المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الصلح الصلح: معاقدة يتوصل بها الى الإصلاح بين المختلفين. وتتنوع - الممتع في شرح المقنع - ت ابن دهيش ط ٣ - جـ ٢

[ابن المنجى، أبو البركات]

الفصل: ‌ ‌باب الصلح الصلح: معاقدة يتوصل بها الى الإصلاح بين المختلفين. وتتنوع

‌باب الصلح

الصلح: معاقدة يتوصل بها الى الإصلاح بين المختلفين. وتتنوع أنواعاً المقصود منها هنا الصلح بين المتخاصمين في الأموال.

والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {والصلح خير} [النساء: 128]، وقوله تعالى:{فأصلحوا بين أَخَوَيْكم} [الحجرات: 10].

وأما السنة فما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلحُ بينَ المسلمينَ جائزٌ إلا صُلحاً حرمَّ حلالاً أو أحلَّ حراماً» (1) أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح.

وأما الإجماع فأجمعت الأمة على جواز الصلح في الجملة.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (3594) 3: 304 كتاب الأقضية، باب في الصلح.

وأخرجه الترمذي في جامعه (1352) 3: 634 كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (2353) 2: 788 كتاب الأحكام، باب الصلح.

ص: 605

قال المصنف رحمه الله: (الصلح في الأموال قسمان:

أحدهما: صلح على الإقرار. وهو نوعان:

أحدهما: الصلح (1) على جنس الحق؛ مثل: أن يقر له بدين فيضع عنه بعضه، أو بعين (2) فيهب له بعضها ويأخذ الباقي فيصح إن لم يكن بشرط؛ مثل أن يقول: على أن تعطيني الباقي، أو يمنعه حقه بدونه).

أما كون الصلح في الأموال قسمين؛ فلأنه تارة يكون على الإقرار، وتارة يكون على الإنكار.

وأما كون الصلح على الإقرار نوعين؛ فلأنه تارة يكون على جنس الحق كما مثّل المصنف رحمه الله، وتارة يكون بغير جنس الحق كما سيأتي بعد إن شاء الله تعالى.

وأما كون أحدهما الصلح على جنس الحق؛ فظاهر.

وأما كونه يصح إن لم يكن بشرط إعطاء الباقي أو المنع من إعطاء الحق بدون الصلح؛ فلأن الإنسان لا يُمنع من إسقاط بعض حقه كما لا يُمنع من استيفائه.

وأما كونه لا يصح بشرط إعطاء الباقي أو المنع من إعطاء الحق بدونه؛ فلأنه آكل لمال الغير بالباطل وهو هضم لحقه.

قال: (ولا يصح ممن لا يملك التبرع كالمكاتب والمأذون له وولي اليتيم إلا في حال الإنكار وعدم البينة).

أما كون صلح من لا يملك التبرع في غير حال الإنكار وعدم البينة لا يصح؛ فلأن ذلك تبرع ومن ذكر لا يملك التبرع.

وأما قول المصنف رحمه الله: كالمكاتب والمأذون له وولي اليتيم فتمثيل لمن لا يملك التبرع.

وأما كونه في حال الإنكار وعدم البينة يصح؛ فلأن استيفاء البعض عند العجز عن استيفاء الكل أولى من تركه. وتقييد المصنف رحمه الله الإنكار بعدم البينة إشعار بأن

(1) في هـ: صلح.

(2)

في هـ: عين.

ص: 606

الصلح في حال الإنكار مع البينة لا يصح وهو صحيح لأنه يمكنه استيفاء الكل فالصلح والحالة هذه تبرع ومن (1) ذكر لا يملك التبرع.

قال: (ولو صالح عن المؤجل ببعضه حالاًّ لم يصح، وإن وضع بعض الحالّ وأجّل باقيه صح الإسقاط دون التأجيل).

أما كون الصلح عن المؤجل ببعضه حالاًّ لا يصح؛ فلأن الذي يسقط يقع عوضاً عن التأجيل وذلك لا يجوز كما لا يجوز أن يعطيه عشرة دراهم حالّة بعشرين مؤجلة.

وأما كون الإسقاط إذا وضع بعض الحالّ وأجل باقيه يصح؛ فلأنه أسقطه عن طيب نفسه ولا مانع من صحته؛ لأنه ليس في مقابلة تأجيل فوجب أن يصح كما لو أسقطه.

وأما كون التأجيل لا يصح؛ فلأن الحالّ لا يتأجل.

قال: (وإن صالح عن الحق بأكثر منه من جنسه؛ مثل: أن يصالح عن دية الخطأ أو عن قيمة مُتْلَف بأكثر منها من جنسها لم يصح. وإن صالحه بعرض قيمته أكثر منها صح فيهما، وإن صالحه عن بيت على أن (2) يسكنه سنة أو يبني له فوقه غرفة لم يصح).

أما كون الصلح عن الحق بأكثر منه من جنسه كما مثّل المصنف رحمه الله لا يصح؛ فلأن الزائد لا مقابل له فيكون ربا وذلك حرام والصلح لا يُحل الحرام؛ لقوله عليه السلام: «إلا صلحاً أحل حراماً» (3).

وأما كونه يصح في كل واحد منهما بعرض قيمته أكثر منها؛ فلأنه معاوضة لا ربا بين العوض والمعوض فصح كما لو باعه ما يساوي عشرة بدرهم والضمير في قوله: فيهما عائد إلى دية الخطأ وقيمة المتلَف.

(1) في هـ: من.

(2)

ساقط من هـ.

(3)

سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ص: 607

وأما كون الصلح عن البيت على أن يسكنه سنة أو يبني له فوقه غرفة لا يصح؛ فلأنه صالحه عن ملكه بملكه.

قال: (وإن قال: أقر لي بديني وأعطيك منه مائة ففعل صح الإقرار، ولم يصح الصلح).

أما كون الإقرار فيما ذكر يصح؛ فلأنه إقرار بحق يحرم عليه إنكاره.

وأما كون الصلح لا يصح؛ فلأنه يجب عليه الإقرار بالحق فلم يحل له أخذ العوض عما يجب عليه.

قال: (وإن صالح إنساناً ليقر له بالعبودية أو امرأة لتقر له بالزوجية (1) لم يصح. وإن دفع المدعى عليه العبودية إلى المدعي مالاً صلحاً عن دعواه صح).

أما كون من صالح إنساناً ليقر له بالعبودية أو امرأة لتقر له بالزوجية لا يصح؛ فلأن ذلك صلح يحل حراماً؛ لأن إرقاق الحر وبذل المرأة نفسها بعوض لا يجوز.

وأما كون المدعى عليه العبودية إذا دفع إلى المدعي مالاً صلحاً عن دعواه يصح: أما في حق الآخذ؛ فلأنه يجوز أن يعتق عبده بعوض. وأما في حق الدافع؛ فلأنه يقطع الخصومة المتوجهة عليه.

وزاد المصنف رحمه الله في المغني على ذلك بأن قال: ويدفع اليمين الواجبة عليه. وفي تخصيص المصنف رحمه الله جواز الدفع في العبودية دليل على أن المرأة المدعى عليها الزوجية لا يجوز أن تدفع شيئاً إلى المدعي على وجهِ الصلح. وقد صرح به في المغني وعلله بأن الدفع في الإنكار لا يفيد اليمين وقطع الخصومة، ولا يمين عليها.

ولأن خروج البعض من ملك الزوج لا قيمة له وإنما أجيز الخلع لأجل الحاجة إلى افتداء نفسها.

ثم قال: وخرّج ابن عقيل جوازه بناء على مشروعية اليمين في حقها على روايةٍ، وعلى أن العوض يصح أخذه عن البضع في جانب الزوج خلعاً وفي جانب المرأة نكاحاً. وصرح في الكافي بجواز ذلك وقدمه على المنع وعلله بأنها تدفع شره عن نفسها. وهذا

(1) في هـ: الزوجية.

ص: 608

ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية؛ لأنه ذكر المسألتين ثم قال: فإن دفع إليه المدعى عليه مائة صلحاً عن دعواه صح الصلح. وما ذكره المصنف رحمه الله في المغني مانعاً من الصحة في الزوجية موجود بعينه في العبودية؛ لأن المدعى عليه العبودية لا يستحلف كما لا يستحلف المدعى عليها الزوجية. وتحرير الصحة في الموضعين مع أنه لا يستحلف فيهما على الصحيح أن في (1) الصلح قطعاً للخصومة والمقاولة ودفعاً للشر وذلك مطلوب والصلح طريق إليه. فجاز تحصيلاً لما هو مطلوب.

قال: (النوع الثاني: أن يصالح عن الحق بغير جنسه فهو معاوضة، فإن كان بأثمان عن أثمان فهو صرف، وإن كان بغير الأثمان فهو بيع، وإن كان بمنفعة كسكنى دار فهو إجارة تبطل بتلف الدار كسائر الإجارات).

أما كون النوع الثاني: أن يصالح عن الحق بغير جنسه؛ فلأنه يلي الأول.

وأما كونه معاوضة؛ فلأنه بدل مال في مقابلة مال وذلك شأن المعاوضة.

وأما كونه صرفاً إذا كان بأثمان (2) عن أثمان؛ فلأن الصرف بيع أحد الثمنين بالآخر، وهو موجود هنا.

فعلى هذا يشترط له ما يشترط في الصرف من القبض في المجلس ونحوه.

وأما كونه بيعاً إذا كان بغير الأثمان؛ فلأن البيع مبادلة المال بالمال وأنه موجود هنا.

فعلى هذا يشترط فيه ما يشترط في البيع من العلم به ونحوه.

وأما كونه إجارة إذا كان بمنفعة كسكنى دار؛ فلأن الإجارة بيع المنفعة وهو موجود هنا.

فعلى هذا يثبت فيها أحكام الإجارة من البطلان بتلف الدار ونحوه.

(1) في هـ: في أن.

(2)

في هـ: أثمان.

ص: 609

قال: (وإن صالحت المرأة بتزويج نفسها صح، فإن كان الصلح عن عيب في مبيعها فزال رجعت بأرشه لا بمهرها).

أما كون المرأة إذا صالحت عن الحق الذي عليها بتزويج نفسها يصح؛ فلأن عقد التزويج يقتضي عوضاً فإذا جعلت ذلك عوضاً عن الحق الذي عليها صح كغيره.

وأما كونها ترجع بأرش العيب لا بمهرها إذا كان الصلح عن عيب في مبيعها فزال؛ فلأنها جعلت صداقها أرش العيب فإذا زال العيب وجب الرجوع بما كان صداقاً.

وقول المصنف رحمه الله: زال العيب معناه: تبين أنه ليس بعيب، ولذلك أصلح بعض من أذن له المصنف رحمه الله زال بتبين.

فإن قيل: ما مثال ذلك؟

قيل: مثل إن كانت أمة ظنها حاملاً لانتفاخ جوفها فتفشى ونحوه صرح به أبو الخطاب في الهداية.

فعلى هذا إن كان موجوداً عند العقد ثم زال كمبيع ظهر مريضاً فتعافى لا شيء لها؛ لأن زوال العيب بعد ثبوته حال العقد لا يوجب بطلان الأرش.

فإن قيل: قد تقدم أن بهيمة الأنعام إذا ظهرت مصراة يملك المشتري الرد وكذا إذا اشترى أمة فظهرت مزوجة فإذا صار لبن المصراة عادة وطلقت المزوجة (1) امتنع الرد. فعلى هذا إذا ظهر المبيع معيباً ثم زال العيب يجب أن يتبين أن لا أرش.

قيل: الرد فسخ للملك بسبب العيب فلم يكن بد من وجوده حين الرد؛ لأنه زمن الفسخ. بخلاف أرش العيب فإنه عوض عما فات من العيب وقت العقد فلم يسقط (2) بزواله بعده.

(1) في و: الزوجة.

(2)

في و: فلم يسقط وقت العقد.

ص: 610

قال: (وإن صالح عما في الذمة بشيء في الذمة لم يجز التفرق قبل القبض؛ لأنه بيع دين بدين. ويصح الصلح عن المجهول بمعلوم إذا كان مما لا يمكن معرفته للحاجة).

أما كون من صالح عما في الذمة بشيء في الذمة لا يجوز التفرق قبل القبض؛ فلما علل المصنف رحمه الله من أنه بيع دين بدين؛ وذلك أنه متى حصل التفرق قبل القبض يكون كل واحد من العوضين ديناً؛ لأن محله الذمة وذلك شأن الدين، وإذا كان التفرق قبل القبض مفضياً إلى ذلك لم يجز؛ لأن بيع الدين بالدين غير جائز «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» (1) رواه الدارقطني.

تفسيره: بيع الدين بالدين قاله أبو عبيد.

وأما كون الصلح عن المجهول بمعلوم يصح في الجملة؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه قال في رجلين اختصما في مواريث درست بينهما: استهما وتوخيا الحق، وليحلل أحدكما صاحبه» (2). رواه الإمام أحمد وأبو داود.

ولأنه إسقاط حق فصح في المجهول كالعتاق والطلاق.

وأما ما يشترط في صحة الصلح المذكور فأمران:

أحدهما: أن يكون المصالح به معلوماً لأنه يفتقر إلى تسليم وذلك لا يمكن في غير معلوم.

وثانيهما: أن يكون مما لا يمكن معرفته كمواريث دارسة وحقوق سالفة؛ لأن المصحح للصلح المذكور الحديث المذكور والأمر فيه كذلك.

ولأن المبيح للصلح المذكور الحاجة وما يمكن معرفته لا حاجة إلى الصلح عليه.

(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (3585) 3: 302 كتاب الأقضية، باب في قضاء القاضي إذا أخطأ.

وأخرجه أحمد في مسنده (26760) 6: 320.

ص: 611

فصل [الصلح على إنكار]

قال المصنف رحمه الله: (القسم الثاني: أن يدعي عليه عيناً أو ديناً فينكره ثم يصالحه على مال فيصح ويكون بيعاً في حق المدعي حتى إن وجد فيما أخذه عيباً فله رده وفسخ الصلح. وإن كان شقصاً مشفوعاً ثبتت فيه الشفعة ويكون إبراء في حق الآخر فلا يرد ما صالح عنه (1) بعيب ولا يؤخذ بشفعة. ومتى كان أحدهما عالماً بكذب نفسه فالصلح باطل في حقه وما أخذه حرام عليه).

أما كون القسم الثاني ما ذكر ويسمى الصلح على الإنكار؛ فلأنه يلي الأول.

وأما كونه يصح؛ فلعموم قوله عليه السلام: «الصلح بين المسلمين جائز» (2).

ولأنه صلح يصح مع الأجنبي فصح مع الخصم كالصلح على الإقرار. وتحقيقه: أنه إذا صح مع الأجنبي مع عدم حاجته إليه، فلأن يصح مع الخصم مع حاجته إليه بطريق الأولى.

ويشترط لصحة الصلح المذكور: أن يكون المدعي معتقداً أن ما ادعاه حق والمدعى عليه معتقداً أن لا حق عليه؛ لأن الصلح حينئذٍ يكون لافتداء اليمين وقطع الخصومة وذلك مطلوب؛ لما فيه من صيانة النفوس الشريفة، وذوي المروءات العزيزة عن التبذل، وحضور مجالس الحكام. بخلاف غيرهم.

فإن قيل: ذلك مجوز للمدعى عليه فما شأن المدعي؟

قيل: المدعي يأخذ ذلك عوضاً عن الحق الذي يعتقده.

وأما كونه بيعاً في حق المدعي؛ فلأنه يعتقده عوضاً عن حقه فيلزمه حكم اعتقاده.

(1) في هـ: عن.

(2)

سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ص: 612

فعلى هذا له رده إن وجده معيباً وإن كان شقصاً مشفوعاً ثبتت فيه الشفعة لأنه بيع.

وأما كونه إبراء في حق الآخر؛ فلأنه دفع المال لافتداء يمينه ودفع الضرر عن نفسه لا عوضاً عن حق يعتقده.

فعلى هذا لا يرد ما صالح عنه بعيب ولا يؤخذ بشفعة لاعتقاده أنه ليس بعوض.

وأما كون الصلح باطلاً في حق العالم بكذب نفسه؛ فلأنه عالم بالحق قادر على إيصاله إلى مستحقه غير معتقد أنه محق واعتقاد ذلك شرط لما تقدم.

وأما كون ما يأخذه حراماً؛ فلأنه آكل لمال الغير بالباطل.

قال: (وإن صالح عن المنكر أجنبي بغير إذنه صح ولم يرجع عليه في أصح الوجهين).

أما كون صلح الأجنبي عن المنكر يصح؛ فلأنه قصد براءة ذمته فصح كما لو قضى دينه.

وأما كونه لا يرجع عليه في وجهٍ؛ فلأن الدين لم يثبت عليه.

وأما كونه يرجع عليه في وجهٍ؛ فبالقياس على الضمان.

والأول أصح؛ لما تقدم.

والفرق بينه وبين الضمان: أنه هاهنا أدى ما لا يلزمه أداؤه. بخلاف الضمان فإنه قضى ما يلزمه قضاؤه.

قال: (وإن صالح الأجنبي لنفسه لتكون المطالبة له غير معترف بصحة الدعوى أو معترفاً بها عالماً بعجزه عن استنقاذه لم يصح. وإن ظن القدرة عليه صح ثم إن عجز عن ذلك فهو مخير بين فسخ الصلح وإمضائه).

أما كون صلح الأجنبي لنفسه لتكون المطالبة له غير معترف بصحة الدعوى لا يصح؛ فلأنه [اشترى منه ما لم يثبت له ولم تتوجه إليه خصومة فيفتدي نفسه منها. أشبه ما لو](1) اشترى منه ملك غيره.

(1) ساقط من هـ.

ص: 613

وأما كون صلحه إذا اعترف له بذلك عالماً بعجزه عن استنقاذه لا يصح؛ فلأنه اشترى ما لا يقدر على تسليمه.

وأما كونه يصح إذا اعترف له بصحة دعواه وظن القدرة على الاستنقاذ؛ فلأنه اشترى منه ملكه الذي يقدر على تسليمه. ولم يفرق بين المصنف رحمه الله بين أن يكون المصالح عنه عيناً أو ديناً. وفرق بينهما في المغني فصححه في العين، وقال في الدين: لا يصح؛ لأنه اشترى ما لا يقدر على قبضه. ثم قال: ومن أصحابنا من قال: يصح. وليس بشيء؛ لأن بيع الدين في ذمة المقر لا يصح فبيع دين في ذمة من ينكره، ولا يقدر مشتريه على قبضه أولى.

وأما كونه إذا عجز عن ذلك يخير بين الفسخ والإمضاء؛ فلأنه إذا فات بعض المعقود عليه يكون له الخيرة دليله الرد بالعيب؛ فلأن تكون له الخيرة إذا فات كل المعقود عليه بطريق الأولى.

ص: 614

فصل

قال المصنف رحمه الله: (يصح الصلح عن القصاص بديات وبكل ما يثبت مهراً. ولو صالح سارقاً ليطلقه، أو شاهداً ليكتم شهادته، أو شفيعاً عن شفعته، أو مقذوفاً عن حده لم يصح الصلح، وتسقط الشفعة. وفي الحد وجهان).

أما كون الصلح عن القصاص بديات وبكل ما يثبت مهراً يصح؛ فلأن المال لم يتعين فيه فصح بالدية وبأكثر منها وبأقل.

ولأنه (1) يصح إسقاطه فلأن يصح الصلح عنه بما ذكر بطريق الأولى.

وقول المصنف رحمه الله: وبكل ما يثبت مهراً فيه إشارة إلى أنه يصح بالشيء وإن قل؛ لأنه قابل ذلك بقوله: بديات وذلك عبارة عن كثرة الشيء المصالح به.

وأما كون صلح السارق ليطلق لا يصح؛ فلأن الرفع إلى السلطان ليس حقاً يجوز الاعتياض عنه.

وأما كون صلح الشاهد ليكتم شهادته لا يصح؛ فلأن كتمان الشهادة حرام فلا يصح الاعتياض عنه.

وأما كون صلح الشفيع عن شفعته لا يصح؛ فلأنها إنما ثبتت لإزالة الضرر فإذا رضي بالعوض تبين أن لا ضرر فلا استحقاق فيبطل العوض لبطلان معوضه ولهذه العلة تسقط شفعته.

وأما كون صلح المقذوف عن حده لا يصح؛ فلأنه ليس بمال ولا يؤول إليه بخلاف دم العمد.

وأما كون الحد يسقط ففيه وجهان مأخذهما: أن حد القذف هل هو للآدمي أو لله؟ فإن قلنا: للآدمي سقط؛ لأن الصلح منه دليل على الإسقاط.

(1) في هـ: فلأنه.

ص: 615

ولأن الحد يسقط بالشبهة وما ذكر شبهة.

وإن قلنا: لله لم يسقط لعدم ما ذكر قبل.

قال: (وإن صالحه على أن يُجري على أرضه أو سطحه ماء معلوماً صح. ويجوز أن يشتري ممراً في دار وموضعاً في حائط (1) يفتحه باباً، وبقعة يحفرها بئراً، وعلو بيت يبني عليه بنياناً موصوفاً. فإن كان البيت غير مبني لم يجز في أحد الوجهين، وفي الآخر يجوز إذا وصف العلو والسفل).

أما كون الصلح على إجراء ماء معلوم على أرض أو سطح يصح؛ فلأن الحاجة داعية إليه. واشترط المصنف رحمه الله كون الماء معلوماً؛ لأن الماء يختلف بكثرته وقلته. وطريق العلم في الماء على الأرض تقديره بالإصبع (2) أو العيدان (3) أو نحو ذلك، وفي ماء السطح بمعرفة السطح. ويشترط في إجرائه على الأرض إذا شرط إجراءه في قناة تبيين موضعها وطولها وعرضها؛ لأنه بيع لموضع من أرضه. ولا حاجة إلى بيان عمقها؛ لأن قراره للمشتري. وإن شرط أن الأرض لربها كان إجارة تفتقر إلى معرفة عمقها ومدتها كإجارتها للزرع. ولا يشترط في إجراء الماء على السطح ذكر المدة؛ لأن هذا لا يستوفى به منافع السطح بخلاف القناة.

وأما كون شراء الممر من دار يجوز؛ فلأنه حق أعطي حكم العين بدليل جواز تملكه ابتداء بدون ملك العين بخلاف تملك المنفعة المباحة فإنه لا يتصور بذل ملك العين. ودليل تملك الممر ابتداء دون ملك العين أن شخصاً لو أحيا أرضاً ميتة ثم أحيا غيره الأرض التي تليها كان له حق المرور في تلك الأرض وإن لم يملك رقبتها.

وأما كون شراء موضع في حائط يفتحه باباً وبقعة يحفرها بئراً يجوز؛ فلأنه شراء لبعض ما يملكه البائع فصح كما لو باعه نصف حائطه أو نصف أرضه.

(1) في هـ: داره وموضعاً في حائطه.

(2)

في و: بالأرض.

(3)

في وو هـ: بالعدان، وما أثبتناه من ج.

ص: 616

وأما كون بيع علو بيت يبني عليه بنياناً موصوفاً يجوز؛ فلأنه ملك البائع فجاز بيعه كالأرض. واشترط المصنف رحمه الله في صحة ذلك كون البنيان موصوفاً ليكون معلوماً.

وأما كون بيع ذلك لا يجوز إذا كان البيت غير مبني في وجهٍ؛ فلأن المبيع العلو ولا وجود له قبل وجود السفل فوجب أن لا يجوز بيعه كالمعدوم.

وأما كونه يجوز في وجهٍ؛ فلأنه موصوف أشبه ما إذا كان السفل مبنياً. واشترط المصنف رحمه الله في الجواز وصف السفل والعلو؛ لأن المبيع لا يكون معلوماً إلا بذلك.

قال: (وإن حصل في هوائه أغصان شجرة غيره فطالبه بإزالتها لزمه ذلك، فإن أبى فله قطعها، فإن صالحه عن ذلك بعوض لم يجز. وإن اتفقا على أن الثمرة له أو بينهما جاز ولم يلزم).

أما كون إزالة أغصان الشجرة الحاصلة في هواء الجار يلزم مالكها مع طلب الجار؛ فلأن الهواء ملك لصاحب القرار، فإذا طلب إخلاء ملكه لزمه إخلاؤه؛ كما لو دخلت دابة إلى داره فطالب مالكها بإخراجها.

وأما كون مالك الهواء له قطعها إذا أبى مالكها من إزالتها؛ فلأن في ذلك إخلاء ملكه الواجب إخلاؤه.

وأما كون الصلح عن ذلك بعوض لا يجوز؛ فلأن ذلك يزيد وينقص. وحكى المصنف رحمه الله ذلك في المغني عن أبي الخطاب.

وحكى عن القاضي: إن كانت الأغصان رطبة لم يجز الصلح عنها؛ لأنها تزيد في كل وقت.

وحكى عن ابن حامد: أنه يجوز في الرطب واليابس؛ لأن الجهالة في المصالح عنه لا يمنع الجواز لكونها لا تمنع التسليم بخلاف العوض فإنه يفتقر إلى العلم به لوجوب التسليم.

ص: 617

واشترط القاضي أن يكون الغصن معتمداً على نفس الحائط ومنع منه إذا كان على نفس الهواء؛ [لأنه بيعٌ للهواء](1) المجرد. وأيّد المصنف رحمه الله الجواز في المغني مطلقاً بأن قال: ومن مذهبنا جواز بيع الهواء. والزيادة التي تتجدد في الغصن يحتمل أن يعفى عنها؛ كالسِّمَنِ الحادث في المستأجر للركوب.

وأما كون الاتفاق على أن الثمرة لمالك الهواء أو بينهما يجوز؛ فلأن هذا يكثر في الأملاك المتجاورة، وفي القطع إتلاف وإضرار فدعت الحاجة إلى الصلح بالثمرة أو بعضها؛ لأنه أسهل.

قال المصنف رحمه الله في المغني: سئل الإمام أحمد عن ذلك فقال: لا أدري. ثم قال: يحتمل أن يصح؛ لما ذكر، ويحتمل أن لا يصح؛ لأن العوض مجهول ومن شرط الصلح العلم بالعوض.

وأما كون ذلك لا يلزم؛ فلأنه لو لزم لأدى إلى ضرر مالك الشجر لتأبد استحقاق الثمرة عليه، أو إلى ضرر مالك الهواء لتأبد بقاء الأغصان في ملكه.

قال: (ولا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحاً ولا ساباطاً ولا دكاناً، ولا أن يفعل ذلك في ملك إنسان، ولا دربٍ غير نافذ إلا بإذن أهله. وإن صالح عن ذلك بعوض جاز في أحد الوجهين).

أما كون إشراع الجناح. وهو الرَّوْشَن يكون على أطراف الخشب مدفون في الحائط وأطرافه خارجة إلى الطريق، وكون إشراع الساباط وهو المستو في هواء الطريق، وكون إشراع الدكان وهي الدكة إلى طريق نافذ: لا يجوز؛ فلأنه تصرف في ملك الغير من غير إذن مالكه. ولا فرق فيما ذكر بين أن يضر ذلك بالمارة أو لا يضر؛ لأنه إن لم يضر حالاً فقد يضر مآلاً، ولا بين أن يأذن الإمام فيه أو لم يأذن؛ لأنه ليس له أن يأذن فيما لا مصلحة فيه للمسلمين لا سيما إذا احتمل أن يكون ضرراً عليهم في المال.

(1) ساقط من هـ.

ص: 618

وقال ابن عقيل: إذا أذن الإمام فيما هو مشترك بين المسلمين ولا ضرر فيه جاز؛ لأنه نائب عن المسلمين فجرى إذنه مجرى إذنهم.

وأما كون فعل ذلك في ملك إنسان أو درب غير نافذ بغير إذن أهله لا يجوز؛ فلما تقدم ذكره.

وأما كونه يجوز إذا أذن فيه أهله؛ فلأن المنع لحقهم فإذا رضوا بإسقاطه جاز.

فإن قيل: قول المصنف رحمه الله: إلا بإذن أهله يرجع إلى جميع ما تقدم أم لا؟

قيل: لا؛ لأن أهل الطريق النافذ هو جميع المسلمين والإذن من جميعهم غير متصور فلا فائدة في الحكم عليه بالجواز.

وأما كون الصلح عن ذلك بعوض يجوز في وجهٍ وهو قول أبي الخطاب؛ فلأنه يجوز الصلح بغير عوض. فجاز بعوض؛ كما لو كان القرار مبنياً.

وأما كونه لا يجوز في وجهٍ وهو قول القاضي؛ فلأنه بيع للهواء. وظاهر إطلاق المصنف رحمه الله (1) هذا الوجه الجواز سواء كان جناحاً أو ساباطاً أو دكاناً، وصرح في الكافي بأن قول القاضي في الجناح والساباط، ولم يذكر الدكان وهو صحيح يجب حمل إطلاق المصنف هنا عليه؛ لأن تعليل القاضي لا يساعده في الدكان؛ لكونها تبنى على القرار لا على هوائه.

قال: (وإذا كان ظهر داره في درب غير نافذ ففتح فيه باباً لغير الاستطراق جاز ويحتمل أن لا يجوز. وإن فتحه للاستطراق لم يجز إلا بإذنهم في أحد الوجهين، وإن صالحهم جاز، ولو كان بابه في آخر الدرب ملك نقله إلى أوله، ولم يملك نقله إلى داخل منه في أحد الوجهين).

أما كون من فتح باباً لغير الاستطراق في ظهر داره التي في دربٍ غير نافذ يجوز على المذهب؛ فلأن له رفع حائطه بالكلية فرفع بعضه أولى.

وأما كونه يحتمل أن لا يجوز؛ فلأن الباب دليل الاستطراق. وليس له أن يستطرق؛ لما يذكر بعد.

(1) في هـ زيادة: على.

ص: 619

وأما كون من فتحه للاستطراق بغير إذن أهل الدرب لا يجوز في وجهٍ؛ فلأنه لا يجوز أن يجعل لنفسه حق الاستطراق في مكان مملوك لأهله لا حق له فيه.

وأما كونه يجوز في وجهٍ فلما ذكر قبل.

وأما كون ذلك يجوز مع الإذن؛ فلأن الحق لهم فإذا رضوا بإسقاطه سقط.

وأما كون الصلح عن ذلك يجوز؛ فلأن ذلك حقهم فجاز أخذ العوض عنه كسائر الحقوق.

وأما كون من بابه في آخر الدرب الذي ليس بنافذ يملك (1) نقله إلى أوله؛ فلأنه يترك بعض حقه؛ لأن له الاستطراق إلى آخره.

وأما كونه يملكه في وجهٍ؛ فلأنه له رفع حائطه كله فرفع بعضه أولى.

ولأن ما يلي حائطه فناء له فملك فتح الباب فيه كحالة ابتداء البناء فإن له في الابتداء جعل بابه حيث شاء. فتركه له لا يسقط حقه منه.

قال: (وليس له أن يفتح في حائط جاره ولا الحائط المشترك روزنة، ولا طاقاً إلا بإذن صاحبه. وليس له وضع خشبة عليه إلا عند الضرورة بأن لا يمكنه التسقيف إلا به. وعنه: ليس له وضع خشبة على جدار المسجد، وهذا تنبيه على أنه لا يضع على جدار جاره).

أما كون من ذكر ليس له فتح روزنة ولا طاق في حائط جاره ولا حائط مشترك بغير إذن صاحبه؛ فلأن ذلك انتفاع بملك الغير فلم يجز بغير إذنه لا سيما إذا كان يضر ببنائه ويضعفه.

وأما كونه له ذلك مع الإذن؛ فلأن الحق له فإذا أذن في إسقاطه سقط.

وأما كونه ليس له وضع خشبة عليه إذا لم يكن ضرورة؛ فلما تقدم.

وأما كونه له ذلك في حائط جاره عند الضرورة على المذهب؛ فلما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعنَ أحدكمْ جارهُ أن يضعَ خشبَهُ على جدارهِ

(1) في هـ: ملك.

ص: 620

فنكسّ القوم رؤوسهم. فقال أبو هريرة: ما لي أراكمْ عنها مُعرضين؟ والله لأرمينها بينَ أكتافِكُم» (1) متفق عليه.

ولأنه انتفاع لا يضر بالمالك فلم يمنع منه كالاستظلال بحائطه والجلوس في ضوء مصباحه.

فإن قيل: ما معنى قول أبي هريرة: «لأرمينها بين أكتافكم» .

قيل معناه: لأضعن هذه السنة بين أكتافكم ولأحملنكم على العمل بها.

وقيل معناه: لأكلفنكم ذلك ولأضعن جذوع الجيران على أكتافكم ضرباً للمثل وقصداً للمبالغة.

وأما قول المصنف رحمه الله: بأن لا يمكنه التسقيف إلا به فتفسير للضرورة المشترطة عنده. وظاهره أنه لا فرق بين من كان له حائط واحد أو حائطان. وصرح به في المغني، وحكى فيه عن القاضي وأبي الخطاب: ليس هذا في كلام أحمد، وعلل ما ذهب إليه بأنه قد يمتنع عليه التسقيف على حائطين لكون البيت واسعاً لا يصل إليه الخشب. وإنما اشترطت الضرورة؛ لأن مقتضى الدليل عدم جواز الانتفاع بملك الغير بغير إذنه. ترك العمل به عند الضرورة للضرورة فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه. ولا بد أن يلحظ أنه لا ضرر في ذلك فإن كان يضر بأن يهدم الحائط أو يضعفه لم يكن له ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا ضرر ولا إضرار» (2) رواه مالك وابن ماجة والدارقطني.

فإن قيل: حديث أبي هريرة مطلق فلم اشترط ما ذكر من الضرورة وعدم الضرر؟

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2331) 2: 869 كتاب المظالم، باب لا يمنع جاره أن يغرز خشبه في جداره.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1609) 3: 1230 كتاب المساقاة، باب غرز الخشب في جدار الجار.

(2)

أخرجه ابن ماجة في سننه (2341) 2: 784 كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره. قال في الزوائد: في إسناده جابر الجعفي متهم.

وأخرجه مالك في الموطأ (31) 2: 571 كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق. ولفظهما:«لا ضرر ولا ضرار» .

وأخرجه الدارقطني في سننه (85) 4: 228 كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك، في المرأة تقتل إذا ارتدت. باللفظ الذي ساقه المصنف.

ص: 621

قيل: أما الأول فيجب حمل الحديث عليه لما تقدم من أن مقتضى الدليل عدم جواز الانتفاع بملك الغير. ترك العمل به عند الضرورة للضرورة فيجب أن يبقى فيما عداها على مقتضاه.

وقال بعض أصحابنا: لا يشترط ذلك عملاً بعموم الخبر.

قال المصنف في المغني: أشار ابن عقيل إلى جواز ذلك وقال: ليس لنا مباح تعتبر في إباحته الحاجة. بدليل انتزاع الشقص المشفوع والفسخ بالخيار. فكذلك هاهنا.

وأما الثاني؛ فلأن قوله: «لا ضرر ولا ضرار» (1) يدل عليه فيجب أن يحمل حديث أبي هريرة عليه جميعاً بينهما.

وأما كونه له وضع خشبة على الحائط المشترك عند الضرورة المتقدم ذكرها على المذهب؛ فلأنه إذا كان له ذلك في حائط جاره مع أنه لا حق له فيه، فلأن يكون له ذلك في الحائط المشترك وله فيه حق بطريق الأولى.

وأما كونه له وضع خشبة على جدار المسجد عند وجود الضرورة وعدم الضرر على المذهب؛ فلأنه إذا جاز في ملك الجار مع أن حقه مبني على الشح والضيق ففي حق الله المبني على المسامحة والمساهلة أولى.

وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأن القياس يقتضي المنع. ترك في ملك الجار للخبر فيبقى في غيره على مقتضاه.

وأما كونه لا يضع خشبه على جدار جاره على روايةٍ مأخوذة مما ذكر من الرواية الثانية في جدار المسجد؛ فلأنه إذا لم يكن له ذلك مع أن له فيه حقاً؛ لأنه من المسلمين والمسجد مشترك بينهم؛ فلأن لا يكون له ذلك في ملك الغير المختص به بطريق الأولى.

(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ص: 622

قال: (وإن كان بينهما حائط فانهدم فطالب أحدهما صاحبه ببنائه معه أجبر عليه. وعنه: لا يجبر لكن ليس له منعه من بنائه، فإن بناه بآلته فهو بينهما. وإن بناه بآلة من عنده فهو له وليس للآخر الانتفاع به، فإن طلب ذلك خُيّر الباني بين أخذ نصف قيمته منه وبين أخذ آلته).

أما كون الممتنع من البناء مع شريكه يجبر عليه على المذهب؛ فلما فيه من إزالة الضرر عن شريكه.

وأما كونه لا يجبر عليه على روايةٍ؛ فلأنه ملك لا حرمة له في نفسه. فلم يجبر مالكه على الإنفاق عليه؛ كما لو انفرد به.

قال القاضي: أصحهما أنه يجبر لأن في ترك البناء إضراراً بالشريك فأجبر عليه كما يجبر على القَسْم إذا طلبه شريكه وعلى النقض إذا خيف سقوطه. ويؤيده قوله عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار» (1). وعدم حرمة الملك إن لم يوجب فحرمة شريكه الذي يتضرر بترك البناء يوجب. وفارق الملك المنفرد من حيث إنه لا يفوت به حق أحد ولا يتضرر به.

وأما كونه على روايةِ أنه لا يجبر: ليس للشريك منع شريكه من بنائه؛ فلأن له حقاً في الحمل (2) ورسماً في الحائط فلا (3) يجوز منعه من ذلك.

وأما كون الحائط مشتركاً بينهما إذا بناه بآلته؛ فلأن آلته مشتركة وقد عادت فيجب أن تعود كما كانت.

ولأن الباني إنما أنفق على التأليف وذلك أثر لا عين يملكها.

وظاهر كلام المصنف هنا وفي المغني والكافي أنه لا يملك منع شريكه من وضع ما كان له عليه؛ لأنه ذكر المنع في المسألة التي تأتي دون هذه.

(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

(2)

في و: الجملة.

(3)

في هـ: ولا.

ص: 623

ولأنه قال في الكافي: عاد بينهما كما كان برسومه وحقوقه؛ لأنه عاد بعينه. وصرح صاحب النهاية بذلك فيها، فقال: فإن بناه بآلته فهو بينهما على الشركة ولا يلزم شريكه أجرة البنائين، وليس لشريكه أن يمنعه أن ينتفع بأعيان ملكه.

وفيما ذكره الأصحاب نظر. وينبغي أن البانيَ يملك منع شريكه من التصرف فيه حتى يؤدي ما يخصه من الغرامة الواقعة بأجرة المثل؛ لأنه لو لم يكن كذلك لأدى إلى ضياع حق الشريك.

ولأنا إذا أجبرناه على العمارة نجبره على وزن أجرة البناء كما نجبره على وزن ثمن الآلات فيجب أنه إذا وزنها الشريك يرجع بها كما لو وزن ثمن الآلات فإنه يرجع بها.

ولأن الأصحاب اتفقوا على أن للشريك أن يمنع شريكه من التصرف فيما إذا بناه بآلة من عنده حتى يؤدي ما يخصه من قيمة البناء وذلك اسم الآلة مع التأليف فإذا وجب الرجوع بقيمة التأليف مع قيمة الآلة فما المانع من وجوب رد قيمة التأليف المنفرد.

وأما كون البناء للباني إذا بناه بآلة من عنده؛ فلأنه ملكه.

وأما كون الآخر ليس له الانتفاع به -والمراد قبل أداء ما يجب عليه-؛ فلأنه يتصرف في ملك الغير بغير إذنه.

وأما كون الباني يجبر بين أخذ نصف قيمته من شريكه إذا طلب الانتفاع به وبين أخذ آلته؛ فلأنه ليس له إبطال حق شريكه، وفي أخذ القيمة جمع بين الحقين، وفي أخذ الآلة تمكين للغير من استيفاء حقه.

قال: (وإن كان بينهما نهر أو بئر أو دولاب أو ناعورة أو قناة واحتاج إلى عمارة ففي إجبار الممتنع روايتان. وليس لأحدهما منع صاحبه من عمارته وإذا عمّره فالماء بينهما على الشركة).

أما كون الممتنع في الصورة المذكورة يجري فيه الخلاف المذكور؛ فلما تقدم قبل.

وأما كون أحدهما ليس له منع صاحبه من عمارته؛ فلما تقدم أيضاً.

وأما كون الماء بينهما على الشركة؛ فلأن عامر ذلك ليس له فيه عين بل أثر فيجب أن يعود بينهما على ما كان كما لو بنى الحائط المشترك بآلته، ويجيء في هذا ما تقدم من النظر؛ لأنه مثله.

ص: 624