المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب محظورات الإحرام - الممتع في شرح المقنع - ت ابن دهيش ط ٣ - جـ ٢

[ابن المنجى، أبو البركات]

الفصل: ‌باب محظورات الإحرام

‌باب محظورات الإحرام

قال المصنف رحمه الله: (وهي تسعة: حلق الشعر وتقليم الأظافر فمن حلق أو قلّم ثلاثة فعليه دم.

وعنه: لا يجب إلا في أربع فصاعداً. وفيما دون ذلك في كل واحد مد من طعام. وعنه: قبضة. وعنه: درهم).

أما كون محظورات الإحرام تسعة فلأنها حلق شعر وتقليم أظافر وتغطية رأس ولبس مخيط وخفين وطيب وإتلاف صيد وعقد نكاح وجماع ومباشرة دون الفرج وذلك تسعة.

وأما كون حلق الشعر من محظورات الإحرام فلأن الله تعالى قال: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196]. نص على حلق الرأس وسائر شعر البدن في معناه.

ولأن حلق الشعر يؤذن بالرفاهية وذلك ينافي الإحرام؛ لأن المحرم يكون أشعث أغبر.

وأما كون تقليم الأظافر من محظورات الإحرام فلأنه يحصل به الرفاهية أشبه حلق الشعر.

وأما وجوب الفدية بالحلق فلأن الله تعالى قال بعد قوله: {ولا تحلقوا رؤوسكم} [البقرة: 196]{فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية} [البقرة: 196].

وفي حديث كعب بن عجرة: «احلق رأسك وأطعم ستة مساكين أو صم أو انسك شاة» (1).

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1719) 2: 644 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب قول الله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه

}.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1201) 2: 861 كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى

ص: 97

فإن قيل: كلام المصنف رحمه الله يشتمل على وجوب الدم.

قيل: في وجوبه عيناً مع العمد خلاف يأتي ذكره. والصحيح أنه لا يجب عيناً بل الواجب أحد أمور: من دم وصوم ثلاثة أيام وإطعام ستة مساكين وسيأتي في باب الفدية (1). وكان الجيد أن يقول: فعليه الفدية ثم يكل التفصيل على باب الفدية.

وأما مقدار ما يجب به الفدية ففيه روايتان:

أحدهما: إذا حلق ثلاث شعرات؛ لأنه شعر آدمي يقع عليه اسم الجمع المطلق فجاز أن تتعلق به الفدية كالكل وكالربع عند أبي حنيفة.

والثانية: لا يجب إلا بأربع لأن الثالث آخر أجزاء القلة وآخر الشيء منه فلم يجب بالثلاث كالشعرة والشعرتين.

وأما ما يجب فيما دون ذلك ففيه ثلاث روايات:

إحداهن: يجب في كل واحدة مُدّ من طعام لأن ذلك أقل ما يجب في فدية رمضان ونحو ذلك فكان واجباً في أقل الشعر.

والثانية: قبضة من ذلك لأنه لا تقدير له في الشرع فيجب المصير إليه لأنه اليقين.

والثالثة: درهم لأنه لما لم يمكن إيجاب جزء من الحيوان وجب المصير إلى القيمة وأقل ذلك مما يشاركه الشعر في الوحدة درهم.

وأما مقدار ما تجب به الفدية من تقليم الأظافر والواجب فيه فكما ذكر في الشعر اختلافاً وتعليلاً لأن أصل وجوب الفدية في ذلك مقاس على الحلق فكذا في مقدار ما يجب به وفي الواجب فيه.

قال رحمه الله: (وإن حلق رأسه بإذنه فالفدية عليه، وإن كان مكرهاً أو نائماً فالفدية على الحالق، وإن حلق محرم رأس حلال فلا فدية عليه).

أما وجوب الفدية على من حلق رأسه بإذنه فلأن ذلك بإذنه فكان بمنزلة مباشرته له.

وأما وجوب الفدية على الحالق إذا كان مَنْ حلق رأسه مكرهاً أو نائماً فلأنه أزال ما مُنع من إزالته لأجل الإحرام فكانت عليه فديته كما لو حلق المحرم بنفسه.

وأما عدم وجوب الفدية على المحرم إذا حلق رأس حلال فلأنه شعر مباح الإتلاف فلم يجب بإتلافه جزاء كشعر بهيمة الأنعام.

(1) ص: 130.

ص: 98

قال رحمه الله: (وقطع الشعر ونتفه كحلقه، وشعر الرأس والبدن واحد، وعنه: لكل واحد حكم منفرد).

أما كون قطع الشعر ونتفه كحلقه فلاشتراك الكل في حصول الرفاهية بإزالته.

وأما شعر الرأس والبدن ففيهما روايتان:

أحدهما: أنهما واحد لأنه شعر من جنس واحد لم يختلف إلا موضعه أشبه ما على اللحية والإبط ونحوهما.

والثانية: لكل واحد حكم منفرد لأن الرأس يخالف البدن بحصول التحلل بحلقه دون البدن.

فعلى الأولى لو حلق من رأسه شعرتين ومن بدنه شعرة أو شعرتين وجبت الفدية لأنه حلق ثلاثاً أو أربعاً، وعلى الثانية يجب في كل واحدة ما تقدم ذكره فيما لا تجب فيه الفدية.

قال رحمه الله: (وإن خرج في عينه شعر فقلعه أو نزل شعره فغطى عينيه فقصه أو انكسر ظفره فقصه أو قلع جلداً عليه شعر فلا فدية عليه).

أما عدم وجوب الفدية بقلع الشعر وقصه كما ذكر فلأن الشعر آذاه فكان له رفع أذاه من غير فدية كالصيد الصائل عليه.

وأما عدم وجوبها بقص ما انكسر من ظفره فلأنه يؤذيه بقاؤه بسبب منه أشبه الشعر المؤذي.

وفارق هذا ما إذا حلق الشعر لقمل أو صداع أو نحو ذلك فإنه تجب الفدية لأن الأذى من غير الشعر.

وأما عدم وجوبها بقطع جلد عليه شعر فلأن الشعر زال تابعاً لغيره والتابع لا يُضمن كما لو قلع أشفار عيني إنسان فإنه لا يجب ضمان الأهداب.

ص: 99

فصل [في تغطية الرأس]

قال المصنف رحمه الله: (الثالث: تغطية الرأس فمتى غطاه بعمامة أو خرقة أو قرطاس فيه دواء أو غيره أو عَصَبه أو طيّنه بطين أو حناء أو غيره فعليه الفدية. وإن استظل بالمحمل ففيه روايتان).

أما كون تغطية الرأس من محظورات الإحرام فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم عن لبس العمائم» (1).

