الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَخَيْرُ لِبَاسِهَا نَفَثَاتُ دُودٍ
…
وَخَيْرُ شَرَابِهَا قَيْءُ الذُّبَابِ
وَأَشْهَى مَا يَنَالُ الْمَرْءُ فِيهَا
…
مُبَالٍ فِي مُبَالٍ مُسْتَطَابِ
وَعَنْ قُرْبٍ يَعُودُ الْكُلُّ تُرْبًا
…
بِلَا شَكٍّ يَكُونُ وَلَا ارْتِيَابِ
وَقَالَ: كُنْتُ قَدْ رَأَيْتُ فِي كُتُبِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ أَرْبَعَةً لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْمَنَهَا فَطَلَبْتُهَا فِي حِفْظِي فَلَمْ أَجِدْ مِنْهَا سِوَى وَاحِدَةٍ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ، وَإِنْ أَبْدَتْ الْوُدَّ وَأَظْهَرَتْ النُّصْحَ. وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الثَّانِي السُّلْطَانُ وَإِنْ أَبْدَى التَّقْرِيبَ وَالْمُصَافَاةَ. وَأَنْ يَكُونَ الثَّالِثُ الْمَالَ وَإِنْ كَانَ جَمًّا وَافِرًا. وَأَنْ يَكُونَ الرَّابِعُ الزَّمَانَ وَإِنْ كَانَ مُطَاوِعًا مُسَالِمًا. فَرُبَّ مَخْدُوعٍ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَخَانَتْهُ، أَوْثَقُ مَا كَانَ بِهَا وَأَسْلَمَتْهُ أَمْيَلُ مَا كَانَ إلَيْهَا.
وَقَالَ: الرَّاحَةُ كُلُّهَا فِي الرِّضَا بِاخْتِيَارِ الْحَقِّ لَكَ وَالتَّعَبُ كُلُّهُ فِي اخْتِيَارِكَ لِنَفْسِكَ. وَمُدَافَعَةُ الْأَيَّامِ شِيمَةُ الْكِرَامِ. وَاغْتِنَامُ الْوَقْتِ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى الْعَمَلِ وَاطِّرَاحِ الْأَمَلِ سَعَادَةٌ. وَانْتِظَارُ الْفَرَجِ بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ.
وَقَالَ: يَا هَذَا إذَا رَأَيْتَ إنْسَانًا لَمْ تُلْزِمْكَ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ فَفِرَّ مِنْهُ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ، أَوْ أَشَدَّ، وَإِنْ قُدِّرَ اجْتِمَاعُكَ مَعَهُ مُفَاجَأَةً فَاقْتَصِرْ فِي الْكَلَامِ مَعَهُ وَاعْتَذِرْ لَهُ بِشُغْلٍ وَاتْرُكْهُ بِسَلَامٍ أَمَا تَذْكُرُ أَنَّ تَعَبَكَ فِي الدُّنْيَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا إنَّمَا جَاءَكَ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ.
[فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ مَضْبُوطَةً]
(فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ مَضْبُوطَةً لِكُلِّ وَقْتٍ مِنْهَا عَمَلٌ يَخُصُّهُ مِنْ الْأَوْرَادِ فَلَا يَقْتَصِرُ فِي الْوَرْدِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، بَلْ كُلُّ أَفْعَالِ الْمُرِيدِ وِرْدٌ. قَدْ كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَقُولُونَ جَوَابًا لِمَنْ طَلَبَ الِاجْتِمَاعَ بِأَحَدٍ مِنْ إخْوَانِهِ وَيَكُونُ نَائِمًا هُوَ فِي وِرْدِ النَّوْمِ. فَالنَّوْمُ وَمَا شَاكَلَهُ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَوْرَادِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى رَبِّهِ عز وجل، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ وَقْتُ النَّوْمِ مَعْلُومًا كَمَا أَنَّ وَقْتَ وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ يَكُونُ مَعْلُومًا وَكَذَلِكَ اجْتِمَاعُهُ بِإِخْوَانِهِ يَكُونُ مَعْلُومًا.
وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ مَعَ أَهْلِهِ وَخَاصَّتِهِ يَكُونُ مَعْلُومًا كُلُّ ذَلِكَ وِرْدٌ مِنْ الْأَوْرَادِ إذْ إنَّ أَوْقَاتَهُ مُسْتَغْرَقَةٌ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ عز وجل فَلَا يَأْتِي إلَى
شَيْءٍ مِمَّا أُبِيحَ لَهُ فِعْلُهُ، أَوْ نُدِبَ إلَيْهِ إلَّا بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْوَرْدِ أَعْنِي التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَذَا عَلَى جَادَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَالْفَرَاغِ مِنْ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَوَائِقِ، وَالْعَوَارِضِ، أَوْ مِنْ حَالٍ يَرِدُ يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ فِي حَقِّ الْمُرِيدِ، بَلْ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُ بُكَاءٌ أَوْ تَضَرُّعٌ أَوْ خَشْيَةٌ يَسْتَمِرُّ فِي ذَلِكَ وَلَا يَقْطَعُهُ؛ إذْ إنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ حُصُولُ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِذَا حَصَلَتْ لِلْمُرِيدِ فَقَدْ حَصَلَ عَلَى فَرِيسَتِهِ فَلْيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهَا وَيَغْتَنِمْهَا لِئَلَّا تَنْفَلِتَ مِنْهُ فَقَلَّ أَنْ يَجِدَهَا وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رحمه الله: إذَا لَذَّتْ لَكَ الْقِرَاءَةُ فَلَا تَرْكَعْ وَلَا تَسْجُدْ، وَإِذَا لَذَّ لَكَ الرُّكُوعُ فَلَا تَقْرَأْ وَلَا تَسْجُدْ، وَإِذَا لَذَّ لَكَ السُّجُودُ فَلَا تَقْرَأْ وَلَا تَرْكَعْ، الْأَمْرُ الَّذِي يُفْتَحُ عَلَيْكَ فِيهِ فَالْزَمْهُ. أَرَأَيْتَ إنْسَانًا يَطْلُبُ شَيْئًا فَإِذَا وَجَدَهُ تَرَكَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى قَبْلُ وَلَا يُقْتَصَرُ فِي هَذَا عَلَى الصَّلَاةِ لَيْسَ إلَّا، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ أَرَادَهُ فَلَوْ حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْهُ أَيْضًا، بَلْ هَذَا آكَدُ لِاجْتِمَاعِ بَرَكَةِ الْإِخْوَانِ، وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْخَلْوَةُ فِيهَا الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ فِي الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ الْخَيْرُ الْمُتَعَدِّي حِسًّا لِاسْتِمْدَادِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ وَحَرَكَاتُهُ وَسَكَنَاتُهُ وَأَنْفَاسُهُ فِي الْخَلَاءِ وَالْمَلَأِ مَضْبُوطَةً بِالِاتِّبَاعِ فِي كُلِّ ذَلِكَ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ فِي أَوْرَادِهِ عَلَى الْقَلِيلِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوْرَادِ الْمُتَعَلِّمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَإِنْ حَصَلَ لَهُ شُغْلٌ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْعَوَائِقِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَتِهَا لِيَسَارَتِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْمُتَعَلِّمِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى عَمَلِ السِّرِّ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عَمَلَ السِّرِّ يَفْضُلُ الْجَهْرَ بِسَبْعِينَ دَرَجَةٍ وَمَا هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَتَأَكَّدُ تَحْصِيلُهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ، أَوْ مَعَ غَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ
عَمَلُ السِّرِّ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ أَعْنِي مِنْ الْأَهْلِ وَمَا شَابَهَهُمْ. فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يَرْجُو أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِظْهَارُهُ أَوْلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ مَعَهُمْ، ثُمَّ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ الْوَقْتِ إذْ إنَّ مِنْ الْأَهْلِ، أَوْ الْإِخْوَانِ مَنْ إذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا مَنْ يَعْتَقِدُهُ بَادَرَتْ نَفْسُهُ إلَى ذَلِكَ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ.
