الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الضمان
(1)
الضمان جائز بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف: 72].
قال ابن عباس: الزعيم الكفيل.
وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الزعيمُ غَارِمٌ» (2) رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن.
وأما الإجماع فأجمع المسلمون في الجملة على صحة الضمان.
قال المصنف رحمه الله: (وهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت، فإن برئت ذمة المضمون عنه برئ الضامن، وإن برئ الضامن أو أقر ببراءته لم يبرأ المضمون عنه).
أما معنى الضمان فقيل هو كما ذكره المصنف رحمه الله، واشتقاقه من الضم.
وقال القاضي: هو مشتق من التضمن لأن ذمة الضامن تتضمن الحق.
وقال صاحب المستوعب فيه: قال ابن عقيل: هو مأخوذ من الضمن ثم قال: فتصير ذمة الضامن في ضمن ذمة المضمون عنه.
(1) ورد العنوان في هـ: باب الضمان.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (3565) 3: 296 كتاب البيوع، باب في تضمين العارية.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1265) 3: 565 كتاب البيوع، باب ما جاء في أن العارية مؤداة.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2405) 2: 804 كتاب الصدقات، باب الكفالة.
(3)
في هـ: لهما.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (2173) 2: 803 كتاب الكفالة، باب من يكفل عن ميت ديناً فليس له أن يرجع.
وأما كون صاحب الحق له مطالبة من شاء من المضمون عنه والضامن في الحياة والموت؛ فلأن الحق ثابت في الذمتين فكان له مطالبة من شاء منهما كالضامنين.
وأما كون الضامن يبرأ ببراءة ذمة المضمون عنه؛ فلأنه تبع له.
ولأن الضمان وثيقة فإذا برئ الأصل زالت الوثيقة كالرهن.
وأما كون المضمون عنه لا يبرأ ببراءة ذمة الضامن مما ذكر؛ فلأنه أصل فلا يبرأ ببراءة التبع.
ولأن ذلك وثيقة انحلت بغير استيفاء الدين منها فلم تبرأ ذمة الأصل كالرهن إذا انفسخ من غير استيفاء.
قال: (ولو ضمن ذمي لذمي عن ذمي خمراً فأسلم المضمون له أو المضمون عنه برئ هو والضامن معاً).
أما كون المضمون عنه يبرأ بإسلام المضمون له؛ فلأن مالية الخمر بطلت في حقه فلم يملك مطالبة المكفول عنه.
وأما كون الضامن يبرأ بذلك؛ فلأنه تبع للأصل فإذا برئ أصله برئ هو.
وأما كونهما يبرآن بإسلام المضمون عنه؛ فلأنه صار مسلماً ولا يجوز وجوب خمر على مسلم، وإذا برئ المضمون عنه كذلك برئ الضامن لأنه تبعه. وذكر أبو الخطاب في الهداية في هذه الصورة وجهاً آخر أنهما لا يبرآن لأن المضمون له يملك الخمر فلا يسقط كما لو أعاره عبداً فرهنه على خمر ثم أسلم المستعير فإنه يلزمه فك الرهن.
قال: (ولا يصح إلا من جائز التصرف، ولا يصح من مجنون ولا صبي ولا سفيه ولا من عبد بغير إذن سيده. ويحتمل أن يصح ويُتْبَع به بعد العتق. فإن ضمن بإذن سيده صح، وهل يتعلق برقبته أو ذمة سيده؟ على روايتين).
أما كون الضمان لا يصح من غير جائز التصرف؛ فلأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح من غير جائز التصرف كالبيع.
وأما كونه يصح من جائز التصرف؛ فلأن جائز التصرف يصح بيعه وإقراره وسائر أحكامه. فكذلك ضمانه.
وأما كونه لا يصح من مجنون ولا صبي ولا سفيه؛ فلأنهم غير جائزي التصرف.
وأما كونه لا يصح من عبد بغير إذن سيده؛ فلأنه عقد يقتضي إيجاب مال بغير إذن سيده كالنكاح.
وأما كونه يحتمل أن يصح ويُتْبَع به بعد العتق؛ فلأنه لا ضرر على السيد فيه فصح منه ولزمه بعد العتق كالإقرار بالإتلاف.
وأما كونه إذا ضمن بإذن سيده يصح؛ فلأن السيد لو أذن له في التصرف صح فكذا هاهنا.
وأما كونه يتعلق بما ذكر ففيه روايتان منشأهما أن ديون المأذون له في التجارة هل تتعلق برقبته أو ذمة سيده. وسيذكر دليل ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال: (ولا يصح إلا برضى الضامن ولا يعتبر رضى المضمون له ولا المضمون عنه ولا معرفة الضامن لهما ولا كون الحق معلوماً ولا واجباً إذا كان مآله إلى الوجوب، فلو قال: ضمنت لك ما على فلان أو ما تداينه به صح).
أما كون الضمان لا يصح إلا برضى الضامن؛ فلأنه التزام حق فلم يصح إلا برضى الضامن كسائر العقود التي يلزم العاقد فيها حق.
وأما كونه لا يعتبر رضى المضمون له؛ فلأن أبا قتادة ضمن من غير رضى المضمون له فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم (1) وروي نحوه عن علي (2).
ولأن الضمان وثيقة لا يعتبر فيها قبض. أشبهت الشهادة.
ولأنه ضمان دين. أشبه ضمان بعض الورثة دين الميت.
وأما كونه لا يعتبر رضى المضمون عنه؛ فلأنه لو قضى عنه الدين بغير إذنه ورضاه صح. فكذلك إذا ضمن عنه.
وأما كونه لا يعتبر معرفة الضامن للمضمون له ولا للمضمون عنه؛ فلأنه لا يعتبر رضاهما. فكذلك معرفتهما.
(1) سبق ذكره قريباً.
(2)
سيأتي ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
وقال المصنف في المغني: قال القاضي: يعتبر معرفتهما: أما المضمون له فلما يأتي، وأما المضمون عنه فليعلم هل هو أهل لاصطناع المعروف إليه أم لا.
ولأنه تبرع فلا بد من معرفة من يتبرع عنه.
وفيه وجه ثالث أنه يعتبر معرفة المضمون له ليؤدى إليه ولا يعتبر معرفة المضمون عنه؛ لأنه لا معاