المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌باب صفة الحج

‌باب صفة الحج

قال المصنف رحمه الله: (يستحب للمتمتع الذي حل وغيره من المحلين بمكة الإحرام بالحج يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة من مكة. ومن حيث أحرم من الحرم جاز).

أما استحباب الإحرام لمن ذكر في يوم التروية فلأن جابراً رضي الله عنه قال: «فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج» (1).

وأما استحبابه من نفس مكة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حتى أَهْل مكة يهلون منها» (2).

و«كان عطاء يستلم الركن ثم ينطلق منه مهلاً بالحج» .

وأما جوازه من أي موضع كان من الحرم فلأن في حديث جابر رضي الله عنه: «فأهللنا من الأبطح» (3). وهو موضع خارج نفس البلد داخل في الحرم. قال: (ثم يخرج إلى منى فيصلي بها الظهر ويبيت بها، فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة فأقام بنمرة حتى تزول الشمس، ثم يخطب الإمام خطبة يعلمهم فيها الوقوف

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

سبق تخريجه ص: 82.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه (1215) 2: 883 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام

ص: 184

ووقته والدفع منه والمبيت بمزدلفة، ثم ينزل فيصلي بهم الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين).

أما خروجه إلى منى إلى آخره فلأن في حديث جابر رضي الله عنه: «فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ومكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شَعر تُضرب له بنمرة. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة. فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرُحِّلَتْ له. فأتى بطن الوادي فخطب الناس. ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم لم يصل بينهما شيئاً» (1).

وأما تعليم الناس في الخطبة الوقوف ووقته والدفع منه والمبيت بمزدلفة فليذكر العالم ويتعلم الجاهل.

وأما الجمع فظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا أنه يجوز لكل من حضر عرفة من مكة وغيرها وصرح به في المغني، وعلله بأن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَع وجَمَع الناس معه ولم يأمر المكيين بترك الجمع كما أمرهم بترك القصر حين قال:«أتموا فإنا سفر» (2). ولو حرم الجمع لبينه لهم؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وبـ «أن عثمان كان يتم الصلاة» لأنه اتخذ بمكة أهلاً ولم يبلغنا أنه ترك الجمع ولو تركه لنقل كما نقل الإتمام.

وقال أصاحبنا القاضي وأبو الخطاب وابن عقيل: يختص بمن بينه وبين وطنه مسافة القصر؛ لأن سبب الجمع السفر الطويل فلا يجوز إلا حيث وجد سببه.

ولأن الجمع كالقصر والقصر يختص بمن ذكر فكذا الجمع.

قال: (ثم يروح إلى الموقف. وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة. وهي من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر).

أما رواحه إلى عرفة إذا رحل من نمرة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل (3).

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (1229) 2: 9 كتاب صلاة السفر، باب متى يتم المسافر.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 891 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 185

وأما كون عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة» (1) رواه ابن ماجة.

ولأن عرنة ليست من عرفة فلم يجزؤه الوقوف فيها كما لو وقف بمزدلفة.

فإن قيل: لم سميت عرفة بذلك؟

قيل: لأن الله تعالى يعرف الخلائق بالمغفرة أي يطيبهم ومنه قوله تعالى: {عرفها لهم} [محمد: 6] أي طيبها لهم.

وقيل: لأنه يوم اصطناع المعروف إلى أهل مكة.

وقيل: لأن إبراهيم عليه السلام عرّفه جبريل المناسك فقال له: عرفت.

وقيل: لأن آدم اجتمع مع حواء فتعارفا.

وأما قول المصنف رحمه الله: "وهي من الجبل

إلى آخره"؛ فبيان لحد عرفة وتمييز لها مما ليس منها.

قال: (ويستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة راكباً، وقيل: الراجل أفضل، ويكثر من الدعاء ومن قوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير. اللهم! اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، ويسر لي أمري).

أما استحباب الوقوف بالصخرات وجبل الرحمة فلأن في حديث جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه» (2).

وأما أفضلية الوقوف راكباً على المذهب فلأنه فِعْل النبي صلى الله عليه وسلم.

ولأن الوقوف راكباً أعون له على الدعاء.

وأما أفضلية الراجل على قولٍ فلأنه أكثر مشقة.

والأول أولى لما ذكر.

(1) أخرجه ابن ماجة في سننه (3012) 2: 1002 كتاب المناسك، باب الموقف بعرفات.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 186

وأما إكثار الدعاء فلأنه يوم ترجى فيه الإجابة ولذلك استحب له الفطر يومئذ ليتقوى على الدعاء.

وأما استحباب قول: لا إله إلا الله

إلى آخره فلما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثر دعاء الأنبياء قبلي ودعائي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير. اللهم! اجعل في قلبي نوراً

إلى آخره» (1).

قال: (ووقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر، فمن حصل بعرفة في شيء من هذا الوقت وهو عاقل تم حجه، ومن فاته ذلك فاته الحج).

أما كون وقت الوقوف كما ذكره المصنف رحمه الله فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شَهد صلاتَنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حَجُّهُ وقَضَى تَفَثَه» (2) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وحكي عن أبي حفص العكبري أنه لا يجزئ الوقوف إلا بعد الزوال، وحمل كلام الإمام أحمد رحمة الله عليه وهو قول أكثر أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف إلا بعد

(1) لم أجده هكذا. وقد أخرج الترمذي في جامعه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» . (3585) 5: 572 كتاب الدعوات، باب في دعاء يوم عرفة.

قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه وحماد بن أبي حميد هو محمد بن أبي حميد وهو أبو إبراهيم الأنصاري المديني وليس هو بالقوي عند أهل الحديث.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (1950) 2: 196 كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة.

وأخرجه الترمذي في جامعه (891) 3: 238 كتاب الحج، باب ما جاء فيمن ادرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج.

وأخرجه النسائي في سننه (3043) 5: 264 كتاب مناسك الحج، فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (3016) 2: 1004 كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع.

وأخرجه أحمد في مسنده (18326) 4: 261.

وأخرجه الحاكم في المستدرك (1700) 1: 634 كتاب المناسك.

ص: 187

الزوال وكذلك أهل الأعصار من لدنه إلى الآن فلو كان قبل الزوال وقتاً ما اتفقوا على تركه.

والأول أولى لما ذكر.

ولأن ما بعد الزوال يجزئ الوقوف فيه فكذا قبله.

وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فمحمول على الأولى.

وأما تمام حج من وقف في شيء من الوقت المذكور وهو عاقل فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «فقد تم حجه وقضى تفثه» (1).

وأما فوات الحج لمن فاته ذلك؛ فلما يأتي في باب الفوات (2).

قال: (ومن وقف بها نهاراً أو دفع قبل غروب الشمس فعليه دم، وإن وافاها ليلاً فوقف بها فلا دم عليه).

أما وجوب الدم علىمن يقف بعرفة نهاراً ودفع منها قبل الغروب فلأن الوقوف إلى بعد الغروب على من ذكر واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف حتى غربت الشمس كذا في حديث جابر (3). وقال: «خذوا عني مناسككم» (4)، وإذا تركه فقد ترك واجباً في الحج وذلك موجب للدم لما يأتي فيمن ترك واجباً.

وأما عدم وجوب الدم على من وافاها ليلاً فوقف بها فلأنه لم يدرك جزءاً من النهار فلم يلزمه شيء كما لو أدرك من منزله دون الميقات من موضعه.

(1) سبق تخريجه في الحديث السابق.

(2)

ص: 225.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

سبق تخريجه ص: 172.

ص: 188

قال: (ثم يدفع بعد غروب الشمس إلى مزدلفة وعليه السكينة، فإذا وجد فجوة أسرع، فإذا وصل مزدلفة صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال، فإن صلى المغرب في الطريق ترك السنة وأجزأه، ومن فاتته الصلاة مع الإمام بمزدلفة أو بعرفة جمع وحده).