وَهَذَا فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرُ لِمَا وَرَدَ: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ فَالسِّرُّ أَوْلَى بِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُتَعَلِّمِ أَنَّهُ إنْ وَجَدَ الْخَلْوَةَ عَنْ أَهْلِهِ كَانَ بِهِ أَوْلَى. فَالْمُرِيدُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى، بَلْ أَوْجَبُ؛ لِأَنَّ الْمُرِيدَ لَا يَزَالُ فِي عَمَلِ السِّرِّ فِي غَالِبِ أَوْقَاتِهِ فَيَعُودُ عَلَيْهِ آثَارُ ذَلِكَ وَبَرَكَتُهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى عَمَلِ سِرٍّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عز وجل لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْحَفَظَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ ظَهَرَتْ لَهُ الْحَفَظَةُ وَنَاشَدُوهُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِمْ سُرُورًا بِحَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِهِ يُظْهِرُهَا لَهُمْ لِيُسَرُّوا بِهَا؛ لِأَنَّ الْحَفَظَةَ يَفْرَحُونَ بِحَسَنَةِ الْعَبْدِ حِينَ يَعْمَلُهَا أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِ الْعَبْدِ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَى ثَوَابَهَا وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ رُسُلَ الْمَلِكَ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَيْهِ إلَّا بِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَإِنَّهُمْ يَكْرَهُونَهُ لِكَرَاهِيَةِ الْمَلِكَ لَهُ.
وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ رحمه الله ظَاهِرُهُ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِهَا، وَهِيَ أَكْبَرُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا. لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام عَنْ رَبِّهِ:«لَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيَّ الْمُقَرَّبُونَ بِأَحَبَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ» الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ.
وَالْحَفَظَةُ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ وَيَكْتُبُونَهُ. فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى الْأَوْرَادِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَهِيَ الْفِكْرُ وَالنَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ إذْ إنَّ اللَّهَ عز وجل تَجَلَّى لِخَلْقِهِ وَظَهَرَ بِآيَاتِهِ وَبَطَنَ بِذَاتِهِ فَهُوَ الظَّاهِرُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ مَصْنُوعَاتِهِ الْبَاطِنُ بِذَاتِهِ فَلَا يُقَالُ أَيْنَ وَلَا كَيْفَ وَلَا مَتَى؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ كَانَ فِي حَالِ التَّجَلِّي فَهُوَ مُسْتَغْرِقُ الْأَوْقَاتِ حَتَّى لَا يَرَى غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ لِكَثْرَةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ النَّعِيمِ إذْ التَّجَلِّي لَيْسَ شَيْئًا مِنْ النِّعَمِ أَعْلَى مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَلَا يُعَكَّرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَفَظَةِ مَا وَرَدَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا نَوَى الْحَسَنَةَ خَرَجَتْ عَلَى فَمِهِ رَائِحَةٌ عَطِرَةٌ، وَإِذَا نَوَى السَّيِّئَةَ خَرَجَتْ عَلَى فَمِهِ رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ نَوَى بِقَلْبِهِ مَا نَوَاهُ فَهُوَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ دَلَّتْ عَلَيْهِ الرَّائِحَةُ الصَّادِرَةُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ إذْ التَّجَلِّي لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْعَبْدِ وَلَا مِنْ حِيلَتِهِ، بَلْ هُوَ فَيْضٌ مِنْ الْمَوْلَى سبحانه وتعالى وَتَفَضُّلٌ مِنْهُ وَامْتِنَانٌ عَلَى مَنْ خَصَّهُ وَاخْتَارَهُ مِنْ خَلْقِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ فَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ إنْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ سَنِيَّةٌ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى سبحانه وتعالى كَرِيمٌ مَنَّانٌ وَهَذِهِ الْأُمَّةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فِيهَا الْبَرَكَةُ الشَّامِلَةُ فَخَيْرُهُمْ وَمَقَامُهُمْ الْخَاصُّ بِهِمْ لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ إلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يَقْطَعُ الْمُرِيدُ إيَاسَهُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى حَالِهِمْ السَّنِيِّ وَلَا يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِحِيلَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَاجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّهُ مَهْمَا نَظَرَ إلَى ذَلِكَ قَطَعَ بِهِ، بَلْ يَنْظُرُ إلَى فَضْلِ الْمَوْلَى سبحانه وتعالى وَنِعَمِهِ الْمُتَرَادِفَةِ عَلَيْهِ.
