الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَالْمُشْرِكِينَ.
الثَّانِي: إبَاحَةُ دِمَائِهِمْ أَسْرَى، وَمُمْتَنِعِينَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ أَمْوَالَهُمْ تَصِيرُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ.
الرَّابِعُ: بُطْلَانُ مُنَاكَحَتِهِمْ
[فَصْلٌ فِي قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ]
ِ، وَهِيَ الَّتِي تُفَارِقُ الْإِمَامَ، وَرَأْيَ الْجَمَاعَةِ، وَتَنْفَرِدُ بِمَذْهَبٍ مُبْتَدَعٍ، وَتَنْعَزِلُ بِدَارٍ، وَيُفَارِقُ قِتَالُهُمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَجْهًا:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ بِنِيَّةِ رَدْعِهِمْ، وَلَا يُتَعَمَّدُ بِهِ قَتْلُهُمْ.
الثَّانِي: يُقَاتَلُونَ مُقْبِلِينَ، وَيُكَفُّ عَنْهُمْ مُدْبِرِينَ.
الثَّالِثُ: لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ.
الرَّابِعُ: لَا تُقْتَلُ أَسْرَاهُمْ.
الْخَامِسُ: لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ.
السَّادِسُ: لَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ.
السَّابِعُ: لَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ.
الثَّامِنُ: لَا يُهَادَنُونَ عَلَى الْإِقَامَةِ بِبَلَدِهِمْ.
التَّاسِعُ: لَا يُصَالَحُونَ عَلَى مَالٍ يُقَرُّونَ بِهِ عَلَى بِدْعَتِهِمْ.
الْعَاشِرُ: لَا يُسْتَعَانُ عَلَى قِتَالِهِمْ بِمُشْرِكٍ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: لَا يُنْصَبُ عَلَيْهِمْ الرَّعَّادَاتُ.
الثَّانِي عَشَرَ: لَا تُحَرَّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتُهُمْ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: لَا تُقْطَعُ أَشْجَارُهُمْ.
[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمُحَارِبِينَ]
َ قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ كَقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ إلَّا فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ يُخَالِفُونَهُمْ فِيهَا:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ.
الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُتَعَمَّدَ فِي الْحَرْبِ قَتْلُهُمْ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ حَبْسُ أَسْرَاهُمْ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِمْ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ ضَامِنُونَ لِمَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ فِي الْحَرْبِ، وَغَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ بَعْدَ انْجِلَاءِ الْحَرْبِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ مَا أَخَذُوهُ مِنْ خَرَاجٍ، وَصَدَقَاتٍ فَهُوَ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا فَعَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ غُرْمُهُ فَإِذَا تَحَصَّلَ عِنْدَهُ مَعْرِفَةُ مَا ذُكِرَ فَلْيَكُنْ عَالِمًا بِأَحْكَامِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي الْحَالَتَيْنِ مِنْ قِتَالٍ، وَغَيْرِهِ، وَكَيْفِيَّةِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ التَّيَمُّمِ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَلْزَمُهُ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَمَسَائِلُهُ.
، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا عِنْدَ ذِكْرِ غُسْلِ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا، وَذَلِكَ
يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِفَ أَحْكَامَ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، وَفِي أَيِّ وَقْت يَقْصُرُ، وَفِي أَيِّ وَقْت يُتِمُّ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ مُتَيَسَّرٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ لِمَنْ جَاءَ إلَيْهِمْ مُسْتَفْتِيًا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ عِمَادُ الدِّينِ، وَبِهَا قِوَامُهُ فَإِذَا كَانَ الْمُجَاهِدُ يُخِلُّ بِهَا أَوْ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا كَانَ تَرْكُهُ لِلْجِهَادِ أَوْلَى بِهِ بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ.
فَإِذَا تَعَيَّنَ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَانَ عَاصِيًا، وَإِنْ كَانَ مُجَاهِدًا. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى؛ لِأَنَّا نَرَى، وَنُبَاشِرُ مَنْ يَخْرُجُ إلَى الْجِهَادِ، وَغَالِبُ أَحْوَالِهِمْ عَدَمُ الْفِقْهِ، وَعَدَمُ الْمَعْرِفَةِ بِكُلِّ مَا ذُكِرَ أَوْ بِأَكْثَرِهِ، وَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ مِنْهُمْ يَجْتَمِعُ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيَسْأَلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ فِيمَا ذُكِرَ سِيَّمَا صَلَاةُ الْخَوْفِ الَّتِي مَا بَقِيَتْ تُعْرَفُ عَنْهُمْ فِي الْغَالِبِ، وَلَا تُذْكَرُ إلَّا فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ كَأَنَّهَا حِكَايَةٌ تُحْكَى سِيَّمَا صَلَاةُ الْمُسَايَفَةِ فَإِنَّهَا كَادَتْ لَا تُعْرَفُ أَيْضًا لِعَدَمِ فَاعِلِهَا، وَقِلَّةِ السُّؤَالِ عَنْهَا فَيَخْرُجُ الْمُجَاهِدُ، وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ فِي طَاعَةٍ، وَهُوَ يَقَعُ فِي مُخَالَفَاتٍ جُمْلَةً لِعَدَمِ التَّلَبُّسِ بِمَعْرِفَةِ مَا ذُكِرَ، وَقَدْ يَكُونُ سَبَبًا إلَى وُقُوعِ الرُّعْبِ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْعَدُوِّ، وَانْهِزَامِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فَإِنَّ الْعَدُوَّ إنَّمَا يُسْتَعَدُّ لَهُ بِإِقَامَةِ هَذَا الدِّينِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - نَصْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ هُوَ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ سَبَبًا لِنُصْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَأَمْنِهِ مِمَّا يَخَافُ سِيَّمَا، وَالْمُجَاهِدُ إنَّمَا يُجَاهِدُ لِأَجْلِ الدِّينِ، وَالصَّلَاةُ هِيَ عِمَادُهُ، وَبِهَا قِوَامُهُ، وَقَدْ، وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه جَاءَهُ كِتَابٌ مِنْ بَعْضِ جُيُوشِهِ بِالشَّامِ، وَهُمْ يُخْبِرُونَهُ فِيهِ بِأَنَّهُمْ قَدْ افْتَتَحُوا الْبَلْدَةَ الَّتِي نَزَلُوا بِهَا، وَكَانَ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ أَهْلِهَا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى الزَّوَالِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّتْ دُمُوعُهُ لِحْيَتَهُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَبْكِي، وَالنَّصْرُ لَنَا، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا الْكُفْرُ يَقِفُ أَمَامَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَدْوَةٍ إلَى الزَّوَالِ إلَّا مِنْ أَمْرٍ أَحْدَثْتُمُوهُ أَنْتُمْ أَوْ أَنَا فَانْظُرْ إلَى مَا قَرَّرَهُ عُمَرُ رضي الله عنه مَا نَظَرَ فِي النَّصْرِ، وَعَدَمِهِ إلَّا بِصَلَاحِ الْحَالِ، وَفَسَادِهِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ
وَرَبِّهِ فَأَيْنَ هَذَا الْحَالُ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ حَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَفِي كَوْنِهِمْ يُخْرِجُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَيَقْضُونَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَعْنِي جَوَازَ إخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَالْعُذْرُ الشَّرْعِيُّ إنَّمَا هُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ أَوْ اسْتِتَارُهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَايِفَ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يُضَارِبُ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ إنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ، وَهُوَ يُصَلِّي، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ لِأَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ، وَيُكَبِّرُ، وَيَقْرَأُ، وَكَذَلِكَ الْغَرِيقُ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي حَالِ غَرَقِهِ، وَالْمَصْلُوبُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ صَلَاتُهُمْ إنَّمَا هِيَ بِالْإِيمَاءِ، وَاللِّسَانِ، وَاغْتُفِرَ فِي حَقِّهِمْ، وَمَنْ شَابَهَهُمْ تَرْكُ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ جُمْلَةً فِي حَالِ صَلَاتِهِمْ إذْ ذَاكَ خِيفَةً عَلَى الْوَقْتِ أَنْ يَخْرُجَ فَلَوْ تَرَكَ أَحَدُهُمْ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ عَاصِيًا، وَإِنْ قَضَاهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا.
؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَخْرَجَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا مُتَعَمِّدًا هَلْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ أَمْ لَا؟ فَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ آثِمٌ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ التَّأْخِيرِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ مُرْتَدٌّ، وَحُكْمُهُ مَعْرُوفٌ.
وَمَا ذُكِرَ فِي حَقِّ الْمُجَاهِدِ مِنْ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا هُوَ مَوْجُودٌ بِعَيْنِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحُجَّاجِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يُحَصِّلُونَ الزَّادَ، وَالرَّاحِلَةَ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِهِمْ بِخِلَافِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ فَقَلَّ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ مَسَائِلِ التَّيَمُّمِ، وَقَصْرِ الصَّلَاةِ، وَإِتْمَامِهَا، وَأَحْكَامِ الْحَجِّ، وَمَنَاسِكِهِ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ فَالْغَالِبُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَعْتَنُونَ فِي الْمَنَاسِكِ بِأَدْعِيَةٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى قَانُونٍ مَعْرُوفٍ فَيُعَوِّلُونَ عَلَيْهَا، وَيَتْرُكُونَ ذِكْرَ الْأَحْكَامِ فِي الْغَالِبِ.
وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ رحمه الله تَعْيِينَ الدُّعَاءِ لِبَعْضِ الْأَرْكَانِ، وَقَالَ هَذِهِ بِدْعَةٌ إنَّمَا يَذْكُرُ اللَّهَ، وَيَدْعُو بِمَا يَمُرُّ بِبَالِهِ أَوْ كَمَا قَالَ.
ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ أَمْرِ الْجِهَادِ فَمِنْ أَهَمِّ مَا يُقَدَّمُ فِيهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَيْهِ، وَعِنْدَهُ حُسْنُ النِّيَّةِ، وَاهْتِمَامُهُ بِهَا، وَالتَّعْوِيلُ عَلَيْهَا.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيَانُهَا أَتَمَّ بَيَانٍ
حِينَ جَاءَهُ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَرَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ قَالَ، وَمَا رَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فَقَدْ اتَّضَحَ، وَبَانَ مَا يَنْوِي الْمُجَاهِدُ حِينَ خُرُوجِهِ، وَتَلَبُّسِهِ بِالْقِتَالِ.
وَأَمَّا مَا يَقَعُ لَهُ بَعْدَ تَصْحِيحِ نِيَّتِهِ فَغَيْرُ مَا نَوَاهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ قَالَ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَأَجَابَهُ عليه الصلاة والسلام بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ يُقَاتِلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا لَا يَضُرُّهُ مَا اعْتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قِتَالِهِ غَضَبًا أَوْ حَمِيَّةً أَوْ مَا أَشْبَهَهُمَا؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَنَزَغَاتِهِ، وَهَوَاجِسِ النُّفُوسِ الَّتِي لَا تُمْلَكُ، وَاَللَّهُ عز وجل قَدْ رَفَعَ ذَلِكَ عَنَّا، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِتَرْكِ الْمُحَاسَبَةِ عَلَيْهِ بِبَرَكَةِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ عَلَى رَبِّهِ عز وجل سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] الْآيَةَ ضَجَّ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، وَأَتَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا الصَّلَاةَ، وَالصَّوْمَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ فَقَبِلْنَاهُ، وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي نُفُوسِنَا فَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ أَوْ كَمَا قَالُوا فَعَلَّمَهُمْ عليه الصلاة والسلام الْأَدَبَ مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ قَالَ: أَتَقُولُونَ مِثْلَ مَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ سَمِعْنَا، وَعَصَيْنَا،، وَلَكِنْ قُولُوا: سَمِعْنَا، وَأَطَعْنَا فَقَالُوا: سَمِعْنَا، وَأَطَعْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] إلَى آخِرِ السُّورَةِ فَرَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِصْرَ عَنْهُمْ، وَعَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْوَسَاوِسِ، وَالْهَوَاجِس.