و«قال في المحرم الذي وقصته ناقته: لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» (2) متفق عليه.

وأما وجوب الفدية إذا غطاه بشيء مما ذكره المصنف رحمه الله فلأنه فعل محرّماً في الإحرام يقصد به الترفه أشبه حلق الشعر.

وأما الاستظلال بالمحمل ففيه روايتان:

أحدهما: يحرم «لأن ابن عمر رضي الله عنهما رأى على رجل عوداً يستره من الشمس فنهاه عن ذلك» (3) رواه الأثرم.

فعلى هذا تجب به الفدية لوجود فعل محرّم في الإحرام مقصود به الرفاهية.

والرواية الثانية: لا يحرم لأن الحُجة في عدم الاستظلال قول ابن عمر وهو لا يرى ذلك حراماً.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5468) 5: 2187 كتاب اللباس، باب السراويل.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1177) 2: 834 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1209) 1: 426 كتاب الجنائز، باب كيف يكفن المحرم.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1206) 2: 866 كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات.

(3)

لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر «أنه رأى رجلاً محرماً قد استظل فقال: ضح لمن أحرمت له» (14250) 3: 274 كتاب الحج، في المحرم يستظل.

ص: 100

ولأنه يجوز أن يستتر بثوب لما يأتي.

فعلى هذا لا فدية لانتفاء موجبها من فعل محرم موصوف بما تقدم.

قال: (وإن حمل على رأسه شيئاً أو نصب حياله ثوباً أو استظل بخيمة أو شجرة أو بيت فلا شيء عليه).

أما عدم وجوب شيء في جميع ما ذكر فلأنه يباح فعله، والفدية لا تجب بفعل المباح: أما إباحة الحمْل على رأسه فلأنه لا يقصد به الترفه فأبيح كالأكل.

ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك.

وأما إباحة نصب شيء حياله فلما روت أم الحصين قالت: «حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة» (1) رواه مسلم.

وأما إباحة الاستظلال بخيمة فلما روى جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم ضربت له قبة من شعر بنَمِرَة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس» (2) مختصر. رواه مسلم.

وأما إباحة الاستظلال بشجرة أو بيت فلأن ذلك في معنى الخيمة.

قال: (وفي تغطية الوجه روايتان).

أما جواز تغطية الوجه على روايةٍ فـ «لأن عثمان وسعداً وعبدالرحمن بن عوف وزيد بن ثابت أجازوه» (3).

وأما عدم جوازها على روايةٍ فلأن في بعض ألفاظ حديث ابن عباس في الميت المحرم: «ولا تخمروا وجهه ولا رأسه» (4) متفق عليه.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1298) 2: 944 كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الفرافصة قال: «رأيت عثمان وزيداً وابن الزبير يغطون وجوههم وهم محرمون إلى قصاص الشعر» . (14249) 3: 274 كتاب الحج، في المحرم يغطي وجهه.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1209) 1: 426 كتاب الجنائز، باب كيف يكفن المحرم.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1206) 2: 866 كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات.

ص: 101

فعلى الأولى: لا فدية عليه؛ لأنه مباح.

وعلى الثانية: عليه الفدية؛ لأنه فَعَل ما منع من فعله قصداً للترفه أشبه تغطية الرأس.

ص: 102

فصل [في لبس المخيط والخفين]

قال المصنف رحمه الله: (الرابع: لبس المخيط والخفين إلا أن لا يجد إزاراً فليلبس سراويل، أو نعلين فليلبس خفين ولا يقطعهما ولا فدية عليه).

أما كون لبس المخيط من محظورات الإحرام فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما «أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا الخفاف» (1) مختصر. متفق عليه.

نص على هذه الأشياء وألحق العلماء بها ما في معناها من الجبة والدراعة ونحو ذلك.

وأما جواز لبس السراويل إذا لم يجد إزاراً، والخفين إذا لم يجد نعلين فلأن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل للمحرم» (2) متفق عليه.

وأما عدم قطعهما فلأن عائشة رضي الله عنها روت «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما» (3).

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1468) 2: 559 كتاب الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1177) 2: 834 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (5467) 5: 49 كتاب اللباس، باب السراويل.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1178) 2: 835 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح

(3)

أخرجه أبو داود في سننه عن سالم بن عبد الله «أن عبد الله كان يصنع ذلك يعني يقطع الخفين للمرأة المحرمة. ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة حدثتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان رخص للنساء في الخفين. فترك ذلك» . (1831) 2: 166 - 167 كتاب المناسك، باب: ما يلبس المحرم.

ص: 103

و «كان ابن عمر رضي الله عنهما يفتي بقطعهما حتى أُخبر بذلك فرجع» (1).

وروي أن علياً رضي الله عنه قال: «قطعُ الخفين فساد. يَلبسهما كما هما» (2).

ولأنه ملبوس أبيح لعدم غيره أشبه السراويل.

ولأن قطعه لا يخرجه عن حالة الحظر. فإن لُبْس المقطوع مع القدرة على لبس النعلين كلبس الصحيح.

ولأنه إتلاف لماليته وقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال» (3).

قال المصنف رحمه الله في المغني: وقد روي عن أحمد رحمه الله قطعهما. وهو أولى عملاً بالحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «وليقطعهما أسفل من الكعبين» (4) متفق عليه.

وخروجاً من الخلاف وأخذاً بالاحتياط.

وأما عدم وجوب الفدية في لبس ذلك فلأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث ابن عباس رضي الله عنهما «جواز لبس السراويل والخفين إذا لم يجد إزاراً ولا نعلين» (5) ولم يذكر الفدية ولو وجبت لبينها؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

(1) هو جزء من الحديث السابق.

(2)

لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عكرمة قال: «يتخفف إذا لم يجد نعلين قال: قلت: أيشقهما؟ قال: إن الله لا يحب الفساد» (14635) 3: 310 كتاب الحج، في المحرم يضطر إلى الخفين.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال

». (6108) 5: 2375 كتاب الرقاق، باب ما يكره من قيل وقال.

وأخرجه مسلم في صحيحه (593) 3: 1341 كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة

بنحوه.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (134) 1: 62 كتاب العلم، باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1177) 2: 835 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح

(5)

سبق تخريجه قريباً.

ص: 104

قال رحمه الله: (ولا يعقد عليه منطقة ولا رداء ولا غيره إلا إزاره وهميانه الذي فيه نفقته إذا لم يثبت إلا بالعقْد).

أما كون المحرم لا يعقد عليه مِنْطقة. وهي: شيء يشد به الوسط لوجع الظهر فلأنه يترفه بذلك أشبه اللباس.

