الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب البيع
البيع جائز بالكتاب والسنة والمعنى والإجماع: أما الكتاب فقول الله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275]، وقوله تعالى:{وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282]، وقوله تعالى:{إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29]، وقوله تعالى:{ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة: 198].
وأما السنة فروى رفاعة «أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون. فقال: يا معشر التجار! فرفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه. فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فُجَّاراً إلا من بَرَّ وصَدق» (1) قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: «التاجرُ الصدوقُ الأمينُ معَ النبيينَ والصديقينَ والشهداءِ» (2). قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وأما المعنى؛ فلأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وصاحبه (3) لا يبذله بغير عوض ففي تجويز البيع طريق إلى وصول كل واحد منهما إلى غرضه ودفع حاجته.
وأما الإجماع فأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة.
قال المصنف رحمه الله: (وهو مبادلة المال بالمال لغرض التملك. وله صورتان:
إحداهما: الإيجاب والقبول؛ فيقول البائع: بعتك أو ملكتك ونحوهما، ويقول المشتري: ابتعت أو قبلت وما في معناهما).
أما قول المصنف رحمه الله: وهو مبادلة المال بالمال لغرض التملك فبيان لمعنى البيع في اللغة. واشتقاقه من الباع لأن كل واحد من المتعاقدين يمد باعه للأخذ والإعطاء.
(1) أخرجه الترمذي في جامعه (1210) 3: 515 كتاب البيوع، باب ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2146) 2: 726 كتاب التجارات، باب التوقي في التجارة.
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه (1209) الموضع السابق.
وأخرجه الدارمي في سننه (2535) 2: 170 كتاب البيوع، باب في التاجر الصدوق.
(3)
ساقط من هـ.
وأما في الشرع فقيل: هو عبارة عن الإيجاب والقبول. وزاد القاضي: إذا تضمن عينين للتمليك.
قال المصنف في المغني: وهو قاصر -يعني حد القاضي- إذ يخرج منه المعاطاة ويدخل فيه عقود سوى البيع.
وأما قوله: وله صورتان فمعناه أنه ينعقد بكل واحدة من الصورتين المذكورتين.
وأما كونه ينعقد بالإيجاب والقبول؛ فلأنه صريح فيه فانعقد به كسائر الصرائح.
والإيجاب هو: الصادر من قبل البائع، والقبول: هو الصادر من قبل المشتري.
وأما قوله: فيقول البائع
…
إلى آخره فتفسير للإيجاب والقبول.
وينعقد البيع بما صرح به المصنف وبكل قول يدل عليه لدلالته على المقصود.
قال: (فإن تقدم القبول الإيجاب جاز في إحدى الروايتين، وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه، وإلا فلا).
أما كون تقدم القبول الإيجاب يجوز في روايةٍ؛ فلأن المعنى حاصل بذلك فوجب أن يجوز كما لو تأخر.
وأما كونه لا يجوز في روايةٍ؛ فلأن القبول رتبته التأخر فلم يجز تقدمه كما لو تقدم في النكاح.
وذكر المصنف في المغني أنه إن تقدم بلفظ الاستفهام مثل أن يقول: أتبيعني ثوبك بكذا؟ فيقول: بعتك لم يصح لأنه ليس بقبول ولا استدعاء، وإن تقدم بلفظ الماضي مثل أن يقول: ابتعت منك فيقول: بعتك صح لأنه متضمن معنى القبول حقيقة.
وقال أبو الخطاب: فيه رواية أنه لا يصح قياساً على تقدمه بلفظ الطلب.
وإن تقدم بلفظ الطلب مثل أن يقول: بعني ثوبك فيقول: بعتك فذكر القاضي فيه روايتين:
إحداهما: يصح؛ لأن ذلك يتضمن معنى القبول فصح كما لو كان بلفظ الماضي.
والثانية: لا يصح؛ لأنه لفظ لو تأخر عن الإيجاب لم يصح به البيع فلم يصح إذا تقدم كلفظ الاستفهام.
ولأنه عقد عري عن القبول فلم يصح كما لو لم يطلب.
وأما كون القبول إذا تراخى عن الإيجاب يصح ما دام المتبايعان في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطع البيع؛ فلأن المجلس مُنَزّلٌ منزلة العقد في كثير من الأحكام فليكن هاهنا كذلك.
وأما كونه لا يصح إذا تراخى عن الإيجاب حتى انقضى المجلس؛ فلأنه لما بَعُد صار كلا قبول.
وأما كونه لا يصح إذا تشاغلا بما يقطعه؛ فلأنهما إذا تشاغلا بذلك صارا كالمعرضين عن البيع فلم يصح بعد ذلك كما لو صرح بالرد.
قال: (والثانية: المعاطاة مثل (1) أن يقول: أعطني بهذا الدينار خبزاً فيعطيه ما يرضيه، أو يقول البائع: خذ هذا بدرهم فيأخذه. وقال القاضي: لا يصح هذا إلا في الشيء اليسير).
أما كون الصورة الثانية من صور البيع: المعاطاة. وهي منصوص الإمام أحمد واختيار المصنف؛ فلأن البيع موجود قبل الشرع وإنما الشرع علق عليه أحكاماً ولم يعين له لفظاً فيجب أن يرجع فيه إلى العرف كالقبض والحِرْز.
(1) في هـ: وهو.
ولأن المسلمين في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة استعمال إيجاب وقبول في بياعاتهم ولو كانوا يستعملون ذلك في جميع بياعاتهم لنقل نقلاً شائعاً.
ولأن البيع مما تعم به البلوى فلو اشترط له ذلك لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً (1) عاماً شافياً ولم يخف حكمه؛ لأنه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيراً.
وأما قول المصنف رحمه الله: مثل أن يقول
…
إلى فيأخذه؛ فبيان لصورة المعاطاة.
وأما كون المعاطاة لا تصح في الشيء الكثير على قول القاضي؛ فلأن البيع عقد معاوضة فكان الإيجاب والقبول من شروطه كالنكاح.
وأما كونها تصح في الشيء اليسير؛ فلأن اعتبار ذلك فيه يشق فيسقط دفعاً للمشقة.
(1) ساقط من هـ.
فصل [في شروط البيع]
قال المصنف رحمه الله: (ولا يصح إلا بشروط سبعة:
أحدها: التراضي به، وهو أن يأتيا به اختياراً، فإن كان أحدهما مكرهاً لم يصح إلا أن يكره بحقٍّ كالذي يكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه).
أما كون البيع لا يصح إلا بشروط سبعة فلما يأتي ذكره في مواضعها.
وأما (1) كون أحد الشروط السبعة: التراضي من كل واحد من البائع والمشتري إذا لم يكن ذلك واجباً عليهما فلقوله تعالى: {إلاّ أنْ تكونَ تِجَارَةً عن تراضٍ منكم} [النساء: 29].
ولأن حق كل واحد منهما متعلق بماله فلم يجز إزالة ملكه عنه بغير رضاه. وإلى مثل هذا وقعت الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه» (2).
وأما قول المصنف رحمه الله: وهو أن يأتيا به اختياراً فتفسير للتراضي منهما.
وأما كون البيع لا يصح إذا كان أحد المتبايعين مكرهاً بغير حق؛ فلأن تراضيهما شرط ولم يوجد.
وأما كون التراضي في المكره بحق كالذي ذكره المصنف رحمه الله لا يشترط؛ فلأن المراد (3) حصول وفاء الدين فلو منع الإكراهُ صحتَه لاتخذ ذلك من عليه الدين وسيلة إلى عدم الوفاء.
(1) في هـ: أما.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (20714) 5: 72.
وأخرجه الدارقطني في سننه (92) 3: 26 كتاب البيوع. كلاهما عن أبي حرة الرقاشي عن عمه.
(3)
في و: الغرض.
فصل [الشرط الثاني]
قال المصنف رحمه الله: (الثاني: أن يكون العاقد جائز التصرف، وهو: المكلف الرشيد، إلا الصبي المميز والسفيه فإنه يصح تصرفهما بإذن وليهما في إحدى الروايتين، ولا يصح بغير إذنه إلا في الشيء اليسير).
أما كون ثاني الشروط (1) السبعة لصحة البيع: أن يكون العاقد غير الصبي والسفيه جائز التصرف؛ فلأن البيع قولٌ يشترط له الرضى فاشترط في عاقده جواز التصرف كالإقرار.
وأما قول المصنف رحمه الله: وهو المكلف الرشيد فتفسير لجائز التصرف. والمراد بالمكلف العاقل البالغ.
فعلى هذا لا يصح بيع طفل ولا مجنون ولا سكران ولا نائم ولا مبرسم ولا شراءه؛ لأن كل واحد منهم لا عقل له.
وأما كون تصرف الصبي المميز والسفيه بإذن وليهما يصح في روايةٍ: أما في الصبي فلقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} [النساء: 6] أي اختبروهم وإنما يتحقق الاختبار بتفويض البيع والشراء إليه.
ولأنه عاقل فصح تصرفه بإذن وليه وإن كان محجوراً عليه كالعبد.
وأما في السفيه؛ فلأنه إذا صح تصرف المميز بإذن وليه؛ فلأن يصح تصرف السفيه بإذن وليه بطريق الأولى.
وأما كونه لا يصح في روايةٍ؛ فلما تقدم في غيرهما.
وأما كونه لا يصح بغير إذن وليهما في الشيء الكثير؛ فللدلالة على اشتراط جواز التصرف السالم عن معارضة دليل صحة تصرفهما بإذن وليهما.
(1) في هـ: أما كون الثاني من الشروط.
وأما كونه يصح في الشيء اليسير؛ فلأن الحكمة الحاملة على الحجر عليهما خوف ضياع مالهما بتصرفهما وذلك في اليسير مفقود.
وعن أبي الدرداء «أنه اشترى من صبي عصفوراً وأطلقه» .