أما دفعه من عرفة بعد غروب الشمس إلى مزدلفة على الصفة المذكورة فلأن في حديث جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع من عرفة وقد شنق القصواء بالزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رجله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس! السكينة السكينة» (1).

وقد روي «أنه صلى الله عليه وسلم كان يَسير العَنَقَ فإذا وجد فَجْوَةً نَصَّ. قال هشام بن عروة: النَّصُّ فَوق العَنَق» (2) متفق عليه.

وأما صلاته المغرب والعشاء إذا وصل إلى مزدلفة قبل حط الرحال فلأن في حديث أسامة بن زيد: «فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما» (3) متفق عليه.

وأما ترك السنة إذا صلى المغرب في طريقه فلأنه خلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما إجزاء ذلك فلأن كل صلاتين جاز الجمع بينهما جاز فعل كل واحدة في وقتها كالظهر والعصر بعرفة وحكم الجمع بعرفة من أنه هل هو مختص بمن بينه وبين وطنه مسافة القصر أو لا؟

وأما جمع من فاتته الصلاة مع الإمام بمزدلفة أو بعرفة وحده فلأن ابن عمر رضي الله عنهما «كان إذا فاته الجمع بين الظهر والعصر مع الإمام جمع منفرداً» .

ولأن كل جمع جاز مع الإمام جاز منفرداً كالجمع في السفر.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1583) 2: 600 كتاب الحج، باب السير إذا دفع من عرفة.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1286) 2: 936 كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1588) 2: 601 كتاب الحج، باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1280) 2: 935 كتاب الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة.

ص: 189

قال: (ثم يبيت بها فإن دفع قبل نصف الليل فعليه دم، وإن دفع بعده فلا شيء عليه، وإن وافاها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وإن جاء بعد الفجر فعليه دم).

أما بيتوتته بمزدلفة فلأن المبيت بها واجب «لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها» (1) وقال: «خذوا عني مناسككم» (2).

ولأنه صلى الله عليه وسلم سماها موقفاً بقوله في حديث جابر: «المزدلفة كلها موقف» (3).

وأما وجوب الدم على من دفع قبل نصف الليل فلأن مبيت كل الليل أو أكثر واجب، وكلاهما مفقود فيمن ذكر فيكون تاركاً للمبيت بها فيجب عليه دم لتركه الواجب في الحج.

وأما عدم وجوب شيء على من دفع بعد نصف الليل فلأنه بات معظم الليل وحكم المعظم حكم الكل فلم يكن تاركاً للواجب. وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت» (4) رواه أبو داود.

وعن أسماء رضي الله عنها «أنها نزلت ليلة جمع عند دار المزدلفة فقامت تصلي فصلت. ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا فارتحلنا ومضت حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها: يا هَنْتَاهُ! ما أُرانا إلا قد غَلَّسْنَا. قالت: كلا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظُّعن» (5) متفق عليه.

وإذا لم يكن واجباً لم يجب عليه الدم؛ لأنه فعل فعلاً جائزاً وذلك لا يوجب دماً كسائر الأفعال الجائزة.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.

(2)

سبق تخريجه ص: 172.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (1907) 2: 187 كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (1942) 2: 194 كتاب المناسك، باب التعجيل من جمع.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1595) 2: 603 كتاب الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون

وأخرجه مسلم في صحيحه (1291) 2: 940 كتاب الحج، باب استحباب تقديم الضعفة من النساء وغيرهن

ص: 190

وأما عدم وجوب شيء على من وافاها بعد نصف الليل فلأنه لم يدرك جزءاً من النصف الأول فلم يتعلق به حكمه كمن أدرك الليل بعرفات دون النهار.

وأما وجوب الدم على من جاء بعد الفجر فلأنه لم يبت بمزدلفة.

ولأنه إذا وافى مزدلفة ودفع قبل نصف الليل يجب عليه دم فلأن يجب إذا لم يوافها ليلاً أصلاً بطريق الأولى.

قال: (وحد المزدلفة ما بين المأزمين ووادي محسر، فإذا أصبح بها صلى الصبح، ثم يأتي المشعر الحرام فيرقى عليه ويقف عنده ويحمد الله ويكبره فيدعو فيقول: اللهم! كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق {فإذا أفضتم من عرفات -إلى- غفور رحيم} [البقرة: 198 - 199] إلى أن يسفر).

أما قول المصنف رحمه الله: وحد المزدلفة ما بين المأزمين ووادي محسر فبيان لمواضع مزدلفة ليعلم ذلك لينزل بها الطائف عند وصوله وفي أي موضع منها نزل أجزأه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مزدلفة موقف» (1) رواه أبو داود.

وأما صلاته بها الصبح إذا أصبح وفعله ما ذكره المصنف رحمه الله إلى قوله: إلى أن يسفر فلأن في حديث جابر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بها حين تبين له الصبح بأذان وإقامة. ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله تعالى وكبر وهلله ووحده ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً» (2).

قال: (ثم يدفع قبل طلوع الشمس، فإذا بلغ محسراً أسرع قدر رمية حجر).

أما دفعه من مزدلفة قبل طلوع الشمس فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، قال عمر رضي الله عنه: «إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أَشْرِق

(1) سبق تخريجه ص: 192.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 191

ثَبِير كيما نُغِير. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفهم وأفاض قبل أن تطلع الشمس» (1) رواه البخاري.

وأما الإسراع قدر رمية حجر بوادي محسر وهو ما بين جمع ومنى فلأن جابراً رضي الله عنه قال في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم «أنه لما أتى بطن محسر حرك قليلاً» (2).

وروي عن عمر رضي الله عنه «أنه لما أتى محسراً أسرع وقال:

إليك تعدو قلقاً وضينها

معترضاً في بطنها جنينها

مخالفاً دين النصارى دينها» (3).

قال: (ويأخذ حصى الجمار من طريقه أو من مزدلفة، ومن حيث أخذه جاز، ويكون أكبر من الحمص ودون البندق وعدده سبعون حصاة).

أما استحباب أخذ حصى الجمار من طريقه أو مزدلفة فلئلا يشتغل عند قدومه إلى منى فإن الرمي تحية كما أن الطواف تحية المسجد فلا يبدأ بشيء قبله.

ولأنه إذا أخذه من غير منى كان أبعد من أن يكون قد رمي به.

و«كان ابن عمر رضي الله عنهما يأخذ الحصى من جمع» (4).

وأما جوازه أخذه من أي موضع شاء فلا خلاف فيه، وفي الحديث أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: القط لي حصى. فلقطت له سبع حصيات من حصى الخَذْف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا

مختصر» (5) رواه ابن ماجة.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1600) 2: 604 كتاب الحج، باب متى يدفع من جمع.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (15640) 3: 411 كتاب الحج، في الإيضاع في وادي محسّر.

(4)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 128 كتاب الحج، باب أخذ الحصى لرمي جمرة العقبة وكيفية ذلك.

(5)

أخرجه النسائي في سننه (3059) 5: 269 كتاب مناسك الحج، قدر حصى الرمي.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (3029) 2: 1008 كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي.

ص: 192

وابن عباس إنما لقط من منى؛ لأنه كان فيمن قدم النبي (1) صلى الله عليه وسلم من جمع في ضعفة الناس.

وأما كونه أكبر من الحمص ودون البندق فلما تقدم في حديث ابن عباس «أنه التقط من حصى الخَذْف فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمثال هذا فارموا» (2).

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا أيها الناس! إذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخَذْف» (3) رواه أبو داود وابن ماجة.

وأما كون عدده سبعين فلأنه يرمي جمرة العقبة يوم النحر بسبع ويرمي الجمرات الثلاث كل يوم من أيام التشريق كل جمرة بسبع حصيات فيكون مجموع ذلك سبعين حصاة.

قال: (فإذا وصل منى وحدها من وادي محسر إلى العقبة بدأ بجمرة العقبة فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة يكبر مع كل حصاة. ويرفع يده حتى يرى بياض إبطه ولا يقف عندها).