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي نَحْنُ بِسَبِيلِهِ قَالَ عليه الصلاة والسلام لَمَّا أَنْ «جَاءَهُ أَصْحَابُهُ يَشْكُونَ لَهُ مِمَّا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالُوا: إنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم أَوَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ لِهَذَا» فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ يَعْنِي فِي دَفْعِهِ، وَتَعَاظُمُ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ لَا فِي نَفْسِ وُقُوعِهِ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
رَدَّ كَيْدَهُ لِهَذَا، وَذَلِكَ أَنَّ إبْلِيسَ اللَّعِينَ لَمْ يَقْنَعْ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى جَعَلَهُمْ يَنْشُرُونَ خَشَبًا، وَيَنْحِتُونَ حِجَارَةً، وَيَجْعَلُونَهَا صُوَرًا يَسْجُدُونَ لَهَا، وَيَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ عز وجل، وَهُمْ قَدْ صَنَعُوهَا بِأَيْدِيهِمْ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ، وَانْتَشَرَ أَيِسَ إبْلِيسُ اللَّعِينُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَلَمْ تَبْقَ لَهُ حِيلَةٌ إلَّا الْوَسْوَاسُ، وَالْهَوَاجِسُ الْمُشَوِّشَةُ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ لِهَذَا. فَحَمِدَ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ عَلَى كَوْنِ اللَّعِينِ عَجَزَتْ قُدْرَتُهُ عَنْ جَمِيعِ الْحِيَلِ إذْ أَنَّ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الْحِيَلِ إلَّا الْوَسْوَاسُ، وَالْهَوَاجِسُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ مَنْ وَقَعَ لَهُ، وَلَوْ وَقَفَ الْمُكَلَّفُ مَعَ مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ الْهَوَاجِسِ قَلَّ أَنْ يَتَأَتَّى لَهُ أَدَاءُ عِبَادَةٍ بِسَبَبِ تَسْلِيطِهِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُقَاتِلُ أَوَّلًا بِنِيَّةِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنْ يَحْتَسِبَ نَفْسَهُ، وَمَالَهُ لِلَّهِ عز وجل لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] إلَى آخِرِ الْآيَةِ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] ، وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّدَفِيُّ الْمَشْهُورُ بِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ «عَبَّانَا صلى الله عليه وسلم بِبَدْرٍ لَيْلًا» ، وَالتَّعْبِيَةُ هِيَ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ، وَتَقْدِمَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بَيْنَ يَدَيْ الْقِتَالِ مِنْ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لِيُرْجَى بِهِ الظَّفَرُ، وَالنَّصْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]
ثُمَّ الْإِدَارَةُ عَلَى الْعَدُوِّ، وَالْخَدِيعَةُ لَهُ مِنْ أَسْبَابِ الظَّفَرِ.
أَخْرَجَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» ، وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوًا وَرَّى عَنْهُ بِغَيْرِهِ» .
وَمِنْ الْخُدَعِ فِي الْحَرْبِ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْأَحْزَابِ.
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ، وَكَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَامَ الْأَحْزَابِ، وَكَانَ يَأْتِي
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَوْمًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ مَالُوا عَلَيْك فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ فَأَتَى الرَّجُلُ أَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ هَلْ عَلِمْت مُحَمَّدًا يَقُولُ مَا لَيْسَ هُوَ، قَالَ: لَا، قَالَ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ قَالَ سَنَنْظُرُ فَأَرْسَلَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ نُحِبُّ أَنْ تُعْطُونَا رَهَائِنَ، وَوَافَقَ ذَلِكَ أَنْ كَانَ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِلْقَدَرِ الْمَقْدُورِ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي السَّبْتِ فَإِنْ انْقَضَى فَعَلْنَا فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ نَحْنُ فِي مَكْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا، وَجُنُودًا لَمْ يَرَوْهَا {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] .
وَكَانَتْ هَذِهِ مِنْ الْخُدَعِ الَّتِي خَدَعَهُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْهُ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ سَمِعْته يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عَلَى الْأَحْزَابِ «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ، وَزَلْزِلْهُمْ» فَهَذَا الدُّعَاءُ يَنْبَغِي أَنْ يُدْعَى بِهِ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْهُ عَنْ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ عَمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إنْ يَأْتِكُمْ الْعَدُوُّ فَقُولُوا حم لَا يُنْصَرُونَ» ، وَمِنْهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «دَخَلَ مَكَّةَ، وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ» .
وَمِنْهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ، وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ» ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ أَيْ اُطْلُبُونِي أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُمْ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «أَنَا مَعَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي» فَإِذَا كَانَ اللَّهُ مَعَهُمْ فَهُمْ مَنْصُورُونَ، وَيُرِيدُ بِالضُّعَفَاءِ، - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ظُهُورٌ فِي الدُّنْيَا، وَهُمْ طَالِبُونَ لَهَا، وَهُمْ زَاهِدُونَ فِي دُنْيَاهُمْ رَاغِبُونَ فِي آخِرَتِهِمْ طَائِعُونَ لِلَّهِ تَعَالَى نَاصِرُونَ لِدِينِهِ فَهُمْ مَنْصُورُونَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وَقَالَ {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] أَيْ بِالنَّصْرِ، وَالْمَعُونَةِ أَيْ
مَعَ الصَّابِرِينَ عَنْ الْمُشْتَهَيَاتِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالصَّابِرِينَ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَجِهَادِ الْكُفَّارِ فَاَللَّهُ نَاصِرُهُمْ، وَمُعِينُهُمْ.
رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ حِينَ بَعَثَهُ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ: احْرِصْ عَلَى الْمَوْتِ تُوهَبْ لَك الْحَيَاةُ.
وَوَجَّهَ أَبُو مُسْلِمٍ قَوْمًا إلَى الْغَزْوِ فَقَالَ: أَلْزِمُوا قُلُوبَكُمْ الصَّبْرَ فَإِنَّهُ سَيْفُ الظَّفَرِ، وَاذْكُرُوا كَثْرَةَ الضَّغَائِنِ فَإِنَّهُمَا تَحُضُّ عَلَى الْإِقْدَامِ، وَالْزَمُوا الطَّاعَةَ فَإِنَّهَا حِصْنُ الْمُحَارِبِ.
وَمِنْ الْحِكْمَةِ: قُوَّةُ النَّفْسِ فِي الْحَرْبِ عَلَامَةُ الظَّفَرِ.
وَمِنْهَا: تَقَحُّمُ الْحَرْبِ يُنْجِحُ الْقَلْبَ، وَمِنْهَا: الْهَزِيمَةُ تَحِلُّ الْعَزِيمَةَ.
وَمِنْهَا: الْحِيَلُ أَبْلَغُ مِنْ الْعَمَلِ، وَمِنْهَا: الرَّأْيُ السَّدِيدُ أَجْدَى مِنْ الْأَيْدِ الشَّدِيدِ.
وَمِنْهَا: شِدَّةُ الصَّبْرِ فَاتِحَةُ النَّصْرِ
، وَيَنْبَغِي الْمَشُورَةُ فِي الْقِتَالِ، وَفِي كُلِّ أَمْرٍ يَعْرِضُ.
، وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ «مَا رَأَيْت أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي مَشُورَةُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ، وَدِينٌ، وَتَجَارِبُ. مِنْ كَلَامِ الْحِكْمَةِ تَوَقَّ مَشُورَةَ الْجَاهِلِ.