فصل [الشرط الثالث]
قال المصنف رحمه الله: (الثالث: أن يكون المبيع مالاً وهو ما فيه منفعة مباحة من غير ضرورة، فيجوز بيع البغل والحمار ودود القز وبزره والنحل منفرداً وفي كواراته).
أما كون ثالث الشروط (1) السبعة لصحة البيع: أن يكون المبيع مالاً؛ فلأنه مقابل بالمال.
ولأن البيع مبادلة المال بالمال.
وأما قول المصنف رحمه الله: وهو ما فيه منفعة مباحة من غير ضرورة فتفسير للمال. وفي تقييده بما فيه منفعة احتراز عما لا نفع فيه كالحشرات، وفي تقييد المنفعة بالإباحة احتراز عما فيه منفعة محرمة كالخمر والخنزير، وفي تقييد الإباحة بغير ضرورة احتراز عما فيه منفعة مباحة للضرورة كالكلب. ولو قال المصنف رحمه الله: لغير حاجة كان جيداً لأن اقتناء الكلب يحتاج إليه ولا يضطر إليه.
وأما كون بيع البغل والحمار يجوز؛ فلأنهما يشتملان على جميع ما ذكر.
ولأن الناس يتبايعونهما من الأعصار المتقدمة من غير نكير فكان ذلك كالإجماع.
وأما كون بيع دود القز يجوز؛ فلأنه يشتمل على ما ذكر.
ولأنه حيوان يجوز اقتناؤه لغرض التملك لما يخرج منه أشبه البهائم.
وأما كون بيع بزره يجوز؛ فلأنه منتفع به في المال أشبه ولد الفرس.
وأما كون بيع النحل يجوز؛ فلأنه يشتمل على ما ذكر.
(1) في هـ: أما كون الثالث من الشروط.
ولأنه حيوان طاهر يخرج من بطونه شراب فيه منافع للناس فجاز بيعه كبهيمة الأنعام. ولا فرق بين كونها منفردة مشاهدة وبين كونها في كواراتها لإمكان مشاهدتها بفتح رأسها.
وقال القاضي: لا يجوز لأن بعضها لا يشاهد وهو أميرها.
ولأنها لا تخلو من عسل يكون مبيعاً وهو مجهول.
والأول أولى لما ذكر لأن خفاء البعض لا يمنع الصحة كبيع الصبرة، وكما لو باع شيئاً في وعاء لا يشاهد إلا ظاهره.
ولأن ما فيه من العسل يدخل تبعاً ولا تضر جهالته كأساسات الحيطان.
قال: (ويجوز بيع الهر والفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد في إحدى الروايتين إلا الكلب اختارها الخرقي، والأخرى لا يجوز اختارها أبو بكر).
أما كون بيع الهر يجوز في روايةٍ؛ فلأنه حيوان يجوز اقتناؤه والانتفاع به من غير حاجة فجاز بيعه كالبغل والحمار.
وأما كونه لا يجوز في روايةٍ فلما روى جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الهر» (1) رواه أبو داود.
وعن جابر «أنه سئل عن ثمن السنور فقال: زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك» (2) رواه مسلم.
والأولى أولى؛ لما تقدم. وما ذُكر من الحديث محمول على ما ليس بمملوك، أو على بيع الهر البري، أو على ما لا منفعة فيه؛ لأن فيه جمعاً بينه وبين المعنى المذكور.
وأما كون بيع الفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد غير الكلب يجوز في روايةٍ؛ فلأنه حيوان يجوز اقتناؤه والانتفاع به من غير وعيد ورد في جنسه فجاز بيعه كالبغل والحمار.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3807) 3: 356 كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1280) 3: 578 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية ثمن الكلب والسنور. نحوه.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (3250) 2: 1082 كتاب الصيد، باب الهرة. نحوه.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (1569) 2: 1199 كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب
…
فإن قيل: ما المراد بقول المصنف: يصلح للصيد؟
قيل: يحتمل أنه أراد كونها معلمة حالة البيع. فعلى هذا لا يصح بيعها قبل التعليم، ويحتمل أنه أراد به كونها قابلة للتعليم. وهو أولى المحملين، وإن كان خلاف ظاهر اللفظ لأنه قال في المغني: ما ليس بمعلم ولا يقبل التعليم لا يجوز بيعه لعدم النفع، وإن كان أمكن تعليمه فالأولى جواز بيعه ليُعلّم، وقاسه على اقتناء الجرو الصغير وبيع الجحش الصغير.
فإن قيل قول المصنف رحمه الله: إلا الكلب ما هو؟
قيل: استثناء من جواز البيع المختلف فيه لأن بيعه لا يجوز رواية واحدة لما يذكر بعد إن شاء الله تعالى.
وأما كون بيع الفيل وسباع البهائم لا يجوز في روايةٍ؛ فلأنها نجسة أشبهت الكلب.
والأول أصح لما ذكر. وفارق الكلب من حيث إنها يجوز اقتناؤها مطلقاً بخلاف الكلب فإنه لا يجوز إلا لأحد أسباب ثلاثة.
ولأن جواز اقتناء الكلب للحاجة بخلاف ما ذكر.
قال: (ويجوز بيع العبد المرتد والمريض، وفي بيع الجاني والقاتل في المحاربة ولبن الآدميات وجهان).
أما كون بيع العبد المرتد يجوز فلحصول النفع به إلى وقت قتله وربما رجع إلى الإسلام فيحصل فيه كمال النفع.
وأما كون بيع العبد المريض يجوز؛ فلأن خشية الهلاك لا تمنع صحة البيع دليله بيع العبد المرتد.
وأما كون بيع العبد الجاني يجوز في وجهٍ؛ فلأن قتله غير متحتم فجاز بيعه كالمرتد.
وأما كونه لا يجوز في وجهٍ؛ فلأنه تعلق برقبته حق آدمي فمنع جواز بيعه كالرهن بل حق الجناية آكد لأنها تقدم على الرهن.
والأول أولى؛ لما ذكر.
ولأنه حق غير مستقر في الجاني يملك أداؤه من غيره فلم يمنع البيع كالزكاة، أو حق ثبت بغير رضا سيده فلم يمنع بيعه كالدين في ذمته، أو تصرف في (1) الجاني فجاز كالعتق. وفارق الرهن من حيث إنه حق متعين فيه لا يجوز إبداله ومن حيث إنه يثبت الحق فيه برضى المالك.
وأما كون بيع القاتل في المحاربة يجوز في وجهٍ؛ فلأنه ينتفع به إلى حين قتله ويعتقه فيجر ولاء ولده فجاز بيعه كالمريض.
وأما كونه لا يجوز في وجهٍ؛ فلأنه متحتم القتل فلا منفعة فيه أشبه الميت.
وأما كون بيع لبن الآدميات يجوز في وجهٍ؛ فلأنه طاهر ينتفع به فجاز بيعه كلبن الشاة.
وأما كونه لا يجوز في وجهٍ؛ فلأنه مائع خرج من آدمية أشبه العرق.
ولأنه من الآدمي فلم يجز بيعه كسائر أجزائه.
قال: (وفي جواز بيع المصحف وكراهة شرائه وإبداله روايتان).
أما كون بيع المصحف لا يجوز في روايةٍ فلما في ذلك من صيانته.
وأما كونه يجوز في روايةٍ «فلأن ابن عباس سئل عن ذلك. فقال: لا بأس. يأخذون أجور أيديهم» .
والأولى أولى لما ذكر.
ولأنه قول جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وأبو موسى وسعيد بن جبير. ولم يُعرف لهم مخالف في عصرهم. فكان إجماعاً.
قال الإمام أحمد: لا أعلم في بيع المصحف رخصة.
وقال ابن عمر: «وددت أن الأيدي تقطع في بيعها» (2). أي في بيع المصاحف.
ولأنه مشتمل على كلام الله فوجب صيانته عن البيع.
(1) ساقط من هـ.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (20202) 4: 292 كتاب البيوع والأقضية، من كره شراء المصاحف.
وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (14525) 8: 112 كتاب البيوع، باب بيع المصاحف.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 16 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف.
وأما كون شرائه يكره في روايةٍ؛ فلأنه وسيلة إلى البيع المتضمن إذلال المصحف فإذا لم يحرم فلا أقل من أن يكره.
وأما كونه لا يكره في روايةٍ؛ فلأنه استنقاذ للمصحف فوجب جوازه من غير كراهة كشراء المسلم من الكفار ومع كونه حراً محرم البيع.
وأما كون إبداله يكره في روايةٍ؛ فلأنه بيع في الجملة فإذا لم يحرم فلا أقل من أن يكره.
وأما كونه لا يكره في روايةٍ؛ فلأن البيع إنما منع منه لما فيه من الرغبة عن المصحف وذلك مفقود في الإبدال.
ومراد المصنف بالكراهة كراهة تنزيه لا كراهة تحريم لأنه عطفه على جواز البيع فلو أراد كراهة التحريم (1) لكان عطف الشراء على البيع وأسقط الكراهة. فعلى هذا الفرق بين البيع والشراء والإبدال هو أن البائع في معنى الراغب مع أنه لا استنقاذ فيه بخلاف الشراء والإبدال.
قال الإمام أحمد: لا أعلم في بيع المصحف رخصة. ورخص في شرائه.
وقد صرح صاحب النهاية فيها أنه لا يصلح بيع المصحف ولا شراؤه ولا إبداله لأن جميع ذلك إذلال، والمصحف محترم فتنافيا. وفارق الشراء هنا شراء الأسير من حيث إن شراء الأسير تدعو الحاجة إليه بخلاف المصحف.
فعلى هذا يجوز أن يكون المراد (2) بالكراهة هنا كراهة تحريم.
قال: (ولا يجوز بيع الحشرات والميتة ولا شيء منها ولا سباع البهائم التي لا تصلح للصيد ولا الكلب ولا السرجين النجس ولا الأدهان النجسة. وعنه: يجوز بيعها لكافر يعلم نجاستها، وفي جواز الاستصباح بها روايتان. ويخرج على ذلك جواز بيعها).