أما كون حد منى من وادي محسر إلى العقبة فلأن عطاء قال ذلك.

فعلى هذا ليس محسر والعقبة من منى؛ لأن الحد غير المحدود.

فإن قيل: لم سميت منى بذلك؟

قيل: لأنها قدر فيها موت الضحايا والهدايا يقال منى بمنى أي قدر. قال الشاعر:

ولا تقولن لشيء سوف أفعله

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

أي يقدر لك المقدر.

وأما بُدائته بجمرة العقبة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل (4).

(1) في ج: قدم على النبي.

(2)

سبق تخريجه في الحديث السابق.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (1966) 2: 200 كتاب المناسك، باب في رمي الجمار.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (3028) 2: 1008 كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي.

(4)

كذا في حديث جابر رضي الله عنه قال: «ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات» . أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 193

وجمرة العقبة هي آخر الجمرات مما يلي منى وأولها مما يلي مكة وهي عند العقبة ولذلك سميت جمرة العقبة.

وأما رميها بسبع حصيات يكبر مع كل واحدة فلما روى الفضل بن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة» (1). رواه حنبل.

وأما قول المصنف رحمه الله: واحدة بعد واحدة ففيه تنبيه على أنه لو رماها مرة واحدة لم تجزئه وهو صحيح؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى سبع رميات» (2) وقال: «خذوا عني مناسككم» (3).

فعلى هذا يجزئه ولكن عن واحدة ويلزمه رمي تكملة سبع.

وأما رفع يده حتى يرى بياض إبطه فلأنه أعون على الرمي وأمكن.

وأما عدم وقوفه عند جمرة العقبة فلما روى ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى جمرة العقبة انصرف ولم يقف» (4) رواه ابن ماجة.

قال: (ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي. فإن رمى بذهب أو فضة أو غير الحصى أو حجر رُمي به مرة لم يجزئه).

أما قطع التلبية مع ابتداء الرمي فلما روى الفضل بن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» (5).

وفي لفظة: «قطع عند أول حصاة» رواه حنبل في المناسك.

وأما عدم إجزائه رمي الذهب والفضة فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى» (6) وقال: «خذوا عني مناسككم» (7).

(1) أخرجه أحمد في مسنده (1815) 1: 212.

(2)

قال جابر: «فرماها بسبع حصيات. يكبر مع كل حصاة منها» .

أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

سبق تخريجه ص: 172.

(4)

أخرجه ابن ماجة في سننه (3032) عن ابن عمر. و (3033) عن ابن عباس. 2: 1009 كتاب المناسك، باب إذا رمى جمرة العقبة لم يقف عندها.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1469) 2: 559 كتاب الحج، باب الركوب والارتداف في الحج.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1281) 2: 931 كتاب الحج، باب استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر.

(6)

أخرجه أبو داود في سننه (1944) 2: 195 كتاب المناسك، باب التعجيل من جمع، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.

(7)

سبق تخريجه ص: 172.

ص: 194

ولأن قياس الذهب والفضة على الحصى يقتضي علة جامعة والرمي بالحصى تعبدي.

وأما قوله أو غير الحصى فيحتمل أنه أراد به الكحل والبرام والرخام وما أشبه ذلك. فإن أبا الخطاب قال: فإن رمى بغير الحصى مثل الكحل والرخام والبرام. ثم صرح بأنه لا يجزئ وعليه ما ذكر في الذهب والفضة، ويحتمل أنه أراد الحجر الكبير، وفي ذلك روايتان:

أحدهما: لا يجزئ؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه ابن عباس رضي الله عنهما بحصى الخَذْف قال: أمثال هذا فارموا» (1).

والثانية: يجزئ؛ لأن الغرض الرمي وهو حاصل بالكبير، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره محمول على الأَوْلى.

وأما عدم إجزاء الرمي بحجر رُمي به مرة فلأنه استُعمل في عبادة فلم يجزئ استعماله في غيرها كماء الوضوء.

قال: (ويرمي بعد طلوع الشمس فإن رمى بعد نصف الليل أجزأه).

أما استحباب رميه بعد طلوع الشمس فلما روى جابر رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر

مختصر» (2) رواه مسلم.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قال لأغيلمة بني عبدالمطلب: أَبَنِيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» (3) رواه ابن ماجة.

(1) سبق تخريجه ص: 194.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (1299) 2: 945 كتاب الحج، باب بيان وقت استحباب الرمي.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (1940) 2: 194 كتاب المناسك، باب التعجيل من جمع.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (3025) 2: 1007 كتاب المناسك، باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار.

ص: 195

وأما إجزاؤه الرمي بعد نصف الليل فلما روت عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل النحر ثم مضت فأفاضت» (1) رواه أبو داود.

وفي لفظ قال لأم سلمة: «وافي الفجر بمكة» (2) رواه حنبل.

قال: (ثم ينحر هدياً إن كان معه. ويحلق أو يقصر من جميع شعره. وعنه: يجزؤه بعضه كالمسح. والمرأة تقصر من شعرها قدر الأنملة. ثم قد حل له كل شيء إلا النساء. وعنه: إلا الوطء في الفرج).

أما نحره الهدي إن كان معه بعد رميه فلما روى جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم «أنه رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة ثم أعطى علياً فنحر ما غَبَرَ» (3).

وأما تخييره بين الحلق والتقصير؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم دعى لهما.

ولأن بعض الصحابة رضي الله عنهم قصر ولم ينكر عليه. ولكن الحلق أفضل ولذلك قدمه المصنف رحمه الله.

و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعى للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة» (4).

وأما مقدار ما يقصر ففيه روايتان:

أحدهما: يجب التقصير من جميعه لقوله سبحانه: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} [الفتح: 27].

و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه» (5)، والتقصير بدل منه وقد أمرنا بالتَّأَسِّي.

والثانية: يجزئ بعضه قياساً على المسح.

وأما تقصير المرأة من شعرها قدر الأنملة فمشعر بأمرين:

(1) أخرجه أبو داود في سننه (1942) 2: 194 كتاب المناسك، باب التعجيل من جمع.

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (26535) 6: 291.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1641) 2: 617 كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1639) 2: 616 كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال.

ص: 196

أحدهما: أنه لا يشرع في حقها حلق بل تقصير وهو صحيح لما روى ابن عباس رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير» (1) رواه أبو داود.

وعن علي رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها» (2) رواه الترمذي.

وثانيهما: تقدير التقصير بالأنملة لأنه يروى عن ابن عمر.

وأما حل كل شيء له إلا النساء إذا فعل ما تقدم ذكره من رمي ونحر وحلق فلما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رمى جمرة العقبة وحلق رأسه فقد حل له كل شيء إلا النساء» (3) رواه الأثرم.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت

مختصر» (4) متفق عليه.

وأما حل النساء ففيه روايتان:

أحدهما: لا يحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثناهن في الحديث المتقدم.

فعلى هذا لا يباح له وطء ولا تزويج ولا تقبيل لأن ذلك كان حراماً، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إلا النساء» (5) يحتمل شموله له فلم يصلح ما قبله للإباحة فوجب بقاؤه على ما كان.

والثانية: يحل له كل ذلك إلا الوطء في الفرج؛ لأن تحريم المرأة ظاهر في وطئها فيكون معنى الحديث: إذا رمى أحدكم جمرة العقبة وحلق حل له كل شيء إلا وطء النساء.

والأول أولى لما تقدم.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (1985) 2: 203 كتاب المناسك، باب الحلق والتقصير.

(2)

أخرجه الترمذي في جامعه (914) 3: 257 كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (1978) 2: 202 كتاب المناسك، باب في رمي الجمار.

وأخرجه أحمد في مسنده (25146) 6: 143.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1465) 2: 558 كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ويدهن.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1189) 2: 846 كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام.

(5)

سبق تخريجه قبل قليل.

