الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصَحِبْتهَا، وَإِلَى التَّوَاضُعِ فَاِتَّخَذْته خِدْنًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَجَأْت إلَى التَّوْبَةِ فَاسْتَجَرْت بِهَا، وَلَبِسْت جِلْبَابَ الْحَيَاءِ مِمَّا سَلَفَ مِنْك، وَشَهِدَ اللَّهُ عَلَيْك بِهِ، وَشَاهَدَهُ مِنْك مِنْ الْإِسَاءَةِ مَعَ مَا تَعْرِفُ مِنْ كَثْرَةِ إحْسَانِهِ فَلَمْ تَتَعَرَّضْ بَعْدَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ مِمَّا يَكْرَهُ، وَعَمَدْت إلَى الْمَعَاصِي فَعَادَيْتهَا مِنْك، وَمِنْ غَيْرِك فَتَكْرَهُ أَنْ يَعْصِيَهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ بِصَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ فَرَاجَعْت الْإِحْسَانَ مُجْتَهِدًا، وَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ عَارِفٌ بِالنِّعْمَةِ عَلَيْك فِي التَّنْبِيهِ وَالرُّجُوعِ، وَإِنَّ ذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ عَلَيْك فَالْتَمَسْت لَطِيفَ الشُّكْرِ بَعْدَ إقْلَاعِك عَنْ الْإِسَاءَةِ بِشِدَّةِ الْمُضَادَّةِ لَهَا فَعَظُمَ شُكْرُك عِنْدَ التَّحْوِيلِ إلَى الْإِحْسَانِ بَعْدَ الْإِسَاءَةِ فَإِذْ ذَاكَ قَدْ صِرْت فِي جَمِيعِ أَحْوَالِك شَاكِرًا ذَاكِرًا، وَلَمْ يُعْجِزْك مَعْرِفَةُ الْإِحْسَانِ فَشَكَرْت حِينَئِذٍ الشَّاكِرَ الْمَشْكُورَ الَّذِي وَعَدَ عَلَى الشُّكْرِ الزِّيَادَةَ، وَوَعْدُهُ لَا خُلْفَ فِيهِ، وَعَرَفْت الْإِسَاءَةَ مِنْ أَيْنَ كَانَ مَخْرَجُهَا فَرَاجَعْت الْإِحْسَانَ بِالْعِتَابِ مِنْك لِنَفْسِك، وَلِمَنْ زَيَّنَ الْإِسَاءَةَ لَك، وَدَعَاك إلَيْهَا فَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي تَتَفَرَّعُ مِنْهُ فُنُونُ الْخَيْرِ، وَبِهِ تُغْلَقُ أَبْوَابُ الشَّرِّ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ تَهْوِينِ سُلُوكِ الطَّرِيقِ وَالْوُصُولِ إلَيْهِ]
ِ - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى - وَقَالَ: رحمه الله سُئِلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقِيلَ لَهُ: أَوْضِحْ لَنَا الْمَنْزِلَةَ الَّتِي يَنَالُ الْعِبَادُ بِهَا الْقُرْبَ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيَقْوُونَ بِهَا عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَيَبْلُغُونَ بِهَا رِضْوَانَهُ، وَالْأَمْرَ الَّذِي يُقَرِّبُهُمْ إلَيْهِ، وَيُقَصِّرُ بِهِمْ عَنْهُ إيضَاحًا شَافِيًا حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بَيِّنًا.
فَقَالَ: سَأُوضِحُ لَك ذَلِكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَافْهَمْ قَوْلِي بِفَهْمٍ لَا يُخَالِطُهُ سَهْوٌ، وَتَذَكَّرْ فِيهِ بِتَذَكُّرٍ لَا يُخَالِطُهُ غَفْلَةٌ، وَاصْبِرْ عَلَيْهِ صَبْرًا لَا يُخَالِطُهُ جَزَعٌ فَإِنَّك إنْ تَفْعَلْ ذَلِكَ يُنْهَج لَك مِنْهَاجُ الطَّرِيقِ، وَتَسْلَمْ مِنْ تَقْصِيرِ طَرِيقِ الْهَلَكَةِ، وَالتَّوْفِيقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى.
اعْلَمْ أَنَّ مُبْتَدَأَ الْأُمُورِ، وَاَلَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ إلَّا بِهِ: الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ زِينَةً لِخَلْقِهِ، وَنُورًا لَهُمْ فَبِالْعَقْلِ يَعْرِفُ الْعِبَادُ خَالِقَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ، وَأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ، وَهُمْ الْمُدَبَّرُونَ، وَهُوَ الْبَاقِي، وَهُمْ الْفَانُونَ فَاسْتَدَلُّوا بِعُقُولِهِمْ عَلَى مَا رَأَوْا مِنْ خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَسَمَائِهِ، وَشَمْسِهِ، وَقَمَرِهِ، وَلَيْلِهِ، وَنَهَارِهِ، وَعَلِمُوا أَنَّ لَهُمْ وَلِهَذَا الْخَلْقِ خَالِقًا، وَأَنَّ لِذَلِكَ كُلِّهِ مُدَبِّرًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ، وَلَا يَزَالُ، وَعَرَفُوا بِهِ الْحَسَنَ مِنْ الْقَبِيحِ، وَعَلِمُوا أَنَّ الظُّلْمَةَ فِي الْجَهْلِ، وَالنُّورَ فِي الْعِلْمِ هَذَا مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْعَقْلُ.
فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَكْتَفِي الْعِبَادُ بِالْعَقْلِ دُونَ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: إنَّ الْعَاقِلَ دَلَّهُ عَقْلُهُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ قِوَامَهُ، وَزِينَتَهُ عَلَى أَنَّ لَهُ رَبًّا، وَعَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ عَبَثًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ لَعِبًا، وَعَلِمَ أَنَّ لِخَالِقِهِ مَحَبَّةً، وَكَرَاهِيَةً، وَأَنَّ لَهُ طَاعَةً، وَمَعْصِيَةً فَلَمْ يَجِدْ عَقْلَهُ يَدُلُّهُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْعِلْمِ وَطَلَبِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ إنْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ، وَيَعْلَمْهُ فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَهُوَ الَّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِهِ، فَقِيلَ لَهُ: صِفْ لَنَا مَا هَذَا الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ إلَّا طَلَبُهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْصِيرُ بِنَفْسِهِ عَنْهُ؟ فَقَالَ: طَلَبُ الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ، وَأَنْبِيَاؤُهُ عَنْهُ: مِنْ أَمْرِهِ، وَنَهْيِهِ، وَوَعْدِهِ، وَوَعِيدِهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَجَنَّتِهِ، وَنَارِهِ، وَبَعْثِهِ، وَحِسَابِهِ، وَحَلَالِهِ، وَحَرَامِهِ، وَطَاعَتِهِ، وَمَعْصِيَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَكَرَاهَتِهِ.
فَقِيلَ لَهُ: هَلْ يَكْتَفِي الْعَالِمُ بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ؟ فَقَالَ: لَا يَنْتَفِعُ الْعَالِمُ بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَأَنْ يُقِرَّ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ لَهُ نَفْعًا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ لَهُ، وَلَا ضُرًّا لَمْ يَكْتُبْهُ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ غَيْرُ ذَلِكَ أَوْ يُكْتَفَى بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ إنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى أَمَرَ عِبَادَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ، وَالْعَمَلِ بِهَا، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَرُكُوبِهَا، فَمَنْ آمَنَ، وَلَمْ يَعْمَلْ كَانَ مُتَهَاوِنًا، وَتَصْدِيقُ الْإِيمَانِ الْعَمَلُ بِهِ.
فَقِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ الْعِلْمُ، وَكَيْفَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْمَلَ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ عز وجل، وَإِنْ خَالَفَ هَوَاك، وَأَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَإِنْ أَسْخَطَك، وَأَنْ تَجْتَنِبَ
سَخَطَ اللَّهِ، وَإِنْ سَرَّك، وَأَنْ تَدَعَ كَرَاهِيَتَهُ، وَإِنْ أَعْجَبَتْك، وَأَنْ تُؤْثِرَ مَا هُوَ لَهُ، وَإِنْ سَاءَك، وَأَنْ تَرْغَبَ فِيمَا رَغَّبَك، وَتَزْهَدَ فِيمَا زَهَّدَك، وَأَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ إمَامَك وَدَلِيلَك.
فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: قَدْ دَلَلْتنِي عَلَى الْعَمَلِ فَعَرَفْت، وَعَرَفْت فَآمَنْت فَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ مُؤْنَةٍ، وَلَا عَظِيمُ مَشَقَّةٍ بَلْ خِفَّةٌ، وَرَاحَةٌ مَعَ مَا اسْتَزَدْت بِهِ هِدَايَةً، وَبَصِيرَةً، وَمَعْرِفَةً، فَلَمَّا صِرْت إلَى الْعَمَلِ بِهِ لِزَمَنِي فِي ذَلِكَ مُؤْنَةٌ شَدِيدَةٌ، وَثُقْلٌ كَبِيرٌ حَتَّى حَالَ بَيْنِي، وَبَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ لَذِيذِ عِيشَتِي، وَنَعِيمِ دُنْيَايَ، وَحَمَلَنِي عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَصَرَفَنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السُّرُورِ فَصِفْ لِي أَمْرًا أَقْوَى بِهِ عَلَى الْعَمَلِ فِيمَا آمَنْت بِهِ فَقَدْ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ مُؤْنَتُهُ، وَثَقُلَ عَلَيَّ احْتِمَالُهُ.
