الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فَكَيْفَ بِهِ مَعَ وُجُودِهَا، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَحْرِمُ نَفْسَهُ فَضْلَ الذِّكْرِ وَعَوْدَ بَرَكَتِهِ عَلَى أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ فَلَوْ كَانَ يُسَبِّحُ وَيَعُدُّ عَلَى أَنَامِلِهِ لَكَانَ نُورُ ذَلِكَ الذِّكْرِ وَبَرَكَتُهُ فِي أَنَامِلِهِ.
وَقَدْ وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فَرَأَى نُورًا فِي طَاقٍ فَقَالَ مَا هَذَا النُّورُ الَّذِي فِي الطَّاقِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سُبْحَتِي الَّتِي كُنْتُ أُسَبِّحُ عَلَيْهَا جَعَلْتُهَا هُنَاكَ، أَوْ كَمَا قَالَتْ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام هَلَّا كَانَ ذَلِكَ النُّورُ فِي أَنَامِلِكِ» فَهَذَا إرْشَادٌ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام إلَى الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى وَالْأَرْجَحِ، وَقَاعِدَةُ الْمُرِيدِ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى عَمَلٍ مَفْضُولٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله إذَا قَرَأَ فِي الْخِتْمَةِ يَجْعَلُهَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعًا وَيُمْسِكُهَا بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَجَمِيعُ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى تَمُرُّ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي يَتْلُوهَا وَيَتَعَمَّدُ ذَلِكَ وَيُعَلِّلُهُ بِأَنْ يَقُولَ حَتَّى يَحْصُلَ لِكُلِّ عُضْوٍ حَظُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ لِكَيْ يَكْثُرَ الثَّوَابُ بِذَلِكَ.
فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ وَأَنَا إلَيْهِ رَاجِعُونِ.
[فَصْلٌ مَنْ بَالَغَ فِي أَخْذِ الْعَهْدِ إلَى حَدٍّ لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ]
{فَصْلٌ} وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فِي أَخْذِ الْعَهْدِ إلَى حَدٍّ لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ فَيَقُولُ: إنَّهُ إذَا أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ إنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ وَلَا زَوْجَتِهِ وَلَا نَفْسِهِ، بَلْ التَّصَرُّفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِلشَّيْخِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ، وَإِنْ أَخَذَ مَالَهُ لَزِمَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ هَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي يَشْتَرِطُونَهَا لَوْ تَصَرَّفَ الشَّيْخُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ سَبَبًا لِلْقَطِيعَةِ وَالتَّرْكِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صِفَة الْقَوْمِ وَلَا بِمَأْثُورٍ عَنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ الْعَهْدَ عَلَى أَنْ يَنْتَمِي لِفُلَانٍ مِنْ الْمَشَايِخِ دُونَ غَيْرِهِ حَتَّى كَأَنَّ الطَّرِيقَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى عَدَدِ الْمَشَايِخِ فَيَنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ كَمَا يَنْتَسِبُ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ إلَى مَذَاهِبِهِمْ فَإِذَا انْتَسَبُوا إلَى ذَلِكَ فَالطَّرِيقُ الْمُحَمَّدِيُّ أَيْنَ هُوَ وَحَصَلَ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَهُمْ تَعَصُّبَاتٌ وَشَنَآنٌ كَثِيرٌ حَتَّى صَارُوا أَحْزَابًا وَوَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي حَقِّ غَيْرِ شَيْخِهِ الَّذِي يَنْتَمِي إلَيْهِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ.
وَالطَّرِيقُ الْمُحَمَّدِيُّ غَيْرُ هَذَا كُلِّهِ. وَلِذَلِكَ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رحمه الله يَقُولُ
طَرِيقُ الْقَوْمِ وَاحِدَةٌ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ رحمه الله يَقُولُ سُنَّةُ الْأَحْبَابِ وَاحِدَةٌ يَعْنِي أَنَّ مُشْرَبَهُمْ وَاحِدٌ، وَهُوَ الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ الِابْتِدَاعِ وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيهِ إنْكَارٌ لِأَخْذِ الْعَهْدِ مِنْ أَهْلِهِ لِأَهْلِهِ بِشَرْطِهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُمْ إذْ إنَّهُ عَلَيْهِ دَرَجَ السَّلَفُ الصَّالِحُ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ وَلَا نُنْكِر أَيْضًا الِانْتِمَاءَ إلَى الْمَشَايِخِ بِشَرْطِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمُرِيدِ شَيْخُهُ، وَغَيْرُ شَيْخِهِ بِالسَّوَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ وَيَكُونُ إيثَارَهُ لِشَيْخِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ وُصُولُهُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى يَدَيْهِ فَيَرَى لَهُ ذَلِكَ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَقَعُ التَّفَضُّلُ لِشَيْخِهِ وَالِاخْتِصَاصُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام: «مَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله يَأْبَى أَنْ يَأْخُذَ الْعَهْدَ عَلَى أَحَدٍ فَسَأَلْتُهُ مَا الْمُوجِبُ لِذَلِكَ؟ أَهُوَ بِدْعَةٌ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّ عَبْدَ اللَّهِ يَعْنِي نَفْسَهُ لَيْسَ كَغَيْرِهِ فَأَخَافُ إنْ أَخَذْتُ الْعَهْدَ عَلَى أَحَدٍ فَقَدْ لَا يُوفِي بِمَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَهْدِ فَيَقَعُ لَهُ التَّشْوِيشُ وَأَكُونُ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ فَأَتْرُكُهُمْ رَحْمَةً بِهِمْ وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ وَأُعَوِّضُ عَنْهُ الدُّعَاءَ لَهُمْ بِظَاهِرِ الْغَيْبِ بِالِاسْتِقَامَةِ، أَوْ كَمَا قَالَ.
وَالْحَاصِلُ مِنْ أَخْذِ الْعَهْدِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الشَّيْخُ الْعَهْدَ عَلَى الْمُرِيدِ بِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ اللَّهُ حَيْثُ نَهَاهُ وَلَا يَفْقِدُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ وَهَذَا هُوَ زُبْدَتُهُ وَأَصْلُهُ وَبَقِيَتْ تَفَارِيعُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَلَّ أَنْ تَتَنَاهَى، وَهِيَ الْأَمَانَةُ الَّتِي عَرَضَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: ظَلُومًا لِنَفْسِهِ جَهُولًا بِأَمْرِ رَبِّهِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الْغَالِبِ مِنْهُمْ وَإِلَّا فَكَثِيرُ مَنْ وَفَّى، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَثِيرٌ مَنْ دَخَلَ فِي جَاهِ مَنْ وَفَّى وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى بَقِيَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ يَنْتَمُونَ إلَى الْمَشَايِخِ لِيَكُونُوا فِي حُرْمَتِهِمْ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ إخْبَارًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ عز وجل حَيْثُ يَقُولُ:«هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» فَكَمَا لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ كَذَلِكَ لَا يَشْقَى بِهِمْ مُعْتَقِدُهُمْ وَلَا مُحِبُّهُمْ.
وَقَدْ خَرَّجَ
التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ؟ قَالَ: فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَثِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ إلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، وَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» فَمَا رَأَيْتُ فَرَحَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَفَرَحِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ هَذَا مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِلسَّائِلِ حِينَ سَأَلَهُ مُرَافَقَتَهُ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَالَ هُوَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ؛ لِأَنَّ هَذَا طَلَبَ مَنْصِبًا عَظِيمًا فَأَرْشَدَهُ عليه الصلاة والسلام إلَى الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ فِي الصَّلَاةِ وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ إذَا كَانَ سَاجِدًا» فَأَرْشَدَ عليه الصلاة والسلام لِذَلِكَ، وَطَالِبُ الْمَعِيَّةِ تَشْمَلُهُ الدَّارُ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَنَازِلُ تَتَفَاوَتُ فِيهَا وَلَكِنْ قَدْ جُعِلَتْ السَّعَادَةُ لِمَنْ نَالَهَا. لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«لَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ سَلِمَ مِنْ أَهْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ الْعَنَاءِ وَالتَّنْغِيصِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا حِينَ يَأْخُذُ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ فِي طَرِيقِهِ فَيُكَلِّفُهُ أَنْ يَعْتَرِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِكُلِّ مَا فَعَلَهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَفِي هَذَا مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ مَا فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِبَعْضِ مَنْ فَعَلَ الذُّنُوبَ:«أَنَا سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ» ، وَقَدْ وَرَدَ:«كُلُّ النَّاسِ مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرُونَ» فَإِذَا جَاءَ أَحَدٌ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِيَتُوبَ عَلَى يَدَيْهِ، أَوْقَعَهُ الشَّيْخُ بِاعْتِرَافِهِ فِي هَذِهِ الْمَهَالِكِ فَكَانَ عَدَمُ التَّوْبَةِ بِهِ أَوْلَى، وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَفِي هَذَا تَشَبُّهٌ بِالْقِسِّيسِينَ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ إذَا جَاءَهُمْ أَحَدٌ لِيَتُوبَ عَلَى أَيْدِيهِمْ يُطَالِبُونَهُ بِأَنْ يُسَمِّيَ لَهُمْ
ذُنُوبَهُ ذَنْبًا ذَنْبًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُقْبِلُونَ عَلَيْهِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ وَعَكْسُهُ عَكْسُهُ.
فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى تَخْلِيطِ أُمُورِ الدِّينِ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا فِيهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ ارْتَكَبَ بِدْعَةً شَنِيعَةً آلَتْ إلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَتَرْكُهَا فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ هَلْ هُوَ ارْتِدَادٌ، أَوْ ارْتِكَابُ كَبِيرَةٍ مِمَّنْ فَعَلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُلَبِّدُونَ شُعُورَ رُءُوسِهِمْ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْجَنَابَةَ تُصِيبهُمْ فَإِذَا اغْتَسَلُوا لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُوصِلُوا الْمَاءَ إلَى الْبَشَرَةِ وَلَيْسَ ثَمَّ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ يُجِيزُ الْمَسْحَ عَلَى حَائِلٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ فَصَلَاتُهُمْ عَلَى هَذَا بَاطِلَةٌ، ثُمَّ ضَمُّوا إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَة مَفْسَدَةً أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْهَا، وَهُوَ أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالصَّوَابِ وَعَلَى طَرِيقِ السُّلُوكِ وَالْهِدَايَةِ.
نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ مِنْ بَلَائِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَانَى اتِّخَاذَ الْحُرُوزِ الْكَثِيرَةِ وَيَجْعَلُهَا فِي عُنُقِهِ كَالْقِلَادَةِ لِلْمَرْأَةِ.
وَمِنْهُمْ مِنْ يَجْعَلُهَا عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى يَتَوَشَّحُ بِهَا وَهَذَا شُهْرَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ وَشَوْهٌ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِلتَّبَرُّكِ وَالتَّحَفُّظِ مِنْ الْعَيْنِ وَمِنْ مَرَدَةِ الْجِنِّ فَلَهُ طَرِيقٌ غَيْرُ هَذَا بِأَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ ثَوْبِهِ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَلَا يَظْهَرُ وَأَمَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيُمْنَعُ لِمُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ سُبْحَةً كَبِيرَةً وَيُعَلِّقُهَا فِي عُنُقِهِ، أَوْ يَتَوَشَّحُ بِهَا وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْقِيلِ وَالْقَالِ وَالتَّحَدُّثِ فِي أُمُورِ الْغَيْبِ إظْهَارًا مِنْهُ أَنَّهُ يُكَاشِفُهَا وَيُخْبِرُ بِوُقُوعِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ عَنْهَا خَيْطًا مِنْ صُوفٍ عَلَى صِفَاتٍ وَصِبْغٍ فَيَتَقَلَّدُونَ بِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الشُّهْرَةِ، أَوْ الشَّهْوَةِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالْخُرُوجِ عَنْ الِاتِّبَاعِ لِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ عليه الصلاة والسلام أَجْمَعِينَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا رَذِلًا يَأْبَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ النَّاسِ فِي الْجَامِعِ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فَإِذَا قَامَتْ الصَّلَاةُ وَقَامَ النَّاسُ إلَيْهَا قَامَ هُوَ فِي جُمْلَتِهِمْ فَإِذَا رَكَعُوا وَسَجَدُوا بَقِيَ وَاقِفًا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ لَا يُحْرِمُ وَلَا يَرْكَعُ وَلَا يَسْجُدُ، ثُمَّ يَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ مِنْ صَلَاتِهِمْ
وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَأَرْذَلُ مَنْ يَعْتَقِدُ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَيَرَى أَنَّهُ مِمَّنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ الْوَاصِلِينَ وَيَتَأَوَّلُ بِأَنَّهُ يُصَلِّي فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْهُ تَخْرِيبٌ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَا يُشْهَرَ وَلَا يُعْتَقَدَ، وَتَأْوِيلُهُمْ هَذَا مِنْ السَّخَافَةِ وَالْحُمْقِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَعَدَمِ الْغَيْرَةِ فِي الدِّينِ وَاصْطِلَاحُهُمْ عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَرَأْسُهُ وَأَوَّلُ أَرْكَانِهِ بَعْد كَلِمَتَيْ التَّوْحِيدِ؛ إذْ إنَّ مَنْ رَأَى وَلَمْ يُنْكِرْ كَمَنْ فَعَلَ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى التَّخْرِيبِ؛ لِأَنَّ مَنْ مَشَى عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ وَاتَّبَعَ الْحَقَّ وَالسُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَاقْتَفَى آثَارَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رضي الله عنهم سِيَّمَا إنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الذَّمِيمَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ فَالْغَالِبُ مِنْ حَالِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ النُّفُورُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَدْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ إنَّمَا تَرَكَ الْعَوَائِدَ وَالِابْتِدَاعَ وَاتَّبَعَ السُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَتَمَسَّكَ بِهَا، وَعَادَةُ النُّفُوسِ فِي الْغَالِبِ النُّفُورُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَيْهَا.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: رضي الله عنه يَا حَقُّ مَا أَبْقَيْتَ لِي حَبِيبًا.
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رضي الله عنهم عَلَى عَكْسِ هَذَا الْحَالِ مَنْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ أَحَبُّوهُ وَاعْتَقَدُوهُ وَعَظَّمُوهُ وَوَقَّرُوهُ وَاحْتَرَمُوهُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ تَرَكُوهُ وَأَهْمَلُوهُ وَمَقَتُوهُ وَأَبْغَضُوهُ حَتَّى كَانَ مَنْ يُرِيدُ الرِّفْعَةَ عِنْدَهُمْ وَالتَّعْظِيمَ مِمَّنْ لَا خَيْرَ فِيهِ يُظْهِرُ الِاتِّبَاعَ حَتَّى يَعْتَقِدُوهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْيَوْمَ فَيَعْتَقِدُونَ وَيَحْتَرِمُونَ مَنْ يَفْعَلُ الْعَوَائِدَ الْمُحْدَثَةَ وَيَمْشِي عَلَيْهَا وَلَا يُنْكِرُ عَلَى أَحَدٍ مَا هُوَ فِيهِ فَمَنْ أَرَادَ التَّخْرِيبَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلْيَتْبَعْ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ فَإِنَّهُمْ يَنْفِرُونَ عَنْهُ وَلَا يَعْتَقِدُونَهُ غَالِبًا لِإِنْكَارِهِ مَا هُمْ فِيهِ حَتَّى قَدْ يَنْفُرَ عَنْهُ أَبَوَاهُ وَأَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ لِمُخَالَفَتِهِ مَا هُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ إنَّ الْمُخَرِّبَ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ حِلَّ ذَلِكَ أَمْ لَا فَإِنْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَأَمَّا إنْ فَعَلَهُ مَعَ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ.
وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْمَكْرُوهُ يَفْسُقُ فَاعِلُهُ. ثُمَّ إنَّهُمْ يَتَغَالَوْنَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَيَقُولُونَ: هَذَا بَدَلُ هَذَا قُطْبٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَحْسُنُ أَنْ
يُطْلَقَ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ وَبَذَلَ جَهْدَهُ فِي الِاتِّبَاعِ فَكَيْفَ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ الْمَكْرُوهَاتِ، أَوْ هُمَا مَعًا؟ ثُمَّ إنَّ الْمُتَّبِعَ مِنْ النَّاسِ فِي اعْتِقَادِهِ عَلَى قِسْمَيْنِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ كُلِّهَا عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ فَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ أَوْ قَالَهُ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا مَوْضِعٌ لَا أَدْخُلُهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ أَوْ اسْتَعْمَلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ الْغَصْبَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: هَذَا مِنْ بَابِ الْوَرَعِ هَذَا لَيْسَ بِمُتَّبَعٍ، وَقَدْ دَخَلَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَيَحْتَجُّونَ بِمَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهِمْ أَهْلِيَّةٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ فَقَدْ تَكُونُ لَهُ أَعْذَارٌ فِي ارْتِكَابِ ذَلِكَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُبَيِّنَ عُذْرَهُ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رحمه الله: مَا كُلُّ الْأَعْذَارِ تُبْدَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ؛ إذْ إنَّ اتِّبَاعَ لِسَانِ الْعِلْمِ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ عَلَى النَّاسِ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله يَقُولُ: إنِّي لَا أَتَكَلَّمُ بِالْوَرَعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَالنَّاسُ يَحْمِلُونَ مَا أَتَكَلَّمُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَصَارَ لِسَانُ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ وَرَعًا وَتَرَتَّبَتْ عَلَى هَذَا مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَنْسِبُونَ كَثِيرًا مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَى الْوَرَعِ فَيَتْرُكُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاتِّبَاعَ، وَبَابُ الْوَرَعِ ضَيِّقٌ لَا يَدْخُلُهُ إلَّا الْأَفْذَاذُ إذْ لَيْسَ هَذَا زَمَانُ الْوَرَعِ غَالِبًا وَمَا يَتَعَلَّلُونَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْوَرَعِ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَسْوِيلِ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالشَّيْطَانِ لِيُثَبِّطَ عَنْ بَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ غَيْرُ الْمُعْتَقِدِ يَقُولُ: هَذَا يَابِسٌ مُشَدَّدٌ مَرْبُوطٌ يُشِيرُ بِكَلَامِهِ وَحَالِهِ إلَى أَنَّ غَيْرَهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِّ وَالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَكَلَامُهُمْ هَذَا يَرُدُّهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ الْغُرَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إذَا فَسَدَ النَّاسُ» وَفِي رِوَايَةٍ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي، وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