ص: 197

والجواب عن ظهور التحريم في الوطء أن تحريم المرأة في الحج ليس مختصاً وفاقاً فوجب أن يحمل على المعهود فيه وذلك ما ذكر.

قال: (والحلق والتقصير نسك إن أخره عن أيام منى فهل يلزمه دم؟ على روايتين. وعنه: أنه إطلاق من محظور لا شيء في تركه. ويحصل التحلل بالرمي وحده).

أما كون الحلق والتقصير نسكاً على الصحيح في المذهب فلقوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين} [الفتح: 27].

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به بقوله: «وليقصر وليحلل» (1).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما على النساء التقصير» (2).

وأما كونه إطلاقاً من محظور على روايةٍ «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى رضي الله عنه لما قال: أهللتُ بإهلالٍ كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طف بالبيت وبالصفا وبالمروة ثم حل» (3) متفق عليه.

وقال في حديث جابر: «من كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة» (4) رواه مسلم.

وقال في حديث سراقة: «إذا قدمتم فمن تَطَوّف بالبيت فقد حل إلا من كان معه هدي» (5) رواه مسلم.

أمر بالحل من غير حلق ولا تقصير ولو كان ذلك نسكاً لما أمر به إلا بعده.

ولأن كل واحد من الحلق والتقصير محرّم في الإحرام فلم يكن نسكاً كالطيب.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1606) 2: 607 كتاب الحج، باب من ساق البدن معه.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1227) 2: 901 كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع

(2)

سبق تخريجه ص: 199.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (4136) 4: 1597 كتاب المغازي، باب حجة الوداع.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1221) 2: 894 كتاب الحج، باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 891 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (1801) 2: 159 كتاب المناسك، باب في الإقران. ولم أره عند مسلم.

ص: 198

فعلى قولنا هو نسك هل يجب عليه دم إذا أخره عن أيام منى؟ فيه روايتان:

أحدهما: لا دم عليه لأن الله تعالى قال: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196] فبين أول وقته ولم يخصه فيما بعد ذلك بوقت.

ولأنه نسك فلم يكن عليه دم بتأخيره كالسعي.

والثانية: عليه دم؛ لأنه ترك النسك في وقته أشبه تأخير الرمي.

والأول أولى لما ذكر.

وعلى قولنا هو إطلاق من محظور هو مخير بين فعله في أيام منى وبين تأخيره وبين تركه والأخذ من بعضه دون بعض؛ لأنه ليس بواجب أشبه سائر ما ليس بواجب.

وأما قول المصنف رحمه الله: ويحصل التحلل بالرمي وحده فيحتمل أنه معطوف على قوله: لا شيء في تركه فيكون من تكملة قوله: وعنه أنه إطلاق من محظور.

فعلى هذا يكون حصول التحلل بالرمي وحده على قولنا: الحلق إطلاق من محظور لا على قولنا: هو نسك، ويعضده قوله فيما تقدم: ثم قد حل له كل شيء إلا النساء؛ لأن ظاهره أن التحلل إنما يحصل بالرمي والحلق معاً؛ لأنه ذكر التحلل بلفظ ثم بعد ذكر الرمي والحلق، ويحتمل أنه مستقل وأن التحلل يحصل بالرمي وحده وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله. وفي الجملة فيما يحصل به التحلل روايتان:

أحدهما: لا يحصل إلا بهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عائشة رضي الله عنها: «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة وحلق رأسه فقد حل له كل شيء إلا النساء» (1) رواه الأثرم. رتب الحِل عليهما فلا يحصل إلا بهما.

ولأنهما نسكان يعقبهما الحل فكان حاصلاً بهما كالطواف والسعي في العمرة.

والرواية الثانية: أنه يحصل بالرمي وحده.

قال المصنف رحمه الله في المغني: هذا هو الصحيح.

ولأن في حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا يوم رخص لكم فيه إذا رميتم الجمرة أن تحلوا من كل شيء حرم فيه إلا النساء» (2).

(1) سبق تخريجه ص: 199.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (1999) 2: 207 كتاب المناسك، باب الافاضة في الحج.

ص: 199

وحديث عائشة رضي الله عنها رواه أبو داود، ولم يذكر: وحلق رأسه. وفيه نظر؛ لأنه إذا لم يذكر ذلك فيما ذكر فقد ذكره في غيره. وتحقيق الكلام في التحلل هل الأنساك ثلاثة أم اثنتان؟ فيه روايتان:

أحدهما: ثلاثة: رمي وحلق وطواف.

والثانية: هما نسكان رمي وطواف.

فعلى الأول يحصل التحلل الأول بفعل اثنين من الثلاثة ويحصل التحلل الثاني بفعل الثالث.

وعلى الثانية: يحصل الأول بفعل واحد من اثنين والثاني بالثاني.

وإنما نص المصنف رحمه الله على الرمي وغيره على الرمي والحلق؛ لأنهما يفعلان قبل الطواف إما استحباباً وإما وجوباً وعلى كل تقدير لو قدم المؤخر حصل التحلل على ما ذكر قبل.

قال: (وإن قدم الحلق على الرمي أو النحر ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه، وإن كان عالماً فهل عليه دم؟ على روايتين).

أما عدم وجوب شيء على من قدم الحلق على الرمي أو النحر جاهلاً فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: «قال رجل: يا رسول الله! حلقت قبل أن أذبح. قال: اذبح ولا حرج

مختصر» (1).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قيل له يوم النحر وهو بمنى: في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: لا حرج» (2) متفق عليهما.

وأما عدم وجوب شيء على من قدم ذلك ناسياً فلأن الناسي كالجاهل.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1649) 2: 618 كتاب الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1306) 2: 948 كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1648) 2: 618 كتاب الحج، باب إذا رمى بعد ما أمسى، أو حلق قبل أن يذبح ناسياً أو جاهلاً.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1307) 2: 950 كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي.

ص: 200

وأما من قدم ذلك عالماً ففيه روايتان:

أحدهما: لا دم عليه لما ذكر قبل.

والرواية الثانية: عليه دم لأن ما تقدم المراد به الجاهل والناسي؛ لأن في بعض ألفاظ الحديث: «أن رجلاً سأله فقال: لم أشعر» (1).

وفي رواية مسلم من حديث عبدالله بن عمرو قال: «فجاء رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح

وذكر الحديث قال: فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلا قال: افعلوا ذلك ولا حرج» (2).

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب وأمر باتباعه استثني منه حالة الجهل والنسيان فيبقى ما عداه على الأصل.

ويمكن الجواب عن كون السائل جاهلاً بأن إباحة ذلك للجاهل لا تنفي جوازه للعالم، وعن فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه فعله لكونه أولى لا لوجوبه.

قال: (ثم يخطب الإمام خطبة يعلمهم فيها النحر والإفاضة والرمي).

أما استحباب الخطبة بمنى فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر» (3) رواه البخاري.

وأما استحباب تعليمهم ما ذكر فلدعوى الحاجة إليه قال عبدالرحمن بن معاذ: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في منى فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار» (4) رواه أبو داود.

(1) أخرجه البخاري في صححيه (1649) 2: 618 كتاب الحج، باب إذا رمى بعد ما أمسى، أو حلق قبل أن يذبح ناسياً أو جاهلاً.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (1306) 2: 948 كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1652) 2: 619 كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (1957) 2: 198 كتاب المناسك، باب ما يذكر الإمام في خطبته بمنى.

ص: 201

قال: (ثم يفيض إلى مكة ويطوف للزيارة، ويُعَيِّنه بالنية، وهو: الطواف الواجب الذي به تمام الحج، وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر، والأفضل فعله يوم النحر، فإن أخره عنه وعن أيام منى جاز).

أما إفاضته إلى مكة بعد خطبته بمنى وطوافه للزيارة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل. قالت عائشة رضي الله عنها: «حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر» (1) متفق عليه.

وأما تعيينه بالنية فلأن الطواف بالبيت صلاة والصلاة لا تصح إلا بنية معينة.

