الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الهدي والأضاحي
الهدي: ما يذبح بمنى. سمي بذلك لأنه يهدى إلى الله تعالى. وهو مشروع؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة» (1).
والأضاحي: جمع أضحية. وهي: ما يذبح يوم النحر وأيام التشريق على وجه التقرب إلى الله تعالى.
وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2].
وأما السنة فلما روى أنس رضي الله عنه قال: «ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين. ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما» (2).
والأملح: الذي فيه بياض وسواد وبياضه أغلب. قاله الكسائي وأبو زيد.
وقال ابن الأعرابي: هو النقي البياض.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1631) 2: 613 كتاب الحج، باب يتصدق بجلال البدن، عن علي رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 891 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، عن جابر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (5245) 5: 2114 كتاب الأضاحي، باب التكبير عند الذبح.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1967) 3: 1557 كتاب الأضاحي، باب استحباب الضحية
…
قال الشاعر:
حتى اكتسى الرأس قناعاً أشيبا
…
أملح لا لداً ولا محببا
وأما الإجماع فأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية في الجملة.
قال المصنف رحمه الله: (والأفضل فيها الإبل ثم البقر ثم الغنم والذكر والأنثى سواء).
أما كون الأفضل في الهدايا والضحايا الإبل ثم البقر ثم الغنم فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من راح في الساعة الأولة فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشاً
…
مختصر» (1). متفق عليه.
ولأنه يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أنه قال لامرأة: عليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك. قالت: أي النسك أفضل؟ قال: إن شئت فناقة وإن شئت فبقرة. قالت: أي ذلك أفضل؟ قال: انحري ناقة» (2).
ولأن ما كان أكبر كان أوفر لحماً وأنفع للفقراء فكان أفضل لازدياد نفعه.
وأما كون الذكر والأنثى سواء والمراد به في الإجزاء والفضيلة: أما في الإجزاء فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى جملاً لأبي جهل في أنفه برة من فضة» (3). رواه ابن ماجة.
وأما في الفضيلة فلأن المقصود هنا اللحم ولحم الذكر أطيب والأنثى أرطب فيتساويان. بخلاف الزكاة فإن المقصود فيها الدر والنسل فلذلك كانت الأنثى فيها أفضل.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (841) 1: 301 كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة.
وأخرجه مسلم في صحيحه (850) 1: 582 كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 172 كتاب الحج، باب المعتمر لا يقرب امرأته ما بين أن يهل إلى أن يكمل.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (1749) 2: 145 كتاب المناسك، باب في الهدي.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (3100) 2: 1035 كتاب المناسك، باب الهدي من الإناث والذكور.
قال: (ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن وهو ما له ستة أشهر والثني مما سواه. وثني الإبل ما كمل له خمس سنين ومن البقر ما له سنتان ومن المعز ما له سنة).
أما عدم إجزاء غير الجذع من الضأن فلأنه لو أجزأ لما كان لتخصيص الجذع بالذكر فيما يأتي من الحديث فائدة.
وأما عدم إجزاء غير الثني من المعز «فلأن أبا بُردة بن نِيَارٍ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: عندي جَذعة من المعز هي أحَبُّ إليَّ من شاتين فهل تجزئ عني؟ قال: نعم ولا تجزئ عن أحد بعدك» (1) متفق عليه.
وأما إجزاء الجذع من الضأن فلما روت أم بلال بنت هلال عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يجوز الجذع من الضأن أضحية» (2) رواه ابن ماجة.
والهدي مثله.
وعن مجاشع بن سليم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الجذع يوفي مما يوفي منه الثني» (3) رواه أبو داود.
فإن قيل: هذا يدل على إجزاء الجذع من كل جنس.
قيل: الإطلاق هنا يجب حمله على المقيد في حديث أم بلال؛ لأن المطلق يجب حمله على المقيد لما في الجمع بينهما من العمل بهما.
وأما إجزاء الثني من غيرهما فلأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يذبحونه.
وأما كون الجذع من الضأن ما له ستة أشهر والثني من الإبل ما كمل له خمس سنين ودخل في السادسة فلأن الأصمعي وغيره قالوا ذلك. وسمي بذلك؛ لأنه حينئذ يلقي ثنيته.
وأما كون الثني من البقر ما له سنتان فلأن المسنة تجزئ لما تقدم في الحديث وهي ما لها سنتان.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (912) 1: 325 كتاب العيدين، باب الأكل يوم النحر.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1961) 3: 1552 كتاب الأضاحي، باب وقتها.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه (3139) 2: 1049 كتاب الأضاحي، باب ما يجزئ من الأضاحي.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (2799) 3: 96 كتاب الضحايا، باب ما يجوز من السن في الضحايا.
قال: (وتجزئ الشاة عن واحد والبدنة والبقرة عن سبعة سواء أراد جميعهم القربة أو بعضهم والباقون اللحم).
أما إجزاء الشاة عن واحد فلا شبهة فيه لحصول الوفاء بذلك والخروج به عن عهدة الأمر المطلق الوارد في الكتاب والسنة، وتطابَق الخَلْق على الاكتفاء بها.
وأما إجزاء البدنة والبقرة عن سبعة فلما روى جابر رضي الله عنه قال: «كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها» (1).
وفي لفظ: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة» (2) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن اعتمر من نسائه في حجة الوداع بقرة بينهن» (3) رواه ابن ماجة.
وأما التسوية في الإجزاء بين قصد الجميع القربة وبين قصد بعضهم القربة والباقين اللحم فلأن الجزء المجزئ لا ينتقص بإرادة الشريك غير القربة فوجب أن يجزئ كما لو اختلفت جهات القرب فأراد بعضهم المتعة والآخر قران.
قال: (ولا يجزئ فيهما العوراء البين عورها وهي: التي انخسفت عينها، ولا العجفاء التي لا تنقى وهي: الهزيلة التي لا مخ فيها، والعرجاء: البين طلعها فلا تقدر على المشي مع الغنم، والمريضة البين مرضها، والعضباء وهي: التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها. وتكره المعيبة الأذن بخرق أو شق أو قطع لأقل من النصف).
أما عدم إجزاء العوراء والعجفاء والعرجاء والمريضة الموصوفات بما ذكره المصنف رحمه الله فلما روى البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1318) 2: 956 كتاب الحج، باب الاشتراك في الهدي
…
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (1318) 2: 955 كتاب الحج، باب الاشتراك في الهدي
…
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (1751) 2: 145 كتاب المناسك، باب في هدي البقر.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (3133) 2: 1047 كتاب الأضاحي، باب عن كم تجزئ البدنة والبقرة.
فقال: أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّن عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسيرة التي لا تُنْقي
…
مختصر» (1). رواه أبو داود والنسائي.
وفي تقييد المصنف رحمه الله العوراء: بكونها بيناً عورها، والعجفاء: بكونها لا تنقي، والعرجاء: بكونها بيناً ضلعها، والمريضة: بكونها بيناً مرضها إشعار بأنها إذا لم تكن كذلك تجزئ.
أما العوراء فلأنها إذا لم يكن عورها بيناً مثل إن كانت عينها قائمة لم يذهب منها عضو مستطاب بخلاف البينة العور فإنه يذهب منه عضو مستطاب وهو شحمة العين.
وأما العجفاء فلأنها إذا كان فيها نُقي وهو المخ تكون قريبة من غيرها بخلاف التي لا مخ فيها.
وأما العرجاء التي لا يكون ضلعها بيناً فلأنها تقدر على المشي بخلاف التي ضلعها بين.
وأما المريضة التي لا يكون مرضها بيناً فلأنها قريبة من الصحيحة، وكذلك المرض اليسير لا يجوز معه الترخص بخلاف المرض الكثير.
وأما قول المصنف رحمه الله: وهي التي انخسفت عينها فتفسير للعوراء البين عورها.
وأما قوله: وهي الهزيلة التي لا مخ فيها فتفسير للعجفاء.
وأما قوله: فلا تقدر على المشي مع الغنم فتفسير للعرجاء البين ضلعها.
وأما عدم جواز العضباء فلما روي عن علي رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بأعضب الأذن والقرن» (2). رواه النسائي.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (2802) 3: 97 كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا.
وأخرجه النسائي في سننه (4369) 7: 214 كتاب الضحايا، ما نهي عنه من الأضاحي.
وفي ج: الكبيرة التي لا تنقي، وما أثبتناه من النسائي، وفي أبي داود: والكسير. ومعنى لا تُنقي: أي لا نقي لها أي لا مخ لها لضعفها وهزالها.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (2805) 3: 97 كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1504) 4: 90 كتاب الأضاحي، باب في الضحية بعضباء القرن والأذن.
وأخرجه النسائي في سننه (4377) 7: 217 كتاب الضحايا، العضباء.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (3145) 2: 1051 كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحى به.
وأخرجه أحمد في مسنده (1158) 1: 137.
وأما قول المصنف رحمه الله: وهي التي ذهب أكثر أذنها فتفسير للعضب، وفي تكملة الحديث المتقدم:«قال قتادة: سألت سعيد بن المسيب فقال: نعم العضب: النصف فأكثر من ذلك» (1).
وأما كراهة المعيبة الأذن بخرق أو شق أو قطع لأقل من النصف فلقول علي: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَستشرِفَ العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابَلةٍ ولا مُدابَرة ولا خَرقاء ولا شَرقَاء. قال أبو إسحاق السبيعي: المقابلة تقطع طرف الأذن. والمدابرة تقطع من مؤخر الأذن. والخرقاء تشق الأذن. والشرقاء تشق أذنها للسمة» (2). رواه أبو داود.
فإن قيل: لم حمل هذا النهي على الكراهة؟
قيل: لأن ما ذكر لا ينقص اللحم ويمكن التحرز منه.
قال: (وتجزئ الجماء والبتراء والخصي.
وقال ابن حامد: لا تجزئ الجماء).
أما إجزاء الجماء -وهي: التي لم يخلق لها قرن- على قول غير ابن حامد فلأن عدم ذلك لا ينقص اللحم ولا يخل بالمقصود ولم يرد فيه نهي.
وأما عدم إجزائها على قول ابن حامد فلأن ما ذهب نصف قرنها لا تجزئ فالتي لا قرن لها بالكلية أولى أن لا تجزئ.
والأول أولى لما ذكر.
والفرق بين التي كسر قرنها وبين التي لم ينبت لها قرن أن التي كسر قرنها يكون كسره سبباً لنقصان لحمها ظاهراً بخلاف التي لم ينبت لها قرن.
وأما إجزاء البتراء وهي: التي لا ذنب لها فلما ذكر في التي لا قرن لها.
وأما إجزاء الخصي فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوئين» (3).
(1) تكملة للحديث السابق وقد سبق تخريجه.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (2804) 3: 97 كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1498) 4: 86 كتاب الأضاحي، باب ما يكره من الأضاحي.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (21761) 5: 196. عن أبي الدرداء.
والموجوء: المرضوض الخصيتين. وسواء في ذلك ما قطعت خصيتاه أو رضت بيضتاه أو سُلّتا؛ لأنه عضو غير مستطاب وبذهابه يطيب اللحم ويسمن.
قال: (والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فيطعنها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر. ويذبج البقر والغنم. ويقول عند ذلك: بسم الله والله أكبر. اللهم! هذا منك ولك).
أما مسنونية نحر الإبل وذبح البقر والغنم فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينحر الإبل ويذبح غيرها» . ولذلك لما كانت أكثر أموال العرب الإبل قال الله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]، ولما كانت غالب أموال بني إسرائيل البقر قال الله تعالى:{إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة: 67].
وأما مسنونية نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فـ «لأن ابن عمر رضي الله عنهما مر على رجل قد أناخ بدنة لينحرها فقال: ابعثها قائمة مقيدة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1) متفق عليه.
وأما قول المصنف رحمه الله: فيطعنها بالحربة فصفة للنحر.
وأما كون ذلك في الوهدة المذكورة فلأن عنق البعير طويلة فلو طعن بالقرب من رأسه لحصل له تعذيب عند خروج روحه.
وفي مسنونية نحر الإبل وذبح غيرها إشعار بجواز ذبح ما ينحر ونحر ما يذبح وهو صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمْرِر الدم بما شئت» (2).
وعن أسماء رضي الله عنها قالت: «نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه» (3).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1627) 2: 612 كتاب الحج، باب نحر الإبل مقيدة.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1320) 2: 956 كتاب الحج، باب نحر البدن قياماً مقيدة.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (2824) 3: 102 كتاب الضحايا، باب في الذبيحة بالمروة.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (3177) 2: 1060 كتاب الذبائح، باب ما يذكى به.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (5200) 5: 2101 كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الخيل.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1942) 3: 1541 كتاب الذبائح والصيد، باب في أكل لحوم الخيل.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقرة واحدة» (1).
وأما مسنونية قوله عند النحر والذبح: بسم الله والله أكبر اللهم! هذا منك ولك فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح قال: بسم الله والله أكبر» (2).
وفي لفظ: «اللهم! منك ولك عن محمد وأمته. بسم الله والله أكبر ثم ذبح» (3) رواه أبو داود.
قال: (ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم. وإن ذبحها بيده كان أفضل فإن لم يفعل استحب أن يَشْهدها).
أما عدم استحباب أن يذبحها غير مسلم فلأن الذبح قربة فلا ينبغي أن يليه غير أهل القربة.
وفي قول المصنف رحمه الله: ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم إشعار بأنه لو ذبحها غير مسلم ممن تباح ذبيحته أجزأ. وصرح غيره من الأصحاب بأن الكتابي إذا ذبحها فيه روايتان:
أحدهما: لا يجزئ لأن في حديث ابن عباس: «ولا يذبح ضحاياكم إلا طاهر» .
ولأنه قربة فلا يليها غير أهلها.
ولأن الشحوم مما يذبحونه تحرم علينا في رواية.
والثانية: تجزئ وهي الصحيحة؛ لأن من جاز له ذبح غير الأضحية جاز له ذبح الأضحية كالمسلم.
ولأن الكافر يجوز أن يتولى ما هو قربة كبناء المساجد والقناطر.
والحديث محمول على الأولى ونحن نقول به، وتحريم الشحوم ممنوع.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (1750) 2: 145 كتاب المناسك، باب في هدي البقر.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (3135) 2: 1047 كتاب الأضاحي، باب عن كم تجزئ البدنة والبقرة.
وأخرجه أحمد في مسنده (26152) 6: 248.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (2810) 3: 99 كتاب الضحايا، باب في الشاة يضحي بها عن جماعة.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1521) 4: 100 كتاب الأضاحي، باب.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (2795) 3: 95 كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا.
وأما كون ذبحها بيده أفضل فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر من هديه ثلاثاً وستين بدنة بيده» (1).
و«ذبح كبشين في الأضحية بيده» (2).
ولأن فعل القربة أولى من الاستنابة.
وأما استحباب حضورها إذا لم يذبحها بنفسه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: «احضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها» (3).
وفي حديث ابن عباس الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم: «واحضروها إذا ذبحتم فإنه يغفر لكم عند أول قطرة من دمها» .
قال: (ووقت الذبح يوم العيد بعد الصلاة أو قدرها إلى آخر يومين من أيام التشريق ولا يجزئ في ليلتهما في قول الخرقي. وقال غيره: يجزئ. فإن فات الوقت ذبح الواجب قضاء وسقط التطوع).
أما أول وقت الذبح فظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا إذا مضى أحد أمرين من صلاة العيد وقدرها لأنه ذكر ذلك بلفظ أو وهي للتخيير، ولم يفرق بين من تقام صلاة العيد في موضع ذبحه أو لم تقم لأن الذبح عبادة يتعلق آخرها بالوقت فتعلق أولها بالوقت كالصوم.
فعلى هذا إذا ذبح بعد الصلاة وقبل الخطبة أو بعد قدر الصلاة وقبل قدر الخطبة يجزئ؛ لأنه لم يشترط مضيّ الخطبة أو قدرها؛ لأن خطبة العيد سنة وليست واجبة فلم يشترط مضيها ولا مضي قدرها بخلاف الصلاة فإنها فرض كفاية.
وقال الخرقي: يشترط مضي قدر الخطبة قياساً على مضي قدر الصلاة.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (5245) 5: 2114 كتاب الأضاحي، باب التكبير عند الذبح.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1967) 3: 1557 كتاب الأضاحي، باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل والتسمية والتكبير.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 283 كتاب الضحايا، باب ما يستحب للمرء من أن يتولى ذبح نسكه أو يشهده.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (7525) 4: 247 كتاب الأضاحي.
وقد تقدم التنبيه على الفرق.
وظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله: أن من كان في مصر لا يذبح حتى
يصلي وهو الصحيح؛ لما روى جندب بن عبدالله البجلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى» (1).
وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن ذبح قبل الصلاة فلا نسك له» (2) متفق عليهما.
وفي لفظ: «إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح فمن ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم» (3).
فعلى هذا إنما تعتبر الصلاة في حق أهل المصر والقرية التي يصلى فيها. فأما الموضع الذي لا يصلى فيه عيد فيعتبر مضي قدر الصلاة أو قدر الصلاة والخطبة على ما تقدم لأنه لا صلاة لهم فاعتبارها مع عدمها متعذر. وهذا في اليوم الأول فأما الثاني والثالث فيجوز من أول النهار لعدم الصلاة فيه.
وأما آخره فآخر اليوم الثاني من أيام التشريق فتكون أيام النحر ثلاثة.
قال الإمام أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و«لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث» (4) ويستحيل أن يباح ذبح الأضحية في وقت يحرم أكلها فيه. ثم رخص في الأكل ولم ينقل تغيير وقت الذبح.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5181) 5: 2071 كتاب الذبائح والصيد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«فليذبح على اسم الله» .
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (940) 1: 334 كتاب العيدين، باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد
…
وأخرجه مسلم في صحيحه (1961) 3: 1553 كتاب الأضاحي، باب وقتها.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (922) 1: 328 كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1961) 3: 1553 كتاب الأضاحي، باب وقتها.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (5249) 5: 2115 كتاب الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1972) 3: 1562 كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث
…
وأما عدم إجزاء الذبح في ليلتي يومي الذبح المتقدم ذكرهما عند الخرقي فلأن الله تعالى قال: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 28] واليوم اسم لبياض النهار.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن الذبح بالليل» (1).
ولأن الليل يتعذر فيه تفريق اللحم في الغالب فلا يفرق طريا فيفوت بعض المقصود. وذكر المصنف رحمه الله في المغني: أن قول الخرقي منصوص أحمد. رواه الأثرم عنه.
وأما الإجزاء على قول غير الخرقي فلأن الليل زمن يصح فيه الرمي فصح فيه الذبح كالنهار.
وقال المصنف رحمه الله في المغني: أكثر من علمته من أصحابنا يذكرون رواية أنه يجوز الذبح بالليل ويختارونها.
وأما ذبح الواجب قضاء إذا فات الوقت فلأن الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كما لو ذبحها ولم يفرق لحمها حتى يخرج الوقت.
وأما سقوط التطوع فلأن المحصل لتلك الفضيلة ذلك الزمان بدليل ما لو ذبحها قبل العيد فإذا فات سقط لفوات شرطه.
قال: (ويتعين الهدي بقوله: هذا هدي أو تقليده وإشعاره مع النية. والأضحية بقوله: هذه أضحية. ولو نوى حال الشراء لم يتعين بذلك).
أما تعين الهدي بقوله: هذا هدي فلأنه لفظ يقتضي الإيجاب فوجب أن يترتب عليه مقتضاه كلفظ الوقف.
(1) ذكره ابن حجر في تلخيصه وعزاه إلى الطبراني من حديث ابن عباس، قال: وفيه سليمان بن سلمة الخبائري، وهو متروك. 4:260.
وقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى (9: 290) عن الحسن: «نهي عن جداد الليل، وحصاد الليل، والأضحى بالليل» .
وأما تعينه بتقليده وإشعاره مع النية فلأن ذلك بمنزلة ما لو بنى مسجداً وأذن للناس في الصلاة فيه.
وأما تعين الأضحية بقوله: هذه أضحية فلما تقدم في الهدي.
وأما عدم تعين الهدي والأضحية بنية ذلك حال الشراء فلأن جعلها المشتري هدياً أو أضحية إزالة ملك على وجه القربة فلم تؤثر النية المقارنة للشراء فيه كالعتق والوقف.
قال: (وإذا تعينت لم يجز بيعها ولا هبتها إلا أن يبدلها بخير منها. وقال أبو الخطاب: لا يجوز أيضاً).
أما عدم جواز بيع ما تعين وهبته فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقسم جلودها وجلالها ونهى أن يعطى الجازر منها شيئاً» (1) فلأن لا يجوز بيعها وهبتها المزيلان للملك بالكلية بطريق الأولى.
ولأنه جعل ذلك لله فلم يجز بيعه ولا هبته كالوقف.
وأما الإبدال فالمنصوص عن الإمام أحمد أنه يجوز بخير منها؛ لأنه عدل عن المعين إلى خير منه من جنسه فأجزأ عنه كما لو وجب عليه بنت لبون في الزكاة فأخرج حقة.
وقال أبو الخطاب: لا يجوز؛ لأنه نوع تصرف فلم يجز كالبيع.
وقول المصنف رحمه الله: بخير منها يدل بمفهومه على أنه لا يجزئ بمثلها ولا دونها وهو صحيح؛ لأنه لا فائدة في الإبدال.
وذكر القاضي في إبدالها بمثلها احتمالين:
أحدهما: يجوز؛ لأنه لا ينقص مما وجب عليه شيء.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يغير ما عينه لغير فائدة.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1630) 2: 613 كتاب الحج، باب يتصدق بجلود الهدي.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1317) 2: 954 كتاب الحج، باب في الصدقة بلحوم الهدى وجلودها وجلالها.
قال: (وله ركوبها عند الحاجة ما لم يضر بها).
أما جواز ركوبها عند الحاجة في الجملة؛ فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه
«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة. فقال: اركبها. فقال: إنها بدنة. فقال: اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة» (1) متفق عليه.
وأما ما يشترط لجواز ذلك فأمران:
أحدهما: دعوة الحاجة لأن في حديث آخر قال: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً» (2) رواه أبو داود.
وثانيهما: عدم الإضرار بها؛ لأن ركوبها إذا كان يضر بها يؤدي إلى ضرر الفقراء وذلك غير جائز.
قال: (وإن ولدت ذبح ولدها معها، ولا يشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها. ويجز صوفها ووبرها ويتصدق به إن كان أنفع لها. ولا يعطى الجازر بأجرته شيئاً منها).
أما ذبح ولدها معه وعدم الشرب من لبنها إلا الفاضل عن ولدها فلما روي «أن علياً رضي الله عنه جاءه رجل يسوق بقرة معها عجل لها. فقال: يا أمير المؤمنين! إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها وإنها وضعت هذا العجل. فقال علي رضي الله عنه: لا تحلبها إلا فضلاً عن ولدها فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعة» (3) رواه سعيد بن منصور.
ولأن شرب اللبن الفاضل انتفاع لا يضر بها ولا بولدها أشبه الركوب.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5808) 5: 2280 كتاب الأدب، باب ما جاء في قول الرجل: ويلك.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1322) 2: 960 كتاب الحج، باب جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (1761) 2: 147 كتاب المناسك، باب في ركوب البدن.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 288 كتاب الضحايا، باب ما جاء في ولد الأضحية ولبنها.
وأخرجه الرزاي في علل الحديث (1619) 2: 46 علل أخبار في الأضاحي والذبائح.
وأما جواز جز صوفها ووبرها إن كان أنفع لها مثل أن يكون زمن الربيع فتخف بجزه وتسمن فلأن ذلك لمصلحتها.
فعلى هذا يتصدق به كما لو أخذه بعد الذبح.
وفي تقييد جواز ذلك بكونه أنفع لها إشعار بأنه إذا كان الجز يضر بها لكون الصوف والوبر يقيها الحر والبرد لم يجز وهو صحيح؛ لأنه حينئذ قطع شيء يضر بها فلم يجز كما لا يجوز قطع بعض أعضائها.
وأما عدم إعطاء الجازر بأجرته شيئاً منها فلأن علياً رضي الله عنه قال: «أمرني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أعطي الجازر منها شيئاً. وقال: نحن نعطيه من عندنا» (1).
ولأنه إذا أعطاه ذلك أجرة كان بمنزلة المعاوضة، والمعاوضة في ذلك غير جائزة لما تقدم.
وقول المصنف رحمه الله: بأجرته فيه تنبيه على جواز إعطائه لغير ذلك مثلاً: أن يكون فقيراً أو ممن يهدى إليه؛ لأنه مستحق للأخذ فهو كغيره بل أولى؛ لأنه باشرها وتاقت نفسه إليها.
فإن قيل: الحديث شامل للأجرة وغيرها.
قيل: المراد الأجرة لأن في قوله: «نحن نعطيه من عندنا» دليلاً على إرادتها.
قال: (وله أن ينتفع بجلدها وجلها ولا يبيعه ولا شيئاً منها).
أما جواز الانتفاع بجلد الأضحية فلأنه جزء منها فجاز للمضحي فعله كاللحم، وقد روي عن عكرمة ومسروق رضي الله عنهما «أنهما كانا يدبغان جلد أضحيتهما ويصليان عليه» .
وأما جواز الانتفاع بجلها فلأنه إذا جاز الانتفاع بجلدها فلأن يجوز الانتفاع بالجل بطريق الأولى.
وأما عدم جواز بيع جلد الأضحية أو شيء منها فلما تقدم في بيع الأضحية وهبتها.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1630) 2: 613 كتاب الحج، باب يتصدق بجلود الهدي.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1317) 2: 954 كتاب الحج، باب في الصدقة بلحوم الهدى وجلودها وجلالها.
وإنما نص المصنف رحمه الله على عدم جواز بيعه وهبته مع أن ما تقدم يدل عليه؛ رفعاً لتوهم الفرق بن حياة الأضحية وذبحها.
وذهب إليه الحسن البصري والنخعي فإنهما قالا: يباع الجلد ويشترى به الغربال والمنخل وآلة البيت.
والأولى عدم جواز البيع لما ذكر قبل؛ لأنه شيء ينتفع به هو وغيره ويجري مجرى لحمها.
وأما الجل فما تجلل به.
قال: (وإن ذبحها فسرقت فلا شيء عليه فيها، وإن ذبحها ذابح في وقتها بغير إذن أجزأت ولا ضمان على ذابحها).
أما عدم وجوب شيء على من سرقت أضحيته بعد ذبحها فلأنها أمانة في يده فلم تضمن بالسرقة كالوديعة.
وأما إجزاء ذبحها إذا ذبحها ذابح في وقتها بغير إذن فلأن الذبح لا يفتقر إلى نية فإذا فعلها الغير أجزأت كإزالة النجاسة.
وأما عدم الضمان على الذابح فلأنها وقعت موقعها فلم يضمن ذابحها كما لو كان بإذن.
ولأنه إراقة دم متعين لحق الله تعالى فلم يضمن ذابحها كقاتل المرتد بغير إذن الإمام.
قال: (وإن أتلفها أجنبي فعليه قيمتها، وإن أتلفها صاحبها ضمنها بأكثر الأمرين من مثلها أو قيمتها، فإن ضمنها بمثلها وأخرج فضل القيمة جاز ويشتري به شاة أو سبع بدنة، فإن لم يبلغ اشترى به لحماً فتصدق به أو يتصدق بالفضل. وإن تلفت بغير تفريطه لم يضمنها).
أما ضمان الأجنبي الأضحية التي أتلفها بقيمتها فلأنها من المتقومات. وتعتبر القيمة يوم التلف لأنه لو أتلف غير الأضحية لاعتبر ذلك فكذلك الأضحية.
وأما صاحبها فقال أبو الخطاب: يلزمه أكثر الأمرين مما ذكر لأنه تعلق به حق الله تعالى في ذبحها فوجب عليه أكثر الأمرين ليوفي بحق الله تعالى فيها.
وقال القاضي: لا يلزمه إلا القيمة كالأجنبي.
والأول أولى؛ لما ذكر قبل بخلاف الأجنبي.
وأما جواز إخراج فضل القيمة إذا ضمنها بمثلها فلأن ذلك بمنزلة ما لو أخرج في الزكاة عن الجياد مكسرة وأخرج الفضل.
فإن قيل: ما مثال فضل القيمة عن المثل؟
قيل: أن تكون الأضحية يوم الإتلاف تساوي عشرة فصار مثلها يساوي خمسة فإذا اشترى مثلها بخمسة بقي عليه خمسة.
فإن قيل: بقاء الخمسة المذكورة عليه على قولنا يلزمه أكثر الأمرين أو على قولنا يلزمه قيمتها؟
قيل: بل ذلك عليه على القولين جميعاً. ولذلك قال المصنف رحمه الله في المغني في هذه الصورة: تلزمه عشرة وجهاً واحداً. وهو صحيح لأن من قال تلزمه القيمة فالقيمة عشرة، ومن قال يلزمه أكثر الأمرين فالقيمة هنا أكثر الأمرين.
وأما ما يصنع بالفضل فنقول: إن أمكنه أن يشتري شاة أو سبع بدنة كما في هذه الصورة لزمه؛ لأن الذبح مقصود في الأضحية فإذا أمكنه الإتيان به لزمه وإن لم يتسع الفضل لشاة أو سبع بدنة فظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا: أنه يتخير بين شراء لحم وبين التصدق بالفضل لأنه ذكره بلفظ أو المقتضية للتخيير وفي المسألة وجهان:
أحدهما: كما ذكر المصنف رحمه الله؛ لأنه إذا لم يحصل له التقرب بإراقة الدم كان اللحم وثمنه سواء.
الثاني: يتعين عليه شراء اللحم مع القدرة عليه؛ لأن الذبح وتفرقة اللحم مقصودان فإذا تعذر أحدهما وجب الآخر وهكذا حكم الأجنبي إذا لم تبلغ القيمة ثمن أضحية.
وأما عدم الضمان إذا تلفت بغير تفريط فلما تقدم من أنها أمانة فلم يضمنها بغير تفريط كالوديعة.
قال: (وإن عطب الهدي في الطريق نحره موضعه وصبغ نعله التي في عنقه في دمه وضرب بها صفحته ليعرفه الفقراء فيأخذوه، ولا يأكل منه هو ولا أحد من أهل رفقته).
أما نحره الهدي المذكور وفعله ما ذكر وعدم جواز الأكل له ولأحد من رفقته فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن ذؤيباً أبا قبيصة حدثه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول: إن عطب منها شيء فخشيت عليه موتاً فانحرها. ثم اغمس نعلها في دمها. ثم اضرب به صفحتها. ولا تَطْعَمْها أنت ولا أحد من أهل رفقتك» (1) أخرجه مسلم.
فإن قيل: فقد روى صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه قال: يا رسول الله! كيف أصنع بما عطب من الهدي؟ قال: انحره ثم اغمس قلائده في دمه ثم اضرب بها صفحة عنقه ثم خل بينه وبين الناس» (2).
فقوله: خل بينه وبين الناس يدل على تسوية الرفقة بالأجانب وهذا الحديث راجح على غيره.
قال ابن عبدالبر: هذا الحديث أصح من حديث ابن عباس وعليه العمل عند الفقهاء.
قيل: حديث ابن عباس صحيح أخرجه مسلم وهو متضمن لمعنى خاص يجب تقديمه على عموم ما يخالفه. والتسوية بين الرفقة والأجانب لا يصح لأن الرجل يشفق على رفيقه وربما أوسع عليه من ماله فيتهم في حقه دون الأجنبي.
وأما النعل فهي التي يقلد بها الهدي لما روي في حديث صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قول المصنف رحمه الله: ليعرفه الفقراء فتنبيه على أن صبغ النعل إنما كان من أجل معرفة الفقراء كون المذبوح هدياً.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1326) 2: 963 كتاب الحج، باب ما يفعل بالهدي إذا عطب في الطريق.
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه (910) 3: 253 كتاب الحج، باب ما جاء إذا عطب الهدي ما يصنع به.
وأما الحكمة في منع السائق ورفقته من أكلها فلئلا يُقَصّر في حفظها فيعطبها ليأكل هو ورفقته منها.
(وإن تعينت ذَبَحَها وأجزأته إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين كالفدية والمنذور في الذمة فإن عليه بدلها. وهل له استرجاع هذا العاطب والمعيب؟ على روايتين. وكذلك إن ضلت فذبح بدلها ثم وجدها).
أما ذبح المتعينة إذا تعينت عنده ولم يكن عن واجب في الذمة وإجزاؤه ذبحها من غير بدل فلما روى أبو سعيد رضي الله عنه قال: «ابتعنا كبشاً نضحي به فأصاب الذئب من إليته. فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نضحي به» (1). رواه ابن ماجة.
ولأنه عيب حدث في الأضحية الواجبة فلم يمنع الإجزاء كما لو حدث بها عيب لمعالجة الذبح.
