفَةٌ، وَحَوَانِيتُهَا الْخَلْوَةُ، وَرَأْسُ مَالِهَا الِاجْتِهَادُ بِالسُّنَّةِ، وَرِبْحُهَا الْجَنَّةُ، وَقَالَ: الصَّبْرُ عَلَى الْخَلْوَةِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِخْلَاصِ، وَقَالَ: اجْتَنِبْ صُحْبَةَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنْ النَّاسِ: الْعُلَمَاءِ الْغَافِلِينَ، وَالْقُرَّاءِ الْمُدَاهِنِينَ، وَالْمُتَصَوِّفَةِ الْجَاهِلِينَ، وَقَالَ: الزُّهْدُ ثَلَاثُهُ أَشْيَاءَ: الْقِلَّةُ، وَالْخَلْوَةُ، وَالْجُوعُ، وَقَالَ: عَلَى قَدْرِ حُبِّك لِلَّهِ يُحِبُّك الْخَلْقُ، وَعَلَى قَدْرِ خَوْفِك مِنْ اللَّهِ يَخَافُك الْخَلْقُ، وَعَلَى قَدْرِ شُغْلِك بِاَللَّهِ يَشْتَغِلُ فِي أَمْرِك الْخَلْقُ، وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ النَّيْسَابُورِيُّ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا ارْتَكَبَ كُلَّ خَطِيئَةٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاَللَّهِ، وَخَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا سَلِيمَ الْقَلْبِ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُفِرَ لَهُ قِيلَ: يَا أَبَا حَفْصٍ هَلْ لِهَذَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَلِيلٍ قَالَ: بَلَى قَوْله تَعَالَى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَاتِّبَاعُهُ مَحَبَّةُ أَصْحَابِهِ لِأَجْلِهِ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْحَكِيمُ السَّمَرْقَنْدِيُّ: كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ مُغْتَرٍّ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ رحمه الله: الْفَقِيرُ قُوَّتُهُ
مَا وَجَدَ، وَلِبَاسُهُ مَا سَتَرَ، وَمَسْكَنُهُ حَيْثُ نَزَلَ، وَقَالَ: حَقِيقَةُ الْغِنَى أَنْ تَسْتَغْنِيَ عَمَّنْ هُوَ مِثْلُك، وَقَالَ: الَّذِي مَنَعَ الصَّادِقِينَ الشَّكْوَى إلَى غَيْرِ اللَّهِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ، وَكَتَبَ أَبُو الْأَبْيَضِ كِتَابًا إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ: سَلَامٌ عَلَيْك، وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَبَرَكَاتُهُ، وَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّك لَمْ تُكَلَّفْ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا نَفْسًا وَاحِدَةً فَإِنْ أَنْتَ أَصْلَحْتهَا لَمْ يَضُرَّك فَسَادُ غَيْرِهَا، وَإِنْ أَنْتَ أَفْسَدْتهَا لَمْ يَنْفَعْك صَلَاحُ غَيْرِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّك لَنْ تَسْلَمْ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى لَا تُبَالِي مِنْ أَكْلِهَا مِنْ أَحْمَرَ، وَأَسْوَدَ.
قَالَ شَقِيقُ بْنُ أَدْهَمَ الْبَلْخِيُّ رحمه الله: تُعْرَفُ تَقْوَى الرَّجُلِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: فِي أَخْذِهِ، وَمَنْعِهِ، وَكَلَامِهِ، وَقَالَ: دَخَلَ الْفَسَادُ فِي الْخَلْقِ مِنْ سِتَّةِ أَشْيَاءَ:
أَوَّلِهَا: ضَعْفُ النِّيَّةِ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ.
وَالثَّانِي - صَارَتْ أَبْدَانُهُمْ رَهِينَةً بِشَهَوَاتِهِمْ.
وَالثَّالِثِ - غَلَبَةُ طُولِ الْأَمَلِ عَلَى قُرْبِ أَجَلِهِمْ.
وَالرَّابِعِ - اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَنَبَذُوا سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ.
وَالْخَامِسِ - آثَرُوا رِضَى الْمَخْلُوقِينَ فِيمَا يَشْتَهُونَ عَلَى رِضَى خَالِقِهِمْ فِيمَا يَكْرَهُونَ.
وَالسَّادِسِ - جَعَلُوا أَدِلَّاتِ السَّلَفِ دِينًا، وَمَنَاقِبَ لِأَنْفُسِهِمْ.
، وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: الْزَمْ خِدْمَةَ مَوْلَاك تَأْتِيك الدُّنْيَا رَاغِمَةً، وَالْجَنَّةُ رَاغِبَةً، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْمُرِيدِ الْخَلْوَةَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ مُتَمَكِّنٍ فِي الْعِلْمَيْنِ عِلْمِ الْحَالِ، وَعِلْمِ السُّنَّةِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَدْخُلُ بِنَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالشَّيْخُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ، وَخَرْقِ الْعَادَاتِ مَا يَمُدُّ بِهِ الْمُرِيدَ فِي خَلْوَتِهِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ الْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ الَّذِي لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ، وَالسَّلَامَةُ، بَلْ الْغَنِيمَةُ مَوْجُودَةٌ عَلَى يَدِهِ مُتَيَسِّرَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ مِزَاجَ الْمُرِيدِ، وَقَدْرَ مَا يَحْمِلُ مِنْ الْمُجَاهَدَاتِ، وَقَدْرَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَقَدْرَ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ، وَمِنْ سَعَادَةِ الْمُرِيدِ إنْ وَجَدَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ، وَلَا ظُهُورِ خَرْقِ الْعَادَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِالتَّجْرِبَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَّبَ ذَلِكَ، وَاطَّلَعَ عَلَى الْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ، وَمَا يَلِيقُ بِالْمُرِيدِ فِي خَلْوَتِهِ، وَمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ جِهَةِ
الْعَادَاتِ، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَنْ يَدْخُلَ بِنَفْسِهِ خِيفَةً مِنْ مَوَاضِعِ الْعَطَبِ، وَأَعْنِي بِدُخُولِ الْخَلْوَةِ هُنَا مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْمُرِيدُ مِنْ الْمُجَاهَدَاتِ، وَأَمَّا لَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ دُونَ مُجَاهَدَةٍ فَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إلَى شَيْخٍ يُسْلِكُهُ، بَلْ لِسَانُ الْعِلْمِ قَائِمٌ عَلَيْهِ مَطْلُوبٌ بِهِ فِي الْخَلَاءِ، وَالْمَلَأِ لَا فَرْقَ إذْ ذَاكَ فِي حَقِّهِ مَعَ أَنَّهُ إذَا اتَّبَعَ لِسَانَ الْعِلْمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي خَلْوَتِهِ وَجَلْوَتِهِ فَهُوَ وَلِيُّ وَقْتِهِ لِأَجْلِ حَالِ الزَّمَانِ فَمَا أَسْعَدَهُ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ أَعْنِي تَرْكَ دُخُولِ الْخَلْوَةِ عَلَى نِظَامٍ مَعْلُومٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، وَفِي الْأَسْوَاقِ يَحْتَرِفُونَ، وَفِي الْحَوَائِطِ يَعْمَلُونَ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْخَلَوَاتُ عَلَى يَدِ الْمُرَبِّينَ بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ رضي الله عنهم، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ، وَسَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ: إنَّمَا جُعِلَتْ الْخَلْوَةُ لِلْبَنَاتِ الْأَبْكَارِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ لِلْمُرِيدِينَ لَمَّا أَنْ كَثُرَتْ الْفِتَنُ وَالْمُخَالَفَاتُ فَاحْتَاجَ الْمُرِيدُونَ إذْ ذَاكَ إلَى الْفِرَارِ لِأَجْلِ صَلَاحِ دِينِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، وَخَوَاطِرِهِمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ السَّبِيلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِدُخُولِ الْخَلَوَاتِ وَالْفَلَوَاتِ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْخَلْوَةَ الْمَعْهُودَةَ عِنْدَ السَّالِكِينَ إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِمَصَالِحِهَا وَمَفَاسِدِهَا، وَالدَّسَائِسِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ فَيُشْتَرَطُ فِي الشَّيْخِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِحَالِ الْمُرِيدِ، وَمَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ مِنْ الْأَطْوَارِ، وَمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ لَهُ مَرَاتِبُ عَدِيدَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمُرِيدُ مِثْلُهُ، وَأَلْخَصُ مِنْ ذَلِكَ مَا سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُهُ: نَظَرُ الْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْهَلَاكَ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْحِيرَةَ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى هُوَ السُّمُوُّ وَالرِّفْعَةُ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى يُوجِبُ التَّعَبَ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ يُوجِبُ الرَّاحَةَ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ نَظَرُ الْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْهَلَاكَ. فَمِثَالُهُ النَّظَرُ إلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا بِعَيْنِ التَّمَنِّي وَالِاشْتِهَاءِ، فَذَلِكَ يُوجِبُ الْحِرْصَ وَالْحَسَدَ وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّدَابُرَ، وَهُوَ عَيْنُ
الْهَلَاكِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131] ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا النَّظَرُ إلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّك إذَا نَظَرْت إلَيْهِمْ فَإِنْ كُنْت عَلَى مَعْصِيَةٍ فَبِالنَّظَرِ لِمَنْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا يَهُونُ عَلَيْك مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ، وَيَصْغُرُ فِي عَيْنِك ذَنْبُك فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْهَلَاكِ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْحِيرَةَ.