وأما كون الطواف المذكور هو الواجب فلأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلْيَطّوَفُوا بالبيت العتيق} [الحج: 29].

وعن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من صفية ما يريد الرجل من أهله. فقلت: يا رسول الله! إنها حائض. قال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله! أفاضت يوم النحر. قال: اخرجوا» (2) رواه البخاري.

وأما كونه هو الذي به تمام الحج فلأنه لم يبق من أركان الحج سواه فإذا أتى به حصل تمام الحج.

فإن قيل: في لفظ الحديث المتقدم: «من صلى صلاتنا وإلى قوله: وكان قد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه» (3) ولم يذكر الطواف.

قيل: المراد بذلك أن من وقف بعرفة لم يبق حجه متعرضاً للفوات؛ لأن الطواف وإن كان ركناً لكنه ليس له وقت معين يفوت بفواته لا أنه لم يبق له شيء من أركانه.

وأما كون أول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر فـ «لأن أم سلمة رضي الله عنها رمت ثم طافت ثم رجعت فوافت النبي صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة وبينها وبين مكة فرسخان» .

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4140) 4: 1598 كتاب المغازي، باب حجة الوداع.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 965 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (4140) 4: 1598 كتاب المغازي، باب حجة الوداع.

(3)

سبق تخريجه ص: 189.

ص: 202

وأما كون الأفضل فعله يوم النحر فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله. كذلك ذكرته عائشة رضي الله عنها (1).

وأما جواز تأخيره عن يوم النحر وعن أيام التشريق فلأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقاً.

ولأنه لم يدل دليل على عدم جوازه فيما بعد أيام التشريق فوجب أن يجزئ في غيرها بالقياس عليها. ويمكن أن يقال في قوله: {وليطوفوا} [الحج: 29] دليل على إرادة أيام التشريق وذلك أن الله تعالى عطفه على قوله: {ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 34] وذلك عطف للطواف على النحر فوجب أن يتوقت بوقته وهذا متجه وبه قال أبو جنيفة. وأجاب صاحب النهاية عن ذلك بأن الطواف ينجبر بالقضاء فوجب أن يجزئ من غير دم كالصلاة.

وفي قوله: ينجبر بالقضاء نظر من حيث إنه إذا قال: ليس لآخره وقت يكون فعله بعد أيام التشريق أداء لا قضاء.

قال: (ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو لم يكن سعى مع طواف القدوم، وإن كان قد سعى لم يسع، ثم قد حل له كل شيء).

أما سعي المتمتع بعد إفاضته من مكة وطوافه بالبيت وإن كان قد سعى فلأن السعي المتقدم لعمرته وحينئذ لحجه بخلاف المفرد والقارن.

وأما غيره من مفرد وقارن فينظر فيهما فإن كانا قد سعيا لم يسعيا بعد طوافهما للزيارة؛ لأن جابراً قال: «لم يطف النبي ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول» (2) رواه مسلم.

وإن لم يكونا سعيا عقيب طواف القدوم أو لم يطوفا طواف القدوم سَعَيا حينئذ لأنه إما ركن أو سنة على ما يبين بعد إن شاء الله تعالى والكل مطلوب الوجود.

(1) سبق تخريجه قريباً.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (1279) 2: 930 كتاب الحج، باب بيان أن السعي لا يكرر.

ص: 203

وأما حل كل شيء لمن فعل جميع ما تقدم ذكره من طواف الزيارة والرمي والنحر والحلق فلقول ابن عمر رضي الله عنهما: «لم يحل النبي صلى الله عليه وسلم من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر فأفاض بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه» (1).

وعن عائشة رضي الله عنها مثله (2) متفق عليهما.

وقول المصنف رحمه الله: ثم حل بعد قوله سعى يدل على توقف الحل على السعي وهو كذلك إن قلنا هو ركن أو واجب، وإن قلنا هو سنة فقال المصنف رحمه الله في المغني: احتمل أن يحل عقيب الطواف قبل السعي لأنه لم يبق عليه واجب من الحج، واحتمل أن لا يحل حتى يسعى لأنه من أفعال الحج فيأتي به في إحرام الحج.

قال: (ثم يأتي زمزم فيشرب منها لما أحب ويتضلع منه ويقول: بسم الله، اللهم! اجعله لنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، ورياً وشبعاً وشفاء من كل داء، واغسل به قلبي، واملأه من خشيتك)(3).

أما إتيانه زمزم بعد سعيه وشربه منه فلما روى جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثم أتى بني عبدالمطلب وهم يسقون فناولوه فشرب منه» (4).

وأما قصده بشربه ما أحب فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شرب له» (5) رواه ابن ماجة.

وأما تضلعه منه فـ «لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال لرجل تضلع منها: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من زمزم» (6) رواه ابن ماجة.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1606) 2: 607 كتاب الحج، باب من ساق البدن معه.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1227) 2: 901 كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه 2: 607 كتاب الحج، باب من ساق البدن معه.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1228) 2: 902 كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع

(3)

في المقنع: خشيتك وحكمتك.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 891 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

أخرجه ابن ماجة في سننه (3062) 2: 1018 كتاب المناسك، باب الشرب من زمزم.

(6)

أخرجه ابن ماجة في سننه (3061) 2: 1017 كتاب المناسك، باب الشرب من زمزم.

ص: 204

وأما الدعاء عند الشرب بما ذكر فلأنه لائق به وهو متضمن لمصلحتي الدنيا والآخرة.

ولأنه قد تقدم أن «ماء زمزم لما شرب له» (1) فإذا دعى رجي حصوله.

(1) سبق تخريجه قبل قليل.

ص: 205

فصل [في بقية أعمال الحج]

قال المصنف رحمه الله: (ثم يرجع إلى منى ولا يبيت بمكة ليالي منى، ويرمي الجمرات بها (1) بعد الزوال كل جمرة بسبع حصيات، فيبدأ بالجمرة الأولى وهي أبعدهن من مكة وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره ويرميها بسبع، ثم يتقدم قليلاً يدعو الله تعالى ويطيل، ثم يأتي الوسطى فيجعلها عن يمينه ويرميها بسبع ويقف عندها فيدعو، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع ويجعلها عن يمينه ويستبطن الوادي ولا يقف عندها، ويستقبل القبلة في الجمرات كلها).

أما رجوعه إلى منى وعدم مبيته بمكة ليالي منى ورميه الجمرات الثلاث بها في أيام التشريق بعد الزوال كل جمرة بسبع حصيات ووقوفه عند الأولى ودعاؤه وإطالته ذلك عند الجمرة الأولى والثانية وعدم وقوفه عند الثالثة فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية ويطيل المقام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها» (2) رواه أبو داود.

(1) في المقنع: بها في أيام التشريق.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (1973) 2: 201 كتاب المناسك، باب في رمي الجمار.

ص: 206

وأما بداءته بالجمرة الأولى وجعلها عن يساره وجعل الثانية عن يمينه واستبطانه الوادي بالثالثة واستقباله القبلة في الجمرات كلها فلما روى البخاري رضي الله عنه عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه كان يرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة. ثم يتقدم فيقوم قياماً طويلاً ويرفع يديه. ثم يرمي الوسطى. ثم يأخذ بذات الشمال فيهل ويقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً. ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها. ثم ينصرف ثم قال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل» (1).

وأما قوله: وهي أبعدهن من مكة وتلي مسجد الخيف فبيان للجمرة الأولى وتمييز لها.

قال: (والترتيب شرط في الرمي، وفي عدد الحصى روايتان:

أحدهما: سبع.

والأخرى: يجزؤه خمس، فإن أخل بحصاة واجبة من الأولى لم يصح رمي الثانية، فإن لم يعلم من أيّ الجمار تركها بنى على اليقين).

أما كون الترتيب في الرمي شرطاً ومعناه: أن يبدأ بالجمرة التي تلي مسجد الخيف ثم بالتي تليها ثم بالتي تليها كما ذكر المصنف رحمه الله قبل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل (2)، وقال:«خذوا عني مناسككم» (3).

