المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الاعتكاف الاعتكاف في اللغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه براً - الممتع في شرح المقنع - ت ابن دهيش ط ٣ - جـ ٢

[ابن المنجى، أبو البركات]

الفصل: ‌ ‌كتاب الاعتكاف الاعتكاف في اللغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه براً

‌كتاب الاعتكاف

الاعتكاف في اللغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه براً كان أو غيره. ومنه قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187]، وقوله تعالى:{ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} [الأنبياء: 52].

قال الخليل: يقال عكف يعكُف ويعكِف.

وهو في الشرع: الإقامة في المسجد للطاعة وإياه أراد المصنف رحمه الله بقوله:

(وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى).

قال: (وهو سنة إلا أن ينذره فيجب).

أما كون الاعتكاف سنة إذا لم يُنْذر فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه (1).

فإن قيل: لم لا يكون واجباً لأن فعله للوجوب لا سيما مع المداومة؟ .

قيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر» (2) علقه بالإرادة ولو كان واجباً لما علقه بها.

وأما كونه يجب إذا نُذر فلقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (3) أخرجه البخاري.

(1) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، قال: من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، وقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر» .

أخرجه البخاري في صحيحه (1923) 2: 713 كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1167) 2: 824 كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها

(2)

لم أقف عليه بهذا اللفظ. وقد سبق ذكر حديث أبي سعيد، وفيه:«من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر» .

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6318) 6: 2463 كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة.

ص: 53

قال: (ويصح بغير صوم. وعنه لا يصح فعلى هذا لا يصح في ليلة مفردة ولا بعض يوم).

أما كون الاعتكاف بغير صوم يصح على المذهب فلما روي عن عمر أنه قال: «يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال: أوف بنذرك» (1) رواه البخاري.

وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» (2).

ولأنه يصح ابتداؤه بغير صوم فصح جميعه بغير صيام كسائر العبادات.

وأما كونه لا يصح بغيره على روايةٍ فلما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا اعتكاف إلا بصيام» (3).

ولأنه لبث في مكان مخصوص فلا يكون قربة بمجرده كالوقوف بعرفة.

وأما قول المصنف رحمه الله: فعلى هذا إلى آخره فتفريع على رواية كون الاعتكاف بغير صوم لا يصح لأن الليلة المفردة وبعض اليوم غير قابل للصوم المشترط.

والأول أصح لما تقدم. والخبر عن عائشة لا نعلم صحته وإن صح فهو محمول على نفي الكمال، والقياس نقول بموجبه وأنه يفتقر إلى النية.

قال: (ولا يجوز الاعتكاف من المرأة بغير إذن زوجها، ولا العبد بغير إذن سيده. وإن شرعا فيه بغير إذنٍ فلهما تحليلهما، وإن كان بإذن فلهما تحليلهما إن كان تطوعاً، وإلا فلا).

أما كون الاعتكاف من المرأة بغير إذن زوجها، ومن العبد بغير إذن سيده لا يجوز فلأن منافعهما مملوكة لغيرهما، وفي اعتكافهما تفويت لمنافعهما فلم يجز ذلك بغير إذن مستحق المنفعة.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6319) 6: 2464 كتاب الأيمان والنذور، باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنساناً في الجاهلية ثم أسلم.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 318 كتاب الصيام، باب من رأى الاعتكاف بغير صوم.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (2473) 2: 333 كتاب الصوم، باب المعتكف يعود المريض.

ص: 54

ولأن الاعتكاف ليس بواجب عليهما فكان لمالك المنفعة منعهما قياساً على بقية الأشياء المملوك منعها.

وأما كون الزوج والسيد لهما تحليل المرأة والعبد إذا شرعا في ذلك بغير إذنهما فلأنه شروع غير جائز متضمن لفوات حقهما فملكا تحليلهما منه ليعود حقهما إلى ما كان.

وأما كون ذلك لهما إذا شرعا بإذن إن كان الاعتكاف تطوعاً فلأن الاعتكاف المذكور لا يلزم بالشروع.

