الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب أحكام الذمة
قال المصنف رحمه الله: (يلزم الإمام أن يأخذهم بأحكام المسلمين في ضمان النفس والمال والعِرض، وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حِله).
أما كون الإمام يلزمه أن يأخذ أهل الذمة بأحكام المسلمين في ضمان ما ذَكر فلأن الإسلام نسخ كل حكم يخالفه.
وأما كونه يلزمه إقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريم (1) ما يحد (2) لأجله كالقتل والزنا ونحوهما فلما روى أنس «أن يهودياً قتل جارية على أَوْضاح لها فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم» (3) متفق عليه.
وروى ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فرجمهما» (4).
ولأنه محرم في دينهم وقد التزموا حكم الإسلام فثبت في حقهم حكمه كالمسلم.
وأما كونه لا يلزمه ذلك فيما يعتقدون حله كشرب الخمر وأكل الخنزير ونكاح ذوات المحارم للمجوس فلأنهم يقرون عليه لقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا
(1) في هـ: تحريمه.
(2)
في و: ما يلحه.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (6485) 6: 2522 كتاب الديات، باب من أقاد بالحجر.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1672) 3: 1299 كتاب القسامة، باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره
…
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (6450) 6: 2510 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم، إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1699) 3: 1326 كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى.
باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يَدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} [التوبة: 29] أمر بإقرارهم على ذلك بإعطاء الجزية.
ولأنهم يقرون على كفرهم وهو أكبر من ذلك فلأن يُقروا على ذلك بطريق الأولى.
قال: (ويلزمهم التميّز عن المسلمين في شعورهم بحذف مقادم رؤوسهم وترك الفرق، وكناهم فلا يتكنوا بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي عبدالله، وركوبهم بترك الركوب على السروج وركوبهم عرضاً على الأكف، ولباسهم فيلبسون ثوباً يخالف لباسهم كالعسلي والأدكن، وشد الخرق في قلانسهم وعمائمهم، ويؤمر النصارى بشد الزنار فوق ثيابهم، ويجعل في رقابهم خواتيم الرصاص أو جلجل يدخل معهم الحمام).
أما كون الإمام يُلزم أهل الذمة التميّز عن المسلمين في الشعور والكنى والركوب واللبس فلما روى إسماعيل بن عياش عن غير واحد من أهل العلم قال: «كتب أهل الجزيرة إلى عبدالرحمن بن غنم إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعل ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنّى بكناهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنار في أوساطنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف
…
وذكر سائره» (1) رواه الخلال.
وذكر في آخره: «فكتب بذلك عبدالرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر أن امض لهم ما سألوا» .
وعن ابن عمر «أن عمر أمر بجز نواصي أهل الذمة وأن يركبوا الأكف عرضاً» (2) رواه الخلال.
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى بطوله 9: 202 كتاب الجزية، باب الإمام يكتب كتاب الصلح على الجزية.
(2)
أخرجه أبو عبيد في الأموال (137) ص: 55 باب الجزية كيف تجتبى؟ .
والأكف: جمع إكاف وهو البَردعة.
ومعنى قوله: عرضاً أن يكون رجلاه إلى جانب وظهره إلى آخر.
والأدكن الفاختي.
فإن قيل: ما صفة التميز؟
قيل: كما ذكره المصنف رحمه الله لما ورد في الحديث المذكور.
وأما كون النصارى يؤمرون بشد الزنار فوق ثيابهم فلما تقدم في حديث عبدالرحمن.
ولما روي عن عمر «أنه كتب إلى أهل الآفاق: مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن» .
وأما كونهم يجعل في رقابهم الخواتيم والجلجل يدخل معهم الحمام فليحصل به التميز في الحمام.
قال: (ولا يجوز تصديرهم في المجالس، ولا بدائتهم بالسلام. فإن سلم أحدهم قيل له: وعليكم. وفي تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان).
أما كون تصدير أهل الذمة في المجالس لا يجوز فلأن في كتابهم لعبدالرحمن بن غنم: «وأن نوقر المسلمين في المجالس، ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا الجلوس» (1).
وأما كون بدائتهم بالسلام لا يجوز فلما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدؤا النصارى واليهود بالسلام. وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه» (2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وأما كون أحدهم إذا سلم يقال له: وعليكم؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإن سلموا عليكم فقولوا: وعليكم» (3) رواه الإمام أحمد.
وأما كون تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم لا يجوز في رواية؛ فلأن بذلك يحصل الموالاة وتثبت المودة وقد نهى الله عن ذلك قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} [الممتحنة: 1]، وقال تعالى: {يا أيها الذين
(1) سبق تخريجه قريباً.
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه (1602) 4: 154 كتاب السير، باب ما جاء في التسليم على أهل الكتاب.
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (27277) 6: 389.
آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة: 51].
وأما كونه يجوز في روايةٍ فلأنه من مكارم الأخلاق وقد روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد يهودياً فأسلم» (1).
وربما كان ذلك سبباً لإيمانه.
قال: (ويمنعون تعلية البنيان على المسلمين، وفي مساواتهم وجهان. وإن ملكوا داراً عالية من مسلم لم يجب نقضها).
أما كون أهل الذمة يُمنعون تعلية بنيانهم على المسلمين فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإسلام يَعلو ولا يُعلى» (2).
ولأن في ذلك (3) رتبة على المسلمين وأهل الذمة ممنوعون من ذلك.
وأما كونهم لا تجوز مساواتهم للمسلمين في وجه فلما تقدم من قوله عليه السلام: «يعلو» (4).
ولأنهم لا يجوز مساواتهم للمسلمين في اللباس فكذلك في البنيان.
وأما كونهم يجوز مساواتهم فلأنه ليس ليستطيل على المسلمين.
وأما كونهم إذا ملكوا داراً عالية من مسلم لا يجب نقضها فلأنه لم يعل على المسلمين شيئاً.
(1) أخرجه أبو داود في سننه عن عن أنس «أن غلاما من اليهود كان مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له أبوه: أطع أبا القاسم فأسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار» (3095) 3: 185 كتاب الجنائز، باب في عيادة الذمي.
(2)
ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 1: 454 كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات
…
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 205 كتاب اللقطة، باب ذكر بعض من صار مسلماً بإسلام أبويه أو أحدهما.
(3)
في هـ: وفي ذلك.
(4)
ر الحديث السابق.
وقول المصنف: من مسلم فيه إشعار بأنه إذا ملكها من ذمي يجب نقضها وهو صحيح لأن نقضها وجب قبل البيع.
قال: (ويمنعون من إحداث الكنائس والبِيَع، ولا يمنعون رمّ شعثها، وفي بناء ما استهدم منها روايتان).
أما كون أهل الذمة يمنعون من إحداث الكنائس والبِيَع فلما روي عن ابن عباس: «أيما مصر مصّرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة» (1) رواه الإمام أحمد واحتج به.
وفي حديث عبدالرحمن بن غنم: «إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديراً ولا ولاية ولا صومعة راهب» (2).
وأما كونهم لا يمنعون رم شعثها فلأنه كتطيين سطوحها والتطيين لا يمنع منه فكذلك الرم.
وأما كونهم يمنعون بناء ما استهدم منها في رواية فلأن في حديث عبدالرحمن بن غنم: «ولا نجدد ما خرب من كنائسنا» (3).
ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام فمنعوا منه كبداء بنيانها.
وأما كونهم لا يمنعون في رواية فلأنه كَرَمِّ الشعث.
قال: (ويمنعون إظهار المنكر، وضرب الناقوس، والجهر بكتابهم. وإن صولحوا في بلادهم على إعطاء الجزية لم يمنعوا شيئاً من ذلك).
أما كون أهل الذمة يمنعون إظهار المنكر وضرب الناقوس والجهر بكتابهم فلأن في شروطهم: «أن لا نضرب نواقيسنا إلا ضرباً خفياً في جوف كنائسنا، ولا نظهر علينا صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة، ولا كتاباً في سوق المسلمين، وأن لا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور، ولا نظهر النيران في أسواق المسلمين» (4).
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 201 كتاب الجزية، باب يشترط عليهم أن لا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ولا مجمعاً
…
(2)
سبق تخريجه من كتاب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم ص: 355.
(3)
مثل السابق.
(4)
مثل السابق.
وأما كونهم لا يمنعون شيئاً من ذلك إذا صولحوا في بلادهم على إعطاء الجزية فلأن الدار دارهم لا دار الإسلام بخلاف أهل الذمة فإنهم في دار الإسلام فمُنعوا من ذلك.
قال: (ويمنعون دخول الحرم. فإن قدم رسول لا بد له من لقاء الإمام خرج إليه ولم يأذن له. فإن دخل عزر وهدد. فإن مرض بالحرم أو مات أخرج، وإن دُفن نبش إلا أن يكون قد بَلِي).
أما كون الكفار يمنعون دخول الحرم فلأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]. والمراد الحرم بدليل قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة} [التوبة: 28] يريد ضرراً بتأخر الجلَب عن الحرم دون المسجد. وبدليل قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام} [الإسراء: 1] أي من الحرم لأنه أسري به من بيت أم هانئ.
وأما كون الإمام يَخرج إلى الرسول الذي لا بد من لقاء الإمام فلأن المشرك ممنوع من دخول الحرم فإذا لم يكن بُدٌّ من الاجتماع بالإمام تعين خروجه إليه.
وأما كونه لا يأذن للرسول فلأن الدخول ممنوع منه وليس للإمام إذن في الممنوع منه.
وأما كون الرسول إذا دخل يعزر ويهدد فلهتكه الحرم بدخوله الممنوع منه. ولا بد أن يُلحظ في ذلك علمه بمنعه لأنه إذا لم يعلم ذلك يكون له عذر.
وأما كون من مرض بالحرم أو مات يُخرج فلأنه إذا لم يجز بقاؤه فيه في حياته فلأن لا يجوز بقاؤه في مرضه ومماته بطريق الأولى.
وأما كونه ينبش إذا دفن ولم يبل فلأن في ذلك وسيلة إلى إخراج الميت من الحرم أشبه ما لو لم يدفن.
وأما كونه لا ينبش إذا بلي فلأنه مع ذلك يتعذر نقله.
قال: (ويمنعون من الإقامة بالحجاز كالمدينة واليمامة وخيبر. فإن دخلوا لتجارة لم يقيموا في موضع واحد أكثر من أربعة أيام. فإن مرض لم يخرج حتى يبرأ، وإن مات دفن به. ولا يمنعون من تيماء وفيد ونحوهما. وهل لهم دخول المساجد بإذن مسلم؟ على روايتين).
أما كون أهل الذمة يمنعون من الإقامة بالحجاز فلما روى أبو عبيدة بن الجراح أن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أخرجوا اليهود من الحجاز» (1) رواه أحمد وأبو داود.
وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلا أترك فيها إلا مسلماً» (2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
والمراد الحجاز بدليل أن أحداً من الخلفاء لم يُخرج أحداً من أهل اليمن ولا أهل تيماء.
وأما قول المصنف رحمه الله: كالمدينة إلى آخره فتنبيه على أن المواضع المذكورة من الحجاز؛ لأن الحجاز سمي بذلك لأنه حجز بين تهامة ونجد وذلك موجود فيما ذكر.
وأما كونهم إذا دخلوا لتجارةٍ لم يقيموا في موضع واحد أكثر من أربعة أيام فلأن الزائد على الأربعة حدٌّ يُتم به المسافر.
وقال المصنف في المغني والكافي وصاحب النهاية فيها: لا يقيم أكثر من ثلاثة؛ لأن إذن عمر رضي الله عنه لمن دخل منهم تاجراً في إقامة ثلاثة أيام يدل على أنه لا يجوز أكثر من ذلك.
وأما كون من مرض لا يخرج حتى يبرأ فلأنه موضع ضرورة.
وأما كون من مات يدفن به فلأنه موضع حاجة.
وأما كونهم لا يمنعون من تيماء وفيد ونحوهما فلما تقدم من أن أحداً من الخلفاء لم يُخرج أحداً من ذلك.
(1) أخرجه أحمد في مسنده (1694) 1: 195.
وأخرجه الدارمي في سننه (2494) 2: 161 كتاب السير، باب إخراج المشركين من جزيرة العرب. ولم أره في أبي داود.
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه (1607) 4: 156 كتاب السير، باب ما جاء في إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب.
وأما كونهم لهم دخول المساجد بإذن مسلم على روايةٍ وهي الصحيحة في المذهب ذكره المصنف في الكافي فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد الطائف فأنزلهم بالمسجد قبل إسلامهم» (1).
