الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الفدية
قال المصنف رحمه الله: (وهي على ثلاثة أضرب:
أحدها: ما هو على التخيير، وهو نوعان:
أحدهما: يخير فيه بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بر أو نصف صاع تمر أو شعير أو ذبح شاة، وهي فدية حلق الرأس وتقليم الأظافر وتغطية الرأس واللبس والطيب. وعنه: يجب الدم إلا أن يفعله لعذر فيخير).
أما كون فدية الحلق على التخيير مع العذر فلقوله سبحانه وتعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196].
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة» (1) متفق عليه.
فإن قيل: الآية ليس فيها ذكر الحلق؟
قيل: هو محذوف تقديره فحلق ففدية، ونظيره قوله تعالى:{فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185] أي فأفطر فعدة.
وأما مع عدم العذر ففيه روايتان:
أحدهما: هي على التخيير لما تقدم.
والثانية: هي على الترتيب لأن الله تعالى خيره مع العذر فإذا زال العذر زال التخيير.
فعلى هذه يجب عليه الدم أولاً فإن لم يجد أطعم ستة مساكين.
(1) سبق تخريج حديث كعب بن عجرة ص: 99.
وأما كون الفدية صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة فلما تقدم في حديث كعب بن عجرة.
وأما كون الواجب لكل مسكين مداً من البر أو نصف صاع من غيره فلأن البر أنفع من غيره.
ولأن الكفارات البر فيها على النصف من غيره فكذلك هاهنا.
وفي بعض ألفاظ حديث كعب بن عجرة: «أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع تمر» (1).
وفي رواية أبي داود: «أطعم ستة مساكين فرَقاً من زبيب» (2). والفرَق ستة عشر رطلاً وهو ثلاثة آصع.
وأما كون فدية تقليم الأظفار وتغطية الرأس واللبس والطيب كفدية الحلق فلأن أصل الوجوب في ذلك كله ملحق بالحلق فكذلك في صفته.
قال: (الثاني: جزاء الصيد يخير فيه بين المثل أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاماً فيطعم كل مسكين مداً أو يصوم عن كل مد يوماً، وإن كان مما لا مِثْل له خُيّر بين الإطعام والصيام. وعنه: أن جزاء الصيد على الترتيب، فيجب المثل فإن لم يجد (3) لزمه الإطعام فإن لم يجده صام).
أما كون جزاء الصيد على التخيير على المذهب فلأن الله عز وجل ذكر ذلك بلفظ "أو" المقتضية للتخيير فقال سبحانه وتعالى: {ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما} [المائدة: 95].
ولأن جزاء الصيد كفارة فكانت على التخيير كفدية الأذى.
(1) أخرجه أحمد في مسنده (18145) 4: 243.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (1860) 2: 172 كتاب المناسك، باب في الفدية.
(3)
في المقنع: يجده.
وأما ما يجب فيه فيُنظر في الصيد فإن كان مما له مثل خير فيه بين ثلاثة أشياء: المثل والإطعام والصيام؛ لأن ذلك هو المذكور في الآية، وإن كان مما لا مثل له خير بين شيئين: الإطعام والصيام؛ لأن التخيير إذا وقع بين أشياء فعدم واحد بقي بين الباقي.
فعلى هذا إن اختار الإطعام فيما له مِثْل قُوّم المثل لا الصيد لأن كل متلف له مثل إذا قوم لزمت قيمة مثله دليله مال الآدمي المثلي.
وإن اختار الصيام كان اليوم في مقابلة المد لأنها كفارة دخلها الصيام والإطعام فكان اليوم في مقابلة المد ككفارة الظهار.
وإن اختار الإطعام فيما لا مثل له قُوّم الصيد لأن كل متلف غير مثلي إذا قوم لزمت قيمته دليله مال الآدمي غير المثلي.
وإن اختار الصيام فعلى ما تقدم.
وأما كون جزاء الصيد على الترتيب على روايةٍ فلأن المتعة على الترتيب وهذا آكد منها فإنه يجب بفعل محظور.
والأصح أنها على التخيير؛ لأن دليل الترتيب قياس مع وجود النص.
فصل [في الفدية الواجبة بالترتيب]
قال المصنف رحمه الله: (الضرب الثاني: على الترتيب. وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: دم المتعة والقران: فيجب الهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله، وإن صامها قبل ذلك أجزأه).
أما كون فدية التمتع على الترتيب فلقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196]. ذكره بلفظ الشرط وذلك شأن المرتَّب.
وأما كون فدية القران على الترتيب فلأن وجوبها ثابت بالقياس على فدية التمتع فكذلك صفتها.
وأما زمن الصيام فيها فعلى ضربين:
أحدهما: زمن فضيلة.
وثانيهما: زمن جواز. وذلك في الثلاثة والسبعة.
أما زمن الفضيلة في الثلاثة فبعد إحرامه بالحج بحيث يكون آخرها يوم عرفة لأنه يكون آتيا بها في الحج.
وأما زمن الجواز فبعد إحرامه بالعمرة وقبل يوم عرفة لأنه أحد إحرامي التمتع فجاز الصوم بعده كإحرام الحج.
ولأن الإحرام بالعمرة سبب الوجوب فجاز الصوم بعده وإن تخلف الوجوب كتقديم الزكاة بعد النصاب وقبل الحول، وكتقديم الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة: 196].
قيل: قد قال بعض أهل العلم معناه في أشهر الحج.
وأما زمن الفضيلة في السبعة فإذا رجع إلى أهله؛ لقوله: {إذا رجعتم} [البقرة: 196].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» (1) متفق عليه.
ولما فيه من الخروج من الخلاف.
وأما زمن الجواز فظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله إذا رجع من الحج إلى مكة لأن كل صوم واجب جاز فعله في وطن فاعله جاز في غير وطنه كسائر الفروض.
ولأنه قيل في الآية أن المراد بقوله: {إذا رجعتم} [البقرة: 196] أي من الحج.
ولأن تأخير السبعة إنما كان رخصة فإذا قدم الصوم جاز كالمريض والمسافر إذا صاما رمضان.
قال: (فإن لم يصم قبل يوم النحر صام أيام منى. وعنه: لا يصومها، ويصوم بعد ذلك عشرة أيام وعليه دم. وعنه: إن ترك الصوم لعذر لم يلزمه إلا قضاؤه، وإن أخر الهدي (2) لغير عذر فعليه مع فعله دم.
وقال أبو الخطاب: إن أخر الهدي والصوم لعذر لم يلزمه قضاؤه، وإن أخر الهدي لغير عذر فهل يلزمه دم آخر؟ على روايتين.
قال: وعندي أنه لا يلزمه مع الصوم دم بحال).
أما جواز صوم أيام منى لمن أخر صوم الثلاثة إلى ذلك ففيه روايتان:
أحدهما: يجوز لما روي عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم قالا: «لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي» (3) رواه البخاري.
وإطلاق الصحابي هذا اللفظ ينصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1606) 2: 607 كتاب الحج، باب من ساق البدن معه.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1227) 2: 901 كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع
…
(2)
في المقنع: وإن تركه.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (1894) 2: 703 كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق.
والرواية الثانية: لا يجوز؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم ستة أيام ذكر منها أيام التشريق» (1).
ولأنها لا يجوز صومها نفلاً فلا يجوز فرضاً كالعيد.
والأولى أصح لأن دليلها خاص فيقدم على العام.
ولأن الله تعالى أمر بصيام الثلاثة في الحج ولم يبق من أيام الحج إلا هذه الأيام فيتعين الصوم فيها بأمر الله تعالى.
فعلى الرواية الأولى: لا شيء عليه لأنه لم يؤخر الصوم الواجب عن محله.
وعلى الثانية: ينظر فيه فإن كان التأخير لغير عذر وجب عليه مع فعله دم لأنه أخره عن وقته أشبه ما لو أخر رمي الجمار عن أيام التشريق، وإن أخّره لعذر ففيه روايتان:
أحدهما: يلزمه دم أيضاً لما ذكر.