أما كون بيع الحشرات لا يجوز؛ فلأنه لا منفعة فيها وقد تقدم اشتراط النفع في جواز البيع.
وأما كون بيع الميتة لا يجوز؛ فلأن جابراً قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يقول: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والأصنام» (3) متفق عليه.
(1) ساقط من هـ.
(2)
مثل السابق.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (2121) 2: 779 كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1581) 3: 1207 كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.
وأما كون بيع شيء منها لا يجوز؛ فلأن ما لا يجوز بيع كله لا يجوز بيع شيء منه دليله بيع الخمر وغيره.
وأما كون بيع سباع البهائم التي لا تصلح للصيد لا يجوز؛ فلأنها لا نفع فيها أشبهت الحشرات.
وأما كون بيع الكلب لا يجوز فلما روى أبو مسعود الأنصاري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب» (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «ثمن الكلب خبيث» (2) متفق عليهما.
وروي عن ابن عباس أنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب. قال: وإن جاء يطلب ثمنه فاملؤا كفه تراباً» (3) رواه أبو داود.
ولأنه حيوان نهي عن اقتنائه في غير حال الحاجة إليه أشبه الخنزير، أو حيوان نجس العين أشبه الخنزير.
وأما كون بيع السرجين النجس لا يجوز؛ فلأنه نجس مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة.
وأما كون بيع الأدهان النجسة لا يجوز على المذهب؛ فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» (4).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5031) 5: 2045 كتاب الطلاق، باب مهر البغي والنكاح الفاسد.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1567) 3: 1198 كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب
…
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (1568) 3: 1199 كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب
…
ولم أره عند البخاري.
وأخرجه أبو داود في سننه (3421) 3: 266 كتاب البيوع، باب في كسب الحجام.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1275) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في ثمن الكلب.
وأخرجه أحمد في مسنده (15844) 3: 464.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (3482) 3: 279 كتاب البيوع، باب في أثمان الكلاب.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه (3488) 3: 280 كتاب البيوع، باب في ثمن الخمر والميتة. بلفظ: «
…
وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه
…
».
وأخرجه أحمد في مسنده (2221) 1: 247.
ولأنها نجسة فلم يجز بيعها كشحم الميتة.
وأما كونه يجوز لكافر يعلم نجاستها على روايةٍ؛ فلأنه يعتقد حل ذلك. واشترط المصنف رحمه الله الكفر لأجل الاعتقاد المجوز لأن ذلك لا يوجد في غيره. والعلم بنجاستها المراد به اعتقاد الطهارة (1) لأن نفس العلم بالنجاسة ليس شرطاً في بيع الثوب النجس فكذا هاهنا.
وأما كون الاستصباح بذلك يجوز في روايةٍ؛ فلأنه انتفاع من غير ضرر أشبه الانتفاع بالجلد اليابس.
وأما كونه لا يجوز في روايةٍ؛ فلأنه دهن نجس فلم يجز الاستصباح به كشحم الميتة.
وأما كون جواز بيعها يخرج على جواز الاستصباح بها؛ فلأنها تصير بذلك منتفعاً بها فجاز بيعها كالبغل والحمار.
(1) في هـ: والعلم بنجاستها والمراد اعتقاد الطهارة بها.
فصل [الشرط الرابع]
قال المصنف رحمه الله: (الرابع: أن يكون مملوكاً له أو مأذوناً له في بيعه، فإن باع ملك غيره بغير إذنه أو اشترى بعين ماله شيئاً بغير إذنه لم يصح. وعنه: يصح ويقف على إجازة المالك، وإن اشترى له في ذمته بغير إذنه صح، فإن أجازه من اشتري له ملكه، وإلا لزم من اشتراه، ولا يجوز أن يبيع ما لا يملكه ليمضي ويشتريه ويسلمه).
أما كون رابع الشروط (1) السبعة لصحة البيع أن يكون مملوكاً للبائع أو مأذوناً له في بيعه؛ فلأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك» (2) يدل على اشتراط كون البيع مملوكاً للبائع. ترك العمل به في المأذون له لقيامه مقام (3) المالك في ملك البيع لأن المالك نزله منزلة نفسه.
ولأن المنع من بيع ملك الغير إنما كان من أجل ذلك الغير فإذا أذن فيه زال ذلك.
ولأن الحاجة داعية إلى التوكيل في البيع لكون الموكِّل غائباً أو محبوساً لا يمكن حضور المشتري معه أو ما أشبه ذلك فلو لم يقم الإذن مقام الملك في ملك البيع لأدى إلى الحرج والمشقة فوجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه.
فإن قيل: ما ليس عندك ليس فيه ذكر الملك؟
قيل: معناه ما ليس في ملكك (4) لأن صدر الحديث: «يأتيني الرجل يلتمس مني ما ليس عندي فأمضي إلى السوق فأشتريه» (5).
(1) في هـ: أما كون الرابع من الشروط.
(2)
سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(3)
ساقط من هـ.
(4)
في هـ: ملك.
(5)
سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
وأما كون بيع الغير ملك غيره بغير إذنه وشرائه بعين مال غيره شيئاً بغير إذنه لا يصح على المذهب؛ فلأن كون المبيع (1) مملوكاً أو مأذوناً في التصرف فيه شرط في صحته لما تقدم والشيء يفوت بفوات شرطه.
وأما كونه يصح ويقف على إجازة المالك على روايةٍ: أما كونه يصح فلما روى عروة بن الجعد البارقي «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به شاة. فاشترى به شاتين. ثم باع إحداهما بدينار في الطريق. قال: فأتيت (2) النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار وبالشاة. فقال: بارك الله لك في صفقة يمينك» (3) رواه الإمام أحمد والأثرم.
وأما كون الصحة تقف على إجازة المالك؛ فلأنه لو صح من غير إجازة المالك لتضرر المالك لتمكن الغير من بيع ملكه.
ولأنه عقد، له مجيز حال وقوعه، فوقف على إجازته كالوصية لأجنبي بزيادة على الثلث حيث يقف على الوارث.
والأول أولى لما تقدم.
وأما حديث عروة فمحمول على أنه كان وكيلاً مطلقاً بدليل أنه سلم وتسلم وليس ذلك لغير المالك والوكيل المطلق.
وأما كون شراء غير المالك له في ذمته بغير إذن المالك يصح؛ فلأنه متصرف في ذمته وهي قابلة للتصرف.
وأما كون من اشتُري له ذلك يملكه إذا أجاز المشترى له؛ فلأنه اشتُري لأجله ونزل المشتري نفسه منزلة الوكيل فملكه من اشتُري له كما لو أذن له في ذلك.
وأما كون الشراء يلزم من اشتراه إذا لم يجزه من اشتُري له؛ فلأن التصرف صحيح لما تقدم ولا يلزم من اشتُري له قبوله لأنه لم يأذن فيه فتعين كونه للمشتري.
(1) في هـ: البيع.
(2)
في هـ: أتيت.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (3443) 3: 1332 كتاب المناقب، باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية
…
وأخرجه أبو داود في سننه (3384) 3: 256 كتاب البيوع، باب في المضارب يخالف.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1258) 3: 559 كتاب البيوع، باب.
وأخرجه أحمد في مسنده (19316) 4: 376.
وأما كونه لا يجوز أن يبيع ما لا يملكه ليمضي ويشتريه ويسلمه فلما روى حكيم بن حزام أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل يأتيني يلتمس مني ما ليس عندي فأمضي إلى السوق فأشتريه ثم أبيعه منه. فقال: لا تبع ما ليس عندك» (1) رواه الترمذي. وقال: حديث صحيح.
قال: (ولا يصح بيع ما فتح عنوة ولم يُقسم كأرض الشام والعراق ومصر ونحوها إلا المساكن وأرضاً من العراق فتحت صلحاً وهي الحيرة وأُلَّيْس وبانقيا وأرض بني صلوبا؛ لأن عمر رضي الله عنه وقفها على المسلمين وأقرها في أيدي أربابها بالخراج الذي ضربه أجرة لها في كل عام ولم يقدر مدتها لعموم المصلحة فيها. وتجوز إجارتها، وعن أحمد أنه كره بيعها وأجاز شراءها).
أما كون بيع ما فتح عنوة ولم يقسم كأرض الشام والعراق ومصر غير المساكن لا يصح على المذهب فلما ذكره المصنف من أن عمر رضي الله عنه وقفها (2). روي ذلك في قصص اشتهرت عنه.
وأما قوله رحمه الله: ولم يقدر مدتها لعموم المصلحة فيها فجواب عن إشكال مقدر لأنه لما قال: وأقرها في أيدي أربابها بالخراج الذي ضربه أجرة لها توجه لقائل أن يقول: الإجارة يجب تقدير مدتها فأشار إلى الفرق من حيث إن عموم المصلحة موجود هنا بخلاف ما إذا أجر إنسان ملكه. فأطلق عمر رضي الله عنه المدة لذلك.
وأما كون بيع المساكن مما فتح عنوة ولم يقسم يصح فـ «لأن الصحابة اقتطعوا الخطط في الكوفة والبصرة في زمن عمر وبنوها مساكن وتبايعوها» من غير نكير فكان إجماعاً.
وأما كون بيع الأراضي التي سماها المصنف رحمه الله من الحيرة
…
إلى آخره يصح؛ فلما أشار إليه من أنها فتحت صلحاً لا عنوة.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3503) 3: 283 كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1232) 3: 534 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك.
وأخرجه النسائي في سننه (4613) 7: 289 كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع.
(2)
أخرجه أبو عبيد في الأموال (147) ص: 59 كتاب فتوح الأرضين صلحاً، باب فتح الأرض تؤخذ عنوة
…
وأما كون إجارتها تجوز؛ فلأنها مؤجرة في يد أربابها وإجارة المؤجر جائزة.