وَمِنْهَا: لَا تُشَاوِرُ مَنْ تَمِيلُ بِهِ رَغْبَتُهُ أَوْ رَهْبَتُهُ. أَخْرَجَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ بِالْإِسْنَادِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» ، وَمِنْهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا تُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» ، وَمِنْهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» قَالَ الْبُخَارِيُّ رضي الله عنه، - وَرَحِمَهُ - هَذِهِ الطَّائِفَةُ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى ذِكْرِ بَعْضِ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ الصَّفْقَتَيْنِ جَمِيعًا.
بَيَانُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ رضي الله عنه: أَنْفُسًا هُوَ خَلَقَهَا، وَأَمْوَالًا هُوَ رَزَقَهَا، وَمَعَ ذَلِكَ أَقُولُ أَيْضًا هُوَ خَالِقُ فِعْلِ الْمُجَاهِدِ فِي قُدْرَتِهِ، وَعَزْمِهِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَرَغْبَتِهِ فَكُلُّ ذَلِكَ فَضْلُهُ، وَنِعْمَتُهُ، وَمِنَّتُهُ قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى يُسْدِي عَلَى أَيْدِينَا الْخَيْرَ، وَيَمْنَحُ عَنْ أَيَادِيهِ الْجَزَاءَ، وَرُوِيَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ «الْأَنْصَارَ رضي الله عنهم حِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرِطْ لِرَبِّك، وَلِنَفْسِك مَا شِئْت قَالَ: أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا؟ قَالَ: لَكُمْ الْجَنَّةُ قَالُوا: رَبِحَ الْبَيْعُ قَالُوا لَا نَقِيلُ، وَلَا نَسْتَقِيلُ» .
وَمَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ، وَهُوَ يَقْرَأُ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الْآيَةَ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ كَلَامُ مَنْ؟ قَالَ: كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: بَيْعٌ، وَاَللَّهِ صَرِيحٌ لَا نَقِيلُهُ، وَلَا نَسْتَقِيلُهُ فَخَرَجَ إلَى الْغَزْوِ فَاسْتُشْهِدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [التوبة: 111] قَالَ هَذَا وَعْدٌ مُؤَكَّدٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، وَعْدٌ ثَابِتٌ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْقُرْآنِ.
وَعَنْ الْجَوْهَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَاهِيك مِنْ صَفْقَةٍ الْبَائِعُ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالثَّمَنُ جَنَّةُ الْمَأْوَى، وَالْوَاسِطَةُ مُحَمَّدٌ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم، وَفِي ذَلِكَ قِيلَ
أَكْرِمْ بِهَا صَفْقَةً فَالرَّبُّ عَاقِدُهَا
…
عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مُضَرِ
أَثْمَانُهَا جَنَّةٌ نَاهِيك مِنْ نُزُلٍ
…
دَارٌ بِهَا نِعَمٌ تَخْفَى عَنْ الْبَشَرِ
أَنْوَاعُ مَطْعَمِهَا مِنْ كُلِّ شَهْوَتِنَا
…
شَرَابُهَا عَسَلٌ صَافٍ مِنْ الْكَدَرِ
مِنْ كُلِّ مَا لَذَّةٍ طَابَتْ مَوَارِدُهَا
…
وَحُورُهَا دُرَرٌ تَزْهُو عَلَى الْقَمَرِ
أَنَّى لَهَا ثَمَنٌ دُنْيَا بِهَا مِحَنٌ
…
لَمْ يَصْفُ مَشْرَبُهَا يَوْمًا لِمُعْتَبِرِ
ثُمَّ قَالَ {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111] ؛ لِأَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ إنَّمَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ لِأَحَدِ أُمُورٍ أَوْ مَجْمُوعِهَا، وَذَلِكَ: لِبُخْلٍ أَوْ شُحٍّ خَوْفَ الْفَقْرِ أَوْ مَحَبَّةَ الِازْدِيَادِ مِنْ الشَّهَوَاتِ أَوْ لِعَجْزٍ أَوْ لِنِسْيَانٍ، وَذُهُولٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآفَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ.