والثانية: لا يلزمه لمكان العذر.
وقال أبو الخطاب رحمه الله: لا يلزمه دم بحال سواء أخّره لعذر أو لغيره لأنه صوم واجب يجب بفواته القضاء.
وذكر المصنف رحمه الله في المغني قول أبي الخطاب رواية عن الإمام أحمد ثم قال فيها: وهو اختيار أبي الخطاب.
وأما إن أخّر الهدي وكان التأخير لعذر لم يلزمه شيء زائد على فعله لأنه تأخير لعذر فلم يلزمه غير فعله كسائر الهدايا الواجبة، وإن كان التأخير لغير عذر ففيه روايتان:
أحدهما: لا يلزمه شيء زائد كسائر الهدايا الواجبة.
(1) عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب» .
أخرجه أبو داود في سننه (2419) 2: 320 كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق.
وأخرجه الترمذي في جامعه (773) 3: 143 كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق.
وأخرجه النسائي في سننه (3004) 5: 252 كتاب مناسك الحج، النهي عن صوم يوم عرفة.
وأخرج أحمد في مسنده عن يونس بن شداد «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم أيام التشريق» . (16726) 4: 77.
والثانية: عليه دم آخر لأن الدم في المتعة نسك مؤقت فيلزم الدم بتأخيره عن وقته كرمي الجمار.
قال: (ولا يجب التتابع في الصيام، ومتى وجب عليه الصوم فشرع فيه ثم قدر على الهدي لم يلزمه الانتقال إليه إلا أن يشاء، وإن وجب ولم يشرع فيه فهل يلزمه الانتقال؟ على روايتين).
أما عدم وجوب التتابع في الصوم المتقدم ذكره فلأن الأمر ورد به مطلقاً وذلك لا يقتضي الجمع ولا التتابع.
ولأنه صوم واجب فلم يجب التتابع فيه كالقضاء.
وأما عدم لزوم الانتقال إلى الهدي إذا شرع في الصوم ثم قدر عليه فلأنه صوم دخل فيه لعدم الهدي، فإذا وجد الهدي لم يلزمه الخروج إليه كما لو وجد الرقبة بعد الشروع في صوم الكفارة.
وأما إذا وجب ولم يشرع فيه ففيه روايتان:
أحدهما: لا يلزمه الانتقال إليه أيضاً لأن الصيام استقر في ذمته لوجوبه حال وجود السبب المتصل بشرطه وهو عدم الهدي.
والثانية: يلزمه لأنه وجد المبدل قبل الشروع في البدل أشبه ما لو وجده حالة الوجوب.
قال: (النوع الثاني: المحصر يلزمه الهدي، فإن لم يجده (1) صام عشرة أيام ثم حل).
أما كون فدية الإحصار على الترتيب فقياس على فدية التمتع.
وأما هيئتها فدمٌ ثم صيام عشرة أيام، أما الدم فلقوله تعالى:{فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196].
وأما الانتقال إلى صيام عشرة أيام إذا لم يجد الهدي فلأنه دم واجب فكان له بدل ينتقل إليه كدم التمتع.
(1) في المقنع: يجد.
وأما قول المصنف رحمه الله: "ثم حل" فإشارة إلى أنه لا يجوز له التحلل إلا إذا فعل الواجب عليه من دم أو صيام. وسيذكر في بابه.
قال: (النوع الثالث: فدية الوطء يجب به بدنة، فإن لم يجدها صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع كدم المتعة لقضاء الصحابة به.
وقال القاضي: إن لم يجد البدنة أخرج بقرة فإن لم يجد فسبعاً من الغنم، فإن لم يجد أخرج بقيمتها طعاماً، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما. وظاهر كلام الخرقي أنه مخير في هذه الخمسة فبأيّها كفّر أجزأه).
أما وجوب البدنة بالوطء فلأن ابن عباس رضي الله عنهما قال للواطئ: «اهد ناقة ولتهد ناقة» (1).