وأما كونهم ليس لهم ذلك على رواية فلما روي «أن أبا موسى قدم على عمر ومعه نصراني، فأعجب عمر خطه، وقال: قل لكاتبك هذا يقرأ لنا كتابه. قال: إنه لا يدخل المسجد. قال: لِمَ. أجنب هو؟ قال: هو نصراني. فانتهره عمر» (2).
ولأن الجنب يمنع المسجد فالمشرك أولى.
(1) أخرجه أبو داود في سننه من طريق الحسن عن عثمان بن أبي العاص «أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم فاشترطوا عليه أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يُجبوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا خير في دين ليس فيه ركوع» . (3026) 3: 163 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في خبر الطائف.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 204 كتاب الجزية، باب لا يدخلون مسجداً بغير إذن.
فصل [في العشور]
قال المصنف رحمه الله: (وإن اتجر ذمي إلى غير بلده ثم عاد فعليه نصف العشر. فإن اتجر حربي إلينا أُخذ منه العشر. ولا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير. ويؤخذ كل عام مرة. وقال ابن حامد (1): يؤخذ من الحربي كلما دخل إلينا).
أما كون من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده ثم عاد يؤخذ منه نصف العشر فلما روى أنس بن مالك قال: «أمرني عمر أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر» (2) رواه الإمام أحمد.
وروي «أن عمر بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهمٍ درهماً» (3) رواه أبو عبيد في كتاب الأموال.
وأما كون من اتجر من أهل الحرب إلينا يؤخذ منه العشر فـ «لأن عمر رضي الله عنه أخذ من أهل الحرب العشر» (4) واشتهر ذلك فيما بين الصحابة وعمل به الخلفاء بعده فكان إجماعاً.
(1) في المقنع: أبو حامد.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 210 كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي إذا اتجر في غير بلده والحربي
…
(3)
أخرجه أبو عبيد في الأموال (1654) ص: 474 باب ذكر العاشر وصاحب المكس
…
(4)
أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن أنس بن سيرين أخي محمد بن سيرين قال: «جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنس بن مالك عى صدقة البصرة. فقال لي أنس بن مالك: أبعثك على ما بعثني عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقلت: لا أعمل ذلك حتى تكتب لي عهد عمر بن الخطاب الذي عهد إليك. فكتب لي: أن خذ من أموال المسلمين ربع العشر، ومن أموال أهل الذمة إذا اختلفوا للتجارة نصف العشر، ومن أموال أهل الحرب العشر» 9: 210 كتاب الجزية، باب: ما يؤخذ من الذمي إذا اتجر في غير بلده، والحربي إذا دخل بلاد المسلمين بأمان.
وأما كونه لا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير فيشمل أمرين:
أحدهما: أن النصاب معتبر فيما يُعَشّر وهو صحيح لأنه مال يجب فيه العشر أو نصف العشر فاعتبر له النصاب كزرع المسلمين.
وثانيهما: أن نصابه عشرة دنانير. وفي ذلك روايتان:
إحداهما: أن نصابه ذلك لأن ذلك مال يبلغ واجبه نصف دينار فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم.
والرواية الثانية: نصابه عشرون ديناراً لأن الزكاة لا تجب في أقل منها (1) فلم يجب فيها على الذمي شيء كاليسير. ولا فرق بين الذمي والحربي فيما ذكر بخلاف القدر المأخوذ لأن النصاب تقديري فلا يختلف إلا بنقل ولم يوجد.
وأما كون ذلك يؤخذ في كل عام مرة وهو منصوص الإمام أحمد فلما روي «أن نصرانياً جاء إلى عمر فقال: إن عاملك عشرني السنة مرتين. قال: ومن أنت؟ قال: أنا الشيخ النصراني. قال عمر: وأنا الشيخ الحنيف. ثم كتب إلى عامله أن لا يعشر في السنة إلا مرة» (2) رواه الإمام أحمد.
ولأن الجزية والزكاة إنما تؤخذ في السنة مرة واحدة فكذلك هذا.
وأما كون ذلك يؤخذ من الحربي كلما دخل إلينا على قول ابن حامد فلأنا لو أخذنا منهم مرة واحدة لا يؤمن أن يدخلوا فإذا جاء وقت السنة ولم يدخلوا فيتعذر الأخذ منهم.
(1) في هـ زيادة: فلم تجب في أقل منها
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 211 كتاب الجهاد، باب لا يؤخذ منهم ذلك في السنة إلا مرة واحدة إلا أن يقع.
وأخرجه أبو عبيد في الأموال (1684) ص: 479 باب ما يأخذ العاشر من صدقة المسلمين، وعشور أهل الذمة والحرب.
والأول أصح؛ لما ذكر. وتعذر الأخذ غير صحيح لأنه يؤخذ أول مرة يدخل ثم يكتب له بما أخذ منه فلا يؤخذ منه شيء حتى تمضي تلك السنة فإذا جاء في العام الثاني أخذ منه في أول ما يدخل وإن لم يدخل فما فات في العام الثاني شيء.
قال: (وعلى الإمام حفظهم، والمنع من أذاهم، واستنقاذ من أسر منهم).
أما كون الإمام عليه حفظ أهل الذمة والمنع من أذاهم فلأنهم بذلوا الجزية على ذلك.
وأما كونه عليه استنقاذ من أسر منهم فلأنهم جرت عليهم أحكام الإسلام وتأبد عهدهم (1) فلزمه ذلك كما يلزمه للمسلمين.
ولم يشترط المصنف رحمه الله في استنقاذ من أسر منهم كون ذلك بعد استنقاذ المسلمين وهو شرط. وإنما تركه لظهوره ولذلك اشترطه في باقي كتبه؛ لأن استنقاذ المسلم أولى من غيره.
ولأن عصمة الذمي ملحقة بعصمة المسلم فلا يستنقذ الفرع قبل الأصل.
قال: (وإن تحاكموا إلى الحاكم مع مسلم لزمه الحكم بينهم. وإن تحاكم بعضهم مع بعض، أو استعدى بعضهم على بعض خُيّر بين الحكم بينهم وبين تركهم. ولا يحكم إلا بحكم الإسلام).
أما كون أهل الذمة إذا تحاكموا مع مسلم إلى الحاكم يلزمه الحكم بينهم فلما فيه من إنصاف المسلم من غيره، أو رده عن الظلم وذلك واجب.
وأما كونهم إذا تحاكم بعضهم مع بعض، أو استعدى بعضهم على بعض يخير بين الحكم بينهم وبين تركهم فلأن الله تعالى قال:{فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42].
(1) في هـ: عددهم.
ولأنهما كافران فلم يجب الحكم بينهما كالمستأمن.
وأما كون الحاكم بينهم لا يحكم إلا بحكم الإسلام فلأن الله تعالى قال: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة: 42].
قال: (وإن تبايعوا بيوعاً فاسدة وتقابضوا لم ينقض فعلهم، وإن لم يتقابضوا فسخه سواء كان قد حكم بين حاكمهم أو لا).
أما كون ما فعل أهل الذمة مع التقابض لا ينقض فلأن فيه مشقة وتنفيراً عن الإسلام بتقدير إرادته.
وأما كونه يفسخ مع عدم التقابض فلأن مقتضى الدليل أن يحكم بينهم بحكم الإسلام لما تقدم. خص منه حالة التقابض للمشقة والتنفير فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل.
وأما قول المصنف رحمه الله: سواء كان قد حكم بينهم حاكمهم أو لا فمعناه أنهم لو ترافعوا إلى حاكمهم فألزمهم بالتقابض لا يلزم إمضاء حكمه لأن حكمه باطل ولا يجب إمضاء الباطل.
قال: (وإن تهود نصراني، أو تنصر يهودي لم يقر ولم يقبل منه إلا الإسلام أو الدين الذي كان عليه. ويحتمل أن لا يقبل منه إلا الإسلام. فإن أبى هدد وحبس. ويحتمل أن يقتل. وعنه: أنه يقر).
أما كون النصراني إذا تهود وبالعكس لا يقر على المذهب فلأنه لا يقبل منه ذلك؛ لما يأتي بعد.
وأما كونه لا يقبل منه غير الإسلام أو الدين الذي كان عليه على المذهب أيضاً فلأن الإسلام دين حق والذي كان عليه دين صولح عليه فلم يقبل منه غيرهما لاعترافه ببطلانه لأنه انتقل إلى دين باطل فلم يقر عليه أشبه ما لو انتقل إلى المجوسية.