فَقَالَ: الْأُمُورُ الَّتِي تَقْوَى بِهَا عَلَى الْعَمَلِ وَالْأَدَبِ: الصَّبْرُ الَّذِي هُوَ تَمَامُهُ وَقِوَامُهُ فَإِنَّك إنْ صَبَرْت انْتَفَعْت بِعِلْمِك، وَبَلَغْت مِنْهُ رِضْوَانَ اللَّهِ، وَقَوِيت فِيهِ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَيْسَ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِ الْخَيْرِ إلَّا، وَلِلصَّبْرِ فِيهِ عَمَلٌ، وَبِهِ تَمَامُهُ فَبِالصَّبْرِ قَوِيَ الْعِبَادُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَالْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَبِالصَّبْرِ قَوُوا عَلَى اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ، وَبِالصَّبْرِ بَلَغُوا الْغَايَةَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَوَابِهِ، فَإِذَا صَبَرْت عَلَى الْعَمَلِ انْتَفَعْت بِالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَإِنَّك إنْ لَمْ تَصْبِرْ لَمْ تَعْمَلْ، وَإِنْ لَمْ تَعْمَلْ لَمْ تَنْتَفِعْ بِالْإِيمَانِ بِمَا عَلِمْت، وَمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْعَمَلُ، وَمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْعَمَلِ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ الْعَقْلُ فَرَأْسُ أَمْرِ الْعِبَادِ الْعَقْلُ، وَدَلِيلُهُمْ الْعِلْمُ، وَنُورُهُمْ الْإِيمَانُ، وَسَائِقُهُمْ الْعَمَلُ، وَمُقَرِّبُهُمْ الصَّبْرُ فَمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الصَّبْرِ ضَعُفَ، وَمَنْ ضَعُفَ لَمْ يَعْمَلْ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ لَمْ يَتِمَّ لَهُ أَمْرُهُ وَنُورُهُ، وَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ، وَمَنْ ذَهَبَ عَنْهُ النُّورُ عَمِيَ، وَحَادَ عَنْ الطَّرِيقِ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْ فَلْيَتَّبِعْ الدَّلِيلَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَمَنْ اتَّبَعَ الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ النَّجَاةُ مِنْ الْهَوْلِ الْعَظِيمِ، وَعَمِلَ لَهُ، وَصَبَرَ عَلَيْهِ صَارَ إلَى غَايَةِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ بَصَّرْتَنِي مِنْ فَضْلِ الصَّبْرِ قُوَّتَهُ، وَعَلَّمْتَنِي مَا رَغَّبَنِي فِيهِ، وَقَوَّانِي عَلَى الْعَمَلِ بِهِ مَعَ ثِقَلِهِ عَلَيَّ فَصِفْ لِي أَمْرًا أَزْدَادُ بِالصَّبْرِ تَبَصُّرًا، وَفِيهِ رَغْبَةً، وَعَلَيْهِ حِرْصًا فَقَالَ: صَبْرُك عَلَى الطَّاعَةِ، وَطَلَبُك لَهَا، وَهَرَبُك مِنْ الْمَعْصِيَةِ، وَبَلِيَّتِهَا هُوَ الَّذِي يُرَغِّبُك فِي الطَّاعَةِ
وَيُبَيِّنُ لَك فَضْلَهَا قَالَ: قَدْ شَرَحْت لِي أَمْرَ الصَّبْرِ، وَفَضْلَهُ فَزِدْنِي بِهِ تَبَصُّرًا فَقَالَ لَهُ: هَذَا الدَّلِيلُ، وَالْإِمَامُ كِتَابُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ لَك فَضْلَ الصَّبْرِ، وَيُرَغِّبُك فِي لُزُومِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى وَصَفَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَذَكَرَ ثَوَابَهُمْ فَلَمْ يَذْكُرْ ثَوَابًا يَعْدِلُ ثَوَابَ الصَّبْرِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُوَفَّوْنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابِ فَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى فَضْلِ الصَّبْرِ مَعَ مَا ذَكَرَ مِنْ ثَوَابِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ لَهُ: صَاحِبُهُ قَدْ دَلَّنِي الْعِلْمُ وَكِتَابُ رَبِّي عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ فَضْلِ الصَّبْرِ وَثَوَابِهِ؛ فَزَادَنِي بِفَضْلِهِ تَبَصُّرًا، وَازْدَدْت عَلَيْهِ حِرْصًا، وَفِيهِ رَغْبَةً، وَبِهِ تَمَسُّكًا، وَعَلَيْهِ اعْتِمَادًا مَعَ شِدَّةٍ مِنْهُ عَلَيَّ، وَثِقَلٍ، وَصَبْرٍ عَلَى خِلَافِ مَا أَشْتَهِي، وَحَمْلِ نَفْسِي عَلَى مَا أَكْرَهُ لِطَلَبِي فِيهِ الْأَجْرَ، وَالْفَضْلَ، وَابْتِغَاءَ الْعَمَلِ وَالْأَدَبِ.
فَصِفْ لِي أَمْرًا يَخِفُّ بِهِ عَلَيَّ مُؤْنَةُ الصَّبْرِ، وَيَسْهُلُ عَلَيَّ لُزُومُهُ، وَيَخِفُّ عَلَيَّ احْتِمَالُهُ، وَتَذِلُّ صُعُوبَتُهُ فَقَالَ لَهُ: أَرَاك لِلْخَيْرِ مُرِيدًا، وَلِلْفَضْلِ طَالِبًا، وَعَلَيْهِ حَرِيصًا، وَتُحِبُّ أَنْ تَكُونَ قَدْ قَوِيت عَلَى مَا دَلَّكَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِنَفَاذٍ مِنْ الصَّبْرِ، وَقُوَّةٍ مِنْ الْعَمَلِ، وَذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ السَّعَادَةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمًا، وَفِيهِ تَفَهُّمًا ازْدَادَ لِلْخَيْرِ طَلَبًا، وَعَلَيْهِ حِرْصًا فَخَفَّ عَلَيْهِ الثَّقِيلُ، وَقَرُبَ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ، وَلَهَا فِي الدُّنْيَا عَمَّا يُرِيدُ.