وأما الانتقال إلى صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع على المذهب إذا لم يجد الهدي فـ «لأن العبادلة أفتوا بذلك لمن لم يجد الهدي» رواه الأثرم.
وأما الانتقال إلى البقرة على قولٍ فلأنها أقرب شبهاً بها.
وأما وجوب سَبْع من الغنم إذا لم يجد البقرة فلأن ذلك يجزئ عن سبعة أشبه البدنة.
وأما إخراجه بالقيمة طعاماً. ومعناه: أنه يشتري بها ذلك ويتصدق، وصومه عن كل مد يوماً إذا لم يجد الإطعام فلأنها بدنة وجبت عليه لم يمكن أداء الواجب فوجب أن ينتقل إلى التقويم والشراء والتصدق ثم إلى الصوم المذكور كالبدنة الواجبة في فدية النعامة.
وأما الخيرة على ظاهر كلام الخرقي بين إخراج البدنة والبقرة وسَبْع من الغنم والإطعام والصوم فلأن بعضها قريب من بعض، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن البقرة:«وهل هي إلا من البدن» (2).
(1) سبق تخريجه ص: 123.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (1318) 2: 955 كتاب الحج، باب الاشتراك في الهدي
…
عن جابر رضي الله عنه قال: «كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل له: والبقرة فقال: وهل هي إلا من البدن» . ولم أره عن ابن عباس.
وقال صاحب النهاية فيها: منشأ الخلاف -يعني بين القاضي والخرقي- أن الوطء هل هو من قبيل الاستمتاعات أم من قبيل الاستهلاكات؟
فعلى هذا إن قيل أنه من قبيل الاستمتاع وجب أن يكون كفارته على التخيير لأن اللبس والطيب استمتاع، وهما على التخيير على الصحيح.
وإن قيل: أنه من قبيل الاستهلاكات وجب أن يكون على الترتيب على الصحيح.
فإن قيل: هي على الترتيب لم يجز أن يخرج واحد مما ذكر مع وجود الذي قبله.
وإن قيل: هي على التخيير فله التكفير بما شاء من الخمسة؛ لأن هذا شأن الواجب المخيرة.
إذا تم شرح كلام المصنف رحمه الله فاعلم أن الانتقال من البدنة إلى الصيام لم أجد به قولاً لأحمد ولا لأحد من الأصحاب وكأنه والله أعلم قد اختاره لما فيه من موافقة العبادلة إلا أن فيه نظراً نقلاً وأثراً.
أما النقل فهو أن المصنف رحمه الله قال في المغني في مسألة: وإن وطئ المحرم في الفرج فأنزل أو لم ينزل فسد حجهما وعليه بدنة ويجب على المجامع بدنة. روي ذلك عن ابن عباس، فإن لم يجد فشاة. وأيضاً فإنه هنا شبّه فدية الوطء بفدية المتعة، والشبه إنما يكون في ذات الواجب أو في نفس الانتقال. ويرد على الأول أنه لا يجب فيها بدنة بل شاة وعلى الثاني أنه لا يجوز الانتقال في المتعة مع القدرة على الشاة.
وأما الأثر فإن المروي عن العبادلة أن من أفسد حجه أفتوه إذا لم يجد الهدي انتقل إلى صيام عشرة أيام ولا يلزم في حق من لم يجد بدنة أن يقال عنه لم يجد الهدي لأنه قد لا يجد بدنة ويجد بقرة أو شاة.
قال: (ويجب بالوطء في الفرج بدنة إن كان في الحج وشاة إن كان في العمرة. ويجب على المرأة مثل ذلك إن كانت مطاوعة، وإن كانت مكرهة فلا فدية عليها. وقيل: يلزمها كفارة يتحملها الزوج عنها).
أما وجوب البدنة بالوطء في الحج؛ فلأن ذلك يروى عن ابن عباس (1).
(1) سبق تخريجه ص: 125.
وأما وجوب شاة بالوطء في العمرة فلأن العمرة أحد النسكين فوجب أن يجب بالوطء فيه شيء كالآخر وإنما لم تجب البدنة لأن حكم العمرة أخف.