ولأن لهما منعهما ابتداء فكذلك دواماً كالمعير إذا رجع فيما أذن فيه.

وأما كونهما ليس لهما ذلك إن لم يكن الاعتكاف تطوعاً كالمنذور فلأنه يتعين بالشروع فيه ويجب إتمامه فيصير كالحج إذا (1) أذنا فيه.

وفي كلام المصنف رحمه الله إشعار بأنهما لو شرعا في اعتكاف غير تطوع بغير إذن الزوج والسيد كان لهما تحليلهما لأنه شرط في المسألة الإذن في الشروع وهو صحيح لأنهما ليس لهما الدخول في الاعتكاف البتة لتضمنه فوات حق غيرهما وقد تقدم ذكره.

قال: (وللمكاتب أن يعتكف ويحج بغير إذن. ومن بعضه حر إن كان بينهما مهايأة فله أن يعتكف ويحج في نوبته، وإلا فلا).

أما كون المكاتب له أن يعتكف ويحج بغير إذن سيده فلأن السيد لا يستحق منافعه وليس له إجباره على الكسب وإنما له دين في ذمته فهو بمنزلة الغريم.

وأما كون من بعضه حر له أن يفعل ذلك في نوبته إن كان بينهما مهايأة. وهو: أن يتفق هو ومالك بعضه أن يكون يوم له ويوم لمالك بعضه أو شهر وشهر أو سنة وسنة فلأن منافعه في تلك المدة لا يستحقها غيره بل هو بمنزلة الحر فيها فصح ذلك منه ككامل الحرية.

وأما كونه ليس له أن يفعل ذلك إذا لم يكن بينهما مهايأة فلما يتضمن من بطلان حق غيره وهو غير جائز.

(1) ساقط من ب.

ص: 55

قال: (ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد يُجَمّع فيه، إلا المرأة لها الاعتكاف في كل مسجد إلا مسجد بيتها (1). والأفضل الاعتكاف في الجامع إذا كانت الجمعة تتخلله).

أما كون الاعتكاف لا يصح في غير مسجد فلقوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187] خصه بذلك ولو صح في غيرها لم يخص تحريم الاعتكاف بالمباشرة في المساجد.

وفي حديث عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُدْخل عليّ رأسه وهو في المسجد فأُرَجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً» (2) متفق عليه.

ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة «لأن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يعتكفن في المسجد» (3) ولو صح في غيره لفعلنه ولو مرة تبييناً للصحة.

وأما كونه لا يصح من غير المرأة إلا في مسجد يُجَمَّع فيه -أي تقام فيه الجماعة- فلما روي عن عائشة أنها قالت: «لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة» (4).

وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصح» (5) فالتخصيص بهذا يدل على عدم الصحة عند عدمه.

ولأن الجماعة واجبة على الرجال والاعتكاف في مسجد لا تقام فيه الجماعة مفض إلى الخروج إلى الصلوات الخمس وذلك ينافي الاعتكاف لأنه عبارة عن لزوم المسجد والخروج في النهار خمس مرات ينافي اللزوم.

(1) في ب: إلا في مسجد بيتها.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1925) 2: 714 كتاب الاعتكاف، باب لا يدخل البيت إلا لحاجة.

وأخرجه مسلم في صحيحه (297) 1: 244 كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها

(3)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء فأذنت لها فضربت خباءً فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباءً آخر

».

أخرجه البخاري في صحيحه (1928) 2: 715 كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف النساء.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1172) 2: 831 كتاب الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معكتفه.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (2473) 2: 333 كتاب الصوم، باب المعتكف يعود المريض.

(5)

أخرجه الدارقطني في سننه (5) 2: 200 كتاب الصيام، باب الاعتكاف.

ص: 56

وأما كون المرأة لها الاعتكاف في كل مسجد غير مسجد بيتها فلأن اشتراط مسجد الجماعة في حق الرجل لأجل وجوب الجماعة عليه وذلك مفقود في المرأة.

