الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِجَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رضي الله عنهم فِي حُضُورِ جَنَائِزِهِمْ يَتَنَاكَرُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ شَهْرُ رَمَضَانَ حَتَّى إذَا رَجَعُوا لِلْبَلَدِ تَعَارَفُوا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي وُدِّهِمْ الشَّرْعِيِّ. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ بَعْضِهِمْ فِي كَوْنِهِمْ يَسْبِقُونَ الْجِنَازَةَ وَيَجْلِسُونَ يَنْتَظِرُونَهَا وَيَتَحَدَّثُونَ إذْ ذَاكَ فِي التِّجَارَاتِ وَالصَّنَائِعِ وَفِي مُحَاوَلَةِ أُمُورِ الدُّنْيَا. وَمَنْ كَانَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ كَيْفَ يُرْجَى قَبُولُ شَفَاعَتِهِ؟ بَلْ بَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْمَيِّتُ يُقْبَرُ فِي الْغَالِبِ، بَلْ بَعْضُهُمْ يَتَضَاحَكُونَ حِينَ يَتَكَلَّمُونَ وَآخَرُونَ يَتَبَسَّمُونَ وَآخَرُونَ يَسْتَمِعُونَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.
[يَنْبَغِي أَنْ يَشْرَعَ أَوَّلًا فِي حَفْرِ الْقَبْرِ قَبْلَ الْأَخْذِ فِي غُسْلِهِ]
وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْرَعَ أَوَّلًا فِي حَفْرِ الْقَبْرِ قَبْلَ الْأَخْذِ فِي غُسْلِهِ. وَقَدْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى حَالِ السَّلَفِ رضي الله عنهم أَنْ يَحْفِرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْغُسْلِ، وَعَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحِجَازِ إلَى الْيَوْمِ، وَلَا بَأْسَ بِإِجَارَةِ مَنْ يَحْفِرُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَفْرُ فِي الْمَقْبَرَةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ فِيهَا بِخِلَافِ أَنْ لَوْ دُفِنَ فِي غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ النَّبْشِ عَلَيْهِ أَوْ وُصُولِ النَّجَاسَاتِ إلَيْهِ، أَوْ يُدْفَنُ فِي أَرْضٍ مُسْتَعَارَةٍ أَعْنِي لَا أَصْلَ لَهَا كَالْكِيمَانِ وَمَا شَابَهَهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُنْبَشُ وَيُبْنَى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا حِرْزُهُ مَقْبَرَةُ الْمُسْلِمِينَ. وَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَيِّتِ أَنْ يَخْتَارَ لَهُ الدَّفْنَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ لِمَا وَرَدَ «هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» وَلِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» فَلَعَلَّ بَرَكَةَ الْجِوَارِ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَنْ تَعُودَ عَلَى مَنْ جَاوَرَهُمْ وَنَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ، وَقَدْ مَضَتْ عَادَةُ السَّلَفِ رضي الله عنهم أَنْ يَخْتَارُوا الدَّفْنَ عِنْدَ قُبُورِ الْآبَاءِ وَالْأَقَارِبِ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّفْنِ عِنْدَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، فَإِنْ اجْتَمَعَا فَيَا حَبَّذَا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَحْفِرُ الْقَبْرَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْخَيْرِ وَالْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ يَجِدُ فِي الْمَوْضِعِ أَثَرَ مَيِّتٍ فَيُزِيلُهُ أَوْ يَكْسِرُهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ
لِأَنَّ الْمَوْضِعَ حُبِسَ عَلَى مَنْ دُفِنَ فِيهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَاصِبٌ لِمَوْضِعِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ، وَالتَّحَلُّلُ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ، وَبَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَحْفِرُونَ وَيَرْمُونَ عِظَامَ الْمَوْتَى بَعْدَ تَكْسِيرِهَا بِمَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا يَحْفِرُ فِيهِ بِسَبَبِ آثَارِ الْمَوْتَى الَّتِي هُنَاكَ فَلْيَخْرُجْ عَنْ الْمَقْبَرَةِ إلَى الْبَرِّيَّةِ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِهَا فَهُوَ أَبْرَأُ لِلذِّمَّةِ، وَيُرَاعَى مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ الطَّرِيقِ دُونَ شَيْءٍ يَسْتُرُهُ عَنْ الْمَارِّينَ مِثْلَ جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَعَلَّ أَنْ يَنَالَهُ بَرَكَةُ مَنْ يَمُرُّ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّ مَنْ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مُضْطَرٌّ إلَى ذَلِكَ كَائِنًا مَا كَانَ.
وَحِكْمَةُ دَفْنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّحْرَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ رِيَاسَةٌ وَمَالٌ عُمِلَ لَهُ تُرْبَةٌ فِي الْبَلَدِ وَدُفِنَ فِيهَا فَتُصِيبُهُ النَّجَاسَاتُ وَتَمُرُّ عَلَيْهِ السَّرَابَاتُ فَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الْمَقْبَرَةِ يَبْنُونَ فِيهَا الْبُيُوتَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا السَّرَابَاتِ، وَبَعْضُهُمْ يَبْنُونَ الْآبَارَ وَالْحَمَّامَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قُبْحُ ذَلِكَ وَمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَبْعُدَ بِالْحَفْرِ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى لَا يَصِلَ إلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَالرُّطُوبَاتِ، وَإِذَا حُفِرَ الْقَبْرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْ يَحْفِرُهُ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْقِبْلَةَ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً، وَلَا يَعْمَلُ عَلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ الْمَحَارِيبِ فِي الْقُبُورِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الِانْحِرَافُ عَنْ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَضَعُهَا لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ فَيَقَعُ بِسَبَبِهِ الْخَطَأُ وَالْخَلَلُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَعْرِفُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الْقَبْرُ إلَى الْقِبْلَةِ بِالسَّوَاءِ. وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفِرَ لِلْمَيِّتِ عَلَى طُولِهِ أَوْ أَزْيَدَ قَلِيلًا حَتَّى إذَا دَخَلَ فِي قَبْرِهِ يَكُونُ دُخُولُهُ فِيهِ بِالسَّوَاءِ، وَعَلَى ذَلِكَ مَضَى السَّلَفُ وَالْخَلْفُ.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِنْ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ السُّنَّةَ فِي صِفَةِ حَفْرِ الْقَبْرِ فَيَحْفِرُونَهُ مِنْ
أَعْلَاهُ ضَيِّقًا وَمِنْ أَسْفَلِهِ بِطُولِ الْمَيِّتِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ
؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَوْتَى أَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمْ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ أَعْنِي مَعَ التَّحَفُّظِ عَلَى دُخُولِ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ عَلَى السُّنَّةِ بِاحْتِرَامِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مِنْ شَفْعٍ أَوْ وَتْرٍ، وَلَكِنْ قَدْرُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَيِّتُ وَيَقُومُ بِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِرِفْقٍ وَتُؤَدَةٍ حَتَّى كَأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَتَحَرَّكُ لِوُجُودِ التَّلَطُّفِ بِهِ فِي إدْخَالِهِ فِي قَبْرِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ وَلِيُّ الْمَيِّتِ أَنْ يَأْخُذَ قِيَاسَهُ وَيَحْفِرَ لَهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ أَوْ أَزْيَدَ قَلِيلًا، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالسَّوَاءِ مِنْ أَعْلَى الْقَبْرِ إلَى اللَّحْدِ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ بِالسَّوَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَكُونُ مَنْ يُدْخِلُهُ فِي قَبْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا وَأَوَّلُ مَنْزِلٍ يَحِلُّ فِيهِ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِمَنْ اتَّصَفَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكِّنَ الْحَفَّارِينَ بِالْأُجْرَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُدْخِلُوهُ فِي قَبْرِهِ لِعَدَمِ اتِّصَافِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ غَالِبًا، فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يُدْخِلُوهُ فِي قَبْرِهِ فَيَكُونُ الْمُتَنَاوِلُونَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَسُلُّونَ الْمَيِّتَ مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ، وَيَتَنَاوَلُونَهُ قَلِيلًا قَلِيلًا بِرِفْقٍ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَفْعَلُونَ ضِدَّ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْحَفَّارَ يَتَنَاوَلُهُ حَتَّى إذَا نَزَلَ أَكْثَرُهُ جَعَلَهُ الْحَفَّارُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَرْمِيهِ بِشِدَّةٍ فَيَقَعُ فِي الْقَبْرِ وَهُوَ يَضْطَرِبُ وَفِي ذَلِكَ إخْرَاقٌ لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِخُرُوجِ الْفَضَلَاتِ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ. ثُمَّ إنَّهُمْ يُدْخِلُونَهُ الْقَبْرَ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ، ذَلِكَ يُمْنَعُ لِثَلَاثِ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ مَضَتْ أَنْ يُدْخَلَ فِي قَبْرِهِ بِالسَّوَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا أُدْخِلَ عَلَى رَأْسِهِ فَقَدْ تَنْزِلُ الْمَوَادُّ إلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ فَتَخْرُجُ كَمَا تَقَدَّمَ.
الْمَعْنَى الثَّالِثُ: مَا فِيهِ مِنْ التَّفَاؤُلِ فِي أَوَّلِ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ يُدْخِلُونَهُ فِيهِ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ.
وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّحْدُ ضَيِّقًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الْمَيِّتَ الْقَبْرَ فَلَا يَسَعُهُ
فَيَحْتَاجُونَ إلَى مُعَالَجَةِ ذَلِكَ، وَلَا تَقَعُ الْمُعَالَجَةُ بَعْدَ إدْخَالِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ إلَّا بِإِخْرَاقِ حُرْمَتِهِ. فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ اللَّحْدُ أَطْوَلَ مِنْ الْمَيِّتِ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ دُونَ مُعَالَجَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ يَأْخُذُ فِي لَحْدِهِ فَيُزِيلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّبَاطِ مِنْ نَاحِيَةِ رَأْسِهِ وَمِنْ نَاحِيَةِ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يُزِيلُ الرِّبَاطَ الَّذِي كَانَ قَدْ جَعَلَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَعَلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ، وَلَا يُزِيلُ شَيْئًا مِنْ الْقُطْنِ لِئَلَّا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرٌ.
وَكَذَلِكَ الْخِرَقُ الَّتِي حَلَّهَا قَبْلُ لِئَلَّا يُرَى عَلَيْهَا ذَلِكَ. ثُمَّ يَحِلُّ الرِّبَاطَ الَّذِي فِي إبْهَامَيْ رِجْلَيْهِ. وَكَذَلِكَ يَحِلُّ الرِّبَاطَ الَّذِي فِي كُمَّيْهِ وَيُسَرِّحُ يَدَيْهِ. ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، وَيَكُونُ فِي الْكَفَنِ كَأَنَّهُ فِي فِرَاشِهِ بَعْضُهُ تَحْتَهُ وَبَاقِيهِ مُغَطًّى بِهِ. ثُمَّ يُلْصِقُهُ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَجْعَلْ تَحْتَ رَأْسِهِ شَيْئًا، وَيَكُونُ بِالسَّوَاءِ عَلَى الْأَرْضِ بِجَسَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ ذُلٍّ وَافْتِقَارٍ، وَلَيْسَ بِمَوْضِعِ رَفْعِ رَأْسٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما لَمَّا أَنْ غُشِيَ عَلَيْهِ فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ رَأْسَهُ فَرَفَعَهَا عَلَى فَخِذِهِ فَلَمَّا أَنْ اسْتَفَاقَ مِنْ غَشْيَتِهِ قَالَ: ضَعْ رَأْسِي عَلَى الْأَرْضِ لَا أُمَّ لَك، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: أَفْضُوا بِلِحْيَتِي إلَى الْأَرْضِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رضي الله عنه مَعَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْمَآثِرِ الْعَظِيمَةِ مَعَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَجْدَرُ بِمُبَاشَرَةِ الْأَرْضِ دُونَ حَائِلٍ وَارْتِفَاعٍ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مَا، وَهَذَا بِعَكْسِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ تَحْتَ الْمَيِّتِ شَيْئًا يَقِيهِ مِنْ التُّرَابِ، بَلْ بَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ تَحْتَهُ طَرَّاحَةً وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةً. وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا إلَى لَحْدِهِ أَزَالُوا تِلْكَ الْخِرَقَ الْمَذْكُورَةَ وَأَخْرَجُوا الْقُطْنَ الَّذِي أَرْسَلُوهُ مَعَهُ فِي فَمِهِ وَأَنْفِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ عَنْهُمْ فَيُخْرِجُونَهُ مِنْ حَلْقِهِ وَتَخْرُجُ الْمَوَادُّ مَعَ ذَلِكَ وَيَبْقَى فَمُهُ مَفْتُوحًا، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الشَّوْهِ مَا فِيهِ مَعَ إخْرَاقِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ وَوُجُودِ النَّجَاسَةِ فِي الْقَبْرِ وَذَهَابِ الْمَعْنَى الَّذِي أُمِرْنَا بِغُسْلِهِ لَهُ.
وَكَذَلِكَ يُحْتَرَزُ مِمَّا يَفْعَلُهُ
بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ التُّرَابَ فِي عَيْنَيْهِ وَيَقُولُونَ عِنْدَ ذَلِكَ: لَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ، وَلَا فَرْقَ فِي الشَّرْعِ فِي إثْمِ فَاعِلِ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا بَلْ هَذَا أَشَدُّ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ التَّحَلُّلُ مِنْ الْمَيِّتِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ. بَلْ يَحِلُّ الرِّبَاطَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ لَيْسَ إلَّا وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ مَهْمَا قَدَرَ. فَإِذَا أَضْجَعَهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ فَلْتَكُنْ الْيَدُ الْيُمْنَى مِنْ الْمَيِّتِ أَمَامَهُ وَالْيُسْرَى عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يَأْخُذُ حَجَرًا كَبِيرًا فَيُرَكِّزُهُ فِي الْأَرْضِ وَيُسْنِدُ الْمَيِّتَ بِهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى إسْنَادِ الْمَيِّتِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ بِالتُّرَابِ وَحْدَهُ دُونَ هَذَا الْحَجَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْنَدَهُ بِالتُّرَابِ لَيْسَ إلَّا خَرَجَتْ الْفَضَلَاتُ فَيَتَحَلَّلُ التُّرَابُ بِنَدَاوَتِهَا فَيُسْتَلْقَى الْمَيِّتُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَمِيلُ وَجْهُهُ عَنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَالْمَقْصُودُ دَوَامُهُ مُسْتَقْبِلَهَا حَتَّى يَفْنَى أَوْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ. ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ إسْنَادِهِ بِالْحَجَرِ جَعَلَ خَلْفَ الْحَجَرِ تُرَابًا يُسْنِدُهُ بِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَيِّتِ إلَى قَدَمِهِ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ خَاشِعًا مُتَذَلِّلًا. فَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ حَجَرًا صُلْبًا لَيْسَ فِيهِ تُرَابٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤْتَى بِالرَّمَلِ فَيَفْرِشَ تَحْتَ الْمَيِّتِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَقِيَ دُونَهُ انْمَاعَ فِي قَبْرِهِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّمْلِ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا. وَهَذَا بِخِلَافِ أَنْ لَوْ كَانَ الْقَبْرُ سَبِخًا أَوْ تُرَابًا، فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِالرَّمْلِ بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ رضي الله عنهم بِخِلَافِ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِهِ فَيَفْرِشُوهُ تَحْتَهُ لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي لَحْدِ الْمَيِّتِ فَلْيَتَرَبَّصْ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي سَدِّ اللَّحْدِ عَلَى الْمَيِّتِ لِيَتَذَكَّرَ حِينَئِذٍ هَلْ نَسِيَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى، فَمَنْ نَسِيَ مِنْهُمَا لَعَلَّ الْآخَرَ يَذْكُرُهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي سَدِّ اللَّحْدِ، وَيَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إذَا وَضَعَ الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَاسْتَحَبَّ
ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَقَالَ يَقُولُ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ (اللَّهُمَّ أَسْلَمَهُ إلَيْك الْأَشِحَّاءُ مِنْ وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ وَإِخْوَانِهِ وَفَارَقَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ إلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَضِيقِهِ وَنَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ إنْ عَاقَبْته فَبِذَنْبِهِ وَإِنْ عَفَوْت عَنْهُ فَأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ أَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ إلَى رَحْمَتِك اللَّهُمَّ اُشْكُرْ حَسَنَاتِهِ وَاغْفِرْ سَيِّئَاتِهِ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَاجْمَعْ لَهُ بِرَحْمَتِك الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِك وَاكْفِهِ كُلَّ هَوْلٍ دُونَ الْجَنَّةِ اللَّهُمَّ فَاخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ وَجُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ) وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ رحمه الله أَنَّهُ يَقُولُ إذَا سَوَّى عَلَيْهِ اللَّبِنَ (اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِك وَخَلَّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَافْتَقَرَ إلَى مَا عِنْدَك وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ) ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِمَاءِ الْوَرْدِ فَيَجْعَلُونَهُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ، وَذَلِكَ لَمْ يَرِدْ عَنْ السَّلَفِ رضي الله عنهم، وَإِذَا لَمْ يَرِدْ فَهُوَ بِدْعَةٌ. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَأْتُونَ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَيُخْرِجُونَ الْقُطْنَ مِنْ فَمِهِ وَأَنْفِهِ وَتَخْرُجُ الْمَوَادُّ إذْ ذَاكَ وَتُشَمُّ مِنْهُ الرَّوَائِحُ الْكَرِيهَةُ، وَيَتَنَجَّسُ الْمَحَلُّ بِإِحْدَاثِهِمْ النَّجَاسَةَ فِي الْقَبْرِ بِرَشِّهِمْ مَاءَ الْوَرْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا، وَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُبَخَّرَ الْقَبْرُ وَلَا أَنْ يُفْرَشَ فِيهِ رَيْحَانٌ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ فِعْلِ السَّلَفِ وَيَكْفِيهِ مِنْ الطِّيبِ مَا قَدْ عُمِلَ لَهُ وَهُوَ فِي الْبَيْتِ فَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا مُبْتَدِعُونَ فَحَيْثُ وَقَفَ سَلَفُنَا وَقَفْنَا. ثُمَّ يَسُدُّ عَلَيْهِ اللَّحْدَ، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَسُدَّ بِالْأَلْوَاحِ وَلَهُمْ فِي اللَّبِنِ اتِّسَاعٌ إنْ كَانَ طَاهِرًا، وَطَهَارَتُهُ الْيَوْمَ مَعْدُومَةٌ فِي الْغَالِبِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْحَجَرُ يَقُومُ مَقَامَهُ. ثُمَّ يليس مَا بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ بِالتُّرَابِ الطَّاهِرِ الْمَعْجُونِ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُغْنِي عَنْ الْمَيِّتِ شَيْئًا لَكِنْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِهِ فَتُتَّبَعُ وَيُسَدُّ الْخَلَلُ حَيْثُ كَانَ. إذَا فَرَغَ مِنْهُ فَقَدْ تَمَّ لَحْدُهُ فَيَصْعَدُ إذْ ذَاكَ وَيُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ أَنْ يَحْثُوَ فِيهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