الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي شَيْءٍ أَنَارَ وَاسْتَنَارَ وَتَجَمَّلَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ
[فَصْلٌ اسْتِحْبَابُ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ]
(فَصْلٌ)
وَيُسْتَحَبُّ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ مَا لَمْ يَكُنْ الِاجْتِمَاعُ لِلنِّيَاحَةِ وَشِبْهِهَا لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ قَالَ النَّبِيُّ: صلى الله عليه وسلم «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّقَرُّبِ إلَى الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَالْبِرِّ لَهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا. وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله عَلَيْهِمْ: يَنْبَغِي لِقَرَابَةِ الْمَيِّتِ أَنْ يَعْمَلُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ طَعَامًا يُشْبِعُهُمْ قَالُوا: وَأَمَّا إصْلَاحُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا وَجَمْعُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ التَّلْبِينَةُ مِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّهَا تُذْهِبُ الْحُزْنَ. وَصِفَتُهَا أَنْ تَكُونَ خَفِيفَةً كَأَنَّهَا الْمَاءُ إلَّا أَنَّهَا بَيْضَاءُ لِأَجْلِ الدَّقِيقِ الَّذِي يُعْمَلُ فِيهَا، وَيُجْعَلُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمِلْحِ قَدْرَ قِوَامِهَا. وَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْ الزَّيْتِ أَوْ الشَّيْرَجِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَدْهَانِ، ثُمَّ يُوقَدُ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْضَجَ، فَإِنْ كَانَتْ أَثْخَنَ مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ الْحَرِيرَةُ لَا التَّلْبِينَةُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمُوا شُرْبَهَا عَلَى الطَّعَامِ لِمَا تَقَدَّمَ. فَلَوْ جَاءَهُمْ الطَّعَامُ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِمَا فَضَلَ عَنْهُمْ أَوْ يُهْدُوهُ لِمَنْ يَخْتَارُونَ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رحمه الله عَنْ جَمْعِ النَّاسِ عَلَى الْعَقِيقَةِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: تُشْبِهُ الْوَلَائِمَ وَلَكِنْ يَأْكُلُونَ مِنْهَا وَيُطْعِمُونَ وَيُهْدُونَ إلَى الْجِيرَانِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُ فِي الْعَقِيقَةِ، فَمَا بَالُك بِهِ فِي الطَّعَامِ الَّذِي اعْتَادَ بَعْضُهُمْ عَمَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَيِّتِ وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ لَهُ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ إذَا دُعِيَ إلَى الْعُرْسِ أَجَابَ وَإِذَا دُعِيَ إلَى الْخِتَانِ انْتَهَرَ الَّذِي دَعَاهُ أَوْ رَمَاهُ بِالْحَصَى، وَقَالَ: لَا يُجِيبُكُمْ إلَّا أَهْلُ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: الْوَلِيمَةُ أَوَّلُ يَوْمٍ حَقٌّ وَالثَّانِي مَعْرُوفٌ وَالثَّالِثُ سُمْعَةٌ وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ. وَقَالَ أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَنْ
صَنَعَ طَعَامًا لِرِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ لَمْ يَسْتَجِبْ اللَّهُ لِمَنْ دَعَا لَهُ، وَلَمْ يُخْلِفْ اللَّهُ عَلَيْهِ نَفَقَةَ مَا أَنْفَقَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ، فَمَا بَالُك بِمَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْمَيِّتِ يَعْمَلُونَ الطَّعَامَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَيَجْمَعُونَ النَّاسَ عَلَيْهِ عَكْسَ مَا حُكِيَ عَنْ السَّلَفِ رضي الله عنهم فَلْيَحْذَرْ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَلَا بَأْسَ بِفِعْلِهِ لِلصَّدَقَةِ عَنْ الْمَيِّتِ لِلْمُحْتَاجِينَ وَالْمُضْطَرِّينَ لَا لِلْجَمْعِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُتَّخَذْ ذَلِكَ شِعَارًا يُسْتَنُّ بِهِ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْقُرْبِ أَفْضَلُهَا مَا كَانَ سِرًّا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يُوقِدُونَ السِّرَاجَ أَوْ الْقِنْدِيلَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمَيِّتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِهَا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مِثْلَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي غُسِّلَ فِيهِ الْمَيِّتُ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَضَعُونَ حَجَرًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمَيِّتُ، وَيَجْعَلُونَ عَلَيْهِ سِرَاجًا يُوقَدُ إلَى الصُّبْحِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ ثِيَابَ الْمَيِّتِ لَا تُغْسَلُ إلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ عَنْهُ عَذَابَ الْقَبْرِ، وَذَلِكَ تَحَكُّمٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ وَلِيَّ الْمَيِّتِ يَعْمَلُ الْعِشَاءَ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ. وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ مَائِدَةَ الطَّعَامِ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ إلَّا الَّذِي وَضَعَهَا. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي غُسِّلَ فِيهِ الْمَيِّتُ يُوضَعُ فِيهِ رَغِيفٌ وَكُوزُ مَاءٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ لَا يَأْكُلُ أَهْلُهُ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ دَفْنِهِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَى الْبَيْتِ مِنْ الدَّفْنِ لَا يَدْخُلُونَ الْبَيْتَ حَتَّى يَغْسِلُوا أَطْرَافَهُمْ مِنْ أَثَرِ الْمَيِّتِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْتِزَامِ الْبُكَاءِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً حِينَ الْغَدَاةِ وَالْعِشَاءِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْمَيِّتَ عِنْدَ خُرُوجِ
رُوحِهِ لَا يَعْمَلُ شُغْلًا حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا عَطَسَ عَلَى الطَّعَامِ يَقُولُونَ لَهُ: كَلِّمْ فُلَانًا أَوْ فُلَانَةَ مِمَّنْ يُحِبُّ مِنْ الْأَحْيَاءِ بِاسْمِهِ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَلْحَقَ بِالْمَيِّتِ.
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الْمَاءِ فِي الْبَيْتِ فِي زِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَيَطْرَحُونَهُ وَيَرَوْنَ أَنَّهُ نَجَسٌ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ رُوحَ الْمَيِّتِ إذَا طَلَعَتْ غَطَسَتْ فِيهِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ وَلِيَّ الْمَيِّتِ مَا دَامَ حَزِينًا عَلَى مَيِّتِهِ لَا يَأْكُلُ مَعَ جَمَاعَتِهِ حَتَّى يَنْقَضِيَ حُزْنُهُ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ حَزِنُوا عَلَيْهِ سَنَةً كَامِلَةً، لَا يَخْتَضِبُ النِّسَاءُ فِيهَا بِالْحِنَّاءِ وَلَا يَلْبَسْنَ الثِّيَابَ الْحِسَانَ، وَلَا يَتَحَلَّيْنَ، وَلَا يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَ، وَإِنْ حَصَلَ الِاضْطِرَارُ إلَى دُخُولِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ فَيُمْنَعْنَ مِنْ ذَلِكَ هُنَّ وَمَعَارِفُهُنَّ، فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ عَمِلْنَ مَا يُعْهَدُ مِنْهُنَّ مِنْ النَّقْشِ وَالْكِتَابَةِ وَالْغِشِّ الْمَمْنُوعِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيُبَادِرْنَ إلَى فِعْلِ ذَلِكَ هُنَّ وَمَنْ الْتَزَمَ الْحُزْنَ مَعَهُنَّ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِفَكِّ الْحُزْنِ، وَيَقَعُ لَهُنَّ اجْتِمَاعٌ حَتَّى كَأَنَّهُ فَرَحٌ مُتَجَدِّدٌ عِنْدَ جَمِيعِهِنَّ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْمَيِّتَ إذَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى زِيَارَتِهِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بَقِيَ خَاطِرُهُ مَكْسُورًا بَيْنَ الْمَوْتَى، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَرَاهُمْ إذَا خَرَجُوا مِنْ سُورِ الْبَلَدِ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْمَوْتَى يَتَفَاخَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ بِالْأَكْفَانِ وَحُسْنِهَا، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ الْمَوْتَى فِي كَفَنِهِ دَنَاءَةٌ يُعَايِرُونَهُ بِذَلِكَ، وَيَحْكُونَ عَلَى ذَلِكَ مَنَامَاتٍ كَثِيرَةً يَطُولُ تَتَبُّعُهَا مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهِ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مِنْهُنَّ يَعِزُّ عَلَيْهَا الْمَيِّتُ تَخْرُجُ فِي جِنَازَتِهِ مَكْشُوفَةً بِغَيْرِ رِدَاءٍ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْتِزَامِ صُبْحَةِ الْقَبْرِ، وَهُوَ تَبْكِيرُهُمْ إلَى قَبْرِ مَيِّتِهِمْ الَّذِي دَفَنُوهُ بِالْأَمْسِ هُمْ وَأَقَارِبُهُمْ وَمَعَارِفُهُمْ وَأَيُّ مَنْ غَابَ مِنْهُمْ عَنْهَا وَجَدُّوا عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ تَرَكَ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ جَعْلِ بَعْضِهِمْ ثَوْبًا مَنْشُورًا عَلَى الْقَبْرِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ فَرْشِ الْبُسُطِ وَغَيْرِهَا فِي التُّرْبَةِ لِمَنْ يَأْتِي إلَى الصُّبْحَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَمَنْعِهِ.
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ نَصْبِ الْخَيْمَةِ عَلَى الْقَبْرِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ وُقُودِ الشَّمَعِ وَغَيْرِهِ فِي اللَّيْلِ عَلَى الْقَبْرِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْرُبَ الْمَيِّتَ بِشَيْءٍ مِنْ أَثَرِ النَّارِ أَصْلًا؛ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ إتْبَاعِ الْمَيِّتِ بِالنَّارِ فَمَا بَالُك بِهَا تُوقَدُ عِنْدَ الْقَبْرِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ إذَا دَفَنُوا الْمَيِّتَ سَكَنُوا عِنْدَهُ مُدَّةً فِي بَيْتٍ فِي التُّرْبَةِ أَوْ قُرْبِهَا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُوقِدُونَ الْأَحْطَابَ الْكَثِيرَةَ لِضَرُورَاتِهِمْ فَيَتَفَاءَلُونَ عَلَيْهِ بِوُقُودِهَا عِنْدَهُ وَيَبُولُونَ وَيَتَغَوَّطُونَ هُنَاكَ، وَبَعْضُهُمْ يَقْعُدُ لِتَمَامِ الشَّهْرِ وَيَتَعَاهَدُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَفْعَلُونَ عِنْدَهُ الْأَشْيَاءَ الْمَعْهُودَةَ مِنْهُمْ فَتَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَيْهِ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا مَوْضِعُ النَّهْيِ؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَقَابِرِ. وَقَدْ حَمَلَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ النَّهْيَ عَلَى جُلُوسِ الْإِنْسَانِ لِحَاجَتِهِ عَلَى الْقَبْرِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَهُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ وَتُنَشِّفُهُ الشَّمْسُ وَتُنَشِّفُهُ الرِّيَاحُ وَيَشْرَبُهُ التُّرَابُ وَيُزِيلُهُ مَنْ رَآهُ غَالِبًا فَمَا بَالُك بِمَا يَفْعَلُونَهُ حِينَ إقَامَتِهِمْ عِنْدَهُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ الْكَثِيرِ فِي الْكَنِيفِ الَّذِي هُنَاكَ فَتَسْرِي الرُّطُوبَةُ النَّجِسَةُ إلَى الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ الْأَرْضِ فَتُسْرِعُ النَّجَاسَةُ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَشَدُّ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ فِعْلِ الثَّالِثِ لِلْمَيِّتِ وَعَمَلِهِمْ الْأَطْعِمَةَ فِيهِ حَتَّى صَارَ عِنْدَهُمْ كَأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ وَيُشِيعُونَهُ كَأَنَّهُ وَلِيمَةُ عُرْسٍ وَيَجْمَعُونَ لِأَجْلِهِ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ مِنْ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَالْمَعَارِفِ، فَإِنْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يَأْتِ وَجَدُوا عَلَيْهِ الْوَجْدَ الْعَظِيمَ. ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَقْرَءُوا هُنَاكَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عَلَى عَوَائِدِهِمْ الْمَعْهُودَةِ مِنْهُمْ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّطْرِيبِ الْخَارِجِ عَنْ حَدِّ الْقِرَاءَةِ
الْمَشْرُوعَةِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا، وَيَأْتُونَ مَعَ ذَلِكَ بِالْفُقَرَاءِ يَذْكُرُونَ وَيُحَرِّفُونَ الذِّكْرَ عَنْ مَوَاضِعِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْتِي بِالْمُؤَذِّنِينَ يُكَبِّرُونَ كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عَادَتِهِمْ. وَقَدْ صَارَ هَذَا الْحَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَكَثُرَ فِيهِ الْقِيلُ وَالْقَالُ، فَكَيْفَ لَوْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. ثُمَّ انْضَمَّ إلَيْهِ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ فِيهِ التَّكْلِيفَ الْكَثِيرَ لِأَجْلِ مَا يَحْتَاجُونَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ فِي ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالْوَاعِظِ إلَى الرِّجَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالْوَاعِظَةِ إلَى النِّسَاءِ وَيَزِيدُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَيَنْقُصُونَ وَيُحَرِّفُونَ بَعْضَ ذَلِكَ وَيَفْهَمُونَ غَيْرَ الْمُرَادِ وَيَتَفَوَّهُونَ بِإِطْلَاقِ أَشْيَاءَ لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الذَّمِّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الِاجْتِمَاعِ لِلسَّمَاعِ وَمَا فِي السَّمَاعِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي، وَتِلْكَ الْقَبَائِحُ وَالْمَفَاسِدُ مَوْجُودَةٌ فِي الِاجْتِمَاعِ الثَّالِثِ وَالسَّابِعِ وَتَمَامِ الشَّهْرِ وَتَمَامِ السَّنَةِ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ فُعِلَ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ بَيْتٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ يُمْنَعُ.
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ فِعْلِ التَّهْلِيلَاتِ لِمَوْتَاهُمْ وَجَمْعِهِمْ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الذِّكْرُ جَهْرًا وَجَمَاعَةً وَمَا فِيهِ. وَيَحْتَجُّونَ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ بِمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ بَعْضَ الْمَوْتَى فِي عَذَابٍ فَذَكَرَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ ثُمَّ أَهْدَاهَا لَهُ، فَرَآهُ فِي مَنَامِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ غُفِرَ لَهُ بِإِهْدَائِهِ لَهُ ثَوَابَ السَّبْعِينَ أَلْفًا. وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنَامٌ، وَالْمَنَامُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهَا وَحْدَهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَأَهْدَى لَهُ ثَوَابَهَا وَلَمْ يَجْمَعْ لِذَلِكَ النَّاسَ كَمَا يَفْعَلُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الشُّهْرَةِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ، أَمَّا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَأَهْدَى ثَوَابَهُ لِمَنْ شَاءَ فَلَا يُمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ خَيْرًا وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَرْكِ الْفُرُشِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَيِّتِ
لِجُلُوسِ مَنْ يَأْتِي إلَى التَّعْزِيَةِ فَيَتْرُكُونَهَا كَذَلِكَ حَتَّى تَمْضِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُزِيلُونَهَا. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ زَرْعِ شَجَرَةٍ أَوْ صَبَّارَةٍ أَوْ رَيْحَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَبْرِ وَيُعَلِّلُونَهُ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُ مَوْضِعَ الْخُضْرَةِ تَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَنْ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ، وَهُمَا يُعَذَّبَانِ فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ فَجَعَلَ نِصْفَهَا عَلَى أَحَدِ الْقَبْرَيْنِ وَالنِّصْفَ الثَّانِيَ عَلَى الْآخَرِ، وَقَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» . وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَيَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ شُرِعَ الدَّفْنُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَبْقَى الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ نَظِيفًا لِعَطَشِ الْأَرْضِ الَّتِي يُدْفَنُ فِيهَا الْمَيِّتُ، فَأَيُّ فَضْلَةٍ خَرَجَتْ شَرِبَهَا التُّرَابُ، وَالْغَرْسُ عِنْدَ الْقَبْرِ يَسْتَدْعِي ضِدَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى السَّقْيِ بِالْمَاءِ، وَذَلِكَ يُزِيلُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ لِأَجْلِ أَنَّ الْقَبْرَ يَبْقَى مَبْلُولًا مِنْ دَاخِلِهِ فَلَا يَشْرَبُ الْفَضَلَاتِ فَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَيَصِيرُ إذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ دَفْنِهِ فِي الْأَرْضِ التُّرْبَةِ أَوْ يُنْقَرُ لَهُ فِي الْحَجَرِ الصُّلْبِ وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» رَاجِعٌ إلَى بَرَكَةِ مَا وَقَعَ مِنْ لَمْسِهِ عليه الصلاة والسلام لِتِلْكَ الْجَرِيدَةِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُلُوكِ لَهُ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ عَقِبَهُ: وَذَلِكَ لِبَرَكَةِ يَدِهِ عليه الصلاة والسلام. وَمَا نُقِلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَلَمْ يَصْحَبْهُ عَمَلُ بَاقِيهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - إذْ لَوْ فَهِمُوا ذَلِكَ لَبَادَرُوا بِأَجْمَعِهِمْ إلَيْهِ، وَلَكَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الدَّفْنُ فِي الْبَسَاتِينِ مُسْتَحَبًّا. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ شَرْحِ مَعَالِمِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ رحمه الله: وَأَمَّا «غَرْسُهُ صلى الله عليه وسلم شِقَّ الْعَسِيبِ عَلَى الْقَبْرِ» ، وَقَوْلُهُ:«لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» ، فَإِنَّهُ مِنْ نَاحِيَةِ التَّبَرُّكِ بِأَثَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدُعَائِهِ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