وأما كونها ليس لها الاعتكاف في مسجد بيتها وهو الموضع الذي جعلته للصلاة من بيتها فلأنه لو جاز ذلك لاعتكف أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتهن ولو مرة واحدة تبييناً للجواز.

وأما كون الأفضل الاعتكاف في الجامع إذا كانت الجمعة تتخلله فلأنه لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة.

وتقييد المصنف رحمه الله الأفضلية بتخلل الجمعة الاعتكاف مشعر بأنه إذا لم يتخلله لم يكن الجامع أفضل من غيره لأن مدة الاعتكاف إذا كانت لا يتخللها الجمعة لا يحتاج إلى الخروج فاستوى الجامع وغيره إذن، وكونه أفضل يتضمن جواز الاعتكاف في غيره من المساجد لأنه مسجد تقام فيه الجمعة فيصح الاعتكاف فيه كمسجد الجامع.

فعلى هذا إذا فعل وجب عليه الخروج إلى الجمعة لأنها فرض عين فتقدم على الاعتكاف، ولو كان الاعتكاف منذوراً لم يبطل لأنه خروج لواجب فلم يبطل بذلك كالمعتدة تخرج لقضاء العدة.

ولأنه لو ندر أياماً فيها جمعة خرج إليها وصار كأنه استثنى الجمعة أشبه ما لو استثنى بلفظ.

قال: (ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعله في غيره، إلا المساجد الثلاثة).

أما كون من نذر ما ذكر في مسجدٍ له فعله في غيره إلا المساجد الثلاثة فلأن الله تعالى لم يعين لأداء الفرض موضعاً فلم يتعين بالنذر.

وأما كون ما ذكر في أحد المساجد الثلاثة ليس له فعله في غيرها فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجدِ الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» (1) متفق عليه.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1132) 1: 398 أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1397) 2: 1015 كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.

ص: 57

قال: (وأفضلها المسجد الحرام ثم مسجد المدينة ثم الأقصى، فإذا نذره في الأفضل لم يجز (1) في غيره، وإن نذره في غيره فله فعله فيه).

أما كون أفضل المساجد الثلاثة المسجد الحرام فلقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (2) رواه مسلم.

وأما كون مسجد المدينة أفضل من المسجد الأقصى فلدخوله فيما سوى مسجد المدينة.

وأما كون من نذر الاعتكاف أو الصلاة في الأفضل لا يجزئه في غيره فلأنه مفضول.

فعلى هذا إذا نذره في المسجد الحرام لم يجزئه في مسجد المدينة ولا الأقصى ولو نذره في مسجد المدينة لم يجزئه في الأقصى لما ذكر.

وأما من نذر ذلك في المفضول له فعله في الأفضل فلأنه أفضل.

فعلى هذا لو نذره في الأقصى جاز في مسجد المدينة والحرام لأنهما أفضل منه، ولو نذره في المدينة جاز في الحرام لأنه أفضل منه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: «يا نبي الله! إني نذرت إن فتح الله عليك مكة لأصلين في بيت المقدس. قال:

(1) في ب: يجزه.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1133) 1: 398 أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1394) 2: 1013 كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة.

وأخرجه الترمذي في جامعه (3916) 5: 719 كتاب المناقب، باب في فضل المدينة.

وأخرجه النسائي في سننه (2897) 5: 213 كتاب مناسك الحج، فضل الصلاة في المسجد الحرام.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (1404) 1: 450 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ماجاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرجه أحمد في مسنده (10280) 2: 484.

ص: 58

هاهنا فصل (1). فكرر الرجلُ والنبيُّ قولهما ثلاثاً. ثم قال: فوالذي بعث محمداً بالحق لو صليت هاهنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس» (2) رواه أحمد.

قال: (ومن نذر اعتكاف شهر بعينه لزمه الشروع فيه قبل دخول ليلته إلى انقضائه).