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ بَهِيمِيَّ الطَّبْعِ لَا يَرَى النِّعَمَ إلَّا فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالسَّعَةِ فِي الرِّزْقِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ حَالِ الْمُرِيدِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ حَالِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَاَللَّهُ عز وجل مِنْ كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ يُعْطِي لِكُلِّ قَاصِدٍ مَا قَصَدَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرِيدَ غَنِيمَتُهُ مَا فَاتَهُ مِنْ الدُّنْيَا، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله يَقُولُ الْمُرِيدُ لَا يَحْتَاجُ لِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَقُلْتُ لَهُ أَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ فَقَالَ نَعَمْ لَكِنَّ طَعَامَ الْمُرِيدِ الْجُوعُ وَكِسْوَتَهُ الْعُرْيُ فَهُوَ يَجِدُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَحِلُّ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ.
وَالْمَقْصُودُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ قَدْ طَرَحُوا أُمُورَ الدُّنْيَا خَلْفَ ظُهُورِهِمْ وَأَقْبَلُوا بِكُلِّيَّتِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَأَسْنَدُوا أُمُورَهُمْ إلَيْهِ وَتَوَكَّلُوا بِالْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ
فَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَقَرَّبَهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ وَحَمَاهُمْ وَتَجَلَّى لَهُمْ بِصِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ الْجَمِيلَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ.
وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ الْمُرِيدَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا إنَّمَا ذَلِكَ فِي حَالِ بِدَايَتِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّرَقِّي فِي الزِّيَادَةِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَسْتَغْرِقَ، أَوْقَاتَهُ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَهُوَ لَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مَشَقَّةً وَلَا تَعَبًا فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ لَكِنَّ الْمُرِيدَ فِي بِدَايَةِ أَمْرِهِ يَمْشِي عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَوْرَادِ الْمُتَعَلِّمِ وَأَمَّا نِهَايَتُهُ فَلَا حَدَّ لَهَا؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: أَكْلُهُمْ أَكْلُ الْمَرْضَى وَنَوْمُهُمْ نَوْمُ الْغَرْقَى وَكَلَامُهُمْ ضَرُورَةٌ فَلَا يَنَامُ الْمُرِيدُ إلَّا غَلَبَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِهِمْ فِي السَّنَةِ الَّتِي أَخَذَتْهُ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْإِشْرَاقِ فَعَرَكَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَيْنٍ لَا تَشْبَعُ مِنْ النَّوْمِ.
وَمِنْ كَانَ نَوْمُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَهَيَّأَ لِحَالَةِ النَّوْمِ وَلَا لِلْأَذْكَارِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُ إذْ حَالُ الْمُرِيدِ لَا يَنْضَبِطُ بِقَانُونٍ مَعْلُومٍ لِكَثْرَةِ اجْتِهَادِهِ وَتَحْصِيلِهِ وَأَحْوَالُهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ. لَكِنْ يُحَافَظُ عَلَى السُّنَّةِ وَيَشُدُّ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله يُعْجِبُهُ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَ إلَى فِرَاشِهِ دَخَلَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ خَوْفَ نَارِكَ مَنَعَنِي الْكَرَى فَيَقُومُ حَتَّى يُصْبِحَ فَكَانَ يُعْجِبُهُ مِنْهُ مُحَافَظَتُهُ عَلَى السُّنَّةِ حَتَّى فِي الْفِرَاشِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ النَّوْمُ فَإِذَا كَانَ الْمُرِيدُ عَلَى هَذَا الْحَالِ أَعْنِي مُحَافَظَتَهُ عَلَى السُّنَّةِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ نَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ إنَّهُ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.