فَمِثَالُهُ الْمُبْتَدِي يَنْظُرُ إلَى أَهْلِ النِّهَايَاتِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي تَعَبُّدِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَمَنْ تَنَاهَى فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ لِذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا هُمْ يَأْخُذُونَ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ، وَيَقْتَصِرُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالتَّعَبُّدِ أَوْفَرُ نَصِيبٍ، وَتُسْتَغْرَقُ أَوْقَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِهِ، وَلَمْ يَتْعَبُوا فِيهِ لِرِفْقِهِمْ، وَسِيَاسَتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ: عليه الصلاة والسلام «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ، وَمَا كَانَ الْخَرْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ» ، وَقَالَ: عليه الصلاة والسلام «عَلِّمُوا، وَارْفُقُوا» اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ نَدَرَ مِنْ الْفُضَلَاءِ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَذَلِكَ مَحْمُودٌ، وَمَا نَدَرَ لَا يُحْكَمُ بِهِ. نَعَمْ إذَا وَقَعَ لِلْمَرْءِ هَذَا الْحَالُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ التَّشَبُّثُ بِمَا قَدْ ذُكِرَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ بَقِيَ مَعَ نَفْسِهِ فَشَأْنُهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ كَيْفَ كَانَ كَسْبُهُمْ، وَلِمَ اكْتَسَبُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ تَحَيَّرَ فِي طَرِيقِهِ، وَحَيَّرَ مَنْ لَاذَ بِهِ. هَذَا هُوَ عَيْنُ الْحِيرَةِ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ -، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى هُوَ السُّمُوُّ وَالرِّفْعَةُ.
فَمِثَالُهُ الرَّجُلُ الْعَالِمُ يَنْظُرُ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَيَعْمَلُ عَلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مَا وَصَلَ إلَيْهِ فَيَجْتَهِدُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ يَنْظُرُ لِمَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ فَيَجْتَهِدُ فِي التَّعَبُّدِ، وَيَزِيدُ فِي عَمَلِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بِالرِّفْقِ، وَالسِّيَاسَةِ حَتَّى يَلْحَقَ بِمَنْ نَظَرَ إلَيْهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ قَالَ: عليه الصلاة والسلام «خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ شَاكِرًا صَابِرًا أَنْ يَنْظُرَ فِي الدِّينِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فَيَقْتَدِيَ بِهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ
فَيَحْمَدَ اللَّهَ الَّذِي فَضَّلَهُ عَلَيْهِ» هَذَا هُوَ السُّمُوُّ، وَالرِّفْعَةُ - اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ، وَلَا تَجْعَلْ حَظَّنَا مِنْهُ الْكَلَامَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى يُوجِبُ التَّعَبَ لَهُ، وَلِأَتْبَاعِهِ.
فَمِثَالُهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْخَيْرِ، وَأَقَامَهُ اللَّهُ فِي مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ النِّهَايَاتِ إذَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى اللَّهِ، وَيَتُوبَ يُرِيدُ مِنْ حِينِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ سِيَاسَةٍ تَقَعُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا تَدْرِيجٍ هَذَا هُوَ التَّعَبُ مَعَ نَفْسِهِ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى طَرِيقِهِ، وَهُمْ لَا يُسَاعِدُونَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ تَبِعَهُ فِي التَّعَبِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إلَى مَقَامٍ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السَّبْقِ، وَالْخَيْرِ اقْتَصَرَ خَيْرُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِمْ مَنْ لَاذَ بِهِمْ، وَبِخِدْمَتِهِمْ أَعْنِي فِي الِاقْتِدَاءِ.
وَأَمَّا الْبَرَكَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهَا غَالِبًا لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ «هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» - نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ يُوجِبُ الرَّاحَةَ لَهُ، وَلِأَتْبَاعِهِ. فَمِثَالُهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ الْمُتَمَكِّنُ فِي طَرِيقِهِ إذَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرِيدُ التَّوْبَةَ، وَالرُّجُوعَ أَخَذَهُ بِاللُّطْفِ، وَالرَّحْمَةِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَسَاسَ بِرَأْيِهِ السَّدِيدِ، وَتَدْبِيرِهِ الرَّشِيدِ فَيَنْظُرُ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ مَا يُصْلِحُهُ، وَمَا هُوَ الْعَوْنُ لَهُ عَلَى مَا أَرَادَ، ثُمَّ يُرَقِّيهِ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى قَدْ يَبْلُغَ فِي أَقَلِّ زَمَانٍ إلَى الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا بِحُسْنِ تَدْبِيرِ هَذَا السَّيِّدِ وَسِيَاسَتِهِ إيَّاهُ.