وَإِنَّمَا الثِّقَلُ وَالْعُسْرُ تِمْثَالُ الدُّنْيَا فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَهِيَ مَرْصَدُ إبْلِيسَ، وَسِلَاحُهُ فَإِذَا قَطَعَ عَنْهُ ذَلِكَ اسْتَنَارَ الْقَلْبُ، وَخَرَجَتْ الظُّلْمَةُ مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ بِهِ احْتِمَالُ قُوَّةٍ، وَلَا لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ، وَوَصَلَ مِنْ الْأَمْرِ إلَى مَا يُرِيدُ فَقَالَ لَهُ: زِدْنِي مَا يُسَهِّلُ بِهِ عَلَيَّ ثِقَلَ احْتِمَالِ الصَّبْرِ، وَيُخَفِّفُهُ عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ: الْأَمْرُ الَّذِي يُسَهِّلُ عَلَيْك ثِقَلَ احْتِمَالِ الصَّبْرِ، وَيُخَفِّفُهُ عَلَيْك الرِّضَا عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى بِكُلِّ مَا صَنَعَ بِك، وَاخْتَارَهُ لَك، وَسَاقَهُ إلَيْك فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: فَأَوْضِحْ لِي كَيْفَ يَهُونُ عَلَيَّ مُؤْنَةُ الصَّبْرِ بِرِضَائِي عَنْ اللَّهِ، وَيُخَفَّفُ عَلَيَّ احْتِمَالُهُ؟ فَقَالَ: أَلَسْت تَعْلَمُ أَنَّك إنَّمَا انْتَسَبْت إلَى الرِّضَا، وَسَمَّيْته صَبْرًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي نَزَلَ بِك مَكْرُوهٌ عَلَيْك وَإِنَّ هَوَاك، وَنَفْسَك يُنَازِعَانِك إلَى غَيْرِهِ فَاحْتَجْتَ إلَى الصَّبْرِ فَتَدَبَّرْت، وَاعْتَبَرْتَ فَصِرْت مِنْ
ذَلِكَ إلَى مَوْضِعِ رِضَاهُ.
ثُمَّ يَتَجَاوَزُ بِك الْأَمْرُ حَتَّى تَصِيرَ إلَى مَوْضِعِ السُّرُورِ حَتَّى تَرَى لَوْ صُرِفَ ذَلِكَ الْأَمْرُ عَنْك لَصِرْت مِنْهُ إلَى تَقْوِيَةِ نَفْسِك، وَعَلِمْت أَنَّ مَا صُرِفَ عَنْك عُقُوبَةٌ لِبَعْضِ مَا أَحْدَثْت مِنْ ذُنُوبِك أَوْ قَصَّرْت فِيهِ عَنْ شُكْرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْك فَصِرْت مِنْهُ إلَى الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَمَنَازِلِ أَهْلِ الرِّضَا، وَإِنَّمَا يُوصَلُ إلَى ذَلِكَ بِالْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ، وَبِمَعْرِفَتِهِ يَنْظُرُ إلَيْك فَتَعْلَمُ أَنَّك لَا نَظَرَ لَك مِنْ نَفْسِك فَتَرْضَى بِمَا رَضِيَ بِهِ، وَتَرْغَبُ فِيمَا رَغِبَهُ، وَتَزْهَدُ فِيمَا زَهِدَهُ، وَالزُّهْدُ مِنْ الرِّضَا قَالَ: قَدْ عَلِمْت فَضْلَ الرِّضَا، وَوَضَحَ لِي أَمْرُهُ، فَصِفْ لِي كَيْفَ يُهَوَّنُ عَلَيَّ أَمْرَ الصَّبْرِ فِي الزُّهْدِ؟ وَكَيْفَ مَأْخَذُهُ فَقَدْ أَرَانِي مَعَ مَا أَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ الزُّهْدِ مُقِيمًا عَلَى الصَّبْرِ، وَأَزْدَادُ أَيْضًا مَعَ زُهْدِي فِي الدُّنْيَا أُمُورًا أَحْتَاجُ فِيهَا إلَى الصَّبْرِ مُخَالَفَةً لِهَوَائِي، وَرَفْضًا لِشَهَوَاتِي، وَمَا تُنَازِعنِي نَفْسِي مِنْ لَذَّاتِي فَقَدْ أَرَانِي ازْدَدْت ثِقَلًا، وَضَجَرًا قَالَ: أَرَاك لَا تَقْبَلُ مِنْ الْأُمُورِ إلَّا أَصْلَحَهَا، وَلَا تَرْضَى لِنَفْسِك إلَّا بِوَاضِحِهَا، وَلَا تَخْتَارُ مِنْهَا إلَّا أَرْشَدَهَا، وَذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي أَرْجُو لَك بِهَا الْقُوَّةَ، وَالنَّجَاحَ لِحَاجَتِك، وَالظَّفَرَ بِطَلَبَتِك، وَبُلُوغِك أَقْصَى الْغَايَةِ مِنْ إرَادَتِك فَافْهَمْ قَوْلِي، وَتَدَبَّرْ نُصْحِي فَإِنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ وَاضِحَةٌ، وَالْأَمْرَ فِيهِ بَيِّنٌ أَلَسْت تَعْلَمُ أَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ بَاقِيَةً فِي قَلْبِك، وَأَنَّ حُبَّهَا غَالِبٌ عَلَيْك، وَأَنَّ سُرُورَهَا فَرَحٌ لَك وَأَنَّ مَكْرُوهَهَا شَدِيدٌ عَلَيْك فَحَمَلْت نَفْسَك عَلَى قَطْعِ ذَلِكَ مَعَ حُبِّك لَهَا، وَإِيثَارِكَ لَهَا، وَنُزُلِهَا مِنْك مَعَ طَلَبِك الْفَضْلَ مِنْ احْتِمَالِ الصَّبْرِ، وَحَمَلْت نَفْسَك عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك، وَصَبَرْت عَلَيْهَا لِشِدَّةٍ مِنْهُ عَلَيْك؛ لِأَنَّ مَكْرُوهَهَا عِنْدَك مَكْرُوهٌ، وَلِأَنَّ سُرُورَهَا عِنْدَك سُرُورٌ فَثَقُلَ عَلَيْك الصَّوْمُ لِقَطْعِك الشَّهْوَةَ عَنْ نَفْسِك مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَثَقُلَتْ عَلَيْك الصَّلَاةُ.