ولأن الرمي نسك متكرر فكان الترتيب فيه شرطاً كالسعي.

وأما عدد الحصى ففيه روايتان:

ص: 207

أحدهما: يجب أن يرمي بسع «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع» (1)، وقال:«خذوا عني مناسككم» (2).

والرواية الثانية: يجزؤه خمس وست لما روى سعد قال: «رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضنا يقول: رميت بست وبعضنا يقول: رميت بسبع فلم يعب ذلك بعضنا على بعض» (3) رواه الأثرم في سننه وأبو إسحاق الجوزجاني.

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: «ما أبالي رميت بست أو بسبع» (4).

وأما عدم صحة رمي الثانية إذا أخل بحصاة واجبة من الأولى فلأن الترتيب شرط لما تقدم وفي ترك حصاة واجبة إخلال به.

ولأنه إذا أخل بواحدة من الأولى فكأنه ابتدأ الثانية فيفوت الترتيب المشترط.

وأما بناؤه على اليقين إذا لم يعلم من أي الجمار تركها فلأنه تررد في ذلك فيبني على اليقين كما لو شك هل صلى ثلاثاً أم أربعاً.

قال: (وإن أخّر الرمي كله فرماه في آخر أيام التشريق أجزأه، ويرتبه بنيّته، وإن أخره عن أيام التشريق أو ترك المبيت بمنى في لياليها فعليه دم، وفي حصاة أو ليلة واحدة ما في حلق شعرة).

أما إجزاء الرمي في آخر أيام التشريق لمن أخره فرماه فيه فلأن أيام التشريق وقت الرمي فإذا أخره من أول وقته إلى آخره لم يلزمه شيء كما لو أخر الوقوف بعرفة إلى آخر وقته.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (1973) 2: 201 كتاب المناسك، باب في رمي الجمار.

(2)

سبق تخريجه ص: 172.

(3)

أخرجه النسائي في سننه (3077) 5: 275 كتاب مناسك الحج، عدد الحصى التي يرمى بها الجمار.

وأخرجه أحمد في مسنده (1439) 1: 168.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (13439) 3: 195 كتاب الحج، في الرجل يرمي بست حصيات أو خمساً.

وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 150 كتاب الحج، باب من شك في عدد ما رمى.

ص: 208

وأما ترتيبه بنيته، ومعناه: أن ينوي رمي اليوم الأول والثاني مع الثالث فلأن الرمي في أيام التشريق عبادة يجب الترتيب فيها مع فعلها في أيامها فوجب مع فعلها مجموعة كالصلاتين المجموعتين والفوائت.

وأما وجوب الدم على من أخر الرمي عن أيام التشريق فلأن الرمي نسك واجب، أخّره عن وقته المعين فوجب عليه دم كما لو أخر الإحرام عن الميقات.

وأما وجوبه على من ترك المبيت بمنى فلأن المبيت بها واجب لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد يبيت بمكة إلا العباس من أجل سقايته» (1) رواه ابن ماجة.

وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال: «لا يبيتن أحد من الحاج إلا بمنى. وكان يبعث رجالاً لا يَدَعُون أحداً يبيت وراء العقبة» (2).

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله نسكاً، وقال:«خذوا عني مناسككم» (3).

وإذا كان واجباً وجب بتركه دم لتركه الواجب في الحج.

وأما كون الواحدة من الحصاة والليلة في تركها ما في حلق شعرة. والمراد به مد من طعام أو قبضة أو درهم على الخلاف المتقدم فيه فلأنه بعض ما يجب فيه دم فوجب فيه ما يجب في الشعرة كالشعرة.

قال: (وليس على أهل [سقاية الحاج] (4) والرعاء مبيت بمنى، فإن غربت الشمس وهم بمنى لزم الرعاء المبيت دون أهل السقاية).

أما عدم وجوب المبيت بمنى على أهل السقاية فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما «أن العباس رضي الله عنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم ليبيت بمكة ليالي منى لأجل سقايته فأذن له» (5).

(1) أخرجه ابن ماجة في سننه (3066) 2: 1019 كتاب المناسك، باب البيتوتة بمكة ليالى منى.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 153 كتاب الحج، باب لا رخصة في البيتوتة بمكة ليالي منى.

(3)

سبق تخريجه ص: 172.

(4)

زيادة من المقنع.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1658) 2: 621 كتاب الحج، باب هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالي منى.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1316) 2: 953 كتاب الحج، باب وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، والترخيص في تركه لأهل السقاية.

ص: 209

وأما عدم وجوبه على الرعاء وهم الذين يرعون المواشي فلما روى عاصم عن أبيه قال: «رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة في أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما» (1) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح.

ولأن أهل السقاية والرعاء يشتغلون بالرعاية واستقاء الماء فرخص لهم لذلك.

وأما لزوم الرعاء المبيت إذا غربت الشمس وهم بمنى دون أهل السقاية فلأن ترك المبيت إنما كان للحاجة فإذا غربت الشمس زالت حاجة الرعاء.

ولأن الرعي وقته النهار لا الليل بخلاف أهل السقاية فإنهم يسقون ليلاً ونهاراً.

قال: (ويخطب الإمام في اليوم الثاني من أيام التشريق خطبة يعلمهم فيها حكم التعجيل والتأخير وتوديعهم).

أما مسنونية الخطبة في اليوم الثاني من أيام التشريق فلما روي عن رجلين من بني بكر قالا: «رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق ونحن عند راحلته» (2) أخرجه أبو داود.

وأما تعليمهم ما ذكر فلدعوى الحاجة إليه.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (1975) 2: 202 كتاب المناسك، باب في رمي الجمار.

وأخرجه الترمذي في جامعه (955) 3: 289 كتاب الحج، باب ما جاء في الرخصة للرعاء أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً.

وأخرجه النسائي في سننه (3069) 5: 273 كتاب مناسك الحج، رمي الرعاة.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (3037) 2: 1010 كتاب المناسك، باب تأخير رمي الجمار من عذر.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (1952) 2: 197 كتاب المناسك، باب أي يوم يخطب بمنى.

ص: 210

قال: (فمن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل غروب الشمس، فإن غربت وهو بها لزمه المبيت والرمي من الغد).

أما جواز التعجيل في يومين فلقوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} [البقرة: 203]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه» (1).

وأما لزوم البيتوتة والرمي من الغد لمن غربت الشمس وهو بمنى فلأن الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم جوزا التعجيل في اليوم الثاني وهو اسم لبياض النهار.

ولأنه يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «من أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس» (2).

قال: (فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت بالطواف إذا فرغ من جميع أموره فإن ودع ثم اشتغل في تجارة أو أقام أعاد الوداع).

أما عدم خروجه من مكة حتى يودع البيت بالطواف إذا فرغ من جميع أموره فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض» (3) متفق عليه.

ولمسلم: «كان الناس ينصرفون كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» (4).

وأما إعادة الوداع إذا ودع ثم اشتغل التجارة أو أقام فلأنه إذا لم يطف بعد اشتغاله أو أقام لم يكن آخر عهده بالبيت وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (1949) 2: 196 كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (3015) 2: 1003 كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 152 كتاب الحج، باب من غربت له الشمس يوم النفر الأول بمنى

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1668) 2: 624 كتاب الحج، باب طواف الوداع.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 965 كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه (1327) 2: 963 الموضع السابق.

ص: 211

ولأن هذا الطواف هو طواف الوداع فإذا لم يطف بعد ما ذكر لم يكن وداعاً في العادة فلم يجزؤه كما لو طافه عند قدومه إلى مكة.

قال: (ومن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأه عن طواف الوداع، فإن خرج قبل الوداع رجع إليه، فإن لم يمكنه فعليه دم، إلا الحائض والنفساء لا وداع عليهما).