وأما وجوب مثل ذلك على المرأة إذا كانت مطاوعة فلأن الأصل مساواة الرجل المرأة ما لم يقم دليل على التخصيص.
ولأنه جاء في حديث ابن عباس: «اهد ناقة ولتهد ناقة» (1).
وأما عدم وجوب الفدية عليها إذا كانت مكرهة على المذهب فلقوله صلى الله عليه وسلم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (2).
وأما لزوم ذلك للمرأة على قولٍ فلحصول الوطء.
وأما كون الزوج يتحملها فلأنه سبب لأن لزمها ذلك فوجب أن يتحملها عنها.
(1) سبق تخريجه ص: 123.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه (2043) 1: 659 كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي. من حديث أبي ذر رضي الله عنه. بلفظ: «إن الله تجاوز عن أمتي
…
». وفي (2045) عن ابن عباس بلفظ: «إن الله وضع عن أمتي
…
».
فصل [في الدماء الواجبة للفوات]
قال المصنف رحمه الله: (الضرب الثالث: الدماء الواجبة للفوات أو لترك واجب أو للمباشرة في غير الفرج، فما وجب منه بدنة فحكمها حكم البدنة الواجبة بالوطء في الفرج، وما عداه فقال القاضي: ما وجب لترك واجب ملحق بدم المتعة، وما وجب للمباشرة ملحق بفدية الأذى).
أما كون حكم البدنة الواجبة بشيء مما ذكر حكم البدنة الواجبة في الوطء فلأنها بدنة وجبت بسببٍ في إحرامه أشبهت البدنة الواجبة في الوطء.
ومعنى قوله: حكمها حكم البدنة الواجبة في الوطء أنه يجب عليه بدنة فإن لم يجد انتقل إلى صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع على المذهب، وعلى قول القاضي إن لم يجد البدنة ذبح بقرة، فإن لم يجد فسَبْعاً من الغنم، فإن لم يجد أخرج بقيمة البدنة طعاماً، فإن لم يجد صام عن كل مد يوماً.
وعلى ظاهر قول الخرقي أنه مخير في هذه الخمسة كما خير فيها إذا كان سبب ذلك الوطء.
وأما كون حكم ما وجب لترك واجب كترك الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيت بمزدلفة، والرمي، والمبيت بمنى لياليها، وطواف الوداع حكم دم المتعة فلأن دم المتعة وجب لترفهه بأحد السفرين فيقاس عليه كل دم واجب.
وأما كون حكم ما وجب للمباشرة كالقبلة واللمس والوطء في العمرة والوطء في الحج بعد الجمرة حكم فدية الأذى كالحلق وتقليم الأظافر فلأنه في معناه فيقاس عليه.
قال: (ومتى أنزل بالمباشرة دون الفرج فعليد بدنة، وإن لم ينزل فعليه شاة. وعنه: بدنة).
أما وجوب البدنة بالإنزال عن المباشرة دون الفرج فلأنه جماع اقترن به الإنزال فأوجب بدنة كما لو كان في الفرج.
وأما إذا لم ينزل ففيه روايتان:
أحدهما: عليه شاة لأنه هتك إحرامه بذلك الفعل فوجب عليه شاة كما لو تطيب.
والثانية: عليه بدنة لأنه استمتاع فأوجب بدنة كما لو أنزل.
قال: (وإن كرر النظر فأنزل أو استمنى فعليه دم، هل هو بدنة أو شاة؟ على روايتين. وإن مذى بذلك فعليه شاة، وإن فكر فأنزل فلا فدية عليه).
أما وجوب الدم على من كرر نظره فأنزل أو استمنى فلأنه هتك إحرامه بذلك أشبه ما لو أنزل بالمباشرة.
وأما ما هو فيه؟ روايتان:
أحدهما: أنه بدنة؛ لأنه يروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما (1).
والثانية: أنه شاة؛ لأنه إنزال بفعل محظور فوجبت به شاة كالإنزال باللمس.
