المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الحجر (1) الحجر في اللغة: المنع. ومنه سمي الحرام حجراً؛ - الممتع في شرح المقنع - ت ابن دهيش ط ٣ - جـ ٢

[ابن المنجى، أبو البركات]

الفصل: ‌ ‌كتاب الحجر (1) الحجر في اللغة: المنع. ومنه سمي الحرام حجراً؛

‌كتاب الحجر

(1)

الحجر في اللغة: المنع. ومنه سمي الحرام حجراً؛ لأنه ممنوع منه. قال الله تعالى: {ويقولون حِجْراً محجوراً} [الفرقان: 22] أي حراماً محرماً. ويسمى العقل حِجراً لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح قال الله تعالى: {هل في ذلك قسم لذي حِجْر} [الفجر: 5] أي لذي عقل.

وفي الشرع: منع المحجور عليه من التصرف فيما حجر عليه فيه.

قال المصنف رحمه الله: (وهو على ضربين: حجر لحق الغير. نذكر منه هاهنا الحجر على المفلس).

أما كون الحجر على ضربين؛ فلأنه تارة يكون لحق غير المحجور عليه، وتارة يكون لحق المحجور عليه وسيأتي بيانهما في مواضعهما.

وأما قول المصنف رحمه الله: نذكر منه هاهنا الحجر على المفلس فمشعر بأمرين:

أحدهما: أن الحجر لحق الغير يكون لغير المفلس وهو صحيح لأن المريض مرض الموت يحجر عليه في التصرف بالزائد على الثلث لحق الورثة، والمكاتب والمأذون له (2) يحجر عليهما لحق سيدهما.

وثانيهما: أن المقصود هاهنا ذكر الحجر على المفلس الذي الحجر عليه لأجل غرمائه لأن ما عدا ذلك يذكر في مواضعه إن شاء الله تعالى.

فإن قيل: ما المفلس؟

قيل: الذي دَينه أكثر من ماله، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «ولكن المُفلسَ من يأتي يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالَ الجبالِ وقد ظلمَ هذا، ولطمَ هذا، وأخذَ من عرضِ هذا. فيأخذُ هذا من حسناتهِ وهذا من حسناتهِ. فإن بقيَ عليه شيء أُخذَ من سيئاتهمْ فردّ عليه ثم صكّ له (3)

(1) ورد العنوان في و: باب الحجر.

(2)

في هـ زيادة: فيما.

(3)

ساقط من هـ.

ص: 625

صكاً إلى النار» (1): تنبيه على ذلك لأنه أخبر أن المفلس له حسنات أمثال الجبال لكنها كانت دون ما عليه.

قال: (ومن لزمه دين مؤجل لم يُطالب به قبل أجله، ولم يحجر عليه من أجله، فإن أراد سفراً يحل الدين قبل مدته فلغريمه منعه إلا أن يوثقه برهن أو كفيل، وإن كان لا يحل قبله ففي منعه روايتان).

أما كون من لزمه دين مؤجل لا يطالب به قبل أجله؛ فلأن الدين المؤجل لا يلزم أداؤه قبل الأجل ومن شرط المطالبة لزوم الأداء.

وأما كونه لا يحجر عليه من أجله؛ فلأن المطالبة به لا تستحق فكذا الحجر.

وأما كون الغريم له منع غريمه من سفر يحل الدين قبل مدته عند عدم التوثقة؛ فلأن في ذلك تأخيراً لحقه عن محِلِّه. فملك منعه؛ كنفس التأخير.

وأما كونه ليس له منعه مع التوثقة؛ فلأن ضرر التأخير يزول بذلك لتمكنه من الاستيفاء عند مَحِلِّه من الرهن أو الكفيل.

وأما كونه له منعه من سفر لا يحل الدين قبل مدته في روايةٍ؛ فلأن قدومه قبل المحِلّ غيرُ متيقن ولا ظاهر. أشبه ما لو كان السفر طويلاً.

وأما كونه ليس له ذلك في روايةٍ؛ فلأنه لا يستلزم تأخير حقه بخلاف المسألة قبل.

قال المصنف في المغني بعد رواية المنع: هو ظاهر كلام أحمد.

قال: (وإن كان حالاًّ وله مال يفي به لم يحجر عليه ويأمره الحاكم بوفائه. فإن أبى حبسه. فإن أصر باع ماله وقضى دينه).

أما كون من ذكر لا يحجر عليه؛ فلأن الغرماء يمكنهم المطالبة بحقوقهم في الحال فلا حاجة إلى الحجر.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (2581) 4: 1997 كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم.

وأخرجه الترمذي في جامعه (2418) 4: 613 كتاب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 626

وأما كون الحاكم يأمره بالوفاء؛ فلأن الغرماء إذا طلبوا ذلك منه تعين عليه لما فيه من فصل القضاء المرصد له.

وأما كونه يحبسه إذا أبى ذلك؛ فلأن كل ممتنع من وفاء حقٍّ عليه يجب حبسه إذا كان قادراً عليه حتى يوفي، وما لا يتم الواجب إلا به واجب.

قال: (فإن ادعى الإعسار وكان دينه عن عوض كالبيع والقرض، أو عرف له مال سابق حبس إلا أن يقيم البينة على نفاد ماله وإعساره. وهل يحلف معها؟ على وجهين. وإن لم يكن كذلك حلف وخلي سبيله).

أما كون من ادعى الإعسار وكان دينه عن عوض، أو عرف له مال سابق يحبس إذا لم (1) يقم البينة على نفاده وإعساره؛ فلأن الأصل بقاء ماله وإذا كان باقياً تعين حبسه ليقضي دينه؛ كالمقر بيساره. ولا بد أن يُلحظ أن صاحب الدين مكذب للمدعي في دعواه لأنه لو صدقه لكان كما لو قامت البينة بإعساره. وسيأتي ذكره.

وأما كونه لا يحبس إذا أقام البينة على ذلك؛ فلأن البينة تظهر الإعسار فيجب إنظاره لقوله تعالى: {وإن كان ذو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٌ} [البقرة: 280]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها وكثر دينه:«خُذوا ما وَجدتمْ وليسَ لكمْ إلا ذلك» (2).

ولأن الحبس إما أن يكون لإثبات عسرته أو ليقضي دينه، وعسرته ثابتة والقضاء متعذر. وإذا كان كذلك لم يكن في الحبس فائدة.

وأما صفة ما تشهد به البينة فظاهر كلام المصنف هنا أنها لا بد وأن تشهد على النفاد. وذكر في المغني أن البينة إن شهدت بالتلف سُمِعت وإن لم تكن من أهل الخبرة الباطنة، وإن شهدت بالإعسار لم تسمع إلا أن تكون من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة لأن الإعسار من الأمور الباطنة التي لا يعلمها إلا أهل الخبرة الباطنة والمخالطة. وفي هذا إشعار بأن البينة إن كانت من أهل الخبرة الباطنة كفى أن تشهد بالإعسار دون

(1) ساقط من هـ.

(2)

سيأتي تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ص: 627

النفاد، وإن لم يكن كذلك لم يكف بل لا بد من الشهادة على النفاد. وهو تفصيل حسن لأن البينة إذا كانت من أهل الخبرة الباطنة لزم من صحة شهادتهما نفاد المال بخلاف ما إذا لم يكن كذلك.

وأما كونه لا يحلف مع البينة على وجهٍ؛ فلأن في ذلك تكذيباً للبينة.

وأما كونه يحلف على وجهٍ فلاحتمال أن يكون له مال لا يُعلم.

وأما كونه يخلى سبيله؛ فلأن الأصل أنه لا مال له.

قال: (وإن كان له مال لا يفي بدينه فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم. ويستحب إظهاره، والإشهاد عليه).

أما كون الحاكم يلزمه إجابة غرماء المفلس إذا سألوه الحجر عليه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ لما سأل غرماؤه ذلك، وفي الحديث عن عبدالرحمن بن كعب قال:«كان معاذ (1) من أفضلِ شبابِ قومهِ، ولم يكن يُمسكُ شيئاً. فلم يزلْ يَدّان حتى أُغرقَ مالهُ في الدينِ. فكلمَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم غرماؤُه. ولو تُركَ أحدٌ من أجلِ أحد لتُركَ معاذٌ من أجلِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فباعَ لهمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مالهُ حتى قام معاذٌ بغيرِ شيء» (2).

وأما كون إظهار الحجر والإشهاد عليه يستحب؛ فلأن في ذلك إعلاماً للناس بحاله، فلا يعامله أحد إلا على بصيرة وظنِّ فَوات ما عامله به (3).

(1) ساقط من هـ.

(2)

أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (15177) 8: 268 كتاب البيوع، باب المفلس والمحجور عليه.

وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 48 كتاب التفليس، باب الحجر على المفلس وبيع ماله في ديونه.

(3)

زيادة من ج.

ص: 628

فصل [في أحكام الحجر]

قال المصنف رحمه الله: (ويتعلق عليه بالحجر أربعة أحكام:

أحدها: تعلق حق الغرماء بماله. فلا يقبل إقراره عليه. ولا يصح تصرفه فيه إلا العتق على إحدى الروايتين).

أما كون المال المذكور يتعلق به أربعة أحكام إذا حجر على مالكه فلما يأتي ذكره في مواضعه.

وأما كون حق الغرماء يتعلق به؛ فلأنه لو لم يكن كذلك لما كان في الحجر فائدة.

ولأنه يباع في ديونهم فكانت حقوقهم متعلقة به كالرهن.

وأما كونه لا يقبل إقراره عليه؛ فلأنه مال متعلّق به حق الغير فلم يقبل الإقرار عليه كالعين المرهونة.

وأما كونه إذا تصرف فيه بغير العتق لا يصح فلما ذكر.

ولأنه محجور عليه بحكم الحاكم فلم يصح تصرفه فيه كالسفيه.

وأما كونه إذا تصرف بالعتق لا يصح على روايةٍ فلما ذكر.

ولأن حق الغرماء تعلق بماله فمنع صحة عتقه كما لو كان مريضاً.

وأما كونه يصح على روايةٍ؛ فلأنه عتق من مالك رشيد صحيح. أشبه عتق الراهن.

ولأن للشارع تشوفاً إلى العتق. ولذلك صحح معلقه وكمثل مبعضه.

قال صاحب النهاية فيها: لعل الأول أولى لأن الحاكم لم ينشئ الحجر إلا (1) للمنع من التصرف، وفي صحة العتق إبطال لذلك.

(1) ساقط من هـ.

ص: 629

قال: (وإن تصرف في ذمته بشراءٍ، أو ضمانٍ، أو إقرارٍ: صح. ويُتْبَع به بعد فك الحجر عنه).

أما كون تصرف المفلس في ذمته يصح؛ فلأنه أهل للتصرف، والحجر تعلق بماله لا بذمته فوجب أن يصح تصرفه في ذمته عملاً بأهليته السالمة عن معارضة الحجر.

وأما كونه يُتْبَع به بعد فكّ الحجر عنه؛ فلأنه حق عليه لم يمكن تعلقه بماله قبل فك الحجر لحق الغرماء فوجب أن يُتْبَع به بعد فكّ الحجر عنه لزوال المعارض. ومفهوم كلام المصنف رحمه الله: أن من اشترى منه أو ضمن له أو أقر له ليس له مشاركة الغرماء وهو صحيح صرح به في المغني لأن من علم فقد رضي بالتأخير ومن لم يعلم فقد فرّط.

قال: (وإن جنى شارك المجنيُّ عليه الغرماء. وإن جنى عبدُه قُدّم حق المجني عليه بثمنه).

أما كون من جنى عليه المفلسُ يشارك الغرماء؛ فلأن حقه ثبت على الجاني بغير اختيارِ من له الحق، ولم يرض بتأخيره. بخلاف التي قبلها.

فإن قيل: لِمَ لم يقدم أرش الجناية هنا على الغرماء كما تقدم جناية العبد المرهون [على حق المرتهن؟

قيل: لأن دين الجناية والغرماء متعلق فيهما بالذمة بخلاف جناية العبد المرهون] (1) فإنها متعلقة بالعين تفوت بفواتها.

وأما كون من جنى عليه عبده يقدم بثمنه؛ فلأنه يقدم حقه على المرتهن الذي يقدم على سائر الغرماء؛ فلأن يقدم على الغرماء بطريق الأولى.

(1) ساقط من هـ.

ص: 630

فصل [الحكم الثاني]

قال المصنف رحمه الله: (الثاني: أن من وجد عنده عيناً باعها إياه فهو أحق بها. بشرط أن يكون المفلس حياً، ولم ينفد من ثمنها شيئاً، والسلعة بحالها لم يتلف بعضها، ولم تتغير صفتها بما لا يزيل اسمها؛ كنسج الغزل، وخبز الدقيق، ولم يتعلق بها حقٌّ من شفعة أو جناية أو رهن ونحوه، ولم تزد زيادة متصلة كالسمن وتعلم صنعة. وعنه: أن الزيادة لا تمنع الرجوع).

أما كون من وجد عينه التي باعها عند من قد أفلس أحق بها؛ فلما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ أدركَ متاعَهُ بعينِهِ عندَ إنسانٍ قدْ أفلسَ فهوَ أحقُّ به» (1) رواه البخاري ومسلم.

ولأن الثمنَ أحدُ عوضي العقد. فتعذره يثبت خيار الفسخ؛ كتعذر المسلَم فيه.

وأما ما يشترط لذلك فأمور:

أحدها: أن يكون المفلس حياًّ. فإن كان قد مات ثم تبين أنه كان مفلساً كان الذي باعها أسوةَ الغرماء؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرئٍ ماتَ وعندهُ مالُ امرئٍ بعينهِ، اقتضَى منهُ شيئاً أو لم يقتَضِ، فهوُ أسوةٌ للغُرماء (2» ) (3) رواه ابن ماجة.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2272) 2: 846 كتاب الاستقراض، باب إذا وجد ماله عند مفلسٍ في البيع والقرض والوديعة فهو أحق به.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1559) 3: 1193 كتاب المساقاة، باب من أدرك ما باعه عند المشتري وقد أفلس فله الرجوع فيه.

(2)

في هـ: أسوة أمثاله.

(3)

أخرجه ابن ماجة في سننه (2361) 2: 791 كتاب الأحكام، باب من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس.

ص: 631

وفي روايةٍ أبي داود في حديث المفلس عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإنْ (1) ماتَ فصاحبُ المتاعِ أسوةُ الغُرماء» (2).

ولأن الملك انتقل عن المفلس إلى الورثة. فلم يكن لصاحب المتاع أخذه؛ كما لو باعه المفلس.

وثانيها: أن لا يكون نقد من ثمنها شيئاً. فإن كان قد نقد منه شيئاً فهو أسوة الغرماء؛ لأن في حديث أبي هريرة: «وإن كان قبض من ثمنها شيئاً فهو أسوة الغرماء» (3). رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني.

ولأن في الرجوع في قسط ما بقي تبعيضاً للصفقة على المشتري وإضراراً به، وليس ذلك للبائع.

فإن قيل: ليس فيه ضرر لأن مال المفلس يباع ولا يبقى له.

قيل: الضرر متحقق مع البيع فإنه لا يُرغب فيه مُشَقّصاً بمثل ما يرغب فيه غير مُشَقّص فينقص ثمنه فيتضرر المفلس والغرماء.

ولأنه سبب يُفسخ به البيع. فلم يجز مع تشقيصه؛ كالرد بالعيب والخيار.

ولا فرق بين كون المبيع عيناً واحدة أو عينين لما ذكر من الحديث والمعنى. ذكره المصنف في المغني.

وثالثها: أن تكون السلعة لم يتلف بعضها. فإن كان قد تلف بعضها؛ كعبدٍ قطعت يده، أو قلعت عينه، أو ثوبٍ ذهب بعضه، أو دارٍ انهدم بعضها، أو شجرٍ مثمر تلف ثمره، أو نحوِ ذلك: لم يكن البائع أحق به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ أدركَ

(1) في هـ: من.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (3522) 3: 287 كتاب البيوع، باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (3521) الموضع السابق.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (2359) 2: 790 كتاب الأحكام، باب من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس.

وأخرجه الدراقطني في سننه (109) 3: 29 - 30 كتاب البيوع.

ص: 632

متاعَهُ بعينِهِ عندَ إنسانٍ قدْ أفلسَ فهوَ أحقُّ به» (1). شرط في كونه أحق به أن يدركه بعينه، والتالف بعضه لم يدركه بعينه.

ولا فرق بين أن يرضى به بجميع الثمن وبين أن يأخذ الموجود بقسط من الثمن؛ لأنه فات شرط الرجوع.

فإن قيل: لو كان المبيع عينين كان الحكم كذلك.

قيل: فيه روايتان: إحداهما: أن يكون كذلك؛ لأنه لم يوجد المبيع بعينه. أشبه ما لو كان عيناً واحدة.

وثانيهما: أنه يرجع في الباقي بقسطه من الثمن لأنه متاع وجده بعينه فيدخل في عموم الخبر.

فإن قيل: فما الفرق على هذه الرواية بين ذلك وبين ما إذا قبض من الثمن شيئاً؟

قيل: الفرق بينهما أن المقبوض من الثمن مقسط على المبيع فيقع القبض من ثمن كل واحدة من العينين، وقبض شيء من ثمن ما يريد الرجوع فيه مبطل له. بخلاف التلف فإنه لا يلزم من تلف بعض أحد العينين تلف شيء من العين الأخرى.

ورابعها: أن لا يغير صفة السلعة بما يزيل اسمها. فإن غيّر صفتها بما يزيل اسمها؛ كغزلٍ نُسِجَ، ودقيق خُبِز، وحنطةٍ طُحنت، وزيتٍ عمل صابوناً، وثوبٍ فُصِّلَ قميصاً، وخشبةٍ جعلت باباً، ونحو ذلك: لم يكن البائع أحق به؛ لأنه لم يجد متاعه بعينه فلم يكن له الرجوع كما لو تلِف.

ولأنه تغير اسم المبيع وصفته. فلم يملك الرجوع؛ كما لو كان نوى فنبت شجراً.

وفي تقييد المصنف رحمه الله: التغيير بما يزيل الاسم إشعار بأنه لو تغير بما يزيل الاسم لم يمنع الرجوع وسيأتي مصرحاً به في قوله: وإن صبغ الثوب أو قصره لم يمنع الرجوع.

وخامسها: أن لا يتعلق بالسلعة حقٌّ من شفعة أو جناية أو رهن. فإن تعلق بها أحد ذلك منع البائع الرجوع:

(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ص: 633

أما كون الشفعة تمنع ذلك؛ فلأن الشفيع حقه أسبق لأنه ثبت بالبيع والبيع ثبت حقه بالحجر وإذا كان حقه أسبق كان أولى لسبقه.

ولأن حقه آكد لأنه يستحق انتزاع العين من المشتري وممن نقلها إليه المشتري وحق البائع ليس كذلك.

وقال ابن حامد: للبائع أخذ ذلك لعموم الخبر.

ولأنه إذا رجع فيه عاد الشقص إليه وزال الضرر عنه وعن الشفيع لأنه عاد كما كان قبل البيع ولم تتجدد شركة لغيره.

والأول أولى لما ذكر. وما ذكر من زوال الضرر غير مُسَلَّم. بدليل ما لو باعها المشتري من البائع أو أقاله فيها فإن للشفيع الأخذ بالشفعة، ولو زال الضرر لم يملك ذلك.

وأما كون الجناية تمنع؛ فلأن الرهن يمنع الرجوع وحق الجناية مقدم عليه فأولى أن يمنع.

قال المصنف في المغني: ويتوجه أن يقال: لا يمنع لأنه حق (1) لا يمنع تصرف السيد بالبيع وغيره فلا يمنع الرجوع كما لو ثبت في ذمته دين.

وأما كون الرهن يمنع؛ فلأن المفلس عقد قبل الفلس عقداً منع نفسه من التصرف فلم يكن للبائع الرجوع كما لو باعه أو وهبه.

ولأن في الرجوع إضراراً بالمرتهن، ولا يزال الضرر بالضرر.

وسادسها: أن لا تزيد زيادة متصلة. فإن زادت زيادة متصلة كالسِّمَن والكِبَرِ وتعلمِ صنعة لم يكن البائع أحق بها لأن الرجوع فسخ لسبب حادث فلم يملكه في عين المال الزائدة زيادة متصلة؛ كفسخ النكاح بالإعسار أو الرضاع. وهذا قول الخرقي. ذكره المصنف في المغني.

ومنصوص الإمام أحمد -رحمة الله عليه- أن ذلك لا يمنع؛ لعموم قوله عليه السلام: «منْ أدركَ متاعَهُ بعينِهِ عندَ إنسانٍ قدْ أفلسَ فهوَ أحقُّ به» (2).

(1) في هـ: لا حق.

(2)

سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ص: 634

ولأنه فسخ لا يمنع منه الزيادة المتصلة كالرد بالعيب.

وفارق الرد هنا الرد بالفسخ بالإعسار أو الرضاع من حيث إن الزوج يمكنه الرجوع في قيمة العين فيحصل له حقه تاماً. وهاهنا لا يمكن البائع الرجوع في جميع الثمن لمزاحمة الغرماء فلا يحصل له حقه تاماً.

وفرق المصنف رحمه الله -مؤيداً لقول الخرقي- بين الرد هنا وبين الرد بالعيب من وجهين:

أحدهما: أن العيب معنى قارن العقد بخلاف الرد هنا فإنه بسبب حادث وهو الحجر على المشتري.

والثاني: أن المشتري هو الفاسخ فيكون فسخه رضاً بترك الزيادة، والفسخ هنا من البائع فلا يكون فسخه رضاً بترك حق المشتري.

قال: (فأما الزيادة المنفصلة والنقص بهزال أو نسيان صنعة فلا يمنع الرجوع، والزيادة للمفلس. وعنه: للبائع).

أما كون الزيادة المنفصلة كالولد والثمرة والكسب لا يمنع الرجوع؛ فلأن البائع وجد عين ماله بعينه فكان أحق به للحديث.

ولأن المانع في الزيادة المتصلة مفقود في المنفصلة فكان أحق بعينه عملاً بالحديث السالم عن المعارض.

وأما كون الزيادة للمفلس وهو قول الخرقي؛ فلأنه مُنع الرجوع بالزيادة المتصلة لكونها للمفلس فالمنفصلة أولى.

ولأن المنفصلة لا تتبع الأصل في الفسخ بدليل الرد بالعيب والخيار والرجوع في الصداق بالطلاق.

وأما كونها للبائع عند الإمام أحمد؛ فلأنها زيادة فكانت للبائع كالمتصلة. وذكر المصنف هذه الرواية في المغني قولاً لأبي بكر، وحكى عنه أنه أخذه من قول أحمد في ولد الجارية ونتاج الدابة هو للبائع. ثم قال: والأول هو الصحيح لأن الزيادة انفصلت في ملك المشتري فكانت له كما لو وجد بالمبيع عيباً فرده وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الخراج

ص: 635

بالضمان» (1) يدل على أن النماء والغلة لمن كان عليه الضمان. وفارق الزيادة المتصلة من حيث إنها تتبع في الفسوخ، وكلام أحمد يُحمل على أنه باعها حاملاً.

وأما كون النقص بذهاب صنعة كعبد هُزِل أو نسي صناعة، أو ثوب فخَلِقَ لا يمنع الرجوع؛ فلأن فقد الصفة لا تخرجه عن كونه عين ماله، وإذا كان كذلك كان لبائعه أخذه لقوله عليه السلام: «منْ أدركَ متاعَهُ بعينِه

الحديث» (2).

فإن قيل: هل له أن يأخذ عوض نقصه شيئاً؟

قيل: لا. لكنه يتخير بين أخذه ناقصاً بجميع حقه، وبين أن يضرب مع الغرماء بكمال ثمنه؛ لأن الثمن لا يتقسط على صفة السلعة من سِمَنٍ وهُزال وعلم ونحوه. وإذا كان كذلك كان بمنزلة نقصان قيمته لتغير الأسعار.

قال: (وإن صبغ الثوب أو قصره لم يمنع الرجوع والزيادة للمفلس).

أما كون ما ذكر لا يمنع الرجوع؛ فلأن العين قائمة مشاهدة لم يتغير اسمها ولا صفتها. أشبه ما لو وجدها غير مصبوغة ولا مقصورة.

وأما كون الزيادة للمفلس؛ فلأنها حصلت بفعله في ملكه.

قال: (وإن غرس الأرض أو بنى فيها فله الرجوع ودفع قيمة الغراس والبناء فيملكه إلا أن يختار المفلس والغرماء القلع ومشاركته بالنقص. وإن أبوا القلع وأبى دفع القيمة سقط الرجوع).

أما كون البائع له الرجوع في المبيع بغرسه وبنائه فيملكه إذا دفع قيمة ذلك مع عدم اختيار المفلس والغرماء القلع؛ فلأن الغراس والبناء حصل في ملكه لغيره بحق فكان له ذلك؛ كالشفيع إذا غرس المشتري في الأرض المشفوعة أو بنى.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (3510) 3: 284 كتاب البيوع، باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله ثم وجد به عيباً.

وأخرجه الترمذي في جامعه (1285) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد فيه عيباً.

وأخرجه النسائي في سننه (4490) 7: 254 كتاب البيوع، الخراج بالضمان.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (2243) 2: 754 كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان.

(2)

سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ص: 636

وأما كونه ليس له ذلك إذا اختار المفلس والغرماء القلع ومشاركة البائع بالنقص؛ فلأنه لا حق للبائع في الغراس والبناء فلا يملك إجبار مالكهما على المعاوضة.

فعلى هذا يرجع في أرضه ويضرب مع الغرماء بأرش ما نقصت الأرض بالقلع لأن ذلك نقصٌ حصل لتخليص ملك المفلس فكان عليه؛ كما لو أدخل (1) فصيلاً دار إنسان فكَبِر. فأراد صاحبه إخراجه ولم يمكن إلا بهدم الباب. فإنه يُهدم ويخرج ويضمنُ ما نقص.

فإن قيل: لو وجد البائع عين ماله ناقصة فاختار الرجوع لم يكن له أرش النقص فلم لا يكون هاهنا كذلك؟

قيل: الفرق بينهما أن النقص هنا حدث بعد رجوعه في العين بخلاف ما ذكر.

وأما كونه يسقط الرجوع إذا امتنع المفلس والغرماء من القلع، والبائع من دفع القيمة؛ فلأن في الرجوع ضرراً على المشتري، والضرر لا يزال بالضرر.

ولأن عين مال البائع صارت مشغولة بملك غيره فسقط حقه من الرجوع كما لو كان المبيع مسامير فسمر بها باباً أو خشبة فبنى عليها داراً.

وقال القاضي: يحتمل أن له الرجوع لأن أكثر ما فيه أنه مشغول بملك المفلس. فلم يمنع الرجوع؛ كما لو كان المبيع ثوباً فصبغه المشتري.

فعلى هذا إذا رجع في الأرض بقي الغراس والبناء للمفلس فإن اتفق هو والغرماء والبائع على البيع بيعت الأرض بما فيها وأخذ كل واحد منهم بقدر حقه. وإن امتنع صاحب الأرض من البيع احتمل أن يجبر عليه كما لو كان المبيع ثوباً فصبغه، واحتمل أن لا يجبر لأنه يمكن إفراد مال المفلس بالبيع بخلاف الثوب.

(1) في هـ: دخل.

ص: 637

فصل [الحكم الثالث]

قال المصنف رحمه الله: (الحكم الثالث: بيع الحاكم ماله وقسم ثمنه. وينبغي أن يحضره ويحضر الغرماء، ويبيع كل شيء في سوقه).

أما كون الحاكم يبيع مال المفلس إذا حجر عليه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حجر على معاذ باع ماله في دينه وقسم ثمنه بين غرمائه (1).

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس وقال: «ألا إن أُسيْفَع (2) جهينة قد رضي من دَينِه وأمانتهِ بأن يقال: سبقَ الحاج فادّان معرضاً فأصبحَ وقد رينِ به. فمنْ كانَ لهُ مالٌ فليحضرْ غداً فإنا بائعوا مالهُ، وقاسموهُ بينَ غرمائِه» (3).

ولأنه محجور عليه يحتاج إلى قضاء دينه فجاز بيع ماله فيه بغير رضاه؛ كالصغير والسفيه.

وأما كون الحاكم ينبغي له أن يحضر المفلس في وقت البيع فلمعان أربعة:

أحدها: أنه يحصي ثمن متاعه ويضبطه.

وثانيها: أنه أعرف بالجيد من متاعه ورديئه فإذا حضر تكلم عليه، وعرف الغبن من غيره.

وثالثها: أن تكثر فيه الرغبة. فإن شراء الشيء من صاحبه (4) أحب إلى المشترين.

ورابعها: أن ذلك أطيب لنفسه وأسكن لقلبه.

وأما كونه ينبغي له أن يُحضر الغرماء فلأمور أربعة أيضاً:

أحدها: أنه يباع لهم.

(1) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

(2)

في هـ: أشيفع.

(3)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 49 كتاب التفليس، باب الحجر على المفلس وبيع ماله في ديونه.

(4)

في هـ: صاحب.

ص: 638

وثانيها: ربما رغبوا في شراء شيء منه فزادوا في ثمنه فيكون أصلح لهم وللمفلس.

وثالثها: أنه أطيب لقلوبهم وأبعد في التهمة.

ورابعها: أنه ربما كان فيهم من يجد عين ماله فيأخذها.

وظاهر كلام المصنف: أن ذلك غير واجب وهو صحيح؛ لأن ذلك موكول إليه ومفوض إلى اجتهاده وربما أدى اجتهاده إلى خلاف ذلك بأن يرى المصلحة في المبادرة إلى البيع قبل الإحضار ونحو ذلك.

وأما كونه يبيع كل شيء في سوقه. ومعناه: أنه يبيع البز في البزازين، والكتب في الكتبيين، وما أشبه ذلك؛ فلأنه أحوط وأكثر لطلابه ومعرفة ثمنه.

فإن قيل: لو بيع في غير سوقه بثمن مثله ما الحكم؟

قيل: يجوز؛ لأن الغرض تحصيل الثمن.

فعلى هذا يكون قول المصنف رحمه الله: "ويبيع كل شيء في سوقه" معطوفاً على ويحضر (1). ويقدر: وينبغي أن يبيع؛ ليكون كلامه مشعراً بالجواز المذكور. ثم يستأنف: ويُترك له من ماله لأن ذلك واجب.

قال: (ويُترك له من ماله ما تدعو إليه حاجته من مسكن وخادم، وينفق عليه بالمعروف إلى أن يفرغ من قسمه بين غرمائه).

أما كون الحاكم يترك للمفلس من ماله ما تدعو حاجته إليه من مسكن وخادم؛ فلأن ذلك ما لا غنى له عنه فلم يبع في دينه كثيابه وقوته.

وأما كونه ينفق عليه بالمعروف إلى أن يفرغ من قسمه بين غرمائه؛ فلأن ملكه قبل القسمة باق على ذلك.

ولأن (2) النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» (3). ومن المعلوم أن فيمن يعوله من تجب نفقته عليه ويكون ديناً عليه كالزوجة. فإذا قُدّم نفقةُ نفسه على نفقتها فكذا تُقدم على حق الغرماء.

(1) في هـ: يحضر.

(2)

في هـ: فلأن.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5041) 5: 2048 كتاب النفقات، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال، ولفظه: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير الصدقة ما كان على ظهر غنى، وابدأ بمن تعول» .

وأخرجه مسلم في صحيحه (1042) 2: 721 كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس. ولفظه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «

فإن اليد العليا أفضل من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول».

وفي (997) 2: 692 كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة.

وأخرجه النسائي في سننه (4652) 7: 304 كتاب البيوع، بيع المدبر. ولفظهما: «ابدأ بنفسك

».

ص: 639

ولأن الحي آكد حرمة من الميت؛ لأنه (1) مضمون بالإتلاف، وتجهيز الميت وتكفينه مقدم على دينه فنفقة الحي أولى.

قال: (ويُبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد ثم بالحيوان ثم بالأثاث ثم بالعقار. ويعطي المنادي أجرته من المال).

أما كون الحاكم يبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد كالبطيخ والطبيخ وما أشبههما؛ فلأن بقاءه يتلفه بيقين.

وأما كونه يقدم بيع الحيوان على ما بعده؛ فلأنه معرض للإتلاف ويحتاج في بقائه إلى نفقة.

وأما كونه يقدم بيع الأثاث على العقار؛ فلأنه يخاف عليه وتناله اليد.

وأما كونه يعطي المنادي أجرته من المال؛ فلأن البيع حق عليه.

وقال المصنف في المغني وأبو الخطاب في الهداية وغيرهما: الأجرة في بيت المال؛ لأنه من المصالح. فإن لم يكن فمن المال لما تقدم. فيحتمل أن المصنف هنا قصد بقوله: أنه من المال ذلك. وإنما لم يذكر من بيت المال بناء على التعذر من بيت المال؛ لأنه يومئذ لا يصرف منه شيء في مثل ذلك. ويحتمل أن يكون في المسألة وجهان ذكر أحدهما هنا وفي المغني الآخر.

ويشترط أن يكون المنادي ثقة فإن اتفق المفلس والغرماء على ثقة أمضاه الحاكم لوجود الشرط فيه، وإن اتفقوا على غير ثقة رده.

(1) في هـ: لا.

ص: 640

فإن قيل: لم يرده وأصحاب الحق قد رضوا به، وهلا كان ذلك مثل الراهن والمرتهن إذا اتفقا على غير ثقة؟

قيل: لأن للحاكم هنا نظراً واجتهاداً فإنه قد يظهر غريم آخر فيتعلق حقه به بخلاف الرهن فإنه لا نظر للحاكم فيه.

فإن اختار المفلس والغرماء آخر قدم المتطوع منهما؛ لأنه أوفر، وإن كانا متطوعان ضم أحدهما إلى الآخر وإلا قدم أوثقهما وأعرفهما.

قال: (ويُبدأ بالمجني عليه فيدفع إليه الأقل من الأرش أو ثمن الجاني. ثم بمن له رهن فيخص بثمنه. فإن فضل له فضل ضرب به مع الغرماء. وإن فضل منه فضل رد على المال (1). ثم بمن له عينُ مالٍ يأخذها. ثم يقسم الباقي بين باقي الغرماء على قدر ديونهم. فإن كان فيهم من له دين مؤجل لم يحلّ. وعنه: أنه يحلّ فيشاركهم).

أما كون الحاكم يبدأ بالمجني عليه؛ فلأنه حقه متعلق بالعين يفوت بفواتها. بخلاف بقية الغرماء.

وأما كونه يدفع الأقل مما ذكر إليه؛ فلأن الأقل إن كان الأرش فهو لا يَستحق إلا أرش الجناية، وإن كان ثمن الجاني فهو لا يستحق غيره؛ لأن حقه متعلق بعينه.

فعلى هذا إذا فضل شيء من ثمن الجاني عن أرش الجناية قسم على بقية الغرماء.

وأما كونه يبدأ بعد ذلك بمن له رهن فيقدمه على بقية الغرماء ويخصصه بثمن الرهن؛ فلأن المرتهن لم يرض بمجرد الذمة بخلاف بقية الغرماء.

فعلى هذا إن فضل للمرتهن فضل ضرب بما بقي له مع الغرماء لأنه ساواهم في ذلك، وإن فضل من الرهن فضل رد على المال؛ لأنه انفك من الرهن بالوفاء فصار كسائر أموال المفلس.

وأما كونه يبدأ بعد ذلك بمن له عين مال يأخذها؛ فلما تقدم من قوله عليه السلام: «منْ أدركَ متاعَهُ بعينهِ عندَ إنسانٍ قدْ أفلسَ فهوَ أحقُّ به» (2).

(1) في هـ: رد على الجاني.

(2)

سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ص: 641

وأما كونه يقسم الباقي على باقي الغرماء؛ فلتساوي حقوقهم في تعلقها بذمة المفلس.

وأما كون القسمة على قدر ديونهم؛ فلأن فيه تسوية بينهم ومراعاة لكمية حقوقهم.

وأما كون من له دين مؤجل لا يحلّ بالفلس على المذهب؛ فلأن التأخير حق للمفلس فلا يبطل بإفلاسه كسائر حقوقه.

ولأنه لا يوجب حلول ما له فلا يوجب حلول ما عليه؛ كالجنون والإغماء.

ولأنه دين مؤجل على حي فلا يحل بالفلس كغيره.

وأما كونه يحل على روايةٍ؛ فلأن الإفلاس يتعلق به الدين بالمال فأسقط الأجل كالموت.

والأول أصح لما ذكر. والقياس على الموت مردود بالمنع. ثم بتقدير تسليمه الفرق بينهما أن ذمة الميت خربت وبطلت بخلاف المفلس.

وقال المصنف في المغني: قال القاضي: لا يحل الدين بالفلس رواية واحدة.

قال: (ومن مات وعليه دين مؤجل لم يحلّ إذا وثق الورثة. وعنه: يحلّ).

أما كون من مات وعليه دين مؤجل لا يحل إذا وثق الورثة على المذهب فلما ذكر في الفلس.

وأما كونه يحل على روايةٍ؛ فلأنه لا يخلو: إما أن يبقى في ذمة الميت، أو الورثة، أو متعلقاً بالمال. والأول لا يجوز لخراب الذمة بالموت، وكذا الثاني لأن صاحب الدين لم يرض بذمة الورثة لا سيما إذا كانت مختلفة متباينة، وكذا الثالث لأن في تعليق الدين بالمال مع كونه مؤجلاً ضرراً بالميت وصاحب الدين والورثة: أما ضرر الميت فلبقاء ذمته مرتهَنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الميتُ مُرتهَنٌ بدينهِ حتى يُقضَى عنه» (1).

وأما ضرر صاحب الدين؛ فلأنه يتأخر دينه وقد تتلف العين فتسقط بالكلية.

(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 73 كتاب الضمان، باب وجوب الحق بالضمان. ولفظه: «

إنه ليس من ميت يموت وعليه دين إلا وهو مرتهن بدينه

».

ص: 642

وأما ضرر الورثة فظاهر لأنهم لا يتمكنون من الانتفاع بالأعيان.

والأول أصح؛ لما ذكر.

ولأن التأجيل حق للميت فلا يسقط بالموت لقوله عليه السلام: «من ترك حقاً فلورثته» (1)، وكسائر حقوقه.

وأما قول المصنف رحمه الله: لم يحل إذا وثق الورثة ففيه إشعار بحلوله إذا لم يوثقوا وهو صحيح صرح به في المغني وعلله بأن عدم الحلول يفضي إلى إسقاط دينه بالكلية.

قال: (وإن ظهر غريم بعد قسم ماله رجع على الغرماء بقسطه. وإن بقيت على المفلس بقية وله صنعة فهل يجبر على إيجار نفسه لقضائها؟ على روايتين).

أما كون الغريم الذي ظهر بعد القسمة يرجع على بقية الغرماء بقسط حقه؛ فلأنه لو كان حاضراً قاسمهم فإذا ظهر بعد ذلك قاسمهم كالغريم للميت يظهر بعد قسمة تركته.

وأما كون المفلس يجبر على إيجار نفسه لقضاء دينه على روايةٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم باع سُرَّقاً في دَينِه» (2)، والحر لا يباع فعلم أنه باع منافعه.

ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في صحة العقد عليها وتحريم أخذ الزكاة فكذا هاهنا.

ولأن الإجارة عقد معاوضة فجاز إجباره عليها كبيع ماله.

وأما كونه لا يجبر على روايةٍ؛ فلأنه معسر فيدخل في قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280].

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها: «خُذوا ما وَجدتمْ وليسَ لكمْ إلا ذلك» (3) رواه مسلم.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6350) 6: 2476 كتاب الفرائض، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من ترك مالاً فلأهله» .

وأخرجه مسلم في صحيحه (1619) 3: 1237 كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته.

(2)

أخرجه الحاكم في مستدركه (7062) 4: 114 كتاب الأحكام. قال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. قال في التلخيص: كذا قال، وعبدالرحمن بن البيلماني لين، ولم يحتج به البخاري.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه (1556) 3: 1191 كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين.

وأخرجه أبو داود في سننه (3469) 3: 276 كتاب البيوع، باب في وضع الجائحة.

وأخرجه الترمذي في جامعه (655) 3: 44 كتاب الزكاة، باب ما جاء من تحل له الصدقة من الغارمين وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وأخرجه النسائي في سننه (4678) 7: 312 كتاب البيوع، الرجل يبتاع البيع فيفلس ويوجد المتاع بعينه.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (2356) 2: 789 كتاب الأحكام، باب تفليس المعدم والبيع عليه لغرمائه.

ص: 643

ولأن ذلك تكسب فلا يجبر عليه كما لا يجبر على قبول الهبة والصدقة.

والأولى أصح لحديث سُرَّق.

فإن قيل: حديث سُرَّق منسوخ؛ لأن الحر لا يباع الآن، والبيع ثَمَّ وقع على رقبته. بدليل أن في الحديث أن غرماءه قالوا لمشتريه:«ما تصنع به؟ قال: أعتقه. قالوا: لسنا بأزهد منك في إعتاقه فأعتقوه» (1).

قيل: هذا إثبات نسخ بالاحتمال. فلا يجوز. وذلك أنه لم يثبت أن بيع الحر كان جائزاً في شريعتنا في وقت. وحَمْلُ لفظ بيعه على بيع منافعه أسهل من حمله على النسخ وأحسن.

وقول المشتري: أعتقه. يعني به من خقي عليه. ولذلك أعتقه غرماؤه أي أسقطوا دينهم عليه.

وأما قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280] فمحمول على من لا صنعة له جمعاً بينه وبين الحديث المتقدم، وكذا الذي أصيب في الثمار.

قال: (ولا ينفك عنه الحجر إلا بحكم حاكم. فإذا انفك عنه الحجر فلزمته ديون وحجر عليه شارك غرماءُ الحجر الأول غرماءَ الحجر الثاني. وإن كان للمفلس حق له به شاهد فأبى أن يحلف معه لم يكن لغرمائه أن يحلفوا).

أما كون المفلس لا ينفك عنه الحجر إلا بحكم حاكم؛ فلأنه ثبت بحكمه فلا ينفك إلا بحكمه كالمحجور عليه لسفه.

(1) هو تكملة لحديث سُرّق السابق ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة .. ولفظه: «

قال: فجعل الناس يسومونه بي ويلتفت إليهم فيقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: نريد أن نفديه منك. فقال: والله إني منكم أحق وأحوج إلى الله عز وجل اذهب فقد أعتقتك».

ص: 644

وأما كون غرماء الحجر الأول يشاركون غرماء الحجر الثاني إذا فك عنه الحجر ثم حجر عليه ثانياً؛ فلأنهم تساووا في ثبوت حقوقهم في ذمته فوجب أن يتساووا في المشاركة كغرماء الميت.

وأما كون غرماء المفلس [لا يحلفون](1) إذا كان للمفلس حق له به شاهد فأبى أن يحلف معه؛ فلأنهم يثبتون ملكاً لغيرهم ليتعلق به حقوقهم بعد ثبوته فلم يجز؛ كما لم يجز للمزوجة أن تحلف لإثبات ملك لزوجها ليتعلق به نفقتها.

(1) ساقط من هـ.

ص: 645

فصل [الحكم الرابع]

قال المصنف رحمه الله: (الحكم الرابع: انقطاع المطالبة عن المفلس، فمن أقرضه شيئاً أو باعه لم يملك مطالبته حتى يفك الحجر عنه).

أما كون المفلس تنقطع المطالبة عنه بالحجر عليه؛ فلأن الله تعالى قال: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280] لأن {فنظرة} خبر بمعنى الأمر، والتقدير: أنظروه إلى يساره.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الذي أصيب في الثمار: «خُذوا ما وَجدتمْ وليسَ لكمْ إلا ذلك» (1) رواه مسلم.

وأما كون من أقرضه شيئاً بعد فلسه أو باعه لا يملك مطالبته حتى يفك الحجر عنه؛ فلما تقدم.

ولأنه هو الذي أتلف ماله بمعاملته من لا شيء له.

(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ص: 646

فصل [في المحجور عليه لِحَظِّه]

قال المصنف رحمه الله: (الضرب الثاني: المحجور عليه لِحَظِّه وهو الصبي والمجنون والسفيه، فلا يصح تصرفهم قبل الإذن. ومن دفع إليهم ماله ببيع أو قرض رجع فيه ما كان باقياً، وإن تلف فهو من ضمان مالكه علم بالحجر أو لم يعلم. وإن جنوا فعليهم أرش الجناية).

أما كون الحجر هنا لِحَظِّ المحجور عليه؛ فلأن مصلحته تعود عليه بخلاف المفلس فإن الحجر عليه لمصلحة غريمه.

وأما قول المصنف رحمه الله: وهو الصبي والمجنون والسفيه فبيان للمحجور عليه لحظه.

وأما كون الصبي يحجر عليه؛ فلأن الله تعالى لما قال: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] دل بمفهومه على أنه لا يسلم إليهم قبل الرشد.

وأما كون المجنون يحجر عليه؛ فلأنه إذا حجر على الصبي مع أن له عقلاً؛ فلأن يحجر على المجنون الذي لا عقل له بطريق الأولى.

وأما كون السفيه يحجر عليه؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم

الآية} [النساء: 5].

وأما كون من ذكر لا يصح تصرفهم قبل الإذن؛ فلأن المفلس إذا لم يصح تصرفه لكونه محجوراً عليه؛ فلأن لا يصح تصرف هؤلاء بطريق الأولى.

وأما تصرفهم بالإذن فينظر فيه فإن كان من مجنون لم يصح لعدم عقله وتمييزه، وإن كان من صبي مميز أو سفيه ففيه خلاف تقدم ذكره في الفصل الثاني من كتاب البيع.

وأما كون من دفع إليهم ماله ببيع أو قرض أو نحوهما يرجع إن كان باقياً؛ فلأنه باق على ملكه لكون أحد العاقدين ليس أهلاً.

ص: 647

وأما كون ذلك من ضمان مالكه إن تلف؛ فلأنه تلف بتفريط من صاحبه وتسليطه (1) عليه.

وأما كون الحكم كما ذكر عَلِم المالك بالحجر أو لم يعلم؛ فلأنه مفرّط في الحالين: أما مع علمه بالحجر عليه فظاهر، وأما مع عدم علمه؛ فلأنه عامل من لا يعرفه.

ولأن الظاهر العلم بحال من حُجر عليه فحيث لم يعلم ذلك يكون ذلك منسوباً إلى تقصيره.

وأما كون أرش الجناية على من ذكر إذا جنوا؛ فلأن الإتلاف يستوي فيه الأهل وغيره. دليله إتلاف المال.

قال: (ومتى عقل المجنون وبلغ الصبي ورشدا انفك الحجر عنهما بغير حكم حاكم ودفع إليهما مالهما. ولا ينفك قبل ذلك بحال).

أما كون المجنون ينفك الحجر عنه إذا عقل ورشد فبالاتفاق لأنه حجر عليه لجنونه فإذا زال وجب زوال الحجر لزوال علته.

وأما كون الصبي ينفك الحجر عنه إذا بلغ ورشد؛ فلأن الله تعالى قال: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] أمر بدفع أموالهم إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد.

وأما كون الحجر عليهم ينفك عنهما بغير حكم حاكم: أما في المجنون فبالاتفاق.

قال صاحب المغني فيه: لا خلاف في أن المجنون يدفع إليه ماله إذا زال جنونه وهو رشيد.

وأما في الصبي؛ فلأن اشتراط ذلك فيما ذكر زيادة على قوله: {فإن ءانستم منهم رشداً فادفعوا

الآية} [النساء: 6].

ولأنه حجر عليه بغير حكم حاكم فيزول بغير حكمه كالحجر على المجنون.

(1) في هـ: وتسليط.

ص: 648

وأما كونه يُدفع مالهما إليهما إذا انفك الحجر عنهما؛ فلأن المانع من الدفع الحجر وقد زال.

وأما كونه لا ينفك الحجر عنهما قبل زوال ما ذكر: أما في المجنون؛ فلأن الحجر عليه لجنونه فما دام كذلك يجب ثبوته عليه عملاً بالعلة.

وأما في الصبي؛ فلأن الله تعالى علق الدفع على شرطين، والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما.

قال: (والبلوغ يحصل بالاحتلام أو بلوغ خمس عشرة (1) سنة أو نبات الشعر الخشن حول القبل، وتزيد الجارية بالحيض والحمل. والرشد الصلاح في المال).

أما كون البلوغ يحصل بالاحتلام فلقوله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا} [النور: 59]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم» (2) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن.

وقوله لمعاذ في الجزية: «خُذْ منْ كلِّ حَالِمٍ دِيناراً» (3) رواه أبو داود.

وأما كونه يحصل بخمس عشرة سنة فلما روى ابن عمر قال: «عُرضتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ وأنا ابن ثلاثَ عشرة سنة فَردّنِي، وعُرضت عليه وأنا ابن أربع عشرة سنة فردنِي ولم يَرَنِي بَلغتُ، وعُرضتُ عليه عامَ الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. فأخبر بها عمر بن عبدالعزيز فكتب إلى عماله أن لا يفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة سنة» (4) رواه الشافعي في مسنده قريباً من هذا المعنى.

(1) في هـ: خمسة عشر.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4403) 4: 141 كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً.

وأخرجه الترمذي في جامعه (1423) 4: 32 كتاب الحدود، باب ماجاء فيمن لا يجب عليه الحد.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (3038) 3: 167 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية.

وأخرجه الترمذي في جامعه (623) 3: 20 كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر.

قال الترمذي: حديث حسن.

وأخرجه النسائي في سننه (2452) 5: 26 كتاب الزكاة، باب زكاة البقر.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2521) 2: 948 كتاب الشهادات، باب بلوغ الصبيان وشهادتهم.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1868) 3: 1490 كتاب الإمارة، باب بيان سن البلوغ.

وأخرجه الشافعي في مسنده (421) 2: 128 كتاب الجهاد.

ص: 649

وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استكملَ المولودُ خمس عشرة سنة كُتب ما له وما عليه وأخذتْ منه الحدود» .

وأما كونه يحصل بالإنبات فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكّم سعد بن معاذ في بني قريظة حكم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، وأمرَ بأن يكشفَ عن مؤتزَرِهم فمن أَنبتَ فهو من المقاتلة ومن لم ينبتْ فهو من الذريّة. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لقد حكمَ بحكمِ الله من فوقِ سبعةِ أرقعة» (1).

وروي عن عطية القرظي قال: «عُرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا فيَّ فأمر أن ينظر إليَّ هل أنبت بعد فنظروا إليَّ فلم يجدوني أنبت بعد فخلوا عني وألحقوني بالذرية» (2) متفق على معناه.

ولأن الإنبات خارج يلازمه البلوغ غالباً ويستوي فيه الذكر والأنثى فكان بلوغاً كالاحتلام.

وأما كون الجارية تزيده بالحيض والحمل؛ فلأن كل واحد منهما معنى لا يوجد في غيرها.

وأما كون البلوغ يحصل بهما: أما بالحيض؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» (3) رواه أبو داود والترمذي.

وأما بالحمل؛ فلأن الله تعالى أجرى العادة أن المرأة لا تحمل إلا بعد أن تحيض.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2878) 3: 1107 كتاب الجهاد، باب إذا نزل العدو على حكم رجل. مختصر.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1768) 3: 1388 كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد

مختصر.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4404) 4: 141 كتاب الحدود، باب في الغلام يصيب الحد.

وأخرجه الترمذي في جامعه (1584) 4: 145 كتاب السير، باب ما جاء في النزول على الحكم. ولم أره عند الشيخين.

(3)

أخرجه الترمذي في جامعه (377) 2: 215 أبواب الصلاة، باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار.

وأخرجه أبو داود في سننه (641) 1: 171 كتاب الصلاة، باب المرأة تصلي بغير خمار.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (655) 1: 215 كتاب الطهارة وسننها، باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار.

قال الترمذي: حديث حسن والعمل عليه عند أهل العلم. وقال الحاكم في مستدركه: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.

ص: 650

ولأن الله تعالى أخبر أن الولد يخلق من ماء الرجل وماء المرأة بقوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق? خلق من ماء دافق? يخرج من بين الصلب والترائب} [الطارق: 5 - 7].

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أحاديث غير واحدة (1).

وأما كون الرشد الصلاح في المال فـ «لأن ابن عباس قال في تفسير قوله تعالى: {فإن ءانستم منهم رشداً} [النساء: 6] أي صلاحاً في أموالهم» (2).

ولأن هذا مصلح لماله فكان رشيداً كالعدل.

ولأن الحجر إنما هو في المال فالمؤثر فيه يجب أن يكون ما أثر في تضييعه أو حفظه.

قال: (ولا يدفع إليه ماله حتى يختبر فإن كان من أولاد التجار فبأن يتكرر منه البيع والشراء فلا يغبن، وإن كان من أولاد الرؤساء والكتّاب فبأن يستوفي على وكيله فيما وكله فيه. والجارية بشرائها القطن واستجادته ودفعها الأجرة إلى الغزالات والاستيفاء عليهن. وأن يحفظ ما في يده عن صرفه فيما لا فائدة فيه كالقمار والغناء وشراء المحرمات ونحوه).

أما كون الصبي لا يدفع إليه ماله قبل اختباره؛ فلأن الله تعالى علق الدفع على الاختبار والبلوغ وإيناس الرشد بقوله: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] أي اختبروهم ونظيره قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} [الملك: 2].

(1) منها ما رواه أنس «أن عبدالله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال أخبرني به جبريل آنفاً قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد

». أخرجه البخاري في صحيحه (3723) 3: 1433 كتاب فضائل الصحابة، باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 59 كتاب الحجر، باب الرشد هو الصلاح في الدين وإصلاح المال.

ص: 651

وأما صفة الاختبار فتختلف باختلاف الأشخاص كما بين المصنف رحمه الله لأن العرف يقتضي ذلك فوجب أن يختلف باختلاف أحواله كالحِرْز والقبض.

وأما قوله: "أن يحفظ ما في يده عن صرفه فيما لا فائدة فيه" فتنبيه على أنه يضم إلى ما ذكر حفظ ما في يده عن الأمور المذكورة؛ لأن من صرف ماله فيما ذكر يعد مبذراً سفيهاً عرفاً فكذا شرعاً.

ولأن الشخص قد يحكم بسفهه بصرف ماله في المباح فَلأن يحكم بسفهه بصرف ماله في المحرمات بطريق الأولى.

وتحرير ما ذكره المصنف: أن الاختبار يحصل بأمرين:

أحدهما: عدم الغبن فيما هو متصرف فيه.

والثاني: عدم صرف ما في يده فيما يفضي إلى ضياعه.

قال: (وعنه: لا يدفع إلى الجارية مالها بعد رشدها حتى تتزوج وتلد أو تقيم في بيت الزوج سنة. ووقت الاختبار قبل البلوغ. وعنه: بعده).

أما كون الجارية لا يدفع إليها مالها حتى يوجد ما ذكره المصنف على روايةٍ فلما روي عن شريح أنه قال: «عهد إليّ عمر بن الخطاب أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولاً أو تلد ولداً» . رواه سعيد في سننه. ولم يعرف له مخالف فكان إجماعاً.

والأول أصح؛ لأنها كالرجل لدخولها في عموم الآية.

ولأنها مكلفة فوجب أن يدفع إليها مالها إذا أنس منها الرشد؛ كالرجل، وكالتي دخل بها زوجها وولدت أو أقامت سنة. وحديث عمر إن صح فلم يعلم انتشاره في الصحابة فلم يترك به عموم الكتاب والقياس.

وأما كون وقت الاختبار قبل البلوغ على المذهب؛ لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء: 6].

ولأن تأخير الاختبار إلى البلوغ مؤد إلى الحجر على البالغ الرشيد؛ لأنه إلى أن يختبر يمنع من ماله.

ص: 652

وأما كونه بعده على روايةٍ؛ فلأنه قبله ليس أهلاً للتصرف؛ لأنه لم يوجد البلوغ الذي هو مظنة العقل فكان عقله بمنزلة المعدوم.

ص: 653

فصل [في أحكام الولي]

قال المصنف رحمه الله: (ولا تثبت الولاية على الصبي والمجنون إلا للأب ثم لوصيه ثم للحاكم).

أما كون الولاية لا تثبت على من ذكر لغير الثلاثة من الأب والوصي والحاكم؛ فلأنه لا يوجد فيه كمال الشفقة ولا هو نائب لمن كملت شفقته ولا له ولاية عامة.

ولأن غير الثلاثة إما جد أو غير جد، وغير الجد لا ولاية له وفاقاً إذا لم يكن وصياً ولا حاكماً والجد مسلوب الصفات الثلاثة فوجب أن يساوي غيره من غير الثلاثة.

وأما كون الولاية تثبت للأب؛ فلأنه كامل الشفقة لأنه يؤثر مصلحة ولده على مصلحة نفسه غالباً بخلاف غيره.

وأما كونها تثبت للوصي؛ فلأنه نائبه.

وأما كونها تثبت للحاكم؛ فلأنه ولي (1) من لا ولي له. وقد نبّه الشرع على هذا في النكاح حيث قال: «فإن اشتجروا فالسلطان وليّ من لا وليّ له» (2).

وأما كون الأب مقدماً على وصيه والحاكم فلما ذكر من كمال شفقته ولهذا يجوز له أن يشتري لنفسه من مال ابنه وبالعكس بخلاف غيره.

ولأن الوصي نائبه والمنيب مقدم على النائب فإذا قدم على الوصي -والوصي مقدم على الحاكم لما يأتي- فلأن يقدم على الحاكم بطريق الأولى.

(1) في هـ زيادة: به.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (2083) 2: 229 كتاب النكاح، باب في الولي.

وأخرجه الترمذي في جامعه (1102) 3: 407 كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي. قال الترمذي: حديث حسن.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (1879) 1: 605 كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي.

ص: 654

وأما كون الوصي مقدم على الحاكم؛ فلأن الحاكم إنما يلي لعدم الولاية عليه والوصي منزل منزلة الموصي.

قال: (ولا يجوز لوليهما أن يتصرف في مالهما إلا على وجهٍ الحظ لهما. فإن تبرع أو حابا أو زاد على النفقة عليهما أو على من تلزمهما مؤونته بالمعروف ضمن).

أما كون ولي الصبي والمجنون لا يجوز لهما التصرف في مالهما إلا على وجهٍ الحظ: أما ولي الصبي؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء: 34].

وأما ولي المجنون؛ فلأنه في معناه.

وأما كون وليهما يضمن ما تبرع به من مالهما أو حابا أو زاد على النفقة عليهما أو على من تلزمهما مؤنته بالمعروف؛ فلأنه منسوب في ذلك إلى التفريط والتقصير.

ولأنه لم يقْرَبْ مال موليه بالتي هي أحسن فيكون عاصياً لارتكابه النهي فيجب عليه الضمان كالغاصب لذلك.

قال: (ولا يجوز أن يشتري من مالهما شيئاً لنفسه ولا يبيعهما إلا الأب).

أما كون الولي غير الأب لا يجوز له أن يشتري من مال موليه شيئاً لنفسه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشتر الوصي من مال اليتيم» (1). فيثبت فيه للنص، ويقاس عليه الحاكم.

ولأن كل واحد من الوصي والحاكم متهم في ذلك.

وأما كونه لا يجوز له أن يبيعه؛ فلأنه كالشراء معنى فيكون كذلك حكماً.

وأما كون ذلك يجوز للأب؛ فلأن كمال شفقته تمنعه من الحيف على ولده ولم يوجد فيه المقتضى للمنع في غيره.

(1) لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن صلة بن زفر قال: «كنت جالساً عند ابن مسعود. فجاء رجل من همدان على فرس أبلق. فقال: يا أبا عبدالرحمن! آشتري هذا؟ قال: ما له؟ قال: إن صاحبه أوصى إلي. قال: لا تشتره، ولا تستقرض من ماله» . 6: 3 كتاب البيوع، باب: لا يشتري من ماله لنفسه إذا كان وصيا.

ص: 655

قال: (ولوليهما مكاتبة رقيقهما وعتقه على مال وتزويج إمائهما والسفر بمالهما والمضاربة به والربح كله لليتيم، وله دفعه مضاربة بجزء من الربح وبيعه نسأ وقرضه برهن وشراء العقار لهما وبناؤه بما جرت عادة أهل بلده به إذا رأى المصلحة في ذلك كله).

أما كون ولي الصبي والمجنون له مكاتبة رقيقهما وعتقه على مال؛ فلأن للولي أن يبيع بذلك؛ فلأن يجوز له المكاتبة والعتق بطريق الأولى لأن فيه تحصيلاً لمصلحتي الدنيا والآخرة بخلاف البيع.

وأما كونه له تزويج إمائهما؛ فلأن فيه إعفافهن وتحصينهن عن الزنا ووجوب نفقتهن على أزواجهن.

وأما كونه له السفر بمالهما؛ فلأنه سبب للربح وقد نبه الشرع على تحصيله بقوله عليه السلام: «اتجروا في أموال اليتامى» (1).

وأما كونه له المضاربة به فلما ذكر.

وأما كون الربح كله لليتيم؛ فلأن العامل إنما يستحق بالشرط ولا شرط.

ولأنه لا يصح أن يشرط لنفسه للتهمة.

وأما كونه له دفعه مضاربة بجزء من الربح؛ فلأن في ذلك نفعاً لليتيم لما فيه من استنماء ماله. وعن عائشة رضي الله عنها «أنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر» .

وأما كونه له بيعه نسأ؛ فلأن الأجل يأخذ قسطاً من الثمن فيكون في بيعه كذلك زيادة لثمنه وذلك مصلحة لليتيم.

وأما كونه له قرضه برهن؛ فلأنه أجود له من إيداعه لما فيه من تعريضه للتلف وغيره.

وقول المصنف رحمه الله: برهن يقتضي أنه لا يجوز بغير رهن لأنه قد لا يأمن عوده لفلس المقترض ونحوه (2).

(1) أخرجه الطبراني في الأوسط 1: ل 250. عن أنس.

وأخرجه مالك في الموطأ موقوفاً على عمر (12) 1: 215 كتاب الزكاة، باب زكاة أموال اليتامى والتجارة لهم فيها.

(2)

في ج: لفلس المرتهن المقترض ونحوه.

ص: 656

وقال المصنف رحمه الله في المغني: ظاهر كلام أحمد جوازه لأنه إنما يجوز لمليء يأمن جحوده فينتفي ما ذكر قبل.

وأما كونه له شراء العقار؛ فلأن ذلك مصلحة لموليه لأنه يحصل منه المغل ويبقى الأصل.

ولأنه إذا جازت المضاربة بمالهما مع احتمال الغرر؛ فلأن يجوز شراء العقار مع أن أصله محفوظ بطريق الأولى.

وأما كونه له بناء العقار؛ فلأنه في معنى الشراء.

وأما قول المصنف رحمه الله: بما جرت عادة أهل بلده به (1) فاختيار له. والذي ذكره الأصحاب أنه يبنيه بالآجر والطين ولا يبنيه باللبن؛ لأنه إذا نقضه فسد بخلاف الآجر، ولا بالجص؛ لأنه يلتزق بالآجر فلا يتخلص منه.

قال المصنف في المغني: والذي أراه أن له بناؤه بما يرى الحظ فيه.

وليس كل الأماكن يبنى فيها (2) بالآجر ولا يُقْدَر فيها على الآجر الجيد، وإن وجد فبقيمة كثيرة جداً فمتى قيد البناء بما ذكر أفضى إلى فوات الحظ.

وأما قوله: إذا رأى المصلحة في ذلك كله فراجع إلى قوله: ولوليهما مكاتبة رقيقهما

إلى آخره؛ لأن المصلحة إذا انتفت في شيء من ذلك لم يكن قربا بالتي هي أحسن وقد نهي عنه.

قال: (وله شراء الأضحية لليتيم الموسر. نص عليه. وتركه في المكتب وأداء الأجرة عنه).

أما كون الولي له شراء الأضحية لليتيم الموسر؛ فلأن فيه توسعة على اليتيم الموسر في يوم العيد وجبراً لقلبه. وقد نبه الشرع على التوسعة في العيد بقوله: «أيام أكل وشرب وذكرٍ لله عز وجل» (3) رواه مسلم.

(1) ساقط من هـ.

(2)

في هـ: فيه.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه (1141) 2: 800 كتاب الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق.

ص: 657

وأما كونه له تركه في المكتب وأداء الأجرة عنه؛ فلأن ذلك من مصلحته فجرى مجرى نفقته لمأكوله ومشروبه.

قال: (ولا يبيع عقارهما إلا لضرورة أو غبطة وهو أن يزاد في ثمنه الثلث فصاعداً).

أما كون الولي لا يجوز له بيع عقار الصبي والمجنون لغير ضرورة أو غبطة؛ فلأنه لا مصلحة له فيه، والتصرف له مشروط بالمصلحة.

ولأن الولي مأمور بالشراء للحظ؛ فلا معنى للبيع.

وأما كونه يجوز له ذلك للضرورة كحاجتهما إلى نفقة أو كسوة أو قضاء دين؛ فلأن الضرورة لا بد من دفعها.

وأما كونه يجوز له ذلك للغبطة فلتضمنه المصلحة.

وأما مقدار الغبطة فقيّدها أبو الخطاب بالثلث لتكون المصلحة بيّنة، ووافقه المصنف هنا.

وقال في المغني: ليس في كلام أحمد تقييد، وقد تكون المصلحة في غير هذا مثل أن يكون في مكان لا ينتفع به أو يكون نفعه به قليلاً فيباع ويشترى في مكان ينتفع به، أو يكون في شراءه غبطة كثيرة ولا يمكنه ذلك إلا ببيع عقاره. وقد نص أحمد على بيع عقاره وأثاثه وآنيته ونحو ذلك (1) إذا كان فيه حظ فلا معنى لتقييده بالثلث.

قال: (وإن وُصّي لأحدهما بمن يعتق عليه ولا تلزمه نفقته لإعسار الموصى له أو غير ذلك وجب على الولي قبول الوصية، وإلا لم يجز له قبولها).

أما كون الولي يجب عليه قبول الوصية إذا لم يلزم المولى عليه نفقة الموصى به؛ فلأنه مصلحة محضة له، وعلى الولي أن يفعل ما فيه مصلحة موليه.

وأما كونه لا يجوز له القبول إذا لزمته النفقة؛ فلأن عليه فيه مضرة.

(1) في هـ: ويجوز ذلك.

ص: 658

فصل [فيمن عاود السفه]

قال المصنف رحمه الله: (ومن فك (1) عنه الحجر فعاود السفه أعيد الحجر عليه ولا ينظر في ماله إلا الحاكم ولا ينفك إلا بحكمه. وقيل: ينفك بمجرد رشده. ويستحب إظهار الحجر عليه والإشهاد عليه لتجتنب معاملته).

أما كون الحجر يعاد على من عاود السفه فلما روى عروة بن الزبير «أن عبدالله بن جعفر ابتاعَ بَيعاً فأتى الزبير فقال: إني قد ابتعتُ بَيعاً وإن علياً يُريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر عليّ. فقال الزبير: أنا شريككَ في البيعِ فأتى علي عثمان. فقال: إن ابن جعفرَ قد ابتاعَ بيع كذا فاحجر عليه. فقال الزبير: أنا شَريكه. فقال عثمان: كيفَ أحجرُ على رجلٍ شريكهُ الزبير» (2) رواه الشافعي في مسنده.

وهذه قضية قد اشتهرت ولم تنكر فتكون إجماعاً.

ولأن السفه يقتضي الحجر لو قارنه فيقتضيه إذا طرأ كالجنون (3).

وأما كونه لا ينظر في ماله إلا الحاكم؛ فلأن علياً سأل عثمان الحجر على ابن جعفر ولو كان الحجر لغيره لسأل من له الحجر.

ولأن معرفة التبذير يحتاج إلى نظر لأن الغبن قد يكون تبذيراً وقد يكون غير تبذير فلم يكن بد من الحاكم كالحجر للفلس.

ولأنه حجر مختلف فيه. أشبه الحجر للفلس.

وأما كونه لا ينفك الحجر عنه إلا بحكم الحاكم على المذهب؛ فلأنه حُجِر عليه بحكم الحاكم فلا ينفك إلا بحكمه.

(1) ساقط من هـ.

(2)

أخرجه الشافعي في مسنده (556) 2: 160 كتاب البيوع، باب في الربا.

(3)

في هـ: كالمجنون.

ص: 659

وأما كونه ينفك عنه بمجرد رشده على قولٍ؛ فلأن السفه سبب الحجر فوجب أن ينفك بزواله كما في حق الصبي والمجنون. وعزا المصنف في المغني هذا القول إلى أبي الخطاب ثم قال: والأول أولى لما ذكر.

ولأنه يحتاج إلى تأمل واجتهاد في معرفة رشده وزوال تبذيره. وفارق الصبي والمجنون من حيث إن الحجر عليهما ثبت بغير حكم الحاكم فينفك بغير حكمه.

وأما كونه يستحب إظهار الحجر عليه والإشهاد عليه فقد صرح المصنف رحمه الله بالعلة من اجتناب معاملته وذلك مطلوب لما فيه من أمن ضياع المال لأن الإظهار والإشهاد سبب إلى تحصيله.

قال: (ويصح تزويجه بإذن وليه.

وقال القاضي: يصح من غير إذنه. وهل يصح عتقه؟ على روايتين).

أما كونه يصح تزويج السفيه بإذن وليه؛ فلأنه لا يأذن إلا بما فيه المصلحة.

ولأن حاجته تدعو إلى ذلك وليس مآله إلى التبذير.

وأما كونه لا يصح من غير إذنه على غير قول القاضي فكسائر تصرفاته.

وأما كونه يصح على قوله؛ فلأن حاجته تدعو إليه ودفعها مطلوب شرعاً.

وأما كون عتقه يصح على روايةٍ؛ فلأنه تصرف من مالك مكلف فصح كعتق الراهن والمفلس.

وأما كونه لا يصح على روايةٍ؛ فلأنه إتلاف لماله. أشبه هبته.

قال: (وإن أقر بحد أو قصاص أو نسب أو طلق زوجته أخذ به، وإن أقر بمال لم يلزمه في حال حجره، ويحتمل أن لا يلزمه مطلقاً).

أما كون السفيه يؤخذ بما أقر به من حد أو قصاص أو نسب؛ فلأنه غير متهم في حق نفسه، والحجر إنما يتعلق بماله فوجب أن يقبل على نفسه لأن الحجر لا تعلق له به.

وأما كونه لا يلزمه ما أقر به من المال في حال حجره؛ فلأنه محجور عليه لِحَظِّه فلم يصح إقراره بالمال كالصبي، وإذا لم يصح إقراره انتفى اللزوم لتوقفه عليه.

ولأنا لو قبلنا إقراره في ماله سقط معنى الحجر عليه.

ص: 660

ولأنه ممنوع من التصرف فيه فلم يصح إقراره به كإقرار الراهن على الرهن.

وأما كونه يلزمه ذلك إذا فك الحجر عنه على الأول؛ فلأنه محجور عليه فلزمه ما أقر به في حال الحجر كالمفلس.

ولأنه مكلف أقر بما لا يلزمه في المال فلزمه بعد فك الحجر عنه كالعبد يقر بدين والراهن يقر على الرهن بجنايته ونحوها.

وأما كونه يحتمل أنه لا يلزمه ذلك؛ فلأن الحجر عليه لِحَظِّه فلم يصح إقراره ولم يلزمه شيء كالصبي.

ولأن ثبوت إقراره في ذمته لا يفيد الحجر معه إلا تأخير الضرر إلى أكمل حالتيه.

قال: (وحكم تصرف وليه حكم تصرف ولي الصبي والمجنون).

أما كون حكم تصرف ولي السفيه حكم تصرف ولي الصبي والمجنون؛ فلأن ولايته على السفيه لِحَظِّه. أشبه ولي الصبي والمجنون.

وأما مراد المصنف رحمه الله بذلك فهو أن ولي السفيه لا يتصرف في ماله إلا على وجهٍ الحظ له، وأنه إن تبرع أو حابا أو زاد على النفقة عليه أو على من تلزمه نفقته بالمعروف ضمن، وأنه لا يشتري من ماله شيئاً لنفسه ولا يبيعه من ماله شيئاً، وأن له مكاتبة رقيقه، وعتقه على مال، وتزويج إمائه، والسفر بماله، والمضاربة به، ودفعه مضاربة بجزء من الربح، وبيعه نسأ، وقرضه برهن، وشراء العقار وبناءه بما جرت العادة به، وأنه لا يبيع عقاره إلا لضرورة أو غبطة، وأنه إذا وصى له بمن يعتق عليه من لا تلزمه نفقته لزمه قبولها، وإن كان ممن تلزمه لم يجز له القبول.

ص: 661

فصل

قال المصنف رحمه الله: (وللولي أن يأكل من مال المولى عليه بقدر عمله إذا احتاج إليه، وهل يلزمه عوض ذلك إذا أيسر؟ على روايتين. وكذلك يخرج في الناظر في الوقف).

أما كون الولي له أن يأكل من مال المولى عليه؛ فلأن الله تعالى قال: {ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} [النساء: 6].

وأما ما يشترط لذلك فأن يكون بقدر عمله، وأن يكون محتاجاً إليه: أما الأول؛ فلأنه إنما يستحق بعمله فلا يجوز أن يتعداه. وأما الثاني؛ فلأن الله شرطه في الأكل حيث قال: {ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} [النساء: 6] ثم أكد ذلك بأن قال: {ومن كان غنياً فليستعفف} [النساء: 6].

وقال صاحب المغني فيه ما معناه: أنه يأكل بقدر أقل الأمرين من أجرته وقدر كفايته لأنه يستحقه بالعمل والحاجة معاً فلم يجز أن يأخذ إلا ما وُجد فيه كلاهما.

وأما كونه إذا أيسر يلزمه العوض على روايةٍ؛ فلأنه استباحه بالحاجة من مال غيره فلزمه عوضه كمن اضطر إلى طعام غيره.

وأما كونه لا يلزمه ذلك على روايةٍ؛ فلأن الله أمر بالأكل ولم يذكر عوضاً له عن عمله فلم يلزمه عوضه كالأجير والمضارب.

وهذا الخلاف فيما عدا الأب.

قال المصنف في المغني: وإن كان أباً -يعني الولي- لم يلزمه عوضه رواية واحدة.

ص: 662

وأما كون الناظر في الوقف كالوصي في جواز الأخذ (1) من الوقف مع الشرطين المذكورين ولزوم العوض مع اليسار على الخلاف المذكور؛ فلأنه مثل الوصي معنى فكذا يجب أن يكون حكماً.

قال: (ومتى زال الحجر فادعى على الولي تعدياً أو ما يوجب ضماناً فالقول قول الولي. وكذلك القول قوله في دفع المال إليه بعد رشده).

أما كون القول قول الولي إذا ادعى عليه المولى عليه (2) تعدياً أو ما يوجب ضماناً؛ فلأن الأصل عدم ذلك.

ولأنه أمينه فكان القول قوله في ذلك كالمودَع.

وأما كون القول قوله في دفع المال إليه بعد رشده؛ فلأنه دفعٌ ممن القول قوله في نفي التعدي فكذا يجب أن يكون في الدفع.

قال: (وهل للزوج أن يحجر على امرأته [في التبرع] (3) بما زاد على الثلث من مالها؟ على روايتين).

أما كون الزوج ليس له الحجر على امرأته في التبرع بما ذكر على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا معشرَ النساءِ! تصدقنَ ولوْ من حُليكن» (4)، وأنهن كن يتصدقن ويقبل منهن ذلك. ولم يسأل هل ذلك بإذن أزواجهن أم لا؟ .

ولأن من وجب دفع ماله إليه برشده جاز له التصرف في جميع ماله دليله الغلام.

ولأن المرأة من أهل التصرف ولا حق لزوجها في مالها فلم يكن له الحجر عليها في التصرف كالرجل ليس لامرأته الحجر عليه في ذلك.

(1) في هـ: كالوصي في الأكل.

(2)

ساقط من هـ.

(3)

ساقط من هـ.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1397) 2: 533 كتاب الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1000) 2: 695 كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين

ص: 663

وأما كونه له ذلك على روايةٍ فلما روي «أن امرأةَ كعبِ بن مالك أتت النبي صلى الله عليه وسلم بحليٍ لها. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا يجوزُ للمرأةِ عطيةٌ حتى يأذنَ زوجها. فهل استأذنتِ كعباً؟ فقالت: نعم. فبعث إليه فسأله. فقال: نعم. فَقبلَه» (1) رواه ابن ماجة.

ولأن العادة جارية بِتَبَسُّطِ الزوج في مال الزوجة فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلقة بمال المريض.

والأول أصح؛ لما ذكر. والحديث الدال على الثانية لا يُعلم صحته وبتقدير صحته هو غير معمول به فيما دون الثلث، والتبسط في مال زوجها لا يوجب المنع؛ لأن المرأة تتبسط في مال زوجها وليس لها منعه من التصرف في ماله.

(1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2389) 2: 798 كتاب الهبات، باب عطية المرأة بغير إذن زوجها. قال في الزوائد: في إسناده يحيى، وهو غير معروف في أولاد كعب. فالإسناد ضعيف.

ص: 664

فصل في الإذن

قال المصنف رحمه الله: (يجوز لولي الصبي المميز أن يأذن له في التجارة في إحدى الروايتين. ويجوز ذلك لسيد العبد. ولا ينفك الحجر عنهما إلا فيما أُذن لهما فيه، وفي النوع الذي أُمرا به).

أما كون ولي الصبي المميز يجوز له أن يأذن له في التجارة في روايةٍ؛ فلأنه لو لم يجز لم يكن طريق إلى معرفة رشده واختياره.

وأما كونه لا يجوز له ذلك في روايةٍ؛ فلأنه ليس بأهل للتصرف فلم يجز لوليه الإذن له في ذلك كما لا يجوز لولي المجنون أن يأذن له في ذلك.

وأما كونه يجوز ذلك لسيد العبد؛ فلأن الحجر على العبد لحق السيد فإذا أذن له جاز لزوال المانع.

وأما كونه لا ينفك الحجر عنهما إلا فيما أُذن لهما فيه، وفي النوع الذي أُمرا به؛ فلأن كل واحد منهما متصرف بالإذن من جهة آدمي فوجب أن يختص بما أُذن له فيه وأُمر به دون غيره؛ كالوكيل والمضارب.

قال: (وإن أُذن له في جميع أنواع التجارة لم يجز له أن يؤجر نفسه ولا يتوكل لغيره. وهل له أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه؟ على وجهين. وإن رآه سيده أو وليه يتجر فلم ينهه لم يصر مأذوناً له فيه).

أما كون العبد المأذون له في جميع أنواع التجارة لا يجوز له أن يؤجر نفسه ولا يتوكل لغيره؛ فلأن ذلك يشغله عن التجارة المقصودة بالإذن.

ولأن الإذن لم يتناول الرقبة وهذا تصرف في الرقبة.

ص: 665

وأما كونه له أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه ففيه وجهان مبنيان على التوكل. وسيأتي مبنياً في موضعه إن شاء الله تعالى (1).

وأما كون كل واحد من العبد والصبي المأذون لهما لا يصير مأذوناً له إذا رأى (2) العبدَ سيدُه والصبيَّ وليُّه يتجر فلم ينهه؛ فلأنه تصرف يفتقر إلى الإذن فلا يكون السكوت عنه إذناً فيه كبيع مال الغير.

قال: (وما استدان العبد فهو (3) في رقبته يفديه سيده أو يسلمه. وعنه: يتعلق بذمته يُتبع به بعد العتق. إلا المأذون له هل يتعلق برقبته أو ذمة سيده؟ على روايتين).

أما كون استدانة العبد غير المأذون له في رقبته على روايةٍ فقياس على جنايته.

فعلى هذه يتخير السيد بين فدائه وبين تسليمه كما لو جنى.

وأما كونها تتعلق بذمته على روايةٍ؛ فلأن صاحب الحق رضي بتأخير حقه لأنه عامل من لا مال له. أشبه من عامل المعسر.

ولأنه لا سبيل إلى تعلقه بكسبه ولا برقبته لأن ذلك مال السيد ولم يبد منه ما يوجب أن يتعلق ذلك بماله.

فإن قيل: الجناية كذلك وقد تعلقت بماله.

قيل: الفرق بينها وبين ما ذكر أن الجناية لزمت من غير إذن المستحق بخلاف ما ذكر.

ولأن الجناية تثبت على خلاف القياس فلا يقاس عليها.

فعلى هذه يُتبع بالدين بعد عتقه.

وأما كون استدانة المأذون له تتعلق برقبته على روايةٍ؛ فلأن دينها دين تعلق به بإذن سيده فوجب أن يتعلق برقبته كالرهن.

وأما كونها تتعلق بذمة السيده على روايةٍ؛ فلأنه لما أذن له غر الناس بمعاملته وإذنه له فصار ضامناً كما لو قال لهم: داينوه، وكما لو أذن في مداينة تزيد على قيمة العبد.

(1) ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

(2)

ساقط من هـ.

(3)

مثل السابق.

ص: 666

قال: (وإذا باع السيد عبده المأذون له (1) شيئاً لم يصح في أحد الوجهين، ويصح في الآخر إذا كان عليه دين بقدر قيمته).

أما كونه لا يصح بيع السيد عبده المأذون له شيئاً إذا لم يكن عليه دين بقدر قيمته؛ فلأنه بيع ماله بماله.

وأما كونه لا يصح إذا كان عليه دين بقدر قيمته في وجه فلما ذكر.

وأما كونه يصح في وجه لأن الثمن الذي قبضه من العبد مستحق لأرباب الدين فكأنه غير مملوك للبائع.

قال: (ويصح إقرار المأذون في قدر ما أُذن له فيه، وإن حُجر عليه وفي يده مال ثم أُذن له فأقر به صح).

أما كون إقرار المأذون له في قدر ما أُذن له فيه يصح؛ فلأن مقتضى الإقرار الصحة. تُرك فيما لم يأذن له فيه سيده فوجب أن يبقى فيما عدا ذلك على مقتضاه.

وأما كون إقرار من حجر عليه وفي يده مال ثم أذن له فأقر به يصح؛ فلما ذكر قبل.

ولأنه إقرار صدر من مأذون له. أشبه من لم يحجر عليه.

قال: (ولا يبطل الإذن بالإباق. ولا يصح تبرع المأذون له بهبة الدراهم وكسوة الثياب. ويجوز هديته للمأكول وإعارة دابته).

أما كون الإذن لا يبطل بالإباق؛ فلأن الإباق لا يمنع ابتداء الإذن في التجارة فلم يمنع استدامة ذلك كما لو غصبه غاصب أو حُبس لدين عليه.

وأما كون تبرع المأذون له فيما ذكر لا يصح؛ فلأن الحجر عليه مستمر إلا فيما أُذن له، والتبرع بما ذكر غير مأذون له فيه.

وأما كونه تجوز هديته للمأكول وإعارة دابته؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُجيبُ دعوةَ المملوك» (2).

ولأن العادة جارية بذلك فجاز كما يجوز للمرأة الصدقة بكسرة الخبز من بيت زوجها.

(1) ساقط من هـ.

(2)

أخرجه ابن ماجة في سننه (2296) 2: 770 كتاب التجارات، باب ما للعبد أن يعطي ويتصدق.

ص: 667

قال: (وهل لغير المأذون الصدقة من قوته بالرغيف إذا لم يضره به ونحوه؟ على روايتين. وهل للمرأة الصدقة من بيت زوجها بغير إذنه بنحو ذلك؟ على روايتين).

أما كون غير المأذون له له الصدقة بالرغيف من قوته ونحوه إذا لم يضره به على المذهب؛ فلأن العادة جارية بمثله.

وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأنه تصرف في ملك سيده بغير إذنه. فلم يجز؛ كالكثير، أو كما لو أضر به.

وأما كون المرأة لها الصدقة من بيت زوجها بنحو ذلك بغير إذنه على المذهب؛ فلأن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنفقتِ المرأةُ من بيتِ زوجها غيرَ مُفْسِدَةٍ كانَ لها أجرها، وله مثلُه بما كَسَبَ، ولها بما أنفقتْ، وللخازنِ مثلُ ذلك من غير أن ينقصَ من أجورهمْ شيء» (1) ولم يذكر إذناً.

وعن أسماء «أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ليسَ لي شيء إلا ما أَدخلَ عليّ الزبيرُ. فهلْ عليّ جناحٌ أن أَرْضَخَ مما يُدخلُ عليّ؟ قال: ارْضَخِي ولا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عليكِ» (2) متفق عليهما.

ولأن العادة السماح بذلك وطيب النفس به فجرى مجرى صريح الإذن.

وأما كونها ليس لها ذلك على روايةٍ؛ فلما روى أبو أمامة قال: سمعت رسول

الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تُنفقُ المرأةُ من بيتِها إلا بإذنِ زوجها. قيل: يا رسولَ الله! ولا الطعامَ؟ قال: ذلك أفضلُ أموالِنا» (3) رواه سعيد والترمذي. وقال: حديث حسن.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1359) 2: 517 كتاب الزكاة، باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1024) 2: 710 كتاب الزكاة، باب أجر الخازن الأمين

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2450) 2: 915 كتاب الهبة، باب هبة المرأة لغير زوجها

وأخرجه مسلم في صحيحه (1029) 2: 714 كتاب الزكاة، باب الحث في الإنفاق وكراهة الإحصاء.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (3565) 3: 296 كتاب البيوع، باب في تضمين العارية.

وأخرجه الترمذي في جامعه (2120) 4: 433 كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (2295) 2: 770 كتاب التجارات، باب ماللمرأة من مال زوجها.

ص: 668

ولأنها تبرعت بمال غيرها فلم يجز كالصدقة بثيابه.

ص: 669