وَصَاحِبُ هَذَا الْحَالِ هُوَ أَعْظَمُ مَنْ تَقَدَّمَ وَأَفْضَلُهُمْ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ، وَجَلَّ لَمْ يُنْزِلْ الْفُرُوضَ أَوَّلًا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا أَمَرَ بِالْقِتَالِ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا أَمَرَ أَوَّلًا بِالتَّوْحِيدِ لَا غَيْرٍ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا عليه الصلاة والسلام بِسِيَاسَةِ النَّاسِ، وَاللُّطْفِ بِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] ، ثُمَّ لَمَّا أَنْ ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ عز وجل نَبِيَّهُ عليه الصلاة والسلام بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقِتَالِ ثُمَّ لَمَّا أَنْ كَثُرَ الْمُؤْمِنُونَ، وَظَهَرَتْ الْكَلِمَةُ نَزَلَتْ الْفُرُوضُ شَيْئًا
فَشَيْئًا فَلَمَّا أَنْ تَقَرَّرَ لَهُمْ الدِّينُ، وَتَقَوَّى أَهْلُ الْإِسْلَامِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ عز وجل بِالْجِهَادِ بِاللِّسَانِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فَقَالَ عز وجل {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
فَلَمَّا أَنْ تَقَوَّى الْأَمْرُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَ عز وجل بِقِتَالِ الْأَقْرَبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] فَلَمَّا أَنْ تَقَوَّى الْأَمْرُ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ عز وجل بِالْقِتَالِ مُطْلَقًا فَقَالَ عز وجل {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] ، ثُمَّ إنَّ الْفُرُوضَ لَمْ تَتِمَّ إلَّا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ تَعَالَى فِيهَا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فَهُوَ سبحانه وتعالى الْعَالِمُ بِعِبَادِهِ، وَبِمَا يُصْلِحُهُمْ فَلَوْ كَانَ أَمْرُهُمْ، وَمُخَاطَبَتُهُمْ أَوَّلًا بِالْقِتَالِ، وَبِجُمْلَةِ الْفُرُوضِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ لَأَمَرَ بِذَلِكَ أَوَّلًا {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ، وَصَاحِبُ الْحَالِ الَّذِي أَشَارَ الشَّيْخُ رحمه الله إلَيْهِ أَخِيرًا مَضَى عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَانْتَفَعَ بِنَفْسِهِ، وَاسْتَرَاحَ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ، وَوَجَدُوا الرَّاحَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام:«خَاطِبُوا النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ» فَلَيْسَ مَنْ دَخَلَ فِي التَّعَبُّدِ، وَتَمَرَّنَ فِيهِ، وَكَثُرَتْ الْمُجَاهَدَةُ لَدَيْهِ كَمَنْ ابْتَدَأَ الدُّخُولَ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ عليه الصلاة والسلام فِي السَّوْدَاءِ حِينَ سَأَلَهَا: أَيْنَ اللَّهُ؟ فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. فَقَالَ لِصَاحِبِهَا: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ فَقَنَعَ عليه الصلاة والسلام مِنْهَا بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ مَوْجُودٌ، وَذَلِكَ يَنْفِي مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أَنَّ الْأَصْنَامَ هِيَ الْآلِهَةُ فِي الْأَرْضِ فَإِلَهُ السَّمَاءِ، وَإِلَهُ الْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْمَوْجُودُ لَا أَنَّهُ سبحانه وتعالى حَلَّ فِي السَّمَاءِ تَعَالَى اللَّهُ عز وجل عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا إذْ إنَّ السَّمَاءَ مَخْلُوقَةٌ لَهُ، وَلَا يَحِلُّ الصَّانِعُ فِي صَنْعَتِهِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبْلٍ رضي الله عنه الَّذِي كَانَتْ هِجْرَتُهُ قَدِيمَةً، وَتَمَكَّنَ مِنْ الْعِلْمِ، وَمِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ حِينَ سَأَلَهُ عليه الصلاة والسلام كَيْفَ أَصْبَحْت؟ فَقَالَ مُعَاذٌ: أَصْبَحْت مُؤْمِنًا حَقًّا فَقَالَ: عليه الصلاة والسلام لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ فَمَا حَقِيقَةُ إيمَانِك؟ فَلَمْ يَكْتَفِ