أما كون من نذر ما ذكر يلزمه الشروع في الاعتكاف قبل دخول ليلة الشهر فلأن الشهر يدخل بغروب الشمس ولا يتمكن من استيفاء الليل إلا أن يدخل قبل غروب الشمس بلحظة وما لا يمكن استيفاء الواجب إلا به واجب كغسل جزء من الرأس مع الوجه وإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم.

وأما كون الاعتكاف إلى انقضاء الشهر فلأن ذلك داخل في مسمى نذره وفيه تنبيه على أنه لا يلزم (3) ثلاثون يوماً بل يجزئه ذلك الشهر وإن كان ناقصاً لأن ذلك مقتضى نذره.

قال: (وإن نذر شهراً مطلقاً لزمه شهر متتابع، وإن نذر أياماً معدودة فله تفريقها إلا عند القاضي، وإن نذر أياماً وليالي متتابعة لزمه ما يتخللها من ليل ونهار)(4).

أما كون من نذر شهراً مطلقاً يلزمه شهر متتابع فلأن الشهر عبارة عن الليل والنهار فإذا أطلق اقتضى التتابع كما لو حلف لا كلمت زيداً شهراً.

وأما كون من نذر أياماً معدودة له تفريقها عند غير القاضي فلأن الأيام المطلقة توجد بدون التتابع والنذر يقتضي ما يتناوله لفظه.

وأما كونه ليس له ذلك عند القاضي فلما ذكر في الشهر: فعلى عدم اشتراط التتابع لا يدخل في نذره الليل إلا أن ينويه أو يشترطه، وعلى اشتراط التتابع يدخل الليل لما يأتي فيمن نذر أياماً متتابعة.

وأما كون من نذر أياماً أو ليالي متتابعة يلزمه ما يتخلل ذلك من ليل أو نهار فلأنه يلزمه التتابع وفاء بنذره، ومن ضرورة التتابع دخول ما يتخلل ذلك.

(1) في ب: أفضل.

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (23217) 5: 373.

(3)

في ب على أنه يلزم. بإسقاط: لا.

(4)

في ج: أو نهار.

ص: 59

فصل [في حكم خروج المعتكف]

قال المصنف رحمه الله: (ولا يجوز للمعتكف الخروج إلا إلى ما لا بد (1) منه كحاجة الإنسان والطهارة والجمعة والنفير المتعين والشهادة الواجبة والخوف من فتنة أو مرض والحيض والنفاس وعدة الوفاة ونحوه).

أما كون المعتكف لا يجوز له الخروج إلا لما لا بد (2) منه فلما روي عن عائشة أنها قالت: «السنة للمعتكف أن لا يخرج لحاجة إلا لما لا (3) بد منه» (4) رواه أبو داود.

وذلك ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إليّ رأسه فأُرَجِّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» (5) متفق عليه.

وأما قول المصنف رحمه الله: كحاجة الإنسان

إلى آخره فتمثيل لصور لا بد من الخروج إليها. والمراد بحاجة الإنسان: البول والغائط والأكل والشرب ونحو ذلك. وقد دل حديث عائشة على جواز الخروج لذلك.

وبالطهارة الغسل من الجنابة والوضوء، وقدما على الاعتكاف وإن كان منذوراً لأن الحاجة تدعو لهما. ضرورة أن الجنب لا يحل له اللبث في المسجد، والمحدث لا تصح صلاته بغير وضوء لأنهما واجبان بإيجاب الله تعالى بخلاف النذر فإنه وجب بإيجاب الناذر، والجمعة معلومة وقد تقدم ما يدل على جواز الخروج لها. وفي معنى ذلك كل واجب كالنفير المتعين والشهادة الواجبة والحيض والنفاس لأن اللبث في

(1) في ج: إلا لما لا بد.

(2)

في ب: إلا إلى لا بد.

(3)

سقط لفظ: لا من ب.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (2473) 2: 333 كتاب الصوم، باب المعتكف يعود المريض.

(5)

سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ص: 60

المسجد معهما حرام، وكذلك عدة الوفاة لأنها تجب في المنزل الذي مات الزوج وهي فيه، والخوف من فتنة أو مرض لأن ذلك مما يباح به ترك الجمعة التي يباح الخروج من الاعتكاف [لها، فلأن يباح الخروج من الاعتكاف](1) لأجله أولى.