وَالِاشْتِغَالُ بِهَا لِمَا تُسِرُّهُ إلَيْك نَفْسُك مِنْ اللَّهْوِ، وَالْحَدِيثِ فِي الْبَاطِلِ، وَثَقُلَتْ عَلَيْك الزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ لِمَا تُحِبُّ أَنْ تَصْرِفَهُ فِيهِ مِنْ لَذَّاتِك، وَثَقُلَ عَلَيْك التَّوَاضُعُ لِمَا تَرَى مِنْ تَصْغِيرِ شَأْنِك، وَدَنَاءَةِ مَنْزِلَتِك عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَثَقُلَ عَلَيْك
الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ لِئَلَّا يُعَادِيَك النَّاسُ أَوْ يَنْقَطِعَ رَجَاؤُك مِنْهُمْ أَوْ يُسْمِعُونَك مَا تَكْرَهُ فَيَدْخُلُ عَلَيْك التَّنْغِيصُ فِي سُرُورِك، وَثَقُلَ عَلَيْك الْقُنُوعُ وَالرِّضَا لِعَظِيمِ مَوْقِعِ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِك، وَحُبِّك الْإِكْثَارَ مِنْهَا، وَحِرْصُك عَلَيْهَا، وَكَرَاهِيَتُك لِلْمَوْتِ وَنَعِيمِ مَا بَعْدَهُ مَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ يَطُولُ وَصْفُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا صَارَ شِدَّتُهُ عَلَيْك لِحُبِّ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا ثَقُلَ عَلَيْك الصَّبْرُ وَمَلِلْته، وَضَيَّقَ الشَّيْطَانُ عَلَيْك الْمَذَاهِبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لِأَنَّ سِلَاحَهُ الَّذِي بِهِ يَقْوَى، وَكَيْدَهُ الَّذِي يَصِلُ بِهِ إلَى أَهْلِ الدُّنْيَا الرَّغْبَةُ فِيهَا وَطَلَبُهَا، فَإِذَا أَنْتَ زَهِدْت فِي الدُّنْيَا، وَرَفَضْتهَا، وَرَغِبْت فِي الْآخِرَةِ، وَطَلَبْتهَا سَهُلَ عَلَيْك الْأَمْرُ فَآثَرْت الْآخِرَةَ، وَطَلَبْتهَا، وَرَغِبْت فِيهَا، وَأَدْبَرَتْ عَنْك الدُّنْيَا وَثِقَلُهَا، وَتَوَلَّتْ عَنْك هَارِبَةً بِبَلَائِهَا، وَأَتَتْك بِمَنَافِعِهَا، وَصَرَفَتْ عَنْك شُرُورَهَا بِرَغْمٍ مِنْهَا، وَانْقَطَعَ رَجَاءُ الشَّيْطَانِ، وَصَغُرَ كَيْدُهُ وَوَلَّى، وَقَلَّ سِلَاحُهُ فَلَا قُوَّةَ لَهُ بِك، وَنَجَوْت بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَتَوْفِيقِهِ مِنْ الضِّيقِ، وَالتَّعْسِيرِ، وَالْهَلَكَةِ، وَصِرْت إلَى النِّعْمَةِ، وَالسُّرُورِ، وَالرَّاحَةِ، وَخَرَجَ حُبُّ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِك فَلَزِمْت الصِّيَامَ، وَخَفَّ عَلَيْك؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ نَفْسُك تَنْشَرِحُ إلَى الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الشَّهَوَاتِ، وَلَزِمْت الصَّلَاةَ، وَاشْتَغَلْت بِهَا؛ لِأَنَّ نَفْسَك لَمْ تَكُنْ تُنَازِعُك إلَى اللَّهْوِ أَوْ الْخَلْوَةِ إلَى حَدِيثٍ فِي بَاطِلٍ، وَخَفَّتْ عَلَيْك الزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّك أَعْدَدْت مَا قَدَّمْته أَمَامَك، وَلَا تُرِيدُ مِنْهُ شَيْئًا يَبْقَى خَلْفَك.
