الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَالُك بِالْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ الْمُتَوَجِّه إلَى رَبِّهِ الَّذِي تَرَكَ الدُّنْيَا، وَشَهَوَاتِهَا، وَمَلْذُوذَاتِهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ فَهُوَ أَوْلَى وَأَوْجَبُ بِالْمُطَالَبَةِ بِالِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالسَّمَاعُ إذَا سَلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي بَابِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْجُنَيْدِ رحمه الله حَيْثُ قَالَ: لَا يَصِيرُ السَّمَاعُ مُبَاحًا إلَّا بِعَشْرَةِ شُرُوطٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا، وَالْفَقِيرُ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ أَنْ يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ، وَيَتَّقِيَ مَوَاضِعَ الرَّيْبِ، وَيَسُدَّ عَنْ نَفْسِهِ أَبْوَابَ الْمَفَاسِدِ كُلَّهَا فَإِنَّهُ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَصَلَاحُهُ يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ، وَفَسَادُهُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ مُهْجَتَهُ، وَمُهْجَةَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالنُّهُوضِ إلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يُنْدَبُ إلَيْهِ، وَيَتْرُكُ مَا عَدَا ذَلِكَ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
[فَصْلٌ فِي تَرْكُ الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَمُخَالَطَتِهِمْ وَالتَّعَرُّفِ بِهِمْ]
(فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصُونَ حُرْمَةَ الْخِرْقَةِ الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا بِتَرْكِ الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَالتَّعَرُّفِ بِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قُبْحُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَالِمِ فَفِي حَقِّ الْفَقِيرِ أَوْلَى وَأَحْرَى؛ إذْ إنَّهُ أَقْبَلَ عَلَى طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَتَرَكَ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا، فَوُقُوفُهُ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ نَقِيضُ طَرِيقِهِ وَمَقْصِدِهِ، بَلْ يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ فِي خَلْوَتِهِ، وَقَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ فَإِنْ تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُكْثِرْهُمْ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا: إذَا رَأَيْت الْأَمِيرَ عَلَى بَابِ الْفَقِيرِ فَاتَّهِمْ الْفَقِيرَ؛ لِأَنَّهُ مَا جَاءَ إلَّا لِنِسْبَةٍ حَصَلَتْ فِي الْفَقِيرِ مِنْ أَجْلِ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ الْأَمِيرُ لِحُصُولِ الْجِنْسِيَّةِ أَوْ كَمَا قَالُوا، وَقَدْ يَكُونُ الْفَقِيرُ لَا يَشْعُرُ بِمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ.
حَتَّى لَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَمُرُّ لَهُ خَاطِرٌ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ الْتِفَاتٌ إلَيْهَا، وَإِذَا بِجُنْدِيٍّ يَدُقُّ الْبَابَ فَدَخَلَ إلَيْهِ، وَجَلَسَ يَتَحَدَّثُ مَعَهُ فِي الدُّنْيَا فَرَجَعَ الشَّيْخُ إلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ هَذِهِ عُقُوبَةٌ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ أَتَيْت، وَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْخَاطِرَ الَّذِي مَرَّ بِهِ فَتَابَ
إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَقْلَعَ عَنْهُ، وَإِذَا بِالْجُنْدِيِّ قَدْ قَامَ وَخَرَجَ مِنْ حِينِهِ.