وأما كونه يحتمل أن لا يقبل منه إلا الإسلام فلأن الدين الذي كان عليه قد اعترف ببطلانه والذي انتقل إليه كان معترفاً ببطلانه فلم يبق غير الإسلام.
وأما كون من أبى من فعل الواجب عليه يهدد ويحبس على المذهب فليأتي بذلك.
وأما كونه يحتمل أن يقتل فلأنه انتقل إلى دين لا يقر عليه أشبه المسلم إذا ارتد.
والأول أولى؛ لما تقدم.
وأما كون من تقدم ذكره يقر على الدين الذي انتقل إليه على رواية فلأنه دين يقر عليه في الجملة أشبه الذي كان عليه والذي هو عليه بالأصالة.
قال: (وإن انتقل إلى غير دين أهل الكتاب، أو انتقل المجوسي إلى غير دين أهل الكتاب لم يقر وأمر أن يسلم، فإن أبى قتل. وإن انتقل غير الكتابي إلى دين أهل الكتاب أقر. ويحتمل أن لا يقبل منه إلا الإسلام. وإن تمجس الوثني فهل يقر؟ على روايتين).
أما كون الكتابي أو المجوسي إذا انتقل إلى غير دين أهل الكتاب لا يقر عليه؛ فلأنه انتقل من دين يُقر أهله عليه إلى دين لا يقر أهله عليه فلم يقر عليه أشبه المرتد عن الإسلام.
وأما كونه يؤمر بالإسلام فلأن كل أحد مأمور بذلك لا سيما من لا كتاب له ولا شبه كتاب.
وأما كونه يقتل إذا أبى الإسلام فكالمسلم إذا ارتد.
وأما كون غير الكتابي إذا انتقل إلى دين أهل الكتاب يقر على المذهب فلأنه انتقل إلى دين هو أكمل من دينه الذي كان عليه أشبه ما لو انتقل من اليهودية إلى الإسلام.
ومعنى الكمال أنه يقر أهله عليه وتؤكل ذبائحهم وتحل مناكحتهم.
وأما كونه يحتمل أن لا يقبل منه إلا الإسلام فلأنه أقر ببطلان دينه بعد أن كان مقراً ببطلان ما سواه.
وأما كون الوثني إذا تمجس يقر على رواية فلأنه انتقل إلى (1) دين أكمل من دينه أشبه الوثني إذا تهود أو تنصر.
(1) في هـ: من.
وأما كونه لا يقر على رواية فلأنه انتقل إلى غير كتاب أشبه ما لو انتقل إلى عبادة الشمس. ويمكن الفرق بما تقدم من كون المنتقل إليه أكمل من دينه.
فصل في نقض العهد
قال المصنف رحمه الله: (وإذا امتنع الذمي من بذل الجزية، أو التزام أحكام الملة انتقض عهده).
أما كون الذمي ينتقض عهده إذا امتنع من بذل الجزية فلأن الله تعالى قال: {حتى يعطوا الجزية} [التوبة: 29] أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية.
وأما كونه ينتقض عهده إذا امتنع من التزام ملة الإسلام فلأن الإسلام نسخ كل حكم يخالفه فلا يجوز بقاء العهد مع عدم التزامه.
وقتال المسلمين ينتقض به العهد كالأمرين المذكورين؛ لأن عقد الذمة يقتضي الأمان من الجانبين والقتال ينافيه فانتقض.
قال: (وإن تعدى على مسلم بقتل أو قذف أو زنا أو قطعِ طريق أو تجسسٍ أو إيواء جاسوس أو ذكر الله تعالى أو كتابه أو رسوله بسوء فعلى روايتين).
أما كون الذي ينتقض عهده بما ذكر على المذهب فلما روي عن عمر رضي الله عنه «أنه رُفع إليه رجل أراد استكراه مسلمة على الزنا. فقال: ما على هذا صالحناكم. وأمر به فصلب في بيت المقدس» (1).