وَخَفَّ عَلَيْك التَّوَاضُعُ لِأَنَّ الْإِيَاسَ قَدْ خَرَجَ مِنْ قَلْبِك، وَهَانَ عَلَيْك الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَوَوْا عِنْدَك فَلَمْ تَرْجُ أَحَدًا غَيْرَ رَبِّك، وَلَمْ تَخَفْ شَيْئًا غَيْرَهُ، وَخَفَّ عَلَيْك الْقُنُوعُ؛ لِأَنَّك رَضِيت مِنْ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَلَمْ تُنَازِعْك نَفْسُكَ إلَى غَيْرِ الْبَلَاغِ وَالْكِفَايَةِ، وَخَفَّ عَلَيْك الْجِهَادُ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَخْرَجْتهَا مِنْ قَلْبِك، وَكَرِهْت الْبَقَاءَ فِيهَا، وَأَحْبَبْت الْمَوْتَ لِمَا تَرْجُو مِنْ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ وَالْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ الَّتِي أَمَامَك، فَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا رَاحَةٌ لِلْقَلْبِ، وَالْبَدَنِ، وَهُوَ جِمَاعُ الْخَيْرِ، وَتَمَامُهُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ إلَّا وَلَهُ ضِدٌّ مِنْ
غَيْرِهِ فَمَا قَصُرَ بِك عَنْهُ فَارْفُضْهُ، وَازْهَدْ فِيهِ يَسْلَمُ لَك عَمَلُك، وَيَخِفُّ عَلَيْك.
ثِقَلُهُ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: أَوْضَحْت فَبَيَّنْت، وَأَرْشَدْت فَهَدَيْت، وَكَشَفْت فَأَرَيْت. فَصِفْ لِي كَيْفَ الزُّهْدُ؟ وَمَا حَدُّهُ؟ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِي الْعَمَلُ بِهِ؟ فَقَدْ اسْتَبَانَ لِي فَضْلُهُ، وَوَضَحَ لِي رُشْدُهُ.
فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إنَّ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَاجِبٌ عَلَيْك، وَهُوَ الْوَرَعُ لَا يَجُوزُ لَك التَّقْصِيرُ فِيهِ، وَلَا الرَّغْبَةُ عَنْهُ، وَهُوَ اجْتِنَابُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك، وَنَهَاك عَنْهُ فَهَذَا الْأَمْرُ لَازِمٌ لَك لَا عُذْرَ لَك فِي التَّقْصِيرِ عَنْ الزُّهْدِ، وَالْقُرْبِ إلَى رَبِّك طَلَبًا لِلْفَضْلِ، وَنَفْيًا لِكُلِّ أَمْرٍ قَصُرَ بِك عَنْهُ مِنْ الْمُسَارَعَةِ فِي طَاعَتِهِ، وَالْمُسَابِقَةِ إلَى رِضْوَانِهِ، فَهَذَا مَا يَنْبَغِي لَك الْعَمَلُ بِهِ، وَإِدَارَةُ صَلَاحِ نَفْسِك عَلَيْهِ فَقَالَ: أَمَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيَّ، وَنَهَانِي عَنْهُ فَقَدْ دَلَّنِي عَلَيْهِ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ لَا يَنْبَغِي لِي الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَلَا الْعَمَلُ بِهِ فَزَهِدْت فِيهِ، وَرَفَضْته فَصِفْ لِي الزُّهْدَ الَّذِي أَرْجُو أَنْ أَنَالَ بِهِ كَرَامَةَ سَيِّدِي، وَأَنْ أَبْلُغَ مِنْ ذَلِكَ مَحَبَّتَهُ، وَأَنْ أَدْفَعَ بِهِ عَنِّي كَيْدَ الشَّيْطَانِ وَمَكْرَهُ.
فَقَالَ لَهُ: ذَلِكَ الزُّهْدُ فِي فُضُولِ الدُّنْيَا، وَالرِّضَا مِنْهَا بِيَسِيرِهَا، وَالْأَخْذُ مِنْهَا بِقَدْرِ الْبَلَاغِ إلَى غَيْرِهَا، وَرَفْضُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ فُضُولِهَا وَأُمُورِهَا، بِإِخْرَاجِ النَّاسِ مِنْ قَلْبِك فَلَا تَخَفْ أَحَدًا فِي اللَّهِ، وَلَا تَرُدَّ حَمْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَيَسْتَوِي النَّاسُ عِنْدَك فَلَا تَرْجُ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ، وَلَا تَطْلُبْ إلَّا فَضْلَهُ، وَتَنْصَحُ فِي اللَّهِ فِي السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةِ، وَلَا تَخَفْ لَوْمَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، وَلَا عَذْلَهُ، وَتُحِبُّ فِي اللَّهِ، وَتَبْغُضُ فِي اللَّهِ، وَلَا تُشْغِلُ قَلْبَك بِشَيْءٍ غَيْرَهُ، وَتَلْزَمُ التَّوَاضُعَ، وَالتَّذَلُّلَ لِرَبِّك، وَتُخْمِلُ ذِكْرَكَ، وَتُغَيِّبُ اسْمَكَ، وَلَا تُرِدْ بِذَلِكَ تَعْظِيمَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ غَيْرَ اللَّهِ تبارك وتعالى، وَتُحِبُّ الْمَوْتَ، وَتَكُونُ مُمْتَثِلًا لَهُ بَيْنَ عَيْنَيْك لِرَجَاءِ مَا بَعْدَهُ.