وأما كونه يكره بيعها ويجوز شراؤها على روايةٍ: أما الكراهة فللاختلاف في بيعها، وأما الشراء؛ فلأنه في معنى الاستنقاذ.
قال: (ولا يجوز بيع رباع مكة ولا إجارتها. وعنه: يجوز ذلك).
أما كون بيع رباع مكة لا يجوز على المذهب؛ فلأنها فتحت عنوة ولم تقسم: أما كونها فتحت عنوة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط رسولَه والمؤمنين. وإنما أُحِلّت لي ساعة من نهار» (1) متفق عليه.
و«لأن ابن خطل ومقيس بن ضبابة قتلا بها حين فتحت» (3) ولو فتحت صلحاً لم يجز قتل أهلها.
وأما كونها لم تقسم فبالنقل عن أئمة الأثر، وإذا فتحت عنوة ولم تقسم بين الغانمين صارت وقفاً على المسلمين فلم يجز بيعها كسواد العراق.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مكة: «حرام بيعها حرام إجارتها» (4).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2302) 2: 857 كتاب في اللقطة، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1355) 2: 988 كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها
…
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (5806) 5: 2280 كتاب الأدب، باب ما جاء في زعموا.
وأخرجه مسلم في صحيحه (336) 1: 498 كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى
…
(3)
عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: «لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن ضبابة وعبد الله بن سعد بن أبي السرح
…
».
أخرجه النسائي في سننه (4067) 7: 106 كتاب تحريم الدم، الحكم في المرتد.
وأخرجه الدارقطني في سننه (231) 3: 59 كتاب البيوع. نحوه.
وأخرجه أبو داود في سننه (2685) 3: 60 كتاب الجهاد، باب قتل الأسير ولايعرض عليه الإسلام. بلفظ:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: اقتلوه» .
وأخرجه الترمذي في جامعه (1693) 4: 202 كتاب الجهاد، باب ما جاء في المغفر. نحو لفظ أبي داود.
(4)
أخرجه الدارقطني في سننه (223) 3: 57 كتاب البيوع.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 35 كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع دور مكة
…
وأما كونه يجوز على روايةٍ؛ فلأنه روي أنها فتحت صلحاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» (1). وإذا فتحت صلحاً كانت لأهلها فجاز بيعها كسائر الأملاك.
ويؤيد ذلك ما روي «أن عمر رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية داراً بأربعة آلاف درهم» (2)، و «اشترى معاوية من حكيم بن حزام دارين بمكة: إحداهما بستين ألفاً، والأخرى بأربعين ألفاً» (3).
وظاهر كلام المصنف في المغني وصاحب النهاية فيها ترجيح الرواية الأولى لما تقدم.
وأجابا عن فعل عمر بأنه كان على سبيل الاستنقاذ لأنه اشترى ذلك لمصلحة المسلمين لأنه عمله سجنا، ويؤيده فعله ذلك في أرض السواد.
وأما كون إجارتها لا تجوز على المذهب فلما تقدم من قوله: «حرام إجارتها» (4).
وروي «أن سفيان سكن بعض رباع مكة وهرب ولم يعطهم أجرة» .
وأما كونها تجوز على روايةٍ فلما تقدم من أنها فتحت صلحاً.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1780) 3: 1407 كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة.
وأخرجه أبو داود في سننه (3024) 3: 163 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ماجاء في خبر مكة.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 34 كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع دور مكة
…
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 35 كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع دور مكة
…
بلفظ: قال: «باع حكيم بن حزام دار الندوة من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف
…
».
(4)
تقدم تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
قال: (ولا يجوز بيع كل ماء عدٍّ؛ كمياه العيون، ونقع البئر. ولا ما في المعادن الجارية (1)؛ كالملح، والقار، والنفط. ولا ما ينبت في أرضه من الكلأ، والشوك. ومن أخذ منه شيئاً ملكه إلا أنه لا يجوز له دخول ملك غيره بغير إذنه. وعنه: يجوز بيع ذلك).
أما كون بيع الماء لا يجوز على المذهب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع الماء» (2) رواه الأثرم.
ولأن الماء لا يملك على الصحيح من المذهب لأن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث: النار والكلأ والماء» (3) رواه أبو داود وابن ماجة.
ولأنه لو كان مملوكاً لم يجز للمستأجر إتلافه لأن الإجارة لا يستحق بها إتلاف الأعيان.
وأما كونه يجوز على روايةٍ؛ فلأنه خارج من ملكه فجاز بيعه كسائر الخارج منه.
وأما كون بيع ما في المعادن الجارية كما مثل المصنف رحمه الله لا يجوز على المذهب؛ فلأن نفعه يعم فلم يجز بيعه كالماء.
وأما كونه يجوز على روايةٍ؛ فلأنه خارج من ملكه أشبه سائر ما يخرج منه.
وأما كون بيع ما ينبت في أرضه من الكلأ والشوك لا يجوز على المذهب فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث. ذكر منها الكلأ» (4).
(1) في هـ: الظاهرة.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (3478) 3: 278 كتاب البيوع، باب في بيع فَضْل الماء.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1271) 3: 571 كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع فضل الماء.
وأخرجه النسائي في سننه (4663) 7: 307 كتاب البيوع، بيع فضل الماء.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2476) 2: 828 كتاب الرهون، باب النهي عن بيع الماء. كلهم عن إياس بن عبد المزني.
قال الترمذي: حديث إياس حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (3477) 3: 278 كتاب البيوع، باب في منع الماء.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2472) 2: 826 كتاب الرهون، باب المسلمون شركاء في ثلاث. قال في الزوائد: عبدالله بن خِراش قد ضعفه أبو زرعة والبخاري وغيرهما. وقال محمد بن عمار الموصلي: كذاب.
(4)
سبق تخريجه في الحديث السابق.
ولأن نفعه يعم أشبه ما تقدم.
وأما كونه يجوز على روايةٍ فلما تقدم في الماء وما في المعادن.
وأما كون من أخذ من ذلك شيئاً يملكه على القول بعدم جواز بيعه؛ فلأن ذلك كله من المباحات فوجب أن يملكه آخذه كما لو أخذه من أرض مباحة.
وأما كونه لا يجوز له دخول ملك غيره بغير إذنه؛ فلأنه متصرف في ملك الغير بغير إذنه وذلك غير جائز.
فإن قيل: فكيف يملكه وقد تعدى؟
قيل: تعديه لا يمنع ملكه كما لو عشش في أرضه (1) طائر، أو دخل فيها ظبي، أو نضب الماء عن سمك فدخل إليه داخل وأخذه فإنه يكون متعدياً بالدخول ويملك ما أخذه.
وقال ابن عقيل: يتخرج عندي أنه لا يملك بذلك لأنه سبب حرام فلا يستفاد به الملك كالبيع الفاسد. ولقوله عليه السلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2).
فإن قيل: الخلاف المتقدم في الماء وما بعده (3) جار فيما لم يحز من ذلك أو مطلقاً؟
قيل: فيما لم يجز من ذلك، ولذلك وصف المصنف رحمه الله الماء بالعد لأن العد ما له مادة، وما حيز لا مادة له، ولذلك مثل ما لا يجوز بيعه بماء العيون ونقع البئر. فأما ما حِيز كالماء في الإناء والكلأ في العِدْل وما أشبه ذلك فإنه يجوز بيعه بلا خلاف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لأن يأخذ أحدكم حبلاً فيأخذ حزمة من حطب فيبيع ذلك فيكف الله به وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطي أو منع» (4) رواه البخاري.
(1) في هـ: ملكه.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (2550) 2: 959 كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جورٍ فالصلح مردود.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1718) 3: 1343 كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.
(3)
ساقط من هـ.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (2244) 2: 836 كتاب المساقاة، باب بيع الحطب والكلأ.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1042) 2: 721 كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه» (1) رواه أبو عبيد في الأموال.
ولأن العادة مضت في الأمصار ببيع الماء في الروايا والحطب والكلأ المُحازيْن من غير نكير.
(1) أخرجه أبو عبيد في الأموال (755) ص: 278 باب حمى الأرض ذات الكلأ والماء.
فصل [الشرط الخامس]
قال المصنف رحمه الله: (الخامس: أن يكون مقدوراً على تسليمه، فلا يجوز بيع الآبق ولا الشارد ولا الطير في الهواء والسمك في الماء ولا المغصوب إلا من غاصبه أو من يقدر على أخذه).
أما كون خامس الشروط (1) السبعة لصحة البيع أن يكون المبيع مقدوراً على تسليمه؛ فلأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم، والمعدوم لا يصح بيعه فكذا ما يشبهه.
وأما كون بيع الآبق والشارد والطير في الهواء والسمك في الماء لا يجوز؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر» (2) رواه مسلم.
قيل في تفسيره: هو بيع الطير في الهواء والسمك في الماء والآبق. والشارد في معناهما.
ولأن ذلك غير مقدور عليه فلم يجز بيعه لفوات شرطه.
وأما كون بيع المغصوب لا يجوز من غير غاصبه وغير من يقدر على أخذه؛ فلأنه لا يقدر على تسليمه.
(1) في هـ: أما كون الخامس من الشروط.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (1513) 3: 1153 كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة، والبيع الذي فيه غرر.
وأخرجه أبو داود في سننه (3376) 3: 254 كتاب البيوع، باب في بيع الغرر.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1230) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر.
وأخرجه النسائي في سننه (4518) 7: 262 كتاب البيوع، بيع الحصاة.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2194) 2: 739 كتاب التجارات، باب النهي عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر.
وأما كونه يجوز من أحدهما؛ فلأن المانع من الجواز عدم القدرة على تسليمه وهو معدوم هنا.
فصل [الشرط السادس]
قال المصنف رحمه الله: (السادس: أن يكون معلوماً برؤية أو صفة تحصل بها معرفته. فإن اشترى ما لم يره ولم يوصف له، [أو رآه] (1) ولم يعلم ما هو، أو ذُكر له من صفته ما لا يكفي في السَّلَم لم يصح البيع. وعنه: يصح وللمشتري خيار الرؤية).
أما كون سادس الشروط (2) السبعة لصحة البيع أن يكون المبيع معلوماً على المذهب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر» (3) رواه مسلم.
ولأن المجهول يقع فيه التنازع ويتعذر تسليمه.
وأما كون ذلك معلوماً برؤية أو صفة تحصل بها معرفته؛ فلأن كل واحد منهما إذا عدم لم يكن المبيع معلوماً وذلك شرط لما تقدم.
وفي كلام المصنف رحمه الله إشعار بأن الرؤية والصفة طريق إلى ذلك: أما الرؤية فمتفق عليها لأنها تحصل العلم بحقيقة المبيع.
وأما الصفة فينظر فيها فإن كانت يحصل بها معرفته كالصفة التي تكفي في السَّلَم كان المبيع بها معلوماً لأن الصفة المذكورة تقوم مقام الرؤية في السَّلَم فكذا هنا.
ولأن المبيع يتميز بما يصفه البائع، والشرع قاض بالاعتماد على قوله. دليله قبول قوله أنه ملكه وغير ذلك مما يشترط لصحة العقد.
ولأنه مبيع معلوم للمتعاقدين مقدور على تسليمه فصح كالحاضر.
ولأن الصفة إحدى حالتي العين فصح البيع بها كحالة المشاهدة.
(1) ساقط من هـ.
(2)
في هـ: أما كون السادس من الشروط.
(3)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
وإنما اشترط ذكر الصفة التي تكفي في السلم لأن المشاهدة لما عدمت وجب استيفاء الصفة التي قامت مقام الرؤية. وهي الصفة التي تكفي في السلم وهي معدومة في غيرها.
فعلى هذا إذا اشترى ما لم يره ولم يوصف له، أو رآه ولم يعلم ما هو، أو ذكر له من صفته ما لا يكفي في السَّلَم لم يصح البيع لعدم العلم بالمبيع.
وأما كون بيع ذلك يصح على روايةٍ؛ فلأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه» (1) والخيار لا يكون إلا في بيع صحيح.
ولأنه عقد معاوضة فصح بغير رؤية ولا صفة كالنكاح.
وأما كون المشتري له خيار الرؤية؛ فللحديث المذكور.
والخيار على الفور للحديث.
وقيل: يتقيد بالمجلس قياساً على خيار المجلس.
قال: (وإن ذكر له من صفته ما يكفي في السلم أو رآه ثم عقد بعد ذلك بزمن لا يتغير فيه ظاهراً صح في أصح الروايتين، ثم إن وجده لم يتغير فلا خيار له، وإن وجده متغيراً فله الفسخ، والقول في ذلك قول المشتري مع يمينه).
أما كون البيع يصح فيما ذكر من صفة ما يكفي في السلم في أصح الروايتين؛ فلما تقدم في شرح قول المصنف رحمه الله: أو صفة تحصل بها معرفته.
وأما كونه لا يصح في روايةٍ؛ فلأن الصفة لا تحصل العلم من كل وجه.
وأما كونه يصح فيما إذا رآه ثم عقد بعد رؤية المبيع بزمن لا يتغير فيه ظاهراً في أصح الروايتين؛ فلأن المبيع معلوم عندهما أشبه ما لو شاهداه حال العقد.
(1) أخرجه الدارقطني في سننه (10) 3: 4 - 5 كتاب البيوع.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 268 كتاب البيوع، باب: من قال يجوز بيع العين الغائبة. كلاهما عن أبي هريرة.
قال الدارقطني: هذا باطل لا يصح. وإنما يروى عن ابن سيرين موقوفاً من قوله.
وجاء من طريق أخرى مرسلة عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه (19970) 4: 273 كتاب البيوع والأقضية، في الرجل يشتري الشيء ولا ينظر إليه
…
وأخرجها الدارقطني في سننه (8) 3: 4. وقال: هذا مرسل، وأبو بكر بن أبي مريم -أحد الرواة- ضعيف.
ولأن الرؤية السابقة كالمقارنة.
وأما كونه لا يصح في روايةٍ؛ فلأن ما كان شرطاً يعتبر وجوده حال العقد كالشهادة في النكاح.
وقول المصنف رحمه الله: بزمن لا يتغير فيه ظاهراً مشعر بأن الزمن لو كان يتغير فيه لا يصح بيعه. وصرح غيره بعدم صحته لأنه غير معلوم.
فإن قيل: فلو احتمل الأمرين.
قيل: العقد صحيح؛ لأن الأصل سلامته.
وأما كون المشتري لا خيار له إذا وجد المبيع لم يتغير؛ فلأنه حصل له ما عقد عليه.
وأما كونه له الفسخ إذا وجده متغيراً؛ فلأن ذلك كالعيب.
وأما كون القول في ذلك قول المشتري مع يمينه؛ فلأن الثمن يلزمه إلا ما اعترف به.
قال: (ولا يجوز بيع الحمل في البطن واللبن في الضرع والمسك في الفأر والنوى في التمر ولا الصوف على الظهر. وعنه: يجوز بشرط جزه في الحال).
أما كون بيع الحمل في البطن لا يجوز فلما روى أبو هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح» (1).
قال أبو عبيد: المضامين: ما في أصلاب الفحول، والملاقيح: ما في البطون. وهي الأجنة.
وروى ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المجر» (2).
(1) أخرجه مالك في الموطأ (63) 2: 507 كتاب البيوع، باب ما لا يجوز من بيع الحيوان.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 341 كتاب البيوع، باب النهي عن بيع حبل الحبلة. كلاهما عن ابن المسيب مرسلاً.
وأخرجه الطبراني في الكبير (11581) 11: 230. مرفوعاً من حديث ابن عباس. قال في المجمع: فيه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة وثقه أحمد وضعفه جمهور الأئمة.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد مرفوعاً عن أبي هريرة 4: 104 كتاب البيوع، باب بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة، وعزاه إلى البزار وقال: فيه صالح بن أبي الأخضر. وهو ضعيف.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 341 كتاب البيوع، باب النهي عن بيع حبل الحبلة.
قال ابن الأعرابي: المجر ما في بطن الناقة.
ولأنه مجهول لا تعلم صفته ولا حياته فلم يصح بيعه كالمعدوم.
ولأنه غير مقدور على تسليمه، والقدرة على ذلك شرط في جواز البيع.
وأما كون بيع اللبن في الضرع لا يجوز فلما روى ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع لبن في ضرع» (1).
ولأنه مجهول الصفة والمقدار أشبه الحمل.
ولأنه بيع عين لم تخلق فلم يجز كبيع ما تحمل الناقة.
وأما كون بيع المسك في الفأر. وهو: الوعاء الذي يكون فيه، والنوى في التمر لا يجوز؛ فلأن كل واحد منهما مجهول فلا يجوز بيعه مستوراً (2) كالدر في الصدف.
وأما كون بيع الصوف على الظهر لا يجوز على المذهب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع صوف على ظهر» (3).
ولأنه متصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالعقد كأعضائه.
وأما كونه يجوز بشرط جزه في الحال على روايةٍ؛ فلأنه مشاهد يمكن تسليمه فجاز بيعه كالرطبة في الأرض. وفارق الأعضاء من حيث إنها لا يمكن تسليمها مع سلامة الحيوان.
قال: (ولا يجوز بيع المُلامسَة، وهو أن يقول: بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا، أو يقول: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا. ولا بيع المُنابَذة، وهو أن يقول: أي ثوب نبذته إليّ فهو عليّ بكذا. ولا بيع الحصاة، وهو أن يقول: ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا، أو يقول: بعتك من هذه الأرض بقدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا).
أما كون بيع المنابذة والملامسة لا يجوز؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسَة والمنابَذة» (4) متفق عليه.
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 340 كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن بيع الصوف على ظهر الغنم واللبن في ضروع الغنم
…
(2)
في هـ: مستور، وهو لحن.
(3)
تكملة للحديث السابق وقد سبق تخريجه.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (2040) 2: 754 كتاب البيوع، باب بيع المنابذة.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1511) 3: 1151 كتاب البيوع، باب إبطال بيع الملامسة والمنابذة.
وأما تفسيرهما فكما ذكر المصنف رحمه الله. وهو ظاهر كلام الإمام أحمد لأن فيما روى البخاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المُلامَسة ونهى عن المُنابَذة. وهي: طَرْحُ الرجلِ ثوبَه بالبيعِ إلى الرجلِ قبلَ أن يُقَلِّبَه أو يَنظرَ إليه. والملامسةُ لمسُ الثوبِ لا يَنظرُ إليه» (1).
وروى مسلم في تفسيرها عن أبي هريرة قال: «هو لمسُ كلُ واحدٍ منهما ثوبَ صاحبِه بغير تَأمُّلٍ، والمنابَذة أن يَنبُذَ كلُ واحدٍ منهما ثوبَه ولم ينظر كل واحدٍ منهما ثَوب صاحبِه» (2). وهو يرجع إلى المعنى الذي فسره المصنف رحمه الله. وعلة المنع فيهما كون المبيع مجهولاً لا يعلم.
وأما كون بيع الحصاة لا يجوز؛ فلأن أبا هريرة روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة» (3). وفي تفسيره خلاف هل هو في الأرض أو في الثوب؟ وقد ذكرهما المصنف رحمه الله وكلاهما فاسد لما فيه من الغرر والجهل.
قال: (ولا يجوز أن يبيع عبداً غير معين، ولا عبداً من عبيد، ولا شاة من قطيع، ولا شجرة من بستان، ولا هؤلاء العبيد إلا واحداً غير معين، ولا هذا القطيع إلا شاة. وإن استثنى معيناً من ذلك جاز. وإن باعه قفيزاً من هذه الصبرة صح).
أما كونه لا يجوز بيع عبد غير معين ولا عبداً من عبيد ولا شاة من قطيع ولا شجرة من بستان ولا هؤلاء العبيد إلا واحداً غير معين ولا هذا القطيع إلا شاة؛ فلأن ذلك كله غرر فيدخل في الحديث المتقدم.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2037) 2: 754 كتاب البيوع، باب بيع الملامسة.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (1511) 3: 1152 الموضع السابق.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه (1513) 3: 1153 كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة، والبيع الذي فيه غرر.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1230) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر.
وأخرجه النسائي في سننه (4518) 7: 262 كتاب البيوع، بيع الحصاة.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2194) 2: 739 كتاب التجارات، باب النهي عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر.
ولأنه يختلف فيفضي إلى التنازع.
وأما كونه يجوز إذا استثنى معيناً مثل أن يقول: بعتك هؤلاء العبيد إلا هذا العبد أو إلا فلاناً وهما يعرفانه فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم» (1) وهذه معلومة.
ولأن المفسد للبيع الجهالة وقد زالت.
وأما كونه يصح إذا باعه قفيزاً من هذه الصبرة؛ فلأنه مبيع مقدر من جملة يصح بيعها أشبه ما إذا باع نصفها.
قال: (وإن باعه الصبرة إلا قفيزاً، أو ثمرة الشجرة إلا صاعاً لم يصح. وعنه: يصح).
أما كون بيع ما ذكر لا يصح على الرواية الأولى؛ فلأن المبيع (2) مجهول لأن ما كان معلوماً بالمشاهدة يخرج عن كونه معلوماً بالاستثناء.
وأما كونه يصح على الرواية الثانية؛ فلأن الاستثناء معلوم فلا يدخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا «لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم» (3) وهذه معلومة.
قال: (وإن باعه أرضاً إلا جريباً، أو جريباً من أرض يعلمان جربانها صح وكان مشاعاً فيها، وإلا لم يصح).
أما كون بيع الأرض إلا جريباً يصح إذا كان البائع والمشتري يعلمان جربانها؛ فلأنها إذا كانت مائة مثلاً فقال البائع: بعتكها إلا جريباً فكأنه قال: بعتك منها تسعة وتسعين جريباً وذلك صحيح فليكن هذا مثله.
فعلى هذا تكون مشاعة بينهما لما ذكر قبل.
وأما كونه لا يصح بيعها إذا لم يعلما ذلك؛ فلأن المبيع غير معلوم.
وأما كون بيع جريب من أرض يصح إذا كانا يعلمان جربانها ولا يصح إذا لم يكونا يعلمان ذلك فلما مر.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1536) 3: 1175 كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة
…
وأخرجه أبو داود في سننه (3405) 3: 262 كتاب البيوع، باب في المخابرة.
وأخرجه النسائي في سننه (3880) 7: 4 كتاب الأيمان والنذور، ذكر الأحاديث المختلفة في النهي، عن كراء الأرض بالثلث والربع. كلهم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
(2)
في هـ: البيع.
(3)
سبق تخريجه في الحديث السابق.
قال: (وإن باعه حيواناً مأكولاً إلا رأسه وجلده وأطرافه صح، وإن استثنى حمله أو شحمه لم يصح).
أما كون بيع الحيوان المأكول إلا رأسه وجلده وأطرافه يصح؛ فلأن عروة قال: «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة فاشتريا من راعي غنم شاة وشرطا له سلبها» رواه أبو الخطاب وابن عقيل.
ولأن المستثنى والمستثنى منه معلومان فصح كما لو باع حائطاً واستثنى منه نخلة معينة.
وأما كونه لا يصح بيعه إلا حمله أو شحمه؛ فلأن ذلك مجهول و «قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم» (1).
ولأنه لا يصح إفراده بالبيع فلم يصح استثناؤه كالفخذ.
قال: (ويصح بيع ما مأكوله في جوفه وبيع الباقلاء والجوز واللوز في قشريه والحب المشتد في سنبله).
أما كون بيع ما مأكوله في جوفه وهو البيض والرمان وما أشبههما يصح وإن لم يعلم حقيقة داخله؛ فلأن ما يستره من مصلحته ويفسد بإزالته فصح بيعه نفياً للحرج والمشقة.
ولأن مفهوم نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها يدل على جواز البيع بعد بدو الصلاح سواء كانت مستورة بقشرها أو لم تكن.
وأما كون بيع الباقلاء والجوز واللوز في قشريه يصح فلما تقدم من مفهوم الحديث.
ولأن ذلك يباع كذلك في أسواق المسلمين من غير نكير فصار إجماعاً.
ولأن ذلك مستور بحائل من أصل الخلقة فجاز بيعه كالرمان والبيض والمستور بقشره الأسفل من ذي القشرين.
وأما كون بيع الحب المشتد في سنبله يصح فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد» (2). جعل الاشتداد غاية للمنع وما بعد الغاية يخالف ما قبلها فوجب زوال المنع.
(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (3371) 3: 253 كتاب البيوع، باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1228) 3: 530 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2217) 2: 747 كتاب التجارات، باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها.
وأخرجه أحمد في مسنده (13596) 3: 250.
فصل [الشرط السابع]
قال المصنف رحمه الله: (السابع: أن يكون الثمن معلوماً. فإن باعه السلعة برقمها، أو بألف درهم ذهباً وفضة، أو بما ينقطع به السعر، أو بما باع به فلان، أو بدينار مطلق وفي البلد نقود: لم يصح. وإن كان فيه نقد واحد انصرف إليه).
أما كون سابع الشروط (1) السبعة لصحة البيع أن يكون الثمن معلوماً؛ فلأنه أحد العوضين فاشترط العلم به كالمبيع ورأس مال السلم.
ولأن المبيع يحتمل رده بعيب ونحوه فلو لم يكن الثمن معلوماً لتعذر الرجوع به.
وأما كون بيع السلعة برقمها. ومعنى الرقم: أن يكتب ثمن السلعة على ظرفها أو في ورقة تجعل فيها لا يصح؛ فلأن الثمن في ذلك غير معلوم حال العقد، وقد تقدم اشتراط العلم به في صحة البيع.
وأما كون بيعها بألف درهم ذهباً وفضة لا يصح؛ فلأن مقدار كل واحد منهما من الألف مجهول.
وأما كون بيعها بما ينقطع به (2) السعر أو بما باع به فلان لا يصح؛ فلأن الثمن في ذلك كله غير معلوم حال العقد والعلم به شرط لما تقدم.
[وأما كون بيعها بدينار مطلق وفي البلد نقود لا يصح؛ فلأن الثمن لا يعلم من أيها يكون فيكون غير معلوم والعلم به شرط لما تقدم.
(1) في هـ: أما كون السابع من الشروط.
(2)
ساقط من هـ.
ولا بد أن يلحظ في النقود أن تكون متساوية في الرواج لأنها لو كان بعضها أظهر من بعض صح البيع؛ لأن الأظهر أرجح من غيره فينصرف الثمن إليه فلا يكون غير معلوم.
فإن قيل: كلام المصنف رحمه الله يقتضي بعدم الصحة مطلقاً؟
قيل: يجب تقييده بما ذكر نقلاً ودليلاً.
وأما كون الدينار المطلق إذا كان في البلد نقد واحد ينصرف إليه؛ فلأن المطلق يحمل على المعهود، وذلك واحد.
فعلى هذا يصح البيع لأن الثمن معلوم] (1).
قال: (وإن قال: بعتك بعشرة صحاحاً أو إحدى عشرة مكسرة أو بعشرة (2) نقداً أو عشرين نسيئة لم يصح، ويحتمل أن يصح).
أما كون ما ذكر لا يصح على المذهب؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بَيْعَتَيْنِ في بَيْعَة» (3) رواه الترمذي. وقال: حديث صحيح.
وقد فسر بهذا.
ولأنه لم يعقد على ثمن بعينه أشبه ما إذا قال: بعتك هذين العبدين.
وأما كونه يحتمل أن يصح فقياس على ما إذا قال: إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم.
قال: (وإن باعه الصبرة كل قفيز بدرهم، والقطيعَ كل شاة بدرهم، والثوبَ كل ذراع بدرهم صح. وإن باعه من الصبرة كل قفيز بدرهم لم يصح).
أما كون بيع الصبرة كل قفيز بدرهم والقطيع كل شاة بدرهم والثوب [كل ذراعٍ](4) بدرهم يصح؛ فلأن البيع معلوم بالمشاهدة والثمن معلوم لإشارته إلى ما يعرف مبلغه لجهة لا تتعلق بالمتعاقدين وهو الكيل في الأولى والعدد في الثانية والذرع في الثالثة
(1) ساقط من و.
(2)
في هـ: بعشر.
(3)
أخرجه الترمذي في جامعه (1231) 3: 533 كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة.
وأخرجه النسائي في سننه (4632) 7: 295 كتاب البيوع، بيعتين في بيعة
…
كلاهما عن أبي هريرة.
(4)
ساقط من هـ.
فصح كما لو باع ما رأس ماله تسعة وتسعين درهماً مرابحة لكل عشرة درهم فإنه لا يعلم في الحال وإنما يعلم بالحساب. وقد روي عن علي رضي الله عنه «أنه آجر نفسه كل دلو بتمرة، وجاء بالتمر إلى (1) النبي صلى الله عليه وسلم فأكله» (2).
وأما كونه إذا باع من الصبرة كل قفيز بدرهم لا يصح؛ فلأن من للتبعيض وكل للعدد فيكون العدد مجهولاً بخلاف ما ذكر قبل فإن المبيع (3) الكل لا البعض ولا جهالة.
قال: (وإن باعه بمائة درهم إلا ديناراً لم يصح. ذكره القاضي. ويجيء على قول الخرقي أنه يصح).
أما كون البيع بما ذكر لا يصح على المذهب؛ فلأن قيمة الدينار مجهولة ويلزم من الجهل بها الجهل بالثمن، والعلم به شرط لما تقدم.
وأما كونه يجيء على قولٍ أنه يصح؛ فلأنه قال في الإقرار: يصح استثناء العين من الورِق والورِق من العين.
فعلى هذا يكون البيع صحيحاً لأن الاستثناء صحيح فكان البيع صحيحاً كسائر الاستثناءات الصحيحة.
ولقائل أن يقول: الصحة في الإقرار اختلف الأصحاب في تعليلها فعللها بعضهم باتحاد النقدين وكونهما قيم الأشياء وأرش الجنايات، وبعضهم بأن قيمة الذهب يعلمها كثير من الناس فإذا استثنى أحدهما من الآخر لم يؤد إلى الجهالة غالباً، وعلى كلا التعليلين لا يجيء صحة البيع على قول الخرقي في الإقرار لأن المفسد للبيع الجهل في حال العقد. ألا ترى أنه إذا باعه برقمه لا يصح للجهل حال العقد وإن علم بَعده. وعلى كلا التعليلين لا يخرج الثمن عن كونه مجهولاً حال العقد. وفارق هذا الإقرار لأن الإقرار بالمجهول يصح وهذا قول متوجه لا دافع له.
(1) ساقط من هـ.
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه (2473) 4: 645 كتاب صفة القيامة.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2446) كتاب الأحكام، باب: الرجل يستقي كل دلو بتمرة ويشترط جلدة. وليس فيهما أكل النبي صلى الله عليه وسلم منه.
وأخرجه أحمد في مسنده (689) ط إحياء التراث.
(3)
في هـ: البيع.
فصل في تفريق الصفقة
قال المصنف رحمه الله: (وهو: أن يجمع بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز. وله ثلاث صور:
إحداها: باع معلوماً ومجهولاً فلا يصح).
أما قول المصنف رحمه الله: وهو أن يجمع بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز؛ فبيان لمعنى تفريق الصفقة.
وأما قوله: وله ثلاث صور؛ فلأن تفريق الصفقة تارة يجمع معلوماً ومجهولاً، وتارة مشاعاً ينقسم الثمن عليه بالأجزاء، وتارة مشاعاً لا ينقسم الثمن عليه بالأجزاء.
وأما كون البيع لا يصح إذا باع معلوماً ومجهولاً؛ فلأن ما بعضه مجهول يكون كله مجهولاً.
ولأن الثمن ينقسم على المبيع بالقيمة، والمجهول لا يمكن تقويمه فلا طريق إلى معرفة ثمن المعلوم.
قال: (الثانية: باع مشاعاً بينه وبين غيره كعبد مشترك بينهما، أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء كقفيزين متساويين لهما فيصح في نصيبه بقسطه في الصحيح من المذهب، وللمشتري الخيار إذا لم يكن عالماً).
أما كون البيع يصح فيما ذكر في نصيب البائع بقسطه من الثمن في روايةٍ؛ فلأنه لا يلزم منه جهالة في الثمن لانقسامه هنا على الأجزاء.
وأما كونه لا يصح في روايةٍ؛ فلأنه عقد جمع فيه بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه فلم يصح في شيء كالمسألة المذكورة قبل.
وأما كون الصحيح في المذهب الأولى فلكون الثمن معلوماً. وبه يظهر الفرق بين هذه الصورة وبين الصورة الأولى.
وأما كون المشتري له الخيار إذا لم يكن عالماً؛ فلأن الشركة عيب، ولهذا ثبتت الشفعة في المبيع خوفاً من سوء المشاركة.
وفي قول المصنف رحمه الله: إذا لم يكن عالماً إشعار بأن المشتري إذا كان عالماً لا خيار له وهو صحيح لأن إقدامه عليه مع العلم به دليل على الرضى به.
قال: (الثالثة: باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو عبداً وحراً، أو خلاً وخمراً ففيه روايتان:
أولاهما: لا يصح، والأخرى: يصح في عبده وفي الخل بقسطه).
أما كون المبيع لا يصح فيما ذكر في روايةٍ؛ فلأن الصفقة جمعت حراماً وحلالاً فغلب التحريم.
ولأنه عقد لم يصح في بعضه فلم يصح في كله أشبه ما لو تزوج بأختين، أو باع درهماً بدرهمين.
وأما كونه يصح في روايةٍ؛ فلأن كل واحد منهما له حكمٌ لو انفرد فإذا جمع بينهما وجب ثبوت ما كان له منفرداً كما لو باع شقصاً وسيفاً فإن الشفعة تجب في الشقص دون السيف.
ولأن حكم البيع الصحة، بطل في أحدهما لعدم قبوله ذلك فيبقى في الآخر كما لو أوصى بشيء لآدمي وبهيمة.
فعلى هذا يصح في عبده والخل بقسطه لأن ذلك هو الذي يقابله.
وأما كون الأُولى أولى فلما ذكر.
ولأن الثمن إنما يتبين بتقسيط العوض بالقيمة وذلك غير معلوم فمنع صحة البيع كالصورة الأولى.
قال: (وإن باع عبده وعبد غيره بإذنه بثمن واحد فهل يصح؟ على وجهين).
أما كون المبيع فيما ذكر لا يصح على وجهٍ؛ فلأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين فكأن كل واحد قد باع عبده بحصة قيمته من الثمن منفرداً وذلك مجهول.
وأما كونه يصح على وجهٍ؛ فلأن جملة الثمن معلومة.
قال: (وإن جمع بين بيع وإجارة أو بيع وصرف صح فيهما ويُقَسّط العوض عليهما في أحد الوجهين).
أما كون ما جمع فيه بين بيع وإجارة يصح في وجهٍ؛ فلأنهما شيئان يجوز أخذ العوض عن كل واحد منهما منفرداً فجاز مجتمعاً كالثوبين والعبدين.
وأما كونه لا يصح في وجهٍ؛ فلأن حكمهما مختلف لأن المبيع المعقود عليه يُضمن بمجرد البيع والإجارة بخلافه.
وأما كون ما جمع فيه بين بيع وصرف يصح في وجهٍ فلما ذكر في أول وجهي المسألة قبل.
وأما كونه لا يصح في وجهٍ؛ فلأن حكمهما مختلف لأن البيع يجوز فيه التفرق قبل القبض والصرف بخلافه.
وذكر المصنف رحمه الله الوجهين المذكورين في المسألتين في المغني الأول روايتين، وعزاهما إلى نقل أبي الخطاب.
وأما كونه يقسط على المبيع والمستأجر في المسألة الأولى وعلى المبيع والمصروف في المسألة الثانية على قدر قيمتهما فكما لو جمع بين عبده وعبد غيره.
قال: (وإن جمع بين كتابة وبيع فكاتب عبده وباعه شيئاً صفقة واحدة بطل البيع. وفي الكتابة وجهان).
أما كون البيع فيما ذكر يبطل؛ فلأن المكاتب قبل تمام عقد الكتابة عبدُ قِنٍّ لا يصح أن يبيعه سيده شيئاً لكونه يبيع ماله لعبده.
وأما كون الكتابة تبطل في وجهٍ؛ فلأنه عقد بطل في بعضه فبطل في كله لما تقدم.
وأما كونها لا تبطل في وجهٍ؛ فلأن المقتضي للبطلان وجد في البيع فاختص به.
فصل [في البيع أثناء النداء]
قال المصنف رحمه الله: (ولا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها، ويصح النكاح وسائر العقود في أصح الوجهين).
أما كون البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها لا يصح؛ فلأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [الجمعة: 9]. أمر بترك البيع، والأمر للوجوب، وإذا وجب تركه لم يصح إذاً لأنه محرم فلم يصح فعله كسائر ما نهي عنه نهي تحريم.
ولأن البيع يشغل عن الصلاة ويكون ذريعة إلى تركها أو فوات بعضها، وكلاهما لا يجوز، والمؤدي إلى ما لا يجوز لا يجوز، وإذا لم يجز لم يصح لما تقدم.
ولأنه عقد نهي عنه لأجل عبادة فكان غير صحيح كالنكاح المحرم.
فإن قيل: ما النداء الذي يحرم به البيع؟
قيل: هو المذكور في باب الجمعة.
وأما كون النكاح وسائر العقود تصح في وجهٍ؛ فلأن ذلك يقل وقوعه فلا يكون إباحته ذريعة إلى ما ذكر في البيع.
وأما كونها لا تصح في وجهٍ؛ فلأنها عقود معاوضات أشبهت البيع.
وأما كون الأول أصح؛ فلأن دليل الثاني قياس، والقياس مع قيام الفارق لا أثر له.
قال: (ولا يصح بيع العصير لمن يتخذه خمراً، ولا بيع السلاح في الفتنة أو لأهل الحرب. ويحتمل أن يصح مع التحريم).
أما كون بيع العصير لمن يتخذه خمراً لا يصح؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2] نهى والنهي يقتضي التحريم وعدم الصحة.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه لعن في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاريها، وبائعها، ومبتاعها، وشاربها، وساقيها. وأشار إلى كل معاون إليها ومساعد فيها» (1).
وأما كونه لا يصح في باقي الصور؛ فلأنها في معناها لما فيها من الإعانة على المعصية.
وأما كونه يحتمل أن يصح في الجميع مع التحريم فقياس على الصلاة في الدار المغصوبة على القول بالصحة، وقياس على الصلاة في المواضع السبعة من المقبرة ونحوها على القول بالصحة.
قال: (ولا يصح بيع عبد مسلم لكافر إلا أن يكون ممن يعتق عليه فيصح في إحدى الروايتين).
أما كون بيع العبد المسلم لكافر لا يعتق عليه لا يصح؛ فلأن في ثبوت الملك للكافر على المسلم صغاراً للمسلم.
ولأن الإسلام يمنع استدامة الملك فمنع ابتداءه كالنكاح.
وأما كون بيعه ممن يعتق عليه يصح في روايةٍ؛ فلأن ملكه لا يستقر عليه.
وأما كونه لا يصح في روايةٍ؛ فلأنه ثبوت ملك الكافر على مسلم فلم يصح كما لو لم يكن ممن يعتق عليه.
وظاهر (2) كلام المصنف رحمه الله أن الأولى أصح لما ذكر.
ولأنه يحصل له بالحرية زوال الملك عنه بالكلية وفي ذلك إضعاف ما حصل من الصغار بملك لحظة.
(1) أخرجه الترمذي في جامعه (1295) 3: 492 كتاب البيوع، باب النهي أن يتخذ الخمر خلاً.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (3381) 2: 1122 كتاب الأشربة، باب لعنت الخمر على عشرة أوجه.
(2)
في هـ: فظاهر.
قال: (وإن أسلم عبد الذمي أجبر على إزالة ملكه عنه وليس له كتابته، وقال القاضي: له ذلك).
أما كون الذمي يجبر على إزالة ملكه عن عبده الذي أسلم؛ فلأن في إبقائه في ملكه صغار للمسلم وقد قال الله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء: 141].
وأما كونه ليس له كتابته على المذهب؛ فلأنه إذا لم يكن للكافر شراء من يعتق عليه حذراً من ثبوت ملكه عليه لحظة؛ فلأن لا يكون له كتابته مع ثبوت الملك عليه إلى الأداء بطريق الأولى.
وأما كونه له ذلك على قول القاضي؛ فلأنه سبب لعتقه أشبه إعتاقه له.
قال: (ولا يجوز بيع الرجل على بيع أخيه. وهو: أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أُعطيك مثلها بتسعة، ولا شراءه على شراء أخيه. وهو: أن يقول لمن باعه سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة ليفسخ البيع ويعقد معه، فإن فعل فهل يصح البيع؟ على وجهين).
أما كون بيع الرجل على بيع أخيه لا يجوز؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَبِعْ (1) بَعضكُم على بَيعِ بَعض» (2) متفق عليه.
ولأنه يتضمن إضرار المسلم وإفساد بيعه فحرم كشتمه.
وأما كون شراء الرجل على شراء أخيه لا يجوز؛ فلأنه في معنى ما نهي عنه قبل.
و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه» (3) وهو في معنى الخاطب.
(1) في هـ: يبيع.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (2043) 2: 755 كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يُحفّل الإبل
…
وأخرجه مسلم في صحيحه (1412) 3: 1154 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه
…
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (2033) 2: 752 كتاب البيوع، باب لا يبيع على بيع أبيه
…
وأخرجه مسلم في صحيحه (1412) 3: 1154 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه
…
ولأنه يمكن استعمال لفظ الخبر عليه لأن البيع يقع على الشراء ويسمى البائع والمشتري بيعين.
وأما تفسير بيع الرجل على بيع أخيه وشراءه على شراء أخيه فكما ذكر المصنف رحمه الله.
وفي قوله: ليفسخ البيع إشعار بأنه لا بد أن يكون ذلك قبل لزوم العقد مثل أن يكونا في المجلس، أو يكون في العقد خيار شرط لهما أو للذي (1) يطلب الفسخ ليمكن فعله ويصح إذا فعل.
وأما كون كل واحد من البائع (2) والمشتري المذكورين إذا فعل لا يصح على وجهٍ؛ فلأنه منهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
وأما كونه يصح على وجهٍ؛ فلأن النهي لمعنى في غير المبيع أشبه بيع النجس.
قال: (وفي بيع الحاضر للبادي روايتان:
إحداهما: يصح، والأخرى لا يصح بخمسة شروط:
أن يحضر البادي لبيع سلعته، بسعر يومها، جاهلاً بسعرها، ويقصده الحاضر، ويكون بالمسلمين حاجة إليها. فإن اختل شرط منها صح البيع. وأما شراؤه له فيصح رواية واحدة).
أما كون بيع الحاضر للبادي يصح في روايةٍ؛ فلأن النهي عن ذلك كان في أول الإسلام لما (3) عليهم من الضيق فوجب زواله عند زواله.
وأما كونه لا يصح بالشروط الخمسة المتقدم ذكرها في روايةٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يَبيع حَاضرٌ لِبَادٍ» (4) متفق عليه.
ولأن ما ثبت في حق الصحابة ثبت في حقنا ما لم يقم على اختصاصهم به دليل.
(1) في هـ: الذي.
(2)
في هـ: البيع.
(3)
في هـ: إلى.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (2154) 2: 794 كتاب الإجارة، باب أجر السمسرة.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1521) 3: 1157 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي.
وإنما اشترطت الشروط الخمسة المتقدم ذكرها لأن النهي إنما كان لأجل التوسعة على أهل الحضر فيجب لحظ الشروط المذكورة لأن التوسعة لا تمتنع إلا معها: أما حضوره لبيع سلعته؛ فلأنه إذا حضر ليخزنها فقصده الحاضر وأحضه (1) على بيعها كان ذلك توسعة لا منعاً للتوسعة.
وأما بيعها بسعر يومها؛ فلأنه إذا قصد بيعها بسعر معلوم لا بسعر اليوم كان المنع من البيع من جهته لا من جهة الحاضر.
وأما جهله بالسعر؛ فلأنه إذا عرفه لم يزده الحاضر على ما عنده شيئاً.
وأما قصد الحاضر له؛ فلأنه إذا طلبه البادي لم يكن للحاضر أثر في عدم التوسعة.
وأما حاجة المسلمين؛ فلأنهم إذا لم يكونوا محتاجين لم يوجد المعنى الذي نهى الشرع لأجله.
وأما كون البيع يصح إذا اختل شرط من الشروط الخمسة؛ فلأن الموقوف على شرط يزول عند زواله.
وأما كونه يصح شراؤه له رواية واحدة؛ فلأن النهي المذكور قبل لا يتناول الشراء بلفظه ولا هو في معناه لأن النهي عن البيع للرفق بأهل الحضر ليتسع عليهم الرزق ويزول عنهم الضرر وليس ذلك (2) موجوداً في الشراء لهم إذ لا يتضررون بعدم الغبن للبادي (3) بل هو دفع للضرر عنه والخلق في نظر الشارع على السواء فكما شرع ما يدفع الضرر عن أهل الحضر. فكذلك يشرع ما يدفع الضرر عن البادي، وإذا لم يكن مشروعاً فلا أقل من أن يكون جائزاً.
قال: (ومن باع سلعة نسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها نقداً إلا أن يكون قد تغيرت صفتها. وإن اشتراه أبوه أو ابنه جاز).
أما كون شراء ما باعه بما ذكر مع عدم التغير لا يجوز فـ «لأن أم ولد زيد بن أرقم قالت لعائشة: إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء. ثم اشتريته منه بستمائة درهم. فقالت لها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت. أبلغي زيد بن أرقم
(1) في و: حضه.
(2)
ساقط من هـ.
(3)
في هـ: بعدم البادي.
أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب» (1). والظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتُقدم عليه إلا بتوقيف سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرى مجرى روايتها ذلك عنه.
ولأن ذلك ذريعة إلى الربا لأنه إنما أدخل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة إلى أجل والذرائع معتبرة في الشرع بدليل منع القاتل إرث المقتول وثبوت الميراث لامرأة المطلِّق ثلاثاً في مرض موته.
ولأن الله تعالى عاب على بني إسرائيل التحيل في ارتكاب ما نهوا عنه لأنهم نهوا عن الصيد يوم السبت فكانوا ينصبون الشباك يوم الجمعة فيقع فيها الصيد يوم السبت فيأخذونه يوم الأحد فذمهم الله على ذلك.
وتسمى هذه المسألة مسألة العينة وقد جاء في الحديث: «أن التبايع بها من أشراط الساعة» (2).
وأما كونه يجوز ذلك إذا تغيرت السلعة مثل إن كانت عبداً فمرض أو ثوباً فانقطع أو ما أشبه ذلك؛ فلأن المعنى الموجب للتحريم إنما هو الحيلة في الربا وهذا المعنى مفقود هنا.
وأما كونه يجوز إذا اشترى السلعة أبوه أو ابنه؛ فلأن كل واحد منهما كالأجنبي بالنسبة إلى المشتري.
قال: (وإن باع ما يجري فيه الربا نسيئة ثم اشترى منه بثمنه قبل قبضه من جنسه أو ما لا يجوز بيعه به نسيئة لم يجز).
أما كون بيع ذلك لا يجوز؛ فلأنه ذريعة إلى بيع المكيل بالمكيل نسيئة وذكر الثمن حيلة فحرم كمسألة العينة. وأما ما يجري فيه الربا نسيئة فالمكيل والموزون والمطعوم
(1) أخرجه الدارقطني في سننه (212) 3: 52 كتاب البيوع.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 330 كتاب البيوع، باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل ثم يشتريه بأقل.
(2)
عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» .
أخرجه أبو داود في سننه (3462) 3: 274 كتاب البيوع، باب: في النهي عن العِينة.
وأخرجه أحمد في مسنده (4987) ط إحياء التراث.
والأثمان أو المكيل المطعوم والموزون المطعوم على ما فيه من الخلاف في علة الربا فإذا باع غرارة قمح مثلاً بخمسين درهماً إلى أجل فلما جاء الأجل اشترى بالدراهم المذكورة غرارة قمح قبل قبضها أو غرارة شعير فالأولى اشترى من جنس ما باع قبل ثمنه مع كونه يجري فيه الربا نسيئة، والثانية اشترى ما لا يجوز بيعه نسيئة بثمن ما باع على الصفة المذكورة.