أما إجزاء طواف الزيارة عن طواف الوداع إذا طافه عند الخروج فلأنه أُمِرَ أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل ذلك.

ولأن ما شرع للمسجد يجزئ عنه الواجب من جنسه كتحية المسجد وركعتي الإحرام وركعتي الطواف يجزئ عنهما المكتوبة.

وأما رجوعه إلى الوداع إذا خرج قبله مع الإمكان وهو المسافة القريبة مع عدم خوف على نفس أو مال أو فوات رفقة فلأنه أمكنه الإتيان بالواجب من غير مشقة فلزمه كما لو كان بمكة.

وأما عدم رجوعه مع عدم إمكانه فلما يلحقه من المشقة أشبه ما لو رجع إلى بلده.

وأما وجوب الدم عليه فلأنه ترك واجباً في الحج أشبه ترك الرمي.

وأما عدم الوداع على الحائض والنفساء فلأنه لا يجب عليهما وداع لما تقدم من قوله: «إلا أنه خفف عن المرأة الحائض» (1) والنفساء مثلها. قال: (وإذا فرغ من الوداع وقف في الملتزم بين الركن والباب فقال: اللهم! هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى، وإلا فمُنّ الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك ولا بيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك. اللهم! فاصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خير الدنيا والآخرة إنك

(1) سبق تخريجه في الحديث قبل السابق.

ص: 212

على كل شيء قدير. ويدعو بما أحب ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن المرأة إذا كانت حائضاً لم تدخل المسجد ووقفت على بابه ودعت بذلك).

أما مسنونية الوقوف في الملتزم وهو موضعٌ بين الباب والحجر والأسود وهو المراد بقول المصنف رحمه الله الركن فلما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه أنه قال: «طفت مع عبدالله فلما جئنا دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ؟ قال: نعوذ بالله من النار. ثم مضى حتى استلم الحجر فقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا وبسطها بسطاً وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل» (1) رواه أبو داود.

وعن صفوان قال: «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انطلقت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من الكعبة هو وأصحابه قد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم ووضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم» (2) رواه أبو داود.

وأما صفة الدعاء فكما ذكره المصنف رحمه الله لأنه يليق بالمكان وإن زاد على ذلك أو دعا بغيره فلا بأس؛ لأن الغرض الدعاء لا دعاء بعينه.

وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فليكون جامعاً بين فضيلتي الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما عدم دخول المرأة المسجد إذا كانت حائضاً فلأن الحائض ممنوعة من دخول المسجد لما تقدم في موضعه.

وأما وقوفها على بابه ودعاؤها بذلك فلأن المرأة ينبغي أن [تدعو بما](3) تحب ويسن في حقها ما يكون كذلك في حق الرجل ترك ذلك في دخول المسجد لأنها ممنوعة منه لحيضها فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (1899) 2: 181 كتاب المناسك، باب الملتزم.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (1898) 2: 181 كتاب المناسك، باب الملتزم.

(3)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 213

قال: (فإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما.

أما استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من زارني أو زار قبري كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة» (1) رواه أبو داود الطيالسي.

ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يسلم عليّ عند قبري إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» (2).

ويروى عن العتبي قال: «كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله! سمعت الله يقول: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} [النساء: 64]، وقد جئتك مستغفراً مستشفعاً بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم انصرف الأعرابي، فحملتني عينيّ فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا عتبي! الحق الأعرابي فبشره أن الله تعالى قد غفر له» (3).

وأما استحباب زيارة قبري صاحبيه فلأن زيارة قبر غيرهما مستحبة فلأن يستحب زيارة قبرهما مع فضيلتهما على غيرهما بطريق الأولى.

(1) أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (65) 12 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (2041) 2: 218 كتاب المناسك، باب زيارة القبور.

وأخرجه أحمد في مسنده (10827) 2: 527. كلاهما دون قوله: «عند قبري».

(3)

ذكره ابن كثير في تفسيره نقلاً عن كتاب الشامل لأبي منصور الصباغ 1: 552 - 553.

ص: 214

فصل في صفة العمرة

قال المصنف رحمه الله: (من كان في الحرم خرج إلى الحل فأحرم منه، فإن أحرم من الحرم لم يجز وينعقد وعليه دم).

أما خروج من هو في الحرم إلى الحل ليحرم منه بالعمرة فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبدالرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم» (1) رواه مسلم.

وكانت عائشة رضي الله عنها بمكة والتنعيم أدنى الحل.

ولأنه يجب الجمع في النسك بين الحل والحرم، وأفعال العمرة كلها في الحرم فلم يكن بد من الإحرام من الحل ليحصل الجمع (2) من الحل.

وأما عدم تجويز إحرامه من الحرم فلما (3) عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث عائشة رضي الله عنها. وحكمه على الواحد حكمه على الكل.

وأما انعقاد إحرامه فكما لو أحرم بعد أن جاوز الميقات وأما وجوب الدم عليه فلتركه الواجب.

قال: (ثم يطوف ويسعى، ثم يحلق أو يقصر، ثم قد حلّ. وهل يحل قبل الحلق أو التقصير؟ على روايتين).

أما طواف المعتمر وسعيه وحلقه أو تقصيره بعد إحرامه فلأن العمرة أحد النسكين فوجب أن يفعل بها ما ذكر كالحج.

وأما حله بعد ذلك فلأنه لم يبق من أفعال العمرة شيء أشبه الحاج إذا لم يبق له من أفعال حجه شيء.

(1) سبق تخريجه ص: 83.

(2)

عدة كلمات غير واضحة في ج.

(3)

مثل السابق.

ص: 215

وأما حله قبل حلقه أو تقصيره ففيه روايتان أصلهما هل الحلق والتقصير في العمرة نسك؟ وفيه روايتان مضى توجيههما في الحج (1). فإن قيل: ذلك نسك لم يحل قبل فعله كالطواف، وإن قيل: ليس بنسك جاز له الحل قبله؛ لأن الحل لا يتوقف على فعل ما ليس بنسك.

قال: (وتجزئ عمرة القارن، والعمرة من التنعيم عن عمرة الإسلام في أصح الروايتين).

أما إجزاء عمرة القارن وهو الذي أحرم بحج وعمرة جميعاً عن عمرة الإسلام ففيه روايتان:

أحدهما: تجزئ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها لما قرنت وطافت: قد حللت من حجك وعمرتك» (2).

وفي لفظ: «يسعُكِ طوافك لحجك وعمرتك» (3) رواه مسلم.

والثانية: لا تجزئ لأن الله تعالى قال: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] فوجب الإتيان بالعمرة (4) على وجه الكمال ولم توجد فيما ذكر.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لما اعتمرها أخوها: «هذه مكان عمرتك» (5) متفق عليه.

والأولى أصح لما تقدم. ولما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحرم بالحج والعمرة طاف لهما طوافاً واحداً ولا يحل حتى يقضي حجه ويحل منهما جميعاً» (6).

(1) ص: 199.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (1213) 2: 881 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 879 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام

(4)

العبارة غير واضحة في ج.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1557) 2: 590 كتاب الحج، باب طواف القارن.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 870 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام

(6)

أخرجه الترمذي في جامعه (948) 3: 284 كتاب الحج، باب ما جاء أن القارن يطوف طوافاً واحداً. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (2975) 2: 990 كتاب المناسك، باب طواف القارن.

ص: 216

ولأن الصبي بن معبد قال لعمر رضي الله عنه: «إني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين عليّ فأهللت بهما -أي أهللت بالمكتوبتين- فقال عمر رضي الله عنه: هديت لسنة نبيك» (1).

ولأنه يروى عن ابن عمر وجابر وابن عباس رضي الله عنهم: «من قرن كفاه طواف واحد وسعي واحد» (2).

ولأن الواجب عمرة واحدة وقد أتى بها.

ولأن عمرة القارن أحد نسكي القران فأجزأ كالحج.

وأما عمرة عائشة من التنعيم فإنما كانت تطييباً لقلبها وإجابة لمسألتها ولو كانت واجبة عليها لأمرها هو بها قبل أن تسأله.