وأما لزوم البدل إذا كانت عن واجب في ذمته مثل إن نذره، أو كان قد لزمه ذلك من تمتع أو قران أو حلق أو نحو ذلك ثم عين ذلك في شيء بعينه فتعيب فكما لو كان لرجل عليه دين فاشترى به منه مكيلاً فتلف قبل قبضه انفسخ البيع وعاد الدين إلى ذمته.
وأما جواز استرجاع هذا العاطب والمعيب ففيه روايتان:
أحدهما: له استرجاعه وتصرفه فيه بما شاء؛ لأنه إنما عيّنه عن ما في ذمته فإذا لم يقع عنه عاد إلى صاحبه على ما كان كمن أخرج زكاته فبان أنها غير واجبة عليه.
والأخرى: ليس له ذلك؛ لأنه صار للمساكين أشبه الذي عيّنه ابتداء.
وأما كون حكم الضال حكم المتعين إذا تعيب في ذبح بدله وفي استرجاعه وعدمه؛ فلأنه يساويه معنى فوجب أن يساويه حكماً. ويقوّي لزوم ذبحه مع ذبح الواجب ما روي عن عائشة رضي الله عنها «أنها أهدت هديين فأضلتهما. فبعث إليها ابن الزبير
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه (3146) 2: 1051 كتاب الأضاحي، باب من اشترى أضحية صحيحة فأصابها عنده شيء.
هديين فنحرتهما. ثم عاد الضالان فنحرتهما. وقالت: هذه سنة الهدي» (1) وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه الدارقطني في سننه (29) 2: 242 كتاب الحج، باب المواقيت.
فصل [في سَوْق الهدي]
قال المصنف رحمه الله: (سَوْق الهدي مسنون لا يجب إلا بالنذر. ويستحب أن يقفه بعرفة ويجمع فيه بين الحل والحرم ولا يجب ذلك).
أما مسنونية سوق الهدي فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله. روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فساق الهدي من ذي الحليفة» (1) متفق عليه.
وأما عدم وجوبه مع عدم النذر فلأن الغرض إراقة الدم وتفريق اللحم وهو حاصل بدون السوق.
وأما وجوبه مع النذر فلأنه سنة وطاعة فوجب الوفاء به لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (2) وقياساً على نذر سائر القرب.
وأما استحباب وقفه بعرفة وجمعه فيه بين الحل والحرم (3).
قال: (ويسن إشعار البدنة فيشق صفحة سنامها حتى يسيل الدم ويقلدها ويقلد الغنم النعل وآذن القرب والعري).
أما مسنونية إشعار البدنة وتقليدها فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها» (4) متفق عليه.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1606) 2: 607 كتاب الحج، باب من ساق البُدن معه.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1227) 2: 901 كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (6318) 6: 2463 كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة.
(3)
بياض في ج مقدار سطرين.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (1612) 2: 609 كتاب الحج، باب إشعار البدن.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1321) 2: 957 كتاب الحج، باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه.
وروى ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ثم دعى ببدنة وأشعرها من صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها بيده» (1) رواه مسلم.
ومراد المصنف رحمه الله بالبدنة الإبل والبقر؛ أما الإبل فلحديث ابن عباس؛ وأما البقر فلأنها من البدن فسن إشعارها وتقليدها كالإبل.
وأما قول المصنف رحمه الله فيشق صفحة سنامها فبيان لصفة الإشعار.
وأما مسنونية تقليد الغنم فلأن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أفتل قلائد الغنم للنبي صلى الله عليه وسلم» (2) رواه البخاري.
ولأنه هدي فاستحب تقليده كالإبل.
ولأنه إذا سن تقليد الإبل مع إمكان معرفتها بالإشعار فالغنم أولى.
وفي ذكر المصنف رحمه الله الإشعار والتقليد في البدنة والتقليد فقط في الغنم إشعار بأنه لا يسن إشعار الغنم وهو صحيح؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف.
قال: (وإذا نذر هدياً مطلقاً فأقل ما يجزئه شاة أو سُبُع بدنة. وإن نذر بدنة أجزأته بقرة).
أما كون الشاة أو سُبُع البدنة أقل ما يجزئ إذا نذر هدياً مطلقاً فلأن المطلق في النذر يجب حمله على معهود الشرع، والهدي الواجب في الشرع إنما هو من النعم، وأقله ما ذكرناه فحمل عليه، ولهذا قال الله تعالى {فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] في المتعة فحمل على ما ذكر.
وأما إذا
…
(3):
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1243) 2: 912 كتاب الحج، باب تقليد الهدي وإشعاره عند الاحرام.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (1616) 2: 609 كتاب الحج، باب تقليد الغنم.
(3)
عدة كلمات غير واضحة في ج.
أحدها: أن ينوي الإبل خاصة فلا يجزئه غير ذلك الجنس؛ لأن منه بعض فيتعين بها.
الثانية: أن ينوي الإبل والبقر فيجزئه كل واحد منهما؛ لما ذكر.
الثالثة: أن يطلق النذر فتجزئ البقرة عن البدنة لأنها تجزئ عن سبعة كالواحدة من الإبل.
ولأنه يصح إطلاق لفظ البدنة على البقرة اشتقاقا ونقلاً: أما الاشتقاق فإن لفظ البدنة مشتق من البدانة وهي الضخامة والكبر. يقال: بدن إذا كبر وسمن وكثر لحمه وهذا المعنى موجود في البقر.
وأما النقل فما روى جابر رضي الله عنه قال: «كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل له: والبقرة فقال: وهل هي إلا من البدن» (1).
ولقائل أن يقول: لا يلزم من إجزاء البقرة في باب الهدايا والضحايا عن سبعة كالبدنة إجزاؤها عن نذر البدنة لأن اللفظ وإن أطلق عليها لكنه غالب في الإبل والظاهر من حال الناذر استعمال اللفظ فيما هو غالب فيحمل عليه، وحديث جابر في الهدايا في الحج ونحن نقول به.
قال: (فإن عين الهدي بنذره أجزأه ما عينه: صغيراً كان أو كبيراً من الحيوان وغيره، وعليه إيصاله إلى فقراء الحرم إلا أن يعينه موضع سواه).
أما إجزاء ما عينه بنذره من صغير وكبير ومريض فلأن لفظه لم يتناول غيره فإذا صرف المعين إلى مستحقه فقد خرج عن عهدة نذره.
وأما إجزاء الهدي من الحيوان وغيره فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة» (2).
(1) سبق تخريجه ص: 137.
(2)
سبق تخريجه ص: 234.
وأما وجوب إيصاله إلى فقراء الحرم إذا لم يعينه موضع سواه فلأن إطلاق الهدي يقتضي ذلك. قال الله تعالى: {بالغ الكعبة} [المائدة: 95]. ثم ينظر فإن كان الهدي مما ينقل نقل، وإن كان مما لا ينقل كالدور بيع وصرف ثمنه إليهم؛ لأنه لا يمكنه إهداؤه بعينه فانصرف إلى بدله، وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رجلا سأله عن امرأة نذرت أن تهدي داراً قال: تبيعها وتصدق بثمنها على فقراء الحرم».
وأما إيصاله إلى فقراء الموضع الذي عيّنه مثل: أن يعيّنه للمدينة أو للثغور وما أشبه ذلك فلأنه قصد نفع أهله فلزمه إيصاله إليهم كأهل مكة، وروي «أن رجلاً نذر أن ينحر بالأبواء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بوفاء نذره» (1) رواه أبو داود.
قال: (ويستحب أن يأكل من هديه. ولا يأكل من واجب إلا من دم المتعة والقران).
أما استحباب أكله من الهدي المتطوع به فلأن الله تعالى قال: {فكلوا منها} [الحج: 28].
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من بدنه التي أهداها تطوعاً (2).
ولا فرق في الهدي المذكور بين أن يكون ذُبح من غير إيجاب وبين ما أوجبه ابتداء من غير أن يكون في ذمته شيء لاشتراكهما في أصل التطوع.
وأما مقدار ما يستحب أكله فقال ابن عقيل: يأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث كالأضحية.
والأولى أن يتصدق بجميعها إلا اليسير كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين نحر بدنه.
وأما عدم جواز أكله من هديٍ واجب غير المتعة والقران فلأنه وجب للفقراء فلم يجز الأكل منه كسائر الواجبات.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3313) 3: 238 كتاب الأيمان والنذور، باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر.
(2)
كما في حديث جابر الطويل، أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 2: 886 كتاب الحج.
وأما جواز الأكل من دم المتعة والقران فلما روي «أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتعن معه في حجة الوداع وأدخلت عائشة رضي الله عنها الحج على المتعة حين حاضت فصارت قارنة فذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن البقر وأكلوا من لحومها» (1).
(1) عن عمرة بنت عبدالرحمن قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمسٍ بَقِينَ من ذي القعدة لا نرى إلا الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل، قالت: فدُخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه» .
أخرجه البخاري في صحيحه (1623) 2: 611 كتاب الحج، باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن.
فصل [في الأضحية]
قال المصنف رحمه الله: (والأضحية سنة مؤكدة. ولا تجب إلا بالنذر. وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها).
أما مسنونية الأضحية فلأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى وحث على فعلها. وقد تقدم ذلك في أول الباب مستقصى فلا حاجة إلى إعادته (1).
وأما عدم وجوبها مع عدم النذر فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث كتبت عليّ وهن لكم تطوع: الوتر والنحر وركعتا الفجر» (2) رواه الدارقطني.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أن يضحي ودخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئاً حتى يضحي» (3) علقه على الإرادة والواجب لا يعلق على الإرادة.
ولأنها ذبيحة لم يجب تفريق لحمها فلم تكن واجبة كالعقيقة.
ولا فرق في ذلك بين الغني والفقير لعموم ما تقدم.
وعن أحمد رحمه الله: هي واجبة على الغني لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا» (4).
ولما روي أنه قال: «يا أيها الناس! إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية أو عتيرة» (5) أخرجهما ابن ماجة.
(1) ر. ص: .233
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه (1) 2: 21 كتاب الوتر.
وأخرجه الحاكم في مستدركه (1119) 1: 441 كتاب الوتر. قال في التلخيص: ما تكلم الحاكم عليه، وهو غريب منكر، ويحيى ضعفه النسائي والدارقطني.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه (1977) 3: 1565 كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة، وهو مريد التضحية، أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئاً.
(4)
أخرجه ابن ماجة في سننه (3123) 2: 1044 كتاب الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟ .
(5)
أخرجه ابن ماجة في سننه (3125) 2: 1045 كتاب الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟ .
والأول أصح لما ذكر.
وأما قوله: «فلا يقربن مصلانا» فضعيف عند أهل الحديث وعلى تقدير صحته يحمل على تأكيد الاستحباب كما حمل قوله صلى الله عليه وسلم «من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا» (1).
وأما قوله: «على أهل كل بيت
…
الحديث» فمنسوخ بما يذكر في آخر فصل العقيقة (2).
وعلى تقدير عدم نسخه يحمل على تأكيد الاستحباب كقوله صلى الله عليه وسلم: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» (3).
وأما كون ذبحه أفضل من الصدقة بثمنها فلأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده عدلوا عن الصدقة بثمن الأضحية إلى ذبحها وواظبوا على ذلك وهم لا يواظبون إلا على الأفضل.
ولأن إيثار الصدقة بثمنها على ذبحها يفضي إلى ترك سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (والسنة أن يأكل من أضحيته ثلثها ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها. فإن أكل أكثر جاز وإن أكلها [كلها] (4) ضمن أقل ما يجزئ في الصدقة منها).
أما مسنونية أكل ثلثها وإهداء ثلثها والتصدق بثلثها فلأن ابن عباس روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأضحية: «ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السُؤّال بالثلث» أخرجه الحافظ أبو موسى في الوظائف وقال: هذا حديث حسن.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «الضحايا والهدايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين» .
وأما جواز أكل أكثرها فلأن الأمر بالأكل مطلق فإذا أكل الأكثر وتصدق بالباقي خرج عن العهدة وأن القصد لا يخلو من قربة وذلك يحصل بصدقة الأقل.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3827) 3: 361 كتاب الأطعمة، باب في أكل الثوم.
(2)
ر ص: 261.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (341) 1: 94 كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة.
(4)
زيادة من المقنع.
وأما ضمان أقل ما يجزئ في الصدقة منها إذا أكلها كلها فلأن الله تعالى قال: {وأطعموا القانع والمعتر} [الحج: 36] أمر والأمر للوجوب فإذا وجب التصدق بشيء منها وجب أن يضمنه إذا أكله كسائر الواجبات المتلفة.
ولم يذكر المصنف رحمه الله مقدار ما يجب. وصرح في الكافي بأن صدقة الأوقية تجزئ لأنه يحصل به الوفاء بالأمر.
فعلى هذا يضمن هذا القدر.
وقال أبو الخطاب: يضمن القدر المشروع للصدقة. وهو منصوص الإمام أحمد. وفيه نظر.
قال: (ومن أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره وبشرته شيئاً. وهل ذلك حرام؟ على وجهين).
أما عدم أخذ من أراد أن يضحي فدخل العشر شيئاً من شعره وبشرته حتى يضحي فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئاً حتى يضحي» (1).
وأما حرمة ذلك ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحرم ويكره: أما عدم الحرمة فلقول عائشة رضي الله عنها: «كنت أفتل قلائد الهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي» (2).
وأما الكراهة فلأن أدنى أحوال النهي الكراهة.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1977) 3: 1565 كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة، وهو مريد التضحية، أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئاً.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (1613) 2: 609 كتاب الحج، باب من قلد القلائد بيده.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1321) 2: كتاب الحج، باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه.
والثاني: يحرم وحكاه ابن المنذر عن أحمد رحمه الله عليه لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئاً حتى يضحي» (1).
ومقتضى النهي التحريم.
(1) سبق تخريجه قبل الحديث السابق.
فصل [في العقيقة]
قال المصنف رحمه الله: (والعقيقة سنة مؤكدة).
أما ماهية العقيقة ففي الشرع: الذبيحة عن المولود. والأصل فيها الشعر على المولود وجمعها عقائق ثم سميت الذبيحة عند حلق شعر المولود عقيقة تسمية للشيء باسم ما جاوره.
قال ابن عبدالبر: أنكر أحمد رحمه الله هذا التفسير فقال: إنما العقيقة الذبح نفسه لأنه يقال: عق إذا قطع ومنه عق والديه إذا قطعهما.
وأما كونها سنة مؤكدة فلما روى سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل غلام مرتهن بعقيقته» (1) رواه أبو داود والترمذي وصححه.
و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم عقّ عن الحسن والحسين» (2).
قال: (والمشروع أن يذبح عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة يوم سابعه، ويحلق رأسه ويتصدق بوزنه ورقاً، فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين).
أما مشروعية ذبح شاتين عن الغلام وشاة عن الجارية فلما روت عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يعقوا عن الغلام شاتين مكافئتين وعن الجارية شاة» (3) رواه أحمد وابن ماجة.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (2838) 3: 106 كتاب الضحايا، باب في العقيقة.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1522) 4: 101 كتاب الأضاحي، باب من العقيقة.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (2841) 3: 107 كتاب الضحايا، باب في العقيقة.
وأخرجه النسائي في سننه (4219) 7: 165 كتاب العقيقة، كم يعق عن الجارية.
وأخرجه أحمد في مسنده (23051) 5: 355.
(3)
أخرجه ابن ماجة في سننه (3163) 2: 1056 كتاب الذبائح، باب العقيقة.
وأخرجه أحمد في مسنده (25289) 6: 158.
فإن قيل: الأمر للوجوب فلم حمل هنا على الاستحباب؟
قيل: لأنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث آخر: «من وُلد له مولود وأحب أن ينسك عنه فليفعل» (1) رواه مالك في الموطأ.
علقه على محبته والواجب لا يُعَلّق على المحبة فوجب حمل الأمر في الأول على تأكد الاستحباب جمعاً بينهما.
وأما مشروعية الذبح يوم السابع وحلق رأس المولود فلأن في حديث سمرة بن جندب: «يذبح يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه» (2) رواه أبو داود.
وأما الصدقة بزنة شعره ورقاً؛ «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها لما ولدت الحسن: احلقي رأسه وتصدقي بزنته فضة» (3) رواه أحمد.
وأما الذبح في أربعة عشرة إذا فات في السابع وفي إحدى وعشرين إذا فات في أربع عشرة فلأن ذلك يروى عن عائشة رضي الله عنها.
قال: (وينزعها أعضاءً، ولا يكسر عظمها. وحكمها حكم الأضحية).
أما نزع العقيقة أعضاء وعدم كسر عظمها فلأنه يروى عن عائشة رضي الله عنها (4).
ولأنه أول ذبيحة ذبحت عن الولد فلا يكسر عظمها تفاؤلاً بالسلامة.
ومعنى ينزعها أعضاء أي: يفصل أعضاءها بعضاً من بعض من غير كسر.
قال أبو عبيد الهروي في حديث العقيقة: «تقطع جدولاً» (5) أي عضواً عضواً.
(1) أخرجه مالك في الموطأ (1) 2: 399 كتاب العقيقة، باب ما جاء في العقيقة.
(2)
سبق تخريج حديث سمرة بن جندب ص: 261.
(3)
أخرجه الترمذي في جامعه (1519) 4: 99 كتاب الأضاحي، باب العقيقة بشاة.
وأخرجه أحمد في مسنده (27226) 6: 391.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (24253) 5: 114 كتاب العقيقة، من قال: لا يكسر للعقيقة عظم.
(5)
ذكره البيهقي في السنن الكبرى تعليقاً قال: وكان عطاء يقول: «تقطع جدولاً ولا يكسر لها عظم أظنه قال: ويطبخ» 9: 302 كتاب الضحايا، باب من قال: لا تكسر عظام العقيقة ويأكل أهلها منها ويتصدقون ويهدون.
وأما كون حكم العقيقة حكم الأضحية ومعناه أن يجتنب فيها ما يجتنب في الأضحية، ويأكل منها كما يأكل، ويستحب فيها ما يستحب وهلم جرا؛ فلأنها شبيهة بها فألحقت بها لذلك.
ولا بد أن يلحظ أنه يجوز بيع جلدها ورأسها وسواقطها ويتصدق به بخلاف الأضحية؛ لأن ذلك منقول عن الإمام أحمد. والأصل فيه أن الأضحية ذبيحة لله تعالى فلا يباع شيء منها كالهدي بخلاف العقيقة.
فعلى هذا يحمل كلام المصنف رحمه الله في كون حكم العقيقة كحكم الأضحية فيما سوى ذلك لئلا يناقض النقل.
وقال أبو الخطاب رحمه الله: يحتمل أن ينقل حكم إحدى المسألتين إلى الأخرى فتخرج في كل واحدة روايتان.
قال: (ولا تسن الفرعة وهي ذبح أول ولد الناقة، ولا العتيرة وهي ذبيحة رجب).
أما عدم مسنونية الفرعة والعتيرة فلما روى أبو هريرة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا فرع ولا عتيرة» (1) متفق عليه.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على أهل كل بيت عتيرة» (2)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:«أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرعة» (3).
قيل: ما تقدم ناسخ؛ لأنه متأخر عنها ظاهراً؛ لأن إسلام أبي هريرة متأخر.
وأما قول المصنف رحمه الله: بعد الفرعة وهي ذبح أول ولد الناقة، وبعد العتيرة وهي ذبيحة رجب؛ فبيان لماهية الفرعة والعتيرة.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5157) 5: 2083 كتاب العقيقة، باب العتيرة
وأخرجه مسلم في صحيحه (1976) 3: 1564 كتاب الأضاحي، باب الفرع والعتيرة.
(2)
سبق تخريجه ص: 257.
(3)
أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (7997) 4: 340 كتاب العقيقة، باب الفرعة.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 312 كتاب الضحايا، باب ما جاء في الفرع والعتيرة.