ولأنه يروى عن ابن عباس أيضاً (2).
وأما وجوب الشاة على من مذى بما تقدم ذكره فلأن للمذي جزء من المني أشبه ما لو أمنى.
فإن قيل: هل يشمل ذلك المباشرة؟
قيل: لا؛ لأن المباشرة بدون إنزال مني أو مذي موجبة لبدنة أو شاة على ما ذكر من الاختلاف فلا حاجة إلى ذكر المذي في إيجاب الشاة لأنها أقل ما تجب بدونه.
(1) سبق تخريجه ص: 125.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (13092) 3: 161 كتاب الحج، كم عليهما: هدياً واحداً أو اثنين؟ .
وأما عدم وجوب الفدية على من فكر فأنزل فلأن الفكرة تعرض للمرء من غير إرادة ولا اختيار فلا يتعلق بها حكم كما لو فكر فأنزل وهو صائم.
فصل [فيمن كرر محظورا]
قال المصنف رحمه الله: (ومن كرر محظوراً من جنسٍ مثل: إن حلق ثم حلق، أو وطئ ثم وطئ قبل التكفير عن الأول فكفارة واحدة، وإن كفر عن الأول لزمته للثاني كفارة).
أما عدم لزوم التكفير بالثاني إذا لم يكفر عن الأول فلأنهما كفارتان فتداخلتا كالمهر والحد.
وأما لزوم كفارة ثانية إذا كفر عن الأول فلأنه حلقٌ أو وطءٌ صادف إحراماً فوجبت به كفارة ثانية كالأول.
قال رحمه الله: (وإن قتل صيداً بعد صيد فعليه جزاؤهما. وعنه: عليه جزاء واحد).
أما تعدد الجزاء بتعدد قتل الصيد على الرواية الأولى فلأن جزاء الصيد كفارة عن قتل فاستوى فيها المبتدئ والعائد كقتل الآدمي.
وأما وجوب جزاء واحد وإن تعدد القتل على الرواية الثانية فلأن الله سبحانه قال: {ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة: 95] ولم يوجب جزاء ثانياً.
ولأن جزاء الصيد كفارة فتتداخل كالحلق.
والرواية الأولى أصح لما تقدم. وذكر العقوبة في الثاني لا يمنع الوجوب كما قال تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 275] وقد ثبت أن العائد لو انتهى كان له ما سلف وأمره إلى الله. ولا يصح قياس جزاء الصيد على غيره لأن جزاءه مقدر به ويختلف بصغره وكبره. ولو أتلف صيدين معاً وجب جزاؤهما معاً بخلاف غيره من المحظورات.
قال: (وإن فعل محظوراً من أجناس فعليه لكل واحد فداء. وعنه: عليه فدية واحدة).
أما تعدد الفداء بتعدد جنس المحظورات كمن حلق وقلّم ولبس فلأن الصادر منه فعل محظورات من أجناس فلم تتداخل كالحدود المختلفة.
وأما وجوب فدية واحدة على الرواية الثانية فلأن ذلك فعل محظور فلم يتعدد كالجنس الواحد.
قال: (وإن حلق أو قلم أو وطئ أو قتل صيداً عامداً أو مخطئاً فعليه الكفارة. وعنه: في الصيد لا كفارة إلا في العمد، ويخرج في الحلق مثله. وإن لبس أو تطيب أو غطى رأسه ناسياً فلا كفارة فيه، وعنه: عليه الكفارة).
أما عدم الفرق بين العمد والخطأ في وجوب الكفارة على الصحيح من المذهب فيما إذا حلق أو قلم أو قتل فلأن الحلق والتقليم والقتل إتلاف فاستوى عمده وسهوه كإتلاف مال الآدمي.
وأما عدم الفرق بينهما إذا وطئ فلأنه معنى يتعلق به قضاء فاستوى عمده وسهوه كالفوات.
وأما عدم وجوب الكفارة فيما إذا قتل صيداً مخطئاً على روايةٍ فلأن الله سبحانه وتعالى قال: {ومن قتله منكم متعمداً} [المائدة: 95] شرط التعمد فدل على أنه لا جزاء في الخطأ.