(1) عن سويد بن غفلة قال: «كنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين بالشام فأتاه نبطي مضروب مشجج مستعدي فغضب غضباً شديداً فقال لصهيب: انظر من صاحب هذا؟ فانطلق صهيب فإذا هو عوف بن مالك الأشجعي فقال له: إن أمير المؤمنين قد غضب غضباً شديداً فلو أتيت معاذ بن جبل فمشى معك إلى أمير المؤمنين فإني أخاف عليك بادرته فجاء معه معاذ فلما انصرف عمر من الصلاة
قال أين صهيب؟ فقال: أنا هذا يا أمير المؤمنين قال: أجئت بالرجل الذي ضربه؟ قال: نعم. فقام إليه معاذ بن جبل فقال: يا أمير المؤمنين إنه عوف بن مالك فاسمع منه ولا تعجل عليه. فقال له عمر: ما لك ولهذا؟ قال: يا أمير المؤمنين رأيته يسوق بامرأة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها فلم تصرع ثم دفعها فخرت عن الحمار ثم تغشاها ففعلت ما ترى قال: ائتني بالمرأة لتصدقك فأتى عوف المرأة فذكر الذي قال له عمر رضي الله عنه قال أبوها وزوجها: ما أردت بصاحبتنا فضحتها فقالت المرأة: والله لأذهبن معه إلى أمير المؤمنين فلما أجمعت على ذلك قال أبوها وزوجها: نحن نبلغ عنك أمير المؤمنين فأتيا فصدقا عوف بن مالك بما قال فقال عمر لليهودي: والله ما على هذا عاهدناكم فأمر به فصلب ثم قال: يا أيها الناس فوا بذمة محمد صلى الله عليه وسلم فمن فعل منهم هذا فلا ذمة له».
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 201 كتاب الجزية، باب يشترط عليهم أن أحدا من رجالهم إن أصاب مسلما بزنا.
وقيل لابن عمر: «إن راهباً يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لو سمعته لقتلته. إنا لم نعط الأمان على هذا» .
وعن عمر «أنه أمر عبدالرحمن بن غنم أن يلُحق في صلح أهل الجزية: ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده» (1).
ولأن في ذلك ضرراً على المسلمين أشبه الامتناع من بذل الجزية.
وأما كونه لا ينتقض على رواية فلأن هذه الأشياء لا يجب تركها عليهم فلا ينتقض عهدهم بفعلها.
والأول أولى؛ لما تقدم.
قال: (وإن أظهر منكراً، أو رفع صوته بكتابه ونحوه لم ينتقض عهده. وظاهر كلام الخرقي أنه ينتقض عهده إن كان مشروطاً عليهم).
أما كون الذمي لا ينتقض عهده بما ذكر مع عدم شرطه فلأن ذلك لا ينافي عقد الذمة.
ولأن غاية ما يقدر أنه شيء لا يجوز فعله وذلك لا يوجب نقض العهد دليله ما لو زنا معاهد بمشركة.
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى بطوله 9: 202 كتاب الجزية، باب الإمام يكتب كتاب الصلح على الجزية.
وأما كونه لا ينتقض مع شرط ترك ذلك على الأول فكما لو لم يشترط.
وأما كونه ينتقض على ظاهر كلام الخرقي؛ فلأن في كتاب صلح الجزيرة بعد استيفاء الشرط: «وإن نحن غيّرنا أو خالفنا ما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا، وقد حل لكل منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق» (1).
ولأنه عقد بشرط فزال بزوال شرطه كما لو امتنعوا من بذل الجزية.
قال: (ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقض عهده. وإذا انتقض عهده خُير الإمام فيه كالأسير الحربي. وماله فيء عند الخرقي، وقال أبو بكر: يكون لورثته).
أما كون عهد نساء من نقض عهده وعهد أولاده لا ينتقض بنقض عهده فلأن النقض وُجد منه دونهم فاختص حكمه به.
وأما كون الإمام يخير فيمن نقض عهده كالأسير الحربي؛ فـ «لأن عمر رضي الله عنه صلب الذي أراد استكراه المرأة» (2).
ولأنه كافر لا أمان له أشبه الحربي الأسير.
وأما كون ماله فيئاً عند الخرقي فلأنه قتل لنقضه العهد أشبه ما لو تركه وهرب.
وأما كونه لورثته على قول أبي بكر؛ فلأن الأمان في المال لا ينتقض بنقض العهد فيجب أن ينتقل إلى الورثة لأنه حقهم.
(1) سبق تخريجه من كتاب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم ص: 355.
(2)
سبق تخريجه ص: 368.
وقيل: الخلاف المذكور مبني على انتقاض العهد في المال بنقضه في صاحبه: فإن قيل: ينتقض كان فيئاً، وإن قيل: لا ينتقض انتقل إلى الورثة.
والله أعلم بالصواب.