وَتَزْهَدُ فِي الْحَيَاةِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، وَالْبَلِيَّةِ فَهَذَا أَصْلُ الزُّهْدِ فَإِذَا أَنْتَ وَصَلْت إلَى ذَلِكَ نِلْت شَرَفَ الْآخِرَةِ، وَنَجَوْت بِعَوْنِ اللَّهِ مِنْ بَلِيَّةِ عَاجِلَتِك فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: لَقَدْ ذَكَرْت لِي مِنْ أَمْرِ الزُّهْدِ شَيْئًا ضَاقَ بِهِ ذَرْعِي، وَاشْتَدَّ لَهُ غَمِّي، وَاعْتَصَرَ لَهُ قَلْبِي، وَاسْتَصْعَبَ بِهِ عَلَيَّ أَمْرِي، وَتَفَرَّقَ لَهُ رَأْيِي، وَاشْتَدَّتْ عَلَيَّ
الْمُؤْنَةُ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِمَالُ لَهُ أَيْسَرَ عَلَيَّ مُؤْنَةً مِنْهُ، وَأَخَفَّ عَلَيَّ حِمْلًا مِنْ الزُّهْدِ، وَخَشِيت أَنْ لَا أَقْوَى عَلَى احْتِمَالِهِ، وَلَا تُطِيقُ نَفْسِي الْعَمَلَ بِكَمَالِهِ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِتَمَامِهِ، وَأَنْ تَمَلَّهُ نَفْسِي وَتَرْفُضَهُ، وَتَرْجِعَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ هَلَاكُهَا، وَعَطَبُهَا، وَقَدْ عَرَفْت فَضْلَ الزُّهْدِ، وَعَظِيمَ قَدْرِهِ، فَصِفْ إلَيَّ أَمْرًا أَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الزُّهْدِ، وَيُخَفِّفُهُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قَدْ فَهِمْت قَوْلَك، وَلَقَدْ صَعُبَ عَلَيْك الذَّلُولُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْك الْيَسِيرُ، وَثَقُلَ عَلَيْك الْخَفِيفُ، وَعُمِّيَتْ عَلَيْك الْمَدَاخِلُ، وَمَا أَلُومُك حَيْثُ اشْتَدَّ عَلَيْك مِنْ أَمْرِك مَا ذَكَرْت حِينَ لَمْ تَعْلَمْ الْأَمْرَ الَّذِي لَهُ فِي الدُّنْيَا زَهِدْت، وَاَلَّذِي بِهِ عَلَيْهِ قَوِيت.
وَلَوْ عَلِمْته لَهَانَ عَلَيْك مِنْ أَمْرِك الشَّدِيدُ، وَخَفَّ عَلَيْك الثَّقِيلُ، وَسَهُلَتْ عَلَيْك مَوَارِدُهُ، وَسَهُلَتْ عَلَيْك فِيهِ الْمَذَاهِبُ، وَخَفَّتْ عَلَيْك فِيهِ الْمُؤْنَةُ فَافْهَمْ قَوْلِي بِعَقْلٍ، وَتَدَبَّرْهُ بِحِكَمٍ، وَخُذْ فِيهِ بِقُوَّةٍ وَجِدٍّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا، وَدَعَاهُمْ إلَى الزُّهْدِ فِيهَا وَرَفْضِهَا خِصَالٌ شَتَّى بَعْضُهَا أَرْفَعُ وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنْ بَعْضٍ، وَكُلُّهَا دَاعِيَةٌ إلَى الزُّهْدِ فِيهَا، فَأَوَّلُ دَرَجَاتِ الزُّهْدِ: أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى خَلَقَ الْعِبَادَ فِي الدُّنْيَا، وَجَعَلَ مَا فِيهَا زِينَةً لَهَا، وَزَهَّدَهُمْ فِيهَا، وَخَلَقَ الْآخِرَةَ، وَنَعِيمَهَا، وَنَدَبَهُمْ إلَيْهَا، وَرَغَّبَهُمْ فِيهَا، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ عَنْ الدُّنْيَا مُرْتَحِلُونَ، وَأَنَّهُمْ إلَى الْآخِرَةِ صَائِرُونَ فَرَغَّبَ الْعِبَادَ فِي الْبَاقِي، وَزَهَّدَهُمْ فِي الْفَانِي فَآثِرْ الْآخِرَةَ، وَاطْلُبْهَا، وَازْهَدْ فِي الدُّنْيَا، وَارْفُضْهَا لِكَيْ لَا يُنْتَقَصَ مِنْ حَظِّك فِي الْآخِرَةِ بِمَا نِلْت مِنْ نَعِيمِ دُنْيَاك: وَأَمَّا الْمَنْزِلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل خَلَقَ الْعِبَادَ فِي الدُّنْيَا فَأَوْجَبَ الْمَوْتَ عَلَيْهِمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ مَيِّتُونَ، وَضَرَبَ لَهُمْ فِيهَا أَجَلًا فَلَمْ يَعْلَمُوا فِي أَيِّ الْأَوْقَاتِ، وَالسَّاعَاتِ تَأْتِيهِمْ مَنِيَّتُهُمْ فَتَحُولُ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ دُنْيَاهُمْ، وَنَعِيمِ عَيْشِهِمْ، وَمُفَارَقَةِ أَحْبَابِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمَوْتُ فِي قُلُوبِهِمْ أَسْهَرُوا فِي اللَّيْلِ أَعْيُنَهُمْ، وَاشْتَغَلُوا بِهُمُومِهِمْ عَنْ أَهْلِيهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ، وَدَامَ حُزْنُهُمْ، وَبُكَاؤُهُمْ، وَزَهِدُوا فِي الدُّنْيَا، وَأَهْلِهَا وَنَعِيمِهَا، فَصَارَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الضِّيفَانِ، وَكَانَ الْمُقَوِّي لَهُمْ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ذِكْرُ الْمَوْتِ