فَهَذِهِ الْآيَةُ إذَا فُهِمَتْ مَعَانِيهَا، وَحَضَرْتَ بِخُلُوِّ الْقَلْبِ، وَشُرُوطِ الِاسْتِمَاعِ لَتَالِيهَا لَا تَطْلَبُ فِي التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ زِيَادَةً عَلَيْهَا، وَلَا انْضِمَامَ شَيْءٍ مِنْ الْمُؤَكَّدَاتِ إلَيْهَا، وَذَكَرَ بِسَنَدِهِ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ عَنْ صَلَاةٍ، وَلَا صِيَامٍ حَتَّى يَرْجِعَ» ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157] فَهَذَا وَعْدٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ إذْ أَنَّ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِهِ أَوْ الْمَوْتَ مُقْتَرِنٌ بِهِمَا الْمَغْفِرَةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَخَبَرُهُ تَعَالَى، وَوَعْدُهُ حَقٌّ، وَتَأْكِيدُهُ بِالْقَسَمِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ، وَتَحْقِيقٌ لِفَضْلِهِ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ.
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يَخْرُجُ إلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانًا بِي، وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ إنْ مَاتَ أَوْ أَرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْت خَلْفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلُهُمْ، وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً فَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ» قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادًا فِي
سَبِيلِي، وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِي فِي هَذَا حَضٌّ عَلَى النِّيَّةِ، وَتَخْلِيصِهَا مِنْ الشَّوَائِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ النِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَهِيَ الشَّهَادَتَانِ، وَعُلُوُّ الْمُسْتَمْسِكِ بِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ إذَا عَلَا بِالضَّرُورَةِ تَكُونُ الشَّهَادَتَانِ، وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ السُّفْلَى فَيَقْصِدُ بِالْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ هَذَا مُخْلِصًا، وَيَبِيعُ نَفْسَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجَنَّةِ الَّتِي وَعَدَهَا فِي الْقُرْآنِ أَوْ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ ابْتِغَاءَ الْجَنَّةِ، وَعُلُوَّ الْكَلِمَتَيْنِ فَإِذَا صَحَّ قَصْدُهُ نَالَ مِنْ اللَّهِ مَا وَعَدَهُ.
وَقَوْلُهُ فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ قِيلَ مَعْنَاهُ مَضْمُونٌ.
وَقَوْلُهُ أَوْ أَرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ أَجْرٍ، وَغَنِيمَةٍ.
، وَالْكَلْمُ الْجُرْحُ، وَبِإِسْنَادِهِ إلَى مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» فِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى النِّيَّةِ.
وَمِنْهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا» ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ «خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ.» الْغَدْوَةُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ السَّيْرُ إلَى الزَّوَالِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالرَّوْحَةُ السَّيْرُ مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
فَالْمَعْنَى أَنَّ ثَوَابَ هَذِهِ الْغَدْوَةِ، وَالرَّوْحَةِ الْوَاحِدَةِ، وَفَضْلَهَا، وَنَعِيمَهَا عَلَى قِلَّتِهَا، وَيَسَارَتِهَا، وَخِفَّتِهَا خَيْرٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا كُلِّهَا عَلَى كَثْرَتِهَا فَإِنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ، وَنِعَمَ الْآخِرَةِ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ أَوْ الْمَعْنَى أَنَّ الدُّنْيَا لَوْ نَالَهَا مَلِكٌ بِأَسْرِهَا، وَأَنْفَقَهَا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَأَجْرِهَا لَكَانَ جَزَاءُ هَذِهِ الْغَدْوَةِ، وَالرَّوْحَةِ أَكْثَرَ، وَفَضْلُهَا أَعْظَمَ، وَأَكْبَرَ.
وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِم مُتَّصِلًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (يَا أَبَا سَعِيدٍ «مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفَعَلَ
ثُمَّ قَالَ، وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ قَالَ، وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» الدَّرَجَاتُ: الْمَنَازِلُ فِي الْجَنَّةِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَالسُّنَّةُ قَالَ تَعَالَى {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20] ، وَمِنْهُ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ كُنْت عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ، وَقَالَ آخَرُ مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَقَالَ آخَرُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه، وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنْ إذَا صَلَّيْت الْجُمُعَةَ دَخَلْت لِأَسْتَفْتِيَهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ، وَجَلَّ {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19] الْآيَةَ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ، وَنَفْسِهِ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» ، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ، وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ فِي غَنِيمَةٍ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ إلَّا فِي خَيْرٍ» ) فَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الْجِهَادِ، وَشَرَفُهُ، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الِاكْتِسَابَ مِنْهُ خَيْرُ كَسْبٍ إذَا خُمِّسَ الْمَغْنَمُ، وَلَمْ يَسْتَأْثِرْ عَلَى الْغَازِينَ بِشَيْءٍ إلَّا مَا الضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ مِثْلُ الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ، وَشِبْهِهِمَا مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي السُّنَنِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْكِتَابِ الْعَزِيزِ.
، وَالْهَيْعَةُ
الصَّوْتُ الْمُفْزِعُ.
وَالطَّيَرَانُ هُوَ إغَاثَةُ الْمُسْتَغِيثِ بِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ فِي الْفِعْلِ الْمُسْرِعِ، وَالشَّعَفُ رُءُوسُ الْجِبَالِ.
وَفِيهِ حَضٌّ عَلَى الِانْزِوَاءِ عَنْ النَّاسِ، وَالِاعْتِزَالِ؛ لِمَا فِي الْمُخَالَطَةِ مِنْ آفَاتِ الْقِيلِ، وَالْقَالِ، وَهَذَا الِانْزِوَاءُ، وَالِاعْتِزَالُ إنَّمَا يُحْمَدُ إذَا لَمْ يَتَوَجَّهْ فَرْضُ الْجِهَادِ، وَالْقِتَالِ أَوْ فَرْضٌ مِنْ الْفُرُوضِ عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ.
مِنْهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْت أَبِي، وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ يَا أَبَا مُوسَى أَأَنْت سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَرَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ السَّلَامَ ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، وَأَلْقَاهُ ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله يَعْنِي أَنَّ الْجِهَادَ، وَحُضُورَ الْمَعَارِكِ سَبَبٌ لِدُخُولِهَا، وَمُقَرِّبٌ إلَيْهَا، وَيَظْهَرُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مَكَانَ الْمَعْرَكَةِ، وَجِلَادَ الْكُفَّارِ مِنْهُ تُنْقَلُ رُوحُ الشَّهِيدِ حِينَ الشَّهَادَةِ، وَتُدْخَلُ الْجَنَّةَ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، وَصَحِيحِ الْأَخْبَارِ.
وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ عَمِّي الَّذِي سُمِّيتُ بِهِ لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرًا قَالَ فَشَقَّ عَلَيْهِ قَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُيِّبْت عَنْهُ، وَلَئِنْ أَشْهَدَنِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ قَالَ فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا قَالَ فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُحُدًا قَالَ، وَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ؟ قَالَ، وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ قَالَ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ قَالَ فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ، وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ، وَطَعْنَةٍ، وَرَمْيَةٍ قَالَ: وَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ فَمَا عَرَفْت أَخِي إلَّا بِبَنَانِهِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} [الأحزاب: 23] قَالَ فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، وَفِي أَصْحَابِهِ.
قَوْلُهُ، وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ كَلِمَةُ تَلَهُّفٍ، وَحُنَيْنٍ، وَشَوْقٍ إلَى الْجَنَّةِ، وَتَمَنٍّ لَا جَرَمَ لَمَّا صَدَقَ أُعْطِيَ