قال: (ولا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه فيجوز، وعنه له ذلك من غير شرط).

أما كون المعتكف لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة إذا لم يشترط ذلك على المذهب فلما روت عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه» (2).

وروي عن عائشة أنها قالت: «السنة في المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة» (3) رواهما أبو داود.

ولأن عيادة المريض سنة والاعتكاف المنذور (4) واجب فلا يترك الواجب. لسنة وصلاة الجنازة إن صلى غيره عليها فليست واجبة عليه، وإن تعينت عليه يمكن فعلها في المسجد ولا وجه للخروج.

وأما كونه يجوز له ذلك على روايةٍ فلأنه يروى عن علي: «المعتكف يعود المريض ويشهد الجنازة» (5).

والأولى أصح. وما روي عن علي ليس بثابت وبتقدير ثبوته يحمل على الاعتكاف التطوع جمعاً بين قوله وبين قول عائشة: «السنة في المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة» (6).

(1) ساقط من ب.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (2472) 2: 333 كتاب الصوم، باب المعتكف يعود المريض.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (2473)، الموضع السابق.

(4)

في ب: والمنذور.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (9631) 2: 334 كتاب الصيام، ما قالوا في المعتكف ما له إذا اعتكف مما يفعله.

وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (8049) 4: 356 كتاب الاعتكاف، باب سنة الاعتكاف.

(6)

سبق تخريجه قريباً.

ص: 61

وأما كونه يجوز له ذلك إذا اشترط فلأن الاشتراط يجعل الأشياء المذكورة كالمستثناة. أشبه ما لو نذر شهراً إلا يوماً معيناً فإنه له أن يفعل ذلك كله فيه.

قال: (وله السؤال عن المريض في طريقه ما لم يعرج، والدخول إلى مسجد يُتِم اعتكافه فيه).

أما كون المعتكف له السؤال عن المريض في طريقه ما لم يعرج فلما روت عائشة قالت: «كنت أدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة» (1) متفق عليه.

ولأنه بالوقوف يترك اعتكافه، وبالسؤال لا يتركه.

وأما كونه له الدخول إلى مسجد يُتِم اعتكافه فيه فلأن المسجد لا يتعين بالاعتكاف فإذا صار إلى غيره كان له إتمام الاعتكاف فيه.

قال: (فإن خرج لما لا بد منه خروجاً معتاداً كحاجة الإنسان والطهارة فلا شيء فيه، وإن خرج لغير المعتاد في المتتابع وتطاول خُيّر بين استئنافه وإتمامه مع كفارة يمين، وإن فعله في متعين قضى. وفي الكفارة وجهان).

أما كون المعتكف إذا خرج لما لا بد منه خروجاً معتاداً كحاجة الإنسان ونحوها لا شيء فيه فلأنه خروج جائز معتاد فلم يجب فيه شيء كما لو لم يخرج.

ولأن الاعتكاف لا يخلو من ذلك فلو وجب فيه شيء لأدى إلى امتناع معظم الناس من الاعتكاف.

وأما كونه يخير بين استئناف الاعتكاف وبين إتمامه وكفارة يمين إذا خرج لغير المعتاد كالنفير والخوف والمرض ونحو ذلك وتطاول وكان الاعتكاف منذوراً متتابعاً غير معين فلأن كل واحد من الاستئناف والاتمام مع الكفارة محصل لنذره: أما الاستئناف فظاهر، وأما الاتمام مع الكفارة فلأن الكفارة تجبر ما حصل من فوات التتابع.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (297) 1: 244 كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها

ولم أره عند البخاري.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (1776) 1: 565 كتاب الصيام، باب في المعتكف يعود المريض ويشهد الجنائز.

ص: 62

وفي تقييد المصنف رحمه الله ذلك بالتطاول إشعار بأنه لو كان الزمن يسيراً لا يؤثر وهو صحيح لأن اليسير معفو عنه لقلته.

وأما كونه يقضي إذا فعل ذلك في متعين فلاستدراك ما فاته.

وأما كونه عليه الكفارة في وجه فلتركه المنذور في وقته.

وأما كونه لا كفارة عليه في وجه فلأنه خروج لا يبطل الاعتكاف أشبه الخروج لحاجة الإنسان.

قال: (وإن خرج لما له منه بد في المتتابع لزمه استئنافه، وإن فعله في معين فعليه كفارة، وفي الاستئناف وجهان).

أما كون المعتكف يلزمه الاستئناف إذا خرج لما له منه بد وكان الاعتكاف منذوراً متتابعاً فلأن الاعتكاف يبطل بالخروج لما تقدم، وإذا بطل لزم استئنافه لأنه لا يمكن فعل المنذور على وجهٍ إلا به.

وأما كونه إذا فعل ذلك في معين عليه الكفارة فلتركه المنذور في وقته.

وأما كونه عليه الاستئناف في وجه فليستدرك التتابع.

وأما كونه ليس عليه ذلك في وجه فلأنه لا يمكن استئنافه على الوجه الذي أوجبه. ضرورة أنه أوجبه في زمان معين وذلك يتعذر عوده بعد مضيه فعلى هذا يتمم ذلك الزمان ثم يقضي ما فاته.

قال: (وإن وطئ المعتكف في الفرج فسد اعتكافه، ولا كفارة عليه إلا لترك نذره. وقال أبو بكر: عليه كفارة يمين. وقال القاضي: عليه كفارة ظهار.

وإن باشر دون الفرج فأنزل فسد اعتكافه وإلا فلا).

أما كون المعتكف إذا وطئ في الفرج يفسد اعتكافه فلأن الوطء في الاعتكاف حرام لقول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة: 187] وإذا كان حراماً أفسده كالوطء في الحج والصوم.

وأما عدم وجوب الكفارة على المذهب بالوطء فلأن الاعتكاف عبادة لا تجب بأصل الشرع فلم يجب بإفساده بالوطء كفارةكالنوافل.

ولأنها عبادة لا يدخل المال في جبرانها فلم تجب الكفارة بإفسادها كالصلاة.

ص: 63

[وأما وجوب كفارة يمين على قول أبي بكر فلأنها كفارة نذر فكانت كفارة يمين كسائر الكفارات](1).

وأما وجوب كفارة الظهار على قول القاضي فلأنها كفارة وطء. أشبه وطء المظاهر.

وأما قول المصنف رحمه الله: "إلا لترك نذره" فتنبيه على أن نفي الكفارة هنا على المذهب إنما هو في نفيها بالوطء أما بغيره فلا لما تقدم من أنها تجب إذا ترك المنذور.

وأما كون من باشر دون الفرج فأنزل فسد اعتكافه وإذا لم ينزل لم يفسد فقياس على الصوم.

قال: (ويستحب للمعتكف التشاغل بفعل القرب واجتناب ما لا يعنيه، ولا يستحب له إقراء القرآن والعلم والمناظرة فيه إلا عند أبي الخطاب إذا قصد به الطاعة).

أما كون المعتكف يستحب له التشاغل بفعل القرب؛ فلأن ذلك يستحب لغير المعتكف فالمعتكف أولى.

وأما كونه يستحب له اجتناب ما لا يعنيه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (2) رواه الترمذي.

وأما كونه لا يستحب له إقراء القرآن والعلم والمناظرة فيه على قول أكثر أصحابنا؛ فلأنها عبادة شرط لها المسجد فلا يستحب فيها ذلك كالصلاة والطواف.

وأما كونه يستحب له ذلك إذا قصد به الطاعة على قول أبي الخطاب؛ فلأن نفعه يتعدى.

ولأنه قربة في نفسه أشبه الذكر. والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

(1) ساقط من ب.

(2)

أخرجه الترمذي في جامعه (2317) 4: 558 كتاب الزهد.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (3976) 2: 1315 كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة.

ص: 64