ولا بد أن يلحظ في العقد المذكور عدم الحاجة إليه فإن كان بالمحرم حاجة إلى ذلك من وجع ظهر ونحوه جاز وعليه الفدية. نص عليه.

أما الجواز فلمكان الحاجة.

وأما وجوب الفدية فلأنه نادر أشبه حلق الرأس لوجع الرأس.

وأما كونه لا يعقد عليه رداء ولا غيره غير ما استثني فلأن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لا تعقد عليك شيئاً» (1).

ولأنه يصير بالعقد كالمخيط.

وأما جواز عقد الإزار فلأنه يحتاج إلى عقده لستر عورته.

وأما جواز عقد الهميان الذي فيه نفقته فلقول عائشة رضي الله عنها: «أوثق عليك نفقتك» (2).

ولأنه مما تدعو الحاجة إلى عقده فجاز كالإزار.

وأما قول المصنف رحمه الله: إذا لم يثبت إلا بالعقد فاحتراز من أن يكون مما يمكن شده لا بالعقد مثل أن يُدخل بعضه في بعض فإن ذلك لا يجوز عقده حينئذ لعدم الحاجة إليه.

(1) أخرجه الشافعي في مسنده (808) 1: 311 كتاب الحج، باب فيما يباح للمحرم وما يحرم

وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (15433) 3: 392 كتاب الحج، في المحرم يعقد على بطنه الثوب.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (15443) 3: 393 كتاب الحج، في الهميان للمحرم.

وأخرجه البيهقي في سننه 5: 69 كتاب الحج، باب المحرم يلبس المنطقة والهميان للنفقة والخاتم.

ص: 105

قال رحمه الله: (وإن طرح على كتفيه قباء فعليه الفدية.

وقال الخرقي: لا فدية عليه إلا أن يدخل يديه في كميه).

أما وجوب الفدية على من طرح على كتفيه قباء فأدخل يديه في كميه فلأنه لبس المخيط وذلك موجب للفدية لما تقدم.

وأما وجوبها على من فعل ذلك ولم يدخل يديه في كميه على قول غير الخرقي فلأنه لَبِسه على المعتاد في مثله أشبه لبس القميص.

ولأنه منهي عن لبسه لما روى ابن المنذر عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن لبس الأقبية» (1) فيجب أن تجب به الفدية كلبس المخيط.

وأما عدم وجوبها على قول الخرقي فلأنه لا يحيط بالبدن فلا تلزمه الفدية كالقميص إذا اتشح به.

قال رحمه الله: (ويتقلد بالسيف عند الضرورة).

أما جواز ذلك عند الضرورة فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلوها إلا بجلبان السلاح» (2) رواه أبو داود.

وقال: جلبان السلاح: القراب بما فيه.

وأما عدم جوازه عند عدم الضرورة فلأنه لبس أشبه لبس المخيط.

(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 50 كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم من الثياب.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (1832) 2: 167 كتاب المناسك، باب المحرم يحمل السلاح، من حديث البراء رضي الله عنه.

ص: 106

فصل [في الطيب]

قال المصنف رحمه الله: (الخامس: الطيب. فيحرم عليه تطييب بدنه وثيابه وشم الأدهان المطيبة والادهان بها وشم الكافور والزعفران (1) والورس، والتبخر بالعود ونحوه، وأكل ما فيه طيب يظهر طعمه أو ريحه. وإن مس من الطيب ما لا يعلق بيده فلا فدية فيه).

أما كون الطيب من محظورات الإحرام «فلقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته: لا تحنطوه» (2) متفق عليه. وفي لفظٍ لمسلم: «لا تمسوه بطيب» (3).

وجه الحجة أنه منع المحرم الميت من الطيب مع أنه يستحب للميت فالمحرم الحي بطريق الأولى.

وفي حديث ابن عمر: «لا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس» (4) متفق عليه.

فعلى هذا يحرم عليه استعماله في بدنه وثيابه.

ويحرم عليه شم كل دهن مطيب والادهان به؛ لأنه يحصل به ما يحصل بشم الطيب نفسه.

ويحرم عليه شم المسك والكافور والعنبر والورس لأنه هكذا يستعمل.

(1) في المقنع: المسك والكافور والعنبر والزعفران.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1209) 1: 426 كتاب الجنائز، باب كيف يكفن المحرم.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1206) 2: 866 كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه (1206) 2: 866 كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1468) 2: 559 كتاب الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1177) 2: 835 كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح

ص: 107

ويحرم عليه التبخر بالعود؛ لأن استعماله على وجه التطيب كذلك.

ويحرم عليه أكل ما فيه طيب يظهر طعمه لأن الطعم يستلزم الرائحة وذلك حرام لما يأتي، وما يظهر ريحه لأن المقصود الريح وهو حاصل.

وأما عدم وجوب الفدية بمس طيب لا يعلق بيده كمن مس مسكاً غير مسحوق أو قطعاً من كافور أو عنبر ونحو ذلك فلأنه غير مستعمل للطيب.

وقوله: ما لا يعلق بيده يدل مفهومه على أن ما يعلق بيده كالغالية وماء الورد والمسك المسحوق ونحو ذلك فيه الفدية وهو صحيح لأنه مستعمل للطيب.

قال رحمه الله: (وله شم العود والفواكه والشيح والخزامى. وفي شم الريحان والنرجس والورد والبنفسج والبرم ونحوها والادهان بدهن غير مطيب في رأسه روايتان).

أما جواز شم العود للمحرم فلأنه لا يُتطيب به هكذا.

وأما جواز شم الفواكه والشيح والخزامى فلأنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه طيب.

وأما شم الريحان وما بعده ففيه روايتان:

أحدهما: يجوز؛ «لأن عثمان رضي الله عنه سئل عن المحرم يدخل البساتين ويشم الريحان فقال: نعم» (1).

ولأن الاعتبار يما يقصد منه الطيب، ولا نظر إلى الرائحة المستطابة دليله شم القرنفل والدارصيني فإنهما لما كان المقصود منهما التداوي لا التطيب لم يحرم استعمالهما.

ولأنه شيء لا يعلق باليد فلم يحرم استعمالها كالقطع من العنبر.

فعلى هذا لا فدية عليه؛ لأنه مباح الشم.

(1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 232 كتاب الحج، باب في المحرم يربط الهميان ويدخل البستان ويشم الريحان.

ص: 108

والرواية الثانية: لا يجوز؛ لأنه شم يحصل به طيب وترفه فلم يبح كشم الغالية والمسك.

فعلى هذه عليه الفدية إذا فعل ذلك؛ لأنه فعلٌ محرم يقصد به الترفه أشبه الحلق.

وفرق المصنف رحمه الله في الكافي بين الريحان وبين الورد والبنفسج، وصحح كون الورد والبنفسج طيباً، وقاسه على الزعفران.

وأما الادهان بدهن غير مطيب كالشيرج والزيت ودهن اللبان ففيه روايتان:

أحدهما: يجوز؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن في إحرامه بزيت غير مقتت» (1) أي غير مطيب رواه الإمام أحمد والأثرم في السنن.

ولأنه قول ابن عباس وابن عمر والأسود بن يزيد رضي الله عنهم.

والرواية الثانية: لا يجوز؛ لأنه يزيل الشعث ويسكن الشعر فمنع منه قياساً على المطيب.

وأما قول المصنف رحمه الله: في شعره مشعر بأنه لا يحرم عليه الادهان بذلك في بدنه وهو صحيح صرح به في المغني.

ونقل عن ابن المنذر أنه قال: أجمع عوام أهل العلم على أن للمحرم أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن.

وقال القاضي وغيره من الأصحاب: الخلاف جار في دهن البدن كدهن الرأس لأن البدن كالرأس في إزالة الشعث وتسكين الشعر.

قال رحمه الله: (وإن جلس عند العطار أو في موضع ليشم الطيب فشمه فعليه الفدية، وإلا فلا).

أما وجوب الفدية إذا جلس لقصد شم الطيب فشمه فلأنه شمه قاصداً مبتدءاً به في الإحرام فحرم عليه ووجبت الفدية كما لو باشره.

وأما عدم وجوبها إذا جلس لا لقصد ذلك فلأنه لا يمكن التحرز منه، وما هذا شأنه لا تجب به فدية.

(1) أخرجه أحمد في مسنده (6322) 2: 145.

ص: 109

فصل [في الصيد للمحرم]

(السادس: قتل صيد البر واصطياده. وهو: ما كان وحشياً مأكولاً، أو متولداً منه ومن غيره. فمن أتلفه أو تلف في يده أو أتلف جزءاً فعليه جزاؤه).

أما كون قتل صيد البر من محظورات الإحرام؛ فلقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95].

وأما كون اصطياده من محظورات الإحرام؛ فلقوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} [المائدة: 96].

وأما كون الصيد ما كان وحشياً مأكولاً ومتولداً منه ومن غيره فلأن غير ذلك إما أهلي وإما محرم الأكل. والأهلي ليس بصيد ولذلك يذبح في الهدايا والضحايا مع تحريم الصيد على المحرم، ومحرم الأكل يباح قتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح قتل بعض غير المأكول بقوله:«خمس فواسق يقتلن في الحرم» (1).

وفي لفظ: «خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهم جناح: الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور» (2) متفق عليه.

فيقاس عليه غيره مما لم يقم دليل على تحريم قتله.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1732) 2: 650 أبواب الإحصاء وجزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1198) 2: 857 كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3137) 3: 1205 كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يُقتلن في الحرم.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1199) 2: 858 كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم.

ص: 110

فإن قيل: لم حرم قتل المتولد وهو غير مأكول؟

قيل: لأنه اجتمع فيه مبيح ومحرم فغلب جانب التحريم.

ولأنه حرم أكله تغليباً فكذلك قتله.

وأما وجوب الجزاء على من أتلف ذلك؛ فلقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95].

وأما وجوبه على من تلف في يده فلأنه تلف تحت يد عادِيَة أشبه ما لو تلف في يده العادية مال الآدمي.

وأما وجوب جزاء الجزء فلأن ما يضمن جملته يضمن أجزاؤه دليله مال الآدمي.

قال رحمه الله: (ويضمن ما دل عليه أو أشار إليه أو أعان على ذبحه أو كان له أثر في ذبحه مثل أن يعيره سكيناً إلا أن يكون القاتل محرماً فيكون جزاؤه بينهما).

أما وجوب الضمان في ذلك كله فلأن فعل جميع ذلك حرام لأنه وسيلة إلى حرام فكان حراماً كسائر الوسائل.

ولأن فعل كل واحد من ذلك يُحرّم الأكل لما يأتي، ولو لم يحرم فعله لما حرم الأكل كصيد المحرم الذي لا أثر للحلال فيه.

وأما كون الضمان في ذلك على الدالّ والمشير والمعين ومن له أثر في الذبح وحده إذا لم يكن القاتل محرماً فلأنه يختص بالحرمة لكون الحلال لا يحرم عليه قتل الصيد.

وأما كونه بينه وبين القاتل إذا كان محرماً فلأنهما يشتركان في التحريم فكذا في الجزاء.

قال رحمه الله: (ويحرم عليه الأكل من ذلك كله وأكل ما صيد لأجله. ولا يحرم عليه الأكل من غير ذلك).

أما تحريم الأكل مما دل عليه أو أشار فلما روى أبو قتادة رضي الله عنه «أنه كان مع أصحاب له محرمين وهو لم يحرم. فأبصروا حماراً وحشياً وأنا مشغول أخصف نعلي. فلم يؤذنوني به وأحبوا لو أنّي أبصرته. فركبت ونسيت السوط والرمح. فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح. فقالوا: والله! لا نعينك عليه. فلما سألوا رسول الله

ص: 111

صلى الله عليه وسلم قال: هل منكم أحد أمره أن يَحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا. قال: كلوا ما بقي من لحمها» (1) متفق عليه.

وأما تحريم أكل ما أعان عليه فلأن ذلك في معنى الإشارة فوجب أن يحرم لأن الاشتراك المعنوي يوجب الاشتراك الحكمي.

وأما تحريم أكل ما صيد لأجله وعدم تحريم غير ما صرح بتحريمه فلما روى جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصاد لكم» (2) رواه الترمذي. وقال: هذا أحسن حديث في الباب.

قال رحمه الله: (وإن أتلف بيض صيد أو نقله إلى موضع آخر ففسد فعليه ضمانه بقيمته).

أما وجوب ضمان بيض الصيد بإتلافه فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه» (3) رواه ابن ماجة.

وأما وجوب ضمانه إذا فسد بنقله فلأنه تسبب في إتلافه، والتسبب في الإتلاف كالمباشرة.

وأما كون الضمان فيهما بالقيمة فلأنه لا مثل للبيض فتجب فيه القيمة كسائر ما لا مثل له.

فإن قيل: في الحديث المتقدم ثمنه.

قيل: المراد بالثمن ذلك، إذ غالب الأشياء يعدل ثمنها قيمتها.

قال رحمه الله: (ولا يملك الصيد بغير الإرث. وقيل: لا يملكه به أيضاً).

أما كون الصيد لا يملكه المحرم بغير الإرث مثل أن يهدى إليه فيقبله أو يشتريه

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1728) 2: 648 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1196) 2: 853 كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم.

(2)

أخرجه الترمذي في جامعه (846) 3: 203 كتاب الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم.

(3)

أخرجه ابن ماجة في سننه (3086) 2: 1031 كتاب المناسك، باب جزاء الصيد يصيبه المحرم.

ص: 112

أو يتهبه أو نحو ذلك فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إليه الصعب بن جثامة حماراً وحشياً فرده عليه. وقال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» (1).

فإن قيل: الحديث المذكور في الهدية فلم عُدّي إلى غيرها؟

قيل: لمساواته لها معنى.

وأما ملكه بالإرث ففيه وجهان:

أحدهما: لا يمكله بالقياس على ما تقدم.

والثاني: يملكه. وهو الصحيح لأنه يدخل في ملكه حكماً اختار ذلك أو كرهه ولهذا يدخل في ملك الصبي والمجنون بخلاف بقية الأسباب.

قال رحمه الله: (وإن أمسك صيداً حتى تحلل ثم تلف أو ذبحه ضمنه وكان ميتة.

وقال أبو الخطاب: له أكله).

أما وجوب الضمان في الحالتين المذكورتين فلأنه تلف بسبب كان في إحرامه فضمنه كما لو جرحه فمات بعد حله.

وأما كونه ميتة على المذهب فلأنه صيد يلزمه ضمانه فلم يبح ذبحه كحال الإحرام.

وأما كون المحرم له أكله على قول أبي الخطاب فلأنه ذبحه حال حله فأبيح له كغيره.

قال رحمه الله: (وإن أحرم وفي يده صيد أو دخل الحرم بصيد لزمه إزالة يده المشاهدة دون الحكمية عنه. فإن لم يفعل فتلف ضمنه. وإن أرسله إنسان من يده قهراً فلا ضمان على المرسل).

أما لزوم إزالة يده المشاهدة إذا أحرم وفي يده صيد أو دخل الحرم بصيد فلأن في عدم إزالة يده إمساكاً للصيد فلم يجز كحالة الابتداء.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1729) 2: 649 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب إذا أهدى للمحرم حماراً وحشياً حياً لم يقبل.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1193) 2: 850 كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم.

ص: 113

وأما عدم لزوم إزالة يده الحكمية فلأنها (1) فلم يلزم إزالتها كما لو لم يكن محرماً.

فإن قيل: ما المشاهدة وما الحكمية؟

قيل: اليد المشاهدة أن يكون في قبضته أو رَحْله أو خيمته أو قفصٍ معه أو مربوطاً معه، واليد الحكمية أن يكون له صيد في بلده أو يد نائبه في غير مكانه.

وأما وجوب الضمان إذا لم تَزُل يده فتلف فلأنه تلف تحت اليد العادِيَة فلزمه الضمان كمال الآدمي.

وأما عدم وجوبه على من أرسله من يده قهراً فلأنه فعل ما يلزمه فعله.

ولأن اليد يد زال حكمها وحرمتها.

قال رحمه الله: (وإن قتل صيداً صائلاً عليه دفعاً عن نفسه أو بتخليصه من سبع أو شبكة ليطلقه لم يضمنه. وقيل: يضمنه فيهما).

أما عدم وجوب الضمان على من قتل صيداً صائلاً عليه على الوجه الأول فلأنه ألجأه إلى قتله فلم يضمنه كالآدمي الصائل.

وأما عدم وجوب ضمانه إذا قتله بتخليصه فلأنه فعلٌ أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمن ما تلف به كما لو داوى ولي الصبيِّ الصبيَّ فمات بذلك.

وأما وجوب ضمانه فيهما: أما في الأولى: فلأنه قتله لحاجة نفسه أشبه ما لو قتله للحاجة إلى أكله.

وأما في الثانية: فلعموم الآية.

ولأن غاية ما فيه أنه عدم القصد إلى قتله أشبه قتل الخطأ.

قال رحمه الله: (ولا تأثير للحرم ولا للإحرام في تحريم حيوان إنسي ولا مٌحَرّم الأكل إلا القمل في رواية. وأي شيء تصدّق به كان خيراً منه).

أما عدم تأثير الحرم والإحرام في تحريم الحيوان الإنسي كالبقر والغنم ونحو ذلك فلأن الله تعالى إنما حرم الصيد وليس هذا بصيد. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتقرب إلى الله تعالى بذبح ذلك في إحرامه.

(1) بياض في ج مقدار ثلاث كلمات.

ص: 114

وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الحج العج والثج» (1). يعني إسالة الدم بالنحر.

وأما عدم تأثيرهما في تحريم محرم الأكل غير القمل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح قتل ذلك بقوله: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم» (2).

وقال: «خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور» (3) متفق عليه.

نص على الخمس الفواسق وقيس عليهن كل مؤذ.

وأما القمل ففيه روايتان:

أحدهما: لا تأثير لهما في قتله لأنه يحرم أكله ويؤذي أشبه البراغيث.

والثانية: يحرم قتله في الإحرام؛ لأنه يترفه بإزالته.

فعلى هذا فيه الجزاء وأي شيء تصدق به كان خيراً منه لأنه لم يرد فيه أثر.

قال رحمه الله: (ولا يحرم صيد البحر على المحرم. وفي إباحته في الحرم روايتان).

أما عدم حرمة صيد البحر على المحرم؛ فلأن الله تعالى قال: {أُحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحُرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} [المائدة: 96].

وصيد البحر ما يعيش في الماء كالسمك والسرطان ونحو ذلك وسواء كان في الماء الملح أو العذب كالآبار والعيون لأن لفظ البحر يطلق على الكل قال الله سبحانه: {وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج} [الفرقان: 53] فسمى العذب بحراً.

ولأن الله تعالى قابله بصيد البر فدل على أن ما ليس من صيد البر من صيد البحر.

وأما صيده من آبار الحرم ففيه روايتان:

(1) أخرجه الترمذي في جامعه (827) 3: 189 كتاب الحج، باب ما جاء في فضل التلبية والنحر. بلفظ:«أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ قال: العج والثج» . عن أبي بكر الصديق.

والعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: نحْر البُدْن.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (2924) 2: 975 كتاب المناسك، باب رفع الصوت بالتلبية. مثله.

(2)

سبق تخريجه ص: 112.

(3)

سبق تخريجه ص: 112 ..

ص: 115

أحدهما: يباح؛ لأنه لا يؤثر فيه الإحرام فكذلك الحرم.

والثانية: يحرم؛ لأنه صيد حرمي أشبه صيد الحرم.

قال رحمه الله: (ويُضمن الجراد بقيمته. فإن انفرش في طريقه فقتله بالمشي عليه ففي الجزاء وجهان. وعنه: لا ضمان في الجراد).

أما ضمان الجراد على المذهب فلما روي «أن ابن عمر رضي الله عنه أوجب فيه الجزاء» (1).

ولأنه طائر أشبه سائر الطيور.

وأما ما يُضمن به فنص الإمام أحمد رحمه الله على أنه يجب في الجرادة تمرة؛ لأنه يروى عن ابن عمر (2).

وقال بعض أصحابنا: يضمن بالقيمة؛ لأنه متلف غير مثلي فضُمن بالقيمة كسائر المتلفات التي لا مثل لها.

وقال القاضي أبو يعلى: ليس هذا منه -يعني من الإمام أحمد- تقديراً بل تقويماً.

وأما إذا انفرش في طريقه فقتله بالمشي عليه ففيه وجهان:

أحدهما: لا جزاء عليه؛ لأنه اضطره إلى إتلافه أشبه ما لو صال عليه.

والثاني: عليه الجزاء؛ لأنه أتلفه لمنفعته أشبه ما لو اضطر إلى أكله.

وأما عدم وجوب الضمان في الجراد على روايةٍ؛ فلأنه من صيد البحر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجراد من صيد البحر» (3).

وفي لفظ: «أنه سئل عنه فقال: إنما هو من البحر» (4) رواه أبو داود.

(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (15622) 3: 410 كتاب الحج، في المحرم يقتل الجرادة. من طريق علي بن عبدالله البارقي قال:«كان ابن عمر يقول: في الجرادة قبضة من طعام» .

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه من طريق أبي سلمة عن ابن عمر. ر. تلخيص الحبير 1: 540.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (1853) 2: 171 كتاب المناسك، باب في الجراد للمحرم. عن أبي هريرة.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (1854) 2: 171 كتاب المناسك، باب في الجراد للمحرم. ولفظه: عن أبي هريرة قال: «أصبنا صِرْماً من جراد فكان رجل منا يضرب بسوطه وهو محرم فقيل له إن هذا لا يصلح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما هو من صيد البحر» .

وأخرجه الترمذي في جامعه (850) 3: 207 كتاب الحج، باب ما جاء في صيد البحر للمحرم. وفيه:«كلوه فإنه من صيد البحر» .

وأخرجه ابن ماجة في سننه (3222) 2: 1074 كتاب الصيد، باب صيد الحيتان والجراد. نحو لفظ الترمذي.

وأخرجه أحمد في مسنده (8750) 2: 364. وفيه: «لا بأس بصيد البحر». كلهم عن أبي المهزم عن أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي المُهَزِّمِ عن أبي هريرة وأبو المهزم اسمه يزيد بن سفيان وقد تكلم فيه شعبة. وقال أبو داود: أبو المهزم ضعيف.

ص: 116

والأولى وجوب الضمان لأن أبا داود رضي الله عنه قال في الحديثين جميعاً: هما جميعاً وهم (1).

قال رحمه الله: (ومن اضطر إلى أكل الصيد أو احتاج إلى شيء من هذه المحظورات فله فعله وعليه الفداء).

أما كون المضطر له أكل ما اضطر إلى أكله فلمكان الضرورة.

وأما كون المحتاج إلى شيء من المحظورات المتقدم ذكرها له فعل ما احتاج إلى فعله فلأن كعب بن عجرة احتاج إلى الحلق فأباحه النبي صلى الله عليه وسلم. روي أنه قال: «لعلك يؤذيك هوامّ رأسك. قال: نعم يا رسول الله! قال: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع تمراً أو انسك شاة» (2) متفق عليه.

وأما وجوب الفداء في الصورتين: أما فيما إذا اضطر فلأن أكل الصيد إتلاف فوجب ضمانه كما لو اضطر إلى طعام الغير.

وأما وجوبه فيما إذا احتاج؛ فلما ذكر في حديث كعب.

(1) سنن أبي داود 1: 171.

(2)

سبق تخريج حديث كعب بن عجرة ص: 99.

ص: 117

فصل [في عقد النكاح للمحرم]

قال المصنف رحمه الله: (السابع: عقد النكاح لا يصح منه. وفي الرجعة روايتان. ولا فدية عليه في شيء منهما).

أما كون النكاح من محظورات الإحرام فلما روى عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب» (1) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ولأن الإحرام يُحرّم الطيب فيحرم النكاح كالعدة.

فإن قيل: فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم» (2) متفق عليه.

قيل: ذلك معارض بما روى يزيد بإسناده عن ميمونة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً وبنى بها حلالاً وماتت بسرف ودفناها في الظلة التي بنى بها فيها» (3) رواه أبو داود والأثرم والترمذي.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1409) 2: 1031 كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته.

وأخرجه أبو داود في سننه (1841 - 1842) 2: 169 كتاب المناسك، باب المحرم يتزوج.

وأخرجه الترمذي في جامعه (840) 3: 199 كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1740) 2: 652 كتاب المغازي، باب عمرة القضاء.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1410) 2: 1031 كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه مختصراً (1411) 2: 1032 كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته.

وأخرجه أبو داود في سننه (1843) 2: 169 كتاب المناسك، باب المحرم يتزوج، مختصراً أيضاً.

وأخرجه الترمذي في جامعه (845) 3: 203 كتاب الحج، باب ما جاء في الرخصة في ذلك.

ص: 118

وبما روى أبو رافع رضي الله عنه قال: «تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول بينهما» (1) قال الترمذي: هذا حديث حسن.

بل ما ذكرنا راجح؛ لأن ميمونة رضي الله عنها أعلم بنفسها وأبا رافع أعلم من غيره؛ لأنه كان السفير بينهما.

ولأن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيراً وقد أُنكر هذا القول عليه.

ولأن ما ذكرنا اجتمع فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وما ذكر فيه فعله لا غير.

ثم يمكن حمل قول ابن عباس: «تزوجها محرماً» (2) على أنه تزوجها في الشهر الحرام كما قيل: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما.

وقيل: تزوجها حلالاً وظهر أمر تزويجها وهو محرم.

وأما الرجعة ففيها روايتان:

أحدهما: أنها كذلك لأنها عقدٌ وُضع لإباحة البضع أشبه النكاح.

والرواية الثانية: لا تحرم. وهي الصحيحة في المذهب؛ لأن الرجعة إمساك الزوجة بدليل قوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف} [الطلاق: 2].

ولأنها تجوز بغير ولي ولا شهود.

وأما عدم وجوب الفدية في شيء منهما فلأن ذلك عقد فسد للإحرام فلم يجب به فدية كشري الطيب.

(1) أخرجه الترمذي في جامعه (841) 3: 200 كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم.

وأخرجه أحمد في مسنده (27241) 6: 392.

(2)

سبق تخريجه قريباً.

ص: 119

فصل [في الجماع للمحرم]

قال المصنف رحمه الله: (الثامن: الجماع في الفرج قبلاً كان أو دبراً من آدمي أو غيره، فمتى فعل ذلك قبل التحلل الأول فسد نسكه عامداً كان أو ناسياً، وعليهما المضي في فاسده والقضاء على الفور من حيث أحرما أوّلاً).

أما كون الجماع من محظورات الإحرام فلقوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «الرفث الجماع» . يدل عليه قوله: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} [البقرة: 187] أي الجماع.

وأما التسوية في الوطء بين الدبر والقبل ومن الآدمي وغيره فلاشتراك ذلك كله في وجوب الغسل به.

ولأن الوطء في الدبر ولغير الآدمي حرام في غير الإحرام فلأن يحرم في الإحرام بطريق الأولى.

وأما فساد النسك بفعل ذلك قبل التحلل الأول فلما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رجلاً سأله فقال: إني وقعت بامرأتي ونحن محرمان. فقال: أفسدت حجك» (1).

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعبدالله بن عمرو (2). ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعاً.

وأما وجوب المضي في فاسده ووجوب القضاء على الفور فلأن تكملة حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال للسائل: «انطلق أنت وأهلك مع الناس فاقضوا ما يقضون

(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 167 - 168 كتاب الحج، باب ما يفسد الحج.

(2)

أخرجه البيهقي عنهما في الموضع السابق.

ص: 120

وحلوا إذا حلوا فإذا كان العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك واهديا فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم» (1) وكذلك روي عن الصحابة المتقدم ذكرهم والحجة ما مر.

وأما وجوب الإحرام من الموضع الذي أحرما منه أولاً فلأن القضاء يحكي الأداء.

وأما تسوية عمد وطء المحرم بسهوه فلأن ابن عمر وابن عباس وعبدالله بن عمرو رضي الله عنهم لما قالوا للواطئ في إحرامه: «أفسدت حجك» لم يستفصلوه عن سهوه، ولو افترق الحال لوجب الاستفصال.

قال رحمه الله: (ونفقة المرأة في القضاء عليها إن طاوعت، وإن أكرهت فعلى الزوج).

أما وجوب نفقة المرأة في القضاء عليها إذا طاوعت فلأنها أفسدت حجها بالمجامعة فكانت النفقة عليها.

ولقول ابن عمر رضي الله عنهما: «واهديا هديا» أضاف الفعل إليهما فكان على كل واحد منهما هديه.

ولفظ ابن عباس رضي الله عنهما: «اهد ناقة ولتهد ناقة» (2).

ولأنها بمطاوعتها أفسدت حجها فكانت النفقة عليها كالرجل المفسد لنسكه.

وأما وجوبها على الزوج إذا أكرهها فلأنه هو المفسد لحجها فكانت عليه نفقتها كنفقة حجه.

قال رحمه الله: (ويتفرقان في القضاء من الموضع الذي أصابها فيه إلى أن يحلا. وهل هو واجب أو مستحب؟ على وجهين).

أما تفرقهما من الموضع المذكور فلأن في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «ويتفرقان من حيث يحرمان ولا يجتمعان حتى يقضيا» (3).

(1) سبق في الحديث السابق.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 167 - 168 كتاب الحج، باب ما يفسد الحج.

(3)

سبق تخريج حديث ابن عباس قريباً.

ص: 121

وأما وجوب ذلك ففيه وجهان:

أحدهما: أنه واجب؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما ذكره حكماً للمجامع فكان واجباً كالقضاء.

والثاني: لا يجب؛ لأنه حج فلم يجب فيه مفارقة الزوجة كغير القضاء.

ولأن مقصود الفراق التحرز من إصابتها وهذا وهم لا يقتضي الوجوب.

فعلى هذا يكون مستحباً لأنه اختلف في وجوبه فأدنى أحواله أن يكون مستحباً.

فإن قيل: ما معنى التفرق؟

قيل: اجتناب الركوب معها على بعير واحد والجلوس معها في خباء، ولا بأس أن يكون قريباً منها يراعي أحوالها؛ لأنه محرمها.

قال: (وإن جامع بعد التحلل الأول لم يفسد حجه ويمضي إلى التنعيم فيُحرم ليطوف وهو محرم. وهل تلزمه بدنة أو شاة؟ على روايتين).

أما عدم فساد حج من جامع بعد التحلل الأول وقبل الثاني فلأن الحج عبادة لها تحللان فوجود المفسد بعد أولهما لا يفسد كالصلاة.

وأما مضيه إلى التنعيم فلأن إحرامه فسد؛ لأنه وطء صادف إحراماً فأفسده كما قبل التحلل الأول، والطواف لا يصح إلا في إحرام صحيح؛ لأنه ركن فوجب أن يأتي به في إحرام صحيح كالوقوف.

واعلم أن المراد من فساد الإحرام بقيته لا فساد كله؛ لأنه لو فسد كله كان يلزم منه وقوع الوقوف في غير إحرام.

فعلى هذا يُحرم من الحل ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم.

فإن قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله يقتضي أنه يحرم من التنعيم ولا بد؟

قيل: ليس مراده ذلك بدليل أنه قال في المغني قول الخرقي يحرم من التنعيم لم يذكر ليتعين الإحرام منه بل لأنه حِلّ فمن أي حِلٍّ أحرم جاز.

وظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا أنه إذا أحرم لا يجب عليه إلا الطواف لأنه اقتصر عليه.

ص: 122

وقال في المغني بعد ذكر الطواف: هذا ظاهر كلام الخرقي إلا أنه ضم إليه السعي إن لم يكن سعى. وعلل الاقتصار على ذلك بأن الذي [بقي](1) عليه بقية أفعال الحج. ثم قال: والمنصوص عن أحمد ومن وافقه من الأئمة أنه يعتمر. ثم قال: فيحتمل أنهم أرادوا الإحرام والطواف وسموه عمرة لأن ذلك جُلّ أفعال العمرة. ويحتمل أنهم ألزموه جميع أفعال العمرة لأنه إحرام مستأنف فكان فيه سعي وتقصير كالعمرة المنفردة. ثم قال: والأول أصح في المعنى.

وأما ما يلزمه ففيه روايتان:

أحدهما: بدنة؛ لأنه قول ابن عباس (2).

ولأنه وطء في الحج فوجبت به بدنة كما لو لم يتحلل.

والثانية: شاة؛ لأنه وطء لا يُفْسِد الحج أشبه الاستمتاع دون الفرج الخالي عن الإنزال.

ولأن الإحرام خَفّ بالتحلل الأول فينبغي أن يكون موجَبه دون موجَب الإحرام التام.

قال المصنف رحمه الله في المغني: هذا -يعني وجوب الشاة- ظاهر كلام الإمام أحمد والخرقي.

(1) بياض في ج، وقد استدركناه من المغني.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 168 كتاب الحج، باب ما يفسد الحج.

ص: 123

فصل [في المباشرة للمحرم]

قال المصنف رحمه الله: (التاسع: المباشرة فيما دون الفرج لشهوة، فإن فعل فأنزل فعليه بدنة. وهل يفسد نسكه؟ على روايتين، وإن لم ينزل لم يفسد).

أما كون المباشرة من محظورات الإحرام فلأن ذلك وسيلة إلى الوطء وهو محرم، والوسيلة إلى المحرم تكون محرمة.

وأما وجوب البدنة إذا فعل ذلك فأنزل فلأنه جماع اقترن به الإنزال فأوجب بدنة كالجماع في الفرج.

وأما فساد النسك بذلك ففيه روايتان:

أحدهما: لا يفسد؛ لأنه استمتاع لا يجب بنوعه الحد فلا يفسد به الحج كما لو لم ينزل.

والثانية: يفسد؛ لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الوطء في الفرج. وصحح هذه الرواية صاحب النهاية في مختصره.

وأما عدم فساده إذا لم ينزل فلأنها مباشرة عريت عن إنزال فلم يفسد بها الحج كاللمس، أو مباشرةٌ لا توجب الاغتسال فلا يفسد بها الحج كاللمس.

ص: 124

فصل [في إحرام المرأة]

قال المصنف رحمه الله: (والمرأة إحرامها في وجهها. ويحرم عليها ما يحرم على الرجل إلا في اللباس وتظليل المحمل).

أما كون إحرام المرأة في وجهها فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولا تتنقب المرأة الحرام» (1) رواه البخاري. نهى المرأة عن النقاب فلو لم يحرم تغطية وجهها لما نهاها عنه.

فإن قيل: فلو احتاجت إلى ستر وجهها عند مرور الرجال قريباً منها؟

قيل: ترسل ثوباً من فوق رأسها على وجهها لما روت عائشة رضي الله عنها: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه» (2) رواه أبو داود.

ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها فلم يحرم على الإطلاق كالعورة من الرجل.

وأما كون المرأة يحرم عليها ما يحرم على الرجل غير اللباس وتظليل المحمل فلأن ذلك كله حرام على الرجل لإحرامه، وهو موجود في المرأة فيحرم عليها ذلك لوجود سببه.

وأما كونها لا يحرم عليها اللباس والتظليل فلأن المرأة عورة يحرم النظر إليها ويستحب لها المبالغة في الستر، وحرمة اللباس والتظليل يناقض ذلك بخلاف الرجل.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1741) 2: 653 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1177) كتاب الحج. كلاهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (1833) 2: 167 كتاب المناسك، باب في المحرمة تغطي وجهها.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (2935) 2: 979 كتاب المناسك، باب المحرمة تسدل الثوب على وجهها.

وأخرجه أحمد في مسنده (24067) 6: 30.

ص: 125

قال: (ولا تلبس القفازين والخلخال ونحوه، ولا تكتحل بالإثمد).

أما كون المرأة لا تلبس القفازين فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتنقب المرأة الحرام ولا تلبس القفازين» (1) رواه البخاري.

وفي لفظ: «نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب» (2).

فإن قيل: ما القفازان؟

قيل: شيء يعمل لليدين يدخلان فيه من الحر مثل ما يعمل للبُزاة.

وأما كونها لا تلبس الخلخال وما أشبهه كالسوار والدملج فلأن المحرمة كالمتوفى عنها زوجها في اجتناب الطيب.

وظاهر كلام المصنف رحمه الله أن لبسه حرام لأنه عطفه على القفازين ولبسهما حرام فكذلك المعطوف عليهما.

قال المصنف رحمه الله في المغني بعد ذكر ذلك: ظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز لبسه. وروي عن الإمام أحمد رحمه الله على أنه قال: المحرمة والمتوفى عنها زوجها يتركان الطيب والزينة.

وظاهره تحريم الحلي المذكور.

وأما الكحل بالإثمد فليس حراماً بل مكروهاً صرح به المصنف رحمه الله في المغني والكافي. والأصل فيه «قول عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لها: اشتكت عيني وأنا محرمة: اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد أو الأسود. أما إنه ليس حراماً ولكنه زينة فنحن نكرهه» (3).

وفي ذكر الإثمد دليل على عدم كراهة الاكتحال بغيره. وصرح به المصنف في المغني. والأصل فيه حديث عائشة المتقدم فإن فيه: «اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد» (4) مع أنها نفت الحرمة عن الإثمد فدل على أن غيره ليس بمكروه.

(1) سبق تخريجه في الحديث قبل السابق.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (1827) 2: 166 كتاب المناسك، باب ما يلبس المحرم.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه مختصراً (14851) 3: 335 كتاب الحج، في الكحل للمحرم والمحرمة.

وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 63 كتاب الحج، باب المحرم يكتحل بما ليس بطيب.

(4)

سبق تخريجه في الحديث السابق.

ص: 126

قال: (ويجوز لبس المعصفر والكحلي والخضاب بالحناء والنظر في المرآة لهما جميعاً).

أما جواز لبس المعصفر والكحلي فلقوله صلى الله عليه وسلم: «ولتلبس إحداكن ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو كحلي» .

وأما الخضاب بالحناء فلأن عكرمة قال: «كانت عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء وهن حرم» (1).

وأما النظر في المرآة للرجل والمرأة فإن كان القصد بذلك إزالة شعث أو تسوية شعر أو شيئاً من الزينة كره لأنه زينة وقد روي: «إن المحرم الأشعث الأغبر» . وفي الحديث: «إن الله تعالى يباهي الملائكة بأهل عرفة فيقول: يا ملائكتي! انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين» (2).

وإن كان لغير ذلك جاز من غير كراهة.

أما الجواز فلأنه إذا جاز فيما تقدم فلأن يجوز في غيره بطريق الأولى.

وأما عدم الكراهية فلانتفاء موجبها المتقدم ذكره.

(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11186) 11: 105 عن عمرو بن دينار عن ابن عباس.

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (7089) 2: 224. عن عبدالله بن عمرو.

ص: 127