فَهَذِهِ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ وَسِيرَتُهُمْ الْحَسَنَةُ، وَهُمْ قُدْوَةٌ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ يَتَمَسَّكُ بِطَرِيقِهِمْ - أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يُخَالِفَ بِنَا عَنْ حَالِهِمْ - وَمَعَ هَذَا فَلَا نُنْكِرُ الِاجْتِمَاعَ بِهِمْ أَعْنِي إذَا جَاءُوا إلَى الْفَقِيرِ رَاغِبِينَ فَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِحُسْنِ الْبَشَاشَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَالْأَخْذِ مَعَ الْمُضْطَرِّينَ، وَالْمَسَاكِينِ فِيمَا نَزَلَ بِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ احْتِيَاجَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا لِلْمُرِيدِ، وَخَطَرَهُ أَعْظَمُ مِنْ احْتِيَاجِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ إلَى الْمُرِيدِ الْمُنْقَطِعِ إلَى رَبِّهِ عز وجل؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ الْمِسْكِينَ أَقْرَبُ إلَى رَبِّهِ سبحانه وتعالى؛ إذْ هُوَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ، وَالْمَسْكَنَةُ عَلَيْهِ ظَاهِرَةٌ بِخِلَافِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ الشُّرُودُ عَنْ بَابِ رَبِّهِمْ لِأَجْلِ تَعَلُّقِهِمْ بِمَنْ هُوَ فَوْقَهُمْ أَوْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَيَحْتَاجُ الْمُرِيدَ إذَا أَتَوْا إلَيْهِ أَنْ يُبَاسِطَهُمْ لِكَيْ يَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى مَوْعِظَتِهِمْ وَسِيَاسَةِ أَخْلَاقِهِمْ لِيَسْرِقَ طِبَاعَهُمْ بِالرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ قَاصِدًا بِذَلِكَ وُقُوفَهُمْ بِبَابِ رَبِّهِمْ، وَإِرْشَادَهُمْ إلَيْهِ لَا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ؛ لِأَنَّ نَجَاةَ هَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، فَإِذَا خَلَّصَ وَاحِدًا مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الْجِهَادِ، وَفِي الْجِهَادِ مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا فِيهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَغْتَنِمَ مَا سِيقَ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، وَيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى مَقَامِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ تَدْنِيسِهِ بِالتَّشَوُّفِ إلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ التَّعَزُّزِ بِعِزِّهِمْ الْفَانِي أَوْ الرُّكُونِ إلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ الزَّائِلَةِ فَإِذَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُنَافِي قَضَاءَ حَوَائِجِ الْمُضْطَرِّينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّ لَهُ بِذَلِكَ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ سَاقَ إلَيْهِمْ خَيْرًا عَظِيمًا، وَمَعْرُوفًا جَسِيمًا لَكِنْ بِشَرْطٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يُرِيهِمْ أَنَّ الْحَظَّ وَالْمَنْفَعَةَ وَالْحَاجَةَ الْكُبْرَى لَهُمْ فِي اسْتِقْضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يُحَقِّقَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَاجَاتِ إلَيْهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ فَكَيْفَ مَعَ اطِّلَاعِهِ وَاطِّلَاعِهِمْ، وَهَذَا بَابٌ كَبِيرٌ مُتَّسِعٌ فَيَكْفِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفُقَرَاءُ السَّالِكُونَ مِمَّنْ مَضَى
مِنْهُمْ - نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ - قَدْ انْقَسَمُوا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَإِنْ وَقَعَ لِأَحَدِهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اسْتَعْمَلَ التَّحَيُّلَ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهُ. كَمَا حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَمَّا أَنْ تَوَلَّى الْخِلَافَةَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ، وَيَرْجِعُ إلَيْهِ هَرَبَ مِنْهُ إلَى الْبِلَادِ، وَسَافَرَ إلَى مَوَاضِعَ لَا يُعْرَفُ فِيهَا فَبَقِيَ الْخَلِيفَةُ يَسْأَلُ عَنْهُ، وَيَبْحَثُ عَنْ أَمْرِهِ إلَى أَنْ اجْتَمَعَ بِهِ بَعْضُ مَنْ يَعْرِفُهُ فَتَكَلَّمَ مَعَهُ فِي أَنَّ اجْتِمَاعَهُ بِالْخَلِيفَةِ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ جَوَابُهُ أَنْ قَالَ: يُصْلِحُ مَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَتَيْته، وَجَلَسْت مَعَهُ، وَعَلَّمْته مَا لَمْ يَعْلَمْهُ أَوْ كَمَا قَالَ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَظْهَرَ التَّوَلُّهَ حِينَ إتْيَانِ السُّلْطَانِ إلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَ عَلَى بَابِهِ أَحْمَالًا مِنْ الْخُبْزِ فَوَضَعَهَا، وَجَلَسَ هُنَاكَ فَلَمَّا أَنْ رَأَى السُّلْطَانَ مُقْبِلًا أَخَذَ رَغِيفًا، وَجَعَلَ يَعَضُّ فِيهِ، وَيَأْكُلُ بِنَهِمَةٍ فَجَاءَ السُّلْطَانُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ: هُوَ ذَا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عليه السلام فَكَلَّمَهُ فَأَبَى عَنْ جَوَابِهِ فَسَأَلَهُ لِمَ لَا تَرُدُّ عَلَيَّ الْجَوَابَ فَقَالَ أَخَافُ أَنْ تَشْغَلَنِي عَنْ أَكْلِي أَوْ أَنْ تَأْكُلَ مَعِي فَيَذْهَبَ هَذَا الْخُبْزُ، وَأَنَا لَا أَشْبَعُ أَوْ كَمَا قَالَ فَرَجَعَ السُّلْطَانُ عَنْهُ، وَهَذَا بَابُ السَّلَامَةِ، وَلَا يُعْدَلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْءٌ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ بِهِمْ إذَا أَتَوْا إلَيْهِمْ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْإِتْيَانُ إلَيْهِمْ، وَفِيهِ خَطَرٌ مِنْ أَجْلِ مُخَالَطَتِهِمْ وَالْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِهِمْ لِقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ إذْ أَنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ
أَحَدُهُمَا حَسَنٌ، وَهُوَ قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّفْرِيجُ عَنْهُمْ
وَالثَّانِي ضِدُّهُ، وَهُوَ إهَانَةُ خِرْقَةِ الْفَقِيرِ بِالْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ لَا يَنْبَغِي، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا أَقْبَحَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الْعَالِمِ فَيُقَالُ: هُوَ بِبَابِ الْأَمِيرِ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْقُبْحُ فِي حَقِّ الْعَالِمِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي الْمُرِيدِ الَّذِي خَلَّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ يَطْلُبُهَا، وَتَوَجَّهَ إلَى اللَّهِ عز وجل بِالِانْقِطَاعِ إلَيْهِ؟ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ إلَّا أَنَّا مَأْمُورُونَ بِالتَّغْيِيرِ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ، وَالْوُقُوفُ بِبَابِهِمْ يُنَافِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله يَخْتَارُ الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ لَا يَقِفُ
بِبَابِهِمْ، وَلَا يَنْفِرُ مِنْهُمْ، بَلْ يَسْتَقْضِي حَوَائِجَ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْهُمْ إذَا أَتَوْا إلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَأْتِ مِنْهُمْ إلَيْهِ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُرْسِلُ إلَيْهِ أَصْلًا، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ ضَرُورَةٌ، وَأَتَى إلَيْهِ يُحِيلُهُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالتَّوْبَةِ مِمَّا جَنَى، وَأَمَّا الْإِرْسَالُ إلَيْهِمْ فَكَانَ لَا يُرْسِلُ لِمَنْ يَعْرِفُ، وَلَا لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ فَمَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ مِنْهُمْ إذَا جَاءَ ذِكْرٌ لَهُ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَأَزَالَهَا، وَهَذَا الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ هُوَ حَالُ أَكْثَرِ السَّلَفِ أَعْنِي الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ هَذَا حَالُهُ مَعَ زِيَارَةِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الدُّنْيَا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ يَأْتِي إلَى زِيَارَةِ الْمُرِيدِ يَنْقَسِمُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ - إتْيَانُ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا لَهُ.
وَالثَّانِي - زِيَارَةُ الْمُرِيدِينَ وَالصُّلَحَاءِ.
وَالثَّالِثُ - زِيَارَةُ مَنْ شَارَكَهُ فِي الْخِرْقَةِ مِنْ جِهَةِ شَيْخِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعَالِمِ الَّذِي اهْتَدَى بِهَدْيِهِ
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَمَّا
الْقِسْمُ الثَّانِي فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْقَى مَنْ أَتَاهُ بِرَحَبٍ، وَسَعَةِ صَدْرٍ، وَأَنْ يُكْثِرَ التَّوَاضُعَ لَهُمْ، وَيَرَى الْفَضْلَ لَهُمْ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلُوهُ، وَيَرَى نَفْسَهُ أَنَّهَا مُقَصِّرَةٌ فِي حَقِّهِمْ إذْ إنَّهُ قَعَدَ عَنْ زِيَارَتِهِمْ حَتَّى احْتَاجُوا إلَى زِيَارَتِهِ فَيُعَوِّضُ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَثْرَةَ الْأُنْسِ، وَإِظْهَارَ الْوُدِّ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ بَاطِنًا كَمَا فَعَلَهُ ظَاهِرًا، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْأَدَبِ مَعَهُمْ بِتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ، وَاحْتِرَامِهِ، وَاللُّطْفِ بِصَغِيرِهِمْ فِي إرْشَادِهِ، وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِ وَتَهْيِئِ أَمْرِهِ لِلسُّلُوكِ وَالتَّرَقِّي، وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُخْرِجَ عَنْهُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إلَّا عَنْ أَكْلٍ فَلْيَفْعَلْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ عَنْ السَّلَفِ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَنْصَرِفُونَ إلَّا عَنْ ذَوَاقٍ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ إلَّا بِتَكَلُّفٍ مِثْلِ أَخْذِ دَيْنٍ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ فَالتَّرْكُ أَوْلَى بِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَهُ أَضْيَافٌ فَقَدَّمَ لَهُمْ خُبْزًا وَمِلْحًا، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّا نُهِينَا عَنْ التَّكَلُّفِ لَتَكَلَّفْت لَكُمْ لَكِنْ يُعَوِّضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ إمْدَادُهُمْ فِي بَوَاطِنِهِمْ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِمْدَادِ فَيَدْعُو لَهُمْ بِظَاهِرِ الْغَيْبِ، وَلَعَلَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ - وَهُوَ الْغَالِبُ - مَنْ هُوَ أَرْفَعُ مِنْهُ قَدْرًا، وَأَعْظَمُ شَأْنًا فَيَكُونُ دُعَاؤُهُ إذْ ذَاكَ يَعُودُ عَلَيْهِ بَرَكَتُهُ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ «الْمَرْءَ إذَا دَعَا لِأَخِيهِ
فِي ظَاهِرِ الْغَيْبِ فَإِنَّ الْمَلَكَ يَقُولُ لَهُ: وَلَك مِثْلُ ذَلِكَ» أَوْ كَمَا وَرَدَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ حَاجَةٍ أَحْتَاجُهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ بِهَا لِنَفْسِي أَدْعُو بِهَا لِأَخِي فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ لِأَنِّي إذَا دَعَوْت لِنَفْسِي كَانَ الْأَمْرُ مُحْتَمَلًا لِلْقَبُولِ أَوْ ضِدِّهِ، وَإِذَا دَعَوْت لِأَخِي فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ فَالْمَلَكُ يَقُولُ: وَلَك مِثْلُ ذَلِكَ، وَدُعَاءُ الْمَلَكِ مُسْتَجَابٌ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَى زِيَارَةِ أَخِيهِ فَقَالَ لَهُ الْمَزُورُ: يَا أَخِي أَمَا كَانَ لَك شُغْلٌ بِاَللَّهِ عَنْ زِيَارَتِي فَقَالَ لَهُ الزَّائِرُ شُغْلِي بِاَللَّهِ أَخْرَجَنِي إلَى زِيَارَتِك.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ إذَا سَأَلَهُ أَحَدٌ مِنْ إخْوَانِهِ فِي حَاجَةٍ يَبْكِي، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ بُكَائِهِ فَقَالَ: أَبْكِي لِغَفْلَتِي عَنْ حَاجَةِ أَخِي حَتَّى احْتَاجَ أَنْ يُبْدِيَهَا لِي، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ هُوَ جَارٍ عَلَى جَادَّةِ غَالِبِ حَالِ النَّاسِ، وَبَعْضُ الْأَكَابِرِ يُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ مَا هُوَ فِي الْإِيثَارِ أَكْثَرُ وَأَعَمُّ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ اقْتِدَاءٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
كَمَا حَكَى لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ الْفَقِيهَ الْإِمَامَ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ جَاءَ إلَى زِيَارَةِ الْفَقِيهِ الْإِمَامِ الْمُحَدِّثِ الْمَعْرُوفِ بِالظَّهِيرِ التَّزْمَنْتِيِّ، وَكَانَ إذْ ذَاكَ مُنْبَسِطًا مَعَ مَنْ حَضَرَهُ فَلَمَّا أُخْبِرَ بِمَجِيءِ الْفَقِيهِ ابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ إلَى زِيَارَتِهِ انْقَبَضَ عَنْ ذَلِكَ، وَزَالَ بَسْطُهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُنْقَبِضٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عليه السلام، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ لَهُ إلَّا جَوَابًا فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ رَجَعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَسْطِ مَعَ مَنْ حَضَرَهُ فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ: اسْتَصْغَرْت نَفْسِي أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا السَّيِّدِ يَزُورُ مِثْلِي فَأَرَدْت أَنْ أُكَافِئَهُ بِبَعْضِ مَا يَسْتَحِقُّهُ فَوَجَدْتُ نَفْسِي عَاجِزَةً عَنْ مُكَافَأَتِهِ فَآثَرْته بِالْأَجْرِ كُلِّهِ حَتَّى يَكُونَ فِي صَحِيفَتِهِ دُونِي لِمَا وَرَدَ «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَأَكْثَرُهُمَا ثَوَابًا أَبَشُّهُمَا لِصَاحِبِهِ» فَآثَرْته بِذَلِكَ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، وَهَذَا لَهُ أَصْلٌ فِي الِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْت إذَا لَقِيتُ عَلِيًّا ابْتَدَأَنِي بِالسَّلَامِ فَلَقِيتُهُ الْيَوْمَ فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيَّ حَتَّى ابْتَدَأْته بِالسَّلَامِ