وَقَصْرُ الْأَمَلِ فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ شَرِيفَةٌ مِنْ خِصَالِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الزُّهْدِ: فَتَصْدِيقُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَمَا خَوَّفَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِ النَّارِ وَعَذَابِهَا، وَمَا حَذَّرَهُ مِنْهُ مِنْ الدُّنْيَا، وَالِاغْتِرَارِ بِهَا فَزَهِدَ فِيهَا، وَأَحَبَّ بِالْمَوْتِ مُفَارَقَتَهَا، وَالتَّبَاعُدَ عَنْهَا، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا إلَى دَارِهِ وَقَرَارِهِ تَبَصُّرًا مِنْهُ بِالدُّنْيَا، وَحَالِهَا فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ مِنْ خِصَالِ الزُّهْدِ أَشْرَفُ مِمَّا قَبْلَهَا، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: مَا تَرَكْت لِي إلَى الدُّنْيَا، وَالرُّكُونِ إلَيْهَا سَبِيلًا، وَلَقَدْ اسْتَبَانَ لِي مِنْ قَوْلِك الْبِرُّ وَالْحَقُّ، وَوَضَحَ لِي مِنْ وَصْفِك الصِّدْقُ، وَقَوِيت - بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ - عَلَى الزُّهْدِ فِيهَا، وَرَفْضِهَا؛ فَصِفْ لِي بِصِفَتِك الشَّافِيَةِ، وَنَعْتِك النَّافِعِ دَوَاءً لِدَاءِ قَلْبِي تُخْبِرنِي فِيهِ عَنْ الْأَمْرِ الَّذِي يَدُلُّنِي عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ، وَيُقَوِّينِي عَلَيْهَا.
فَقَالَ: الْأَمْرُ الَّذِي يَدُلُّك عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ، وَيُقَوِّيك عَلَيْهَا، وَيُنَوِّرُهَا فِي قَلْبِك هُوَ الْيَقِينُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ شَكٌّ، وَالتَّصْدِيقُ بِرَبِّك الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ لَبْسٌ فَإِنَّهُ مَنْ صَدَقَ رَبَّهُ أَيْقَنَ، وَمَنْ أَيْقَنَ أَبْصَرَ، وَمَنْ أَبْصَرَ زَهِدَ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْيَقِينِ، وَأَفْضَلُ الْيَقِينِ التَّوَكُّلُ، قَالَ: فَصِفْ لِي الْيَقِينَ لِأَعْرِفَهُ.
فَقَالَ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيك لَهُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَأَنَّهُ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي قُدْرَتِهِ، وَسُلْطَانِهِ، وَخَلْقِهِ، وَأَنَّ وَعَدَهُ حَقٌّ، وَقَوْلَهُ صِدْقٌ، وَكَذَا وَعِيدَهُ، وَكُتُبَهُ، وَرَسُولَهُ حَتَّى تُقِرَّ بِذَلِكَ فِي قَلْبِك، وَتَتَّبِعَ كِتَابَ رَبِّك فَهَذَا الْيَقِينُ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ، قَالَ: صِفْ لِي التَّوَكُّلَ لِأَعْرِفَهُ، فَقَالَ: التَّوَكُّلُ هُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ، وَتَصْدِيقُ الْيَقِينِ دَلَالَتَهُ، فَمَنْ أَيْقَنَ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ، وَالْمُقْتَدِرُ عَلَيْهَا، وَالْمَالِكُ لَهَا، وَالْمُنْفَرِدُ بِهَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَقَطَعَ رَجَاءَهُ عَمَّنْ سِوَاهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يَثِقْ بِأَحَدٍ، وَلَمْ يَأْنَسْ إلَّا بِهِ فَانْقَطِعْ إلَى اللَّهِ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ حَالَاتك فَهَذِهِ صِفَةُ الْعَمَلِ وَالتَّوَكُّلِ وَمَأْخَذِهِ، قَالَ: مَا الَّذِي يَدُلُّنِي عَلَى الْفِكْرَةِ، وَيُقَوِّينِي عَلَيْهَا فَإِنِّي كُلَّمَا أَرَدْت الْفِكْرَةَ لَمْ أَصِلْ إلَيْهَا، وَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا فَقَالَ: أَجَلْ لَا تَصِلُ إلَى مَا تُرِيدُ مِنْ الْفِكْرَةِ مَعَ الِاشْتِغَالِ