وأما إجزاء عمرة المفرد من التنعيم ففيه أيضاً روايتان:

أحدهما: يجزئ لما تقدم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن أن يعمر عائشة من التنعيم (3).

والثانية: لا تجزئ؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم في عمرة القضاء من ذي الحليفة» ، وروي «من الجعرانة» .

وقال صاحب النهاية: الصحيح أنه أحرم من الجعرانة في غير سنة القضاء. روي أنه برز لها من الحرم.

والأولى أصح لما تقدم.

ولأن الحج يجزئ من مكة فالعمرة من أدنى الحل في حق المفرد أولى.

وأما إحرام النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء من ذي الحليفة فلأنه مر بها أولاً لأن القضاء يحكي الأداء.

(1) سبق تخريجه ص: 68.

(2)

أخرجه الترمذي في جامعه (947) 3: 283 عن جابر و (948) 3: 284 عن ابن عمر كتاب الحج، باب ما جاء أن القارن يطوف طوافاً واحداً.

وأخرجه أحمد في مسنده (5350) 2: 67. عنه.

(3)

سبق تخريجه ص: 83.

ص: 217

فصل [في أركان الحج]

(أركان الحج الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة. وعنه: أنها أربعة: الطواف والوقوف والإحرام والسعي. وعنه: أنها ثلاثة وأن السعي سنة، واختار القاضي أنه واجب وليس بركن).

أما كون الوقوف بعرفة ركناً فلما روي أن رجلاً قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجاءه نفر من أهل نجد. فقالوا: يا رسول الله! كيف الحج؟ قال: الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر فقد تم حجه» (1) أخرجه أبو داود وابن ماجة.

وأما كون الطواف ركناً فلقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29].

ولما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله. فقلت: يا رسول الله! إنها

(1) أخرجه أبو داود في سننه (1949) 2: 196 كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة.

وأخرجه الترمذي في جامعه (889) 3: 237 كتاب الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج.

وأخرجه النسائي في سننه (3016) 5: 256 كتاب مناسك الحج، فرض الوقوف بعرفة.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (3015) 2: 1003 كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع. كلهم عن عبدالرحمن بن يعمَر الدِّيلي.

ص: 218

حائض. قال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله! أفاضت يوم النحر. قال: اخرجوا» (1) رواه البخاري بلفظه ومسلم بمعناه.

فدل هذا على أن الطواف لا بد منه وأنه حابس لمن لم يأت به.

ولأن الحج أحد النسكين فكان الطواف ركناً له كالعمرة.

وأما الإحرام ففيه روايتان:

أحدهما: أنه ركن؛ لأن الحج عبادة فلم تصح بدون الإحرام كنية الصلاة.

والثانية: أنه ليس بركن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعروة بن مُضَرِّس: «من وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً وأدرك معنا صلاتنا هذه -يعني الصبح- من يوم النحر فقد تم حجه وقضى تفثه» (2) ولم يذكر الإحرام ولو كان ركناً لذكره.

فإن قيل: لم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف وهو ركن وفاقاً؟

قيل: إنما ترك ذكره لأن القرآن دل عليه بخلاف الإحرام.

والرواية الأولى أصح في ظاهر قول الأصحاب، وظاهر قول المصنف رحمه الله عكس ذلك؛ لأنه أخرها، ولم أعلم أحداً من الأصحاب ذكر أن الإحرام شرط والأشبه به كذلك. وبه قال أبو حنيفة وذلك أن من قال بالرواية الأولى قاس الإحرام على نية الصلاة، ونية الصلاة شرط وكذا يجب أن يكون الإحرام.

ولأن الإحرام يجوز فعله قبل دخول وقت الحج فوجب أن يكون شرطاً كالطهارة مع الصلاة.

وأما السعي فعن الإمام أحمد رحمه الله أنه ركن؛ لأن حبيبة بنت أبي تَجْراة قالت: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يسعى: اسعوا فان الله كتب عليكم السعي» (3) رواه الإمام أحمد في المسند.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4140) 4: 1598 كتاب المغازي، باب حجة الوداع.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1211) 2: 965 كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام.

(2)

سبق تخريجه ص: 189.

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (27406) 6: 422.

ص: 219

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم فطاف المسلمون -تعني بين الصفا والمروة- ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة» (1).

وعن أحمد رحمه الله: هو سنة؛ لأن الله تعالى قال: {فلا جناح عليه أن يَطَّوف بهما} [البقرة: 158].

وروي أن في مصحف أُبَيّ وابن مسعود: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما.

وقراءة من ذكر إن لم تكن قرآناً فلا تنحط عن درجة الخبر.

ولأنه نسك ذو عدد لا يتعلق بالبيت فلم يكن ركناً كالرمي.

واختار القاضي أنه واجب؛ لأنه فعل من أفعال الحج فكان واجباً لا ركناً كطواف الوداع.

قال المصنف رحمه الله في المغني: الذي قال القاضي أقرب إلى الحق إن شاء الله تعالى؛ لأن ما روت عائشة رضي الله عنها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه دليل وجوبه ولا يلزم كونه ركناً كالرمي والحلق وغيرهما.

وقولها: «ما أتم الله حج من لم يطف» (2) معارَض بقول غيرها، وحديث حبيبة فيه كلام. ثم هو يدل على أنه مكتوب والواجب مكتوب والآية نزلت؛ «لأن ناساً تحرجوا من السعي لأجل صنمين كانا بين الصفا والمروة» (3) كذلك قالت عائشة رضي الله عنها.

ص: 220

قال: (وواجباته سبعة:

الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل، والمبيت بمزدلفة إلى بعد نصف الليل، والمبيت بمنى، والرمي، والحلق، وطواف الوداع.

وما عدا هذا سنن).

أما وجوب الإحرام من الميقات؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المواقيت الخمسة وقال: «هن لهن ولمن مر عليهن» (1).

ولأنه أحرم من الميقات وكذلك أصحابه (2)، وقال:«خذوا عني مناسككم» (3).

وأما وجوب الوقوف بعرفة إلى الليل فلأن من أدرك عرفة نهاراً يجب عليه أن يجمع بين جزء من النهار وبين جزء من الليل لما تقدم (4).

وأما وجوب المبيت بمزدلفة إلى بعد نصف الليل فلما تقدم في موضعه قبل (5).

وأما وجوب المبيت بمنى والرمي والحلق فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك (6) وقال: «خذوا عني مناسككم» (7).

(1) سبق تخريجه ص: 82.

(2)

عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: «انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي تردع على الجلد فأصبح بذي الحليفة ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه وقلد بدنته

».

أخرجه البخاري في صحيحه (1470) 2: 560 كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر.

(3)

سبق تخريجه ص: 172.

(4)

ص: 190.

(5)

ص: 192.

(6)

سبق ذكر أحاديث المبيت والرمي والحلق في فصل: بقية أعمال الحج ص: 208.

(7)

سبق تخريجه ص: 172.

ص: 221

وأما وجوب طواف الوداع فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت» (1) رواه مسلم.

وفي حديث ابن عباس: «أن يكون آخر عهده بالبيت» (2) متفق عليه.

وذُكر كل واحد من الواجبات مستقصى في بابه وموضعه وإنما الغرض هنا بيان التعداد ذلك، وكذلك لم أستقص هنا في الدلالة. ولا بد أن يلحظ أن الوقوف بعرفة إلى الليل إنما يجب في حق من أدرك عرفة نهاراً وأن المبيت بمزدلفة إلى بعد نصف الليل إنما يجب في حق من أدرك مزدلفة أول الليل. وقد تقدم ذكر ذلك كله والدليل عليه فيما تقدم ومن (3) أراد الوقوف فليعرج إليه.

(1) سبق تخريجه ص: 213.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1668) 2: 624 كتاب الحج، باب طواف الوداع.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1328) 2: 963 كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض.

(3)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 222