وأما تخريج مثل ذلك في الحلق فلأنه محرم بسبب في إحرامه أشبه الصيد.
ولم يذكر المصنف رحمه الله التخريج في التقليم والوطء وهما مثله لأن التقليم تبع له والوطء في معناه.
وأما وجوب الكفارة على من لبس أو تطيب أو غطى رأسه ناسياً ففيه روايتان:
أحدهما: لا تجب لما روى يعلى بن أمية رضي الله عنه «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه جبة وعليه أثر خلوق. فقال: يا رسول الله! كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟
فقال: اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك أثر الخلوق» (1). أمره بالخلع والغسل ولم يأمره بفدية لجهله فيجب أن يكون الناسي كذلك لأنه في معناه.
والثانية: تجب عليه؛ لأنه فعلٌ حرمه الإحرام فاستوى عمده وسهوه كالحلق.
والأول المذهب للحديث المتقدم ذكره. والفرق بين الحلق والتقليم والوطء والقتل وبين اللبس والطيب والتغطية أن الحالق والمقلم والواطئ والقاتل لا يمكنه تلافي ما فعل بخلاف اللابس والمتطيب والمغطي فإنه يمكنه ذلك بخلعه وإزالة الطيب.
قال: (ومن رفض إحرامه ثم فعل محظوراً فعليه فداؤه).
أما وجوب الفداء على من فعل محظوراً بعد رفضه إحرامه فلأنه فعل محظوراً في إحرامه؛ لأن الإحرام لا يفسد بالرفض؛ لأن الحج عبادة لا يخرج منها بالفساد فلا يخرج منها بالرفض بخلاف سائر العبادات.
وأما المعنيّ برفض الإحرام فقطع بقية النسك.
قال: (ومن تطيب قبل إحرامه في بدنه فله استدامة ذلك في إحرامه، وليس له لبس ثوب مطيب، وإن أحرم وعليه قميص خلعه ولم يشقه، فإن استدام لبسه فعليه الفدية).
أما إباحة استدامة الطيب في الإحرام إذا تطيب في بدنه قبل إحرامه فلما تقدم من قول عائشة رضي الله عنها: «كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يحل» (2). و «كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم» (3).
وفي قول المصنف رضي الله عنه: ومن تطيب قبل إحرامه في بدنه إشعار بأنه لو تطيب قبل إحرامه في ثوبه لا يباح له ذلك وسيذكر حكمه بعدُ إن شاء الله تعالى.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4700) 4: 1906 كتاب فضائل القرآن، باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1180) 2: 837 كتاب الحج، باب ما يباح بحج أو عمرة
…
(2)
سبق تخريجه ص: 86.
(3)
سبق تخريجه ص: 86.
وأما كون المحرم ليس له لبس ثوب مطيب فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس» (1) متفق عليه.
وأما خلعه القميص من غير شق إذا أحرم وعليه ذلك فلما روى يعلى بن أمية «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تَضَمَّخ بطيب؟ فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً ثم سكت فجاءه الوحي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما الطيب الذي بك فاغسله وأما الجبة التي عليك فانزعها
…
مختصر» (2) رواه مسلم.
ولأن في شق الثوب إضاعة ماليته و «قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال» (3).
وأما وجوب الفدية على من استدام لبس ذلك فلأن استدامة اللبس تسمى لبساً بدليل قولهم: لبست شهراً. ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الجبة المُضَمّخَة بالطيب بنزعها. وبوجوب الفدية يظهر أنه يحرم على من أحرم في ثوب مطيب استدامة ذلك لأن الفدية لا تجب في فعل مباح.
قال: (وإن لبس ثوباً كان مطيباً وانقطع ريح الطيب منه وكان بحيث إذا رش فيه ماء فاح ريحه فعليه الفدية).
أما وجوب الفدية على من لبس ثوباً شأنه ما ذكره المصنف رحمه الله؛ فلأنه لبس ثوباً مطيباً فوجب عليه الفدية كالذي يظهر ريحه من غير رش.
وأما عدم وجوبها إذا انقطع ريح الطيب بحيث إذا رش فيه ماء لا يفوح له رائحة؛ فلأنه يَصدق عليه أنه غير مطيب الآن. فوجب أن لا يلزمه فدية كالذي ما تطيب بالأصالة.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1468) 2: 559 كتاب الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1177) 2: 835 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح
…
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (1180) 2: 837 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح
…
(3)
سبق تخريجه ص: 106.
فصل [في موضع إخراج الفدية]
قال المصنف رحمه الله: (وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم (1) إلا فدية الأذى واللبس والطيب ونحوها إذا وجد سببها في الحل فيفرقها حيث وجد سببها. ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر، وأما الصيام فيجزئه بكل مكان).
أما كون الهدي والإطعام غير ما استثني لمساكين الحرم فلقوله سبحانه: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة: 95]، وقوله:{ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33].
والمراد بمساكين الحرم أهله ومن كان وارداً إليه كالحاج: فأما أهله فلا إشكال فيهم، وأما الوارد فلأنه قد حل فيه أشبه أهله. ويشترط فيه أن يكون المدفوع إليه ممن يجوز دفع الزكاة إليه؛ لأن ذلك حق واجب فلم يجز دفعه إلى غير من يجوز دفع الزكاة إليه كالزكاة.
وأما كون فدية الأذى واللبس ونحوها كالتقليم والطيب تخرج حيث وجد سببها حلاً كان أو حرماً فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة بالفدية في الحديبية (2) ولم يأمره ببعثها إلى الحرم.
و«لأن الحسين بن علي رضي الله عنهما حلق رأسه على الوجع ونحر عنه جزوراً بالسُّقْيَا» (3) رواه الأثرم.
ولم يعرف لهم مخالف فكان كالإجماع.
(1) في المقنع: لمساكين الحرم إذا قدر على إيصاله إليهم.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (1720) 2: 644 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب قول الله تعالى:{أو صدقة} وهي إطعام ستة مساكين.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1201) 2: 859 كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى
…
(3)
أخرجه مالك في الموطأ (165) 1: 311 كتاب الحج، باب جامع الهدي.
وأما كون دم الإحصار حيث أحصر فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما أحصروا بالحديبية ذبحوا بها البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» (1).
ولأنه موضع تحلله فكان موضع ذبحه كالحرم.
وأما إجزاء الصيام بكل مكان فلأن الصيام لا يتعدى نفعه إلى أحد فلا معنى لتخصيصه بمكان، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما:«الدم والطعام بمكة والصوم حيث شاء» (2).
قال: (وكل دم ذكرناه يجزئ فيه شاة أو سُبُع بدنة، ومن وجبت عليه بدنة أجزأته بقرة).
أما إجزاء الشاة فلأنه إذا أجزأ سبع البدنة وهو بعض دم فلأن تجزئ الشاة وهي دم كامل بطريق الأولى.
وأما إجزاء سبع البدنة فلأن جابراً رضي الله عنه قال: «كنا ننحر البدنة عن سبعة» (3).
وأما إجزاء البقرة عمن وجبت عليه بدنة فلأن تكملة حديث جابر رضي الله عنه: «أنه قيل له: والبقرة فقال: وهل البقرة إلا من البدن» (4).
ولأنها تقوم مقامها في الإجزاء عن سبعة في الأضحية فكذلك هاهنا.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1318) 2: 955 كتاب الحج، باب الاشتراك في الهدي، وإجزاء البقرة والبدنة كل منهما عن سبعة. عن جابر رضي الله عنه.
(2)
لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن طاووس قال: «ما كان من دم فبمكة أو صدقة أو جزاء صيد والصوم حيث شئت» (13287) 3: 179 كتاب الحج، في المحرم تجب عليه الكفارة أين تكون؟ .
(3)
سبق تخريجه قريباً.
(4)
سبق تخريج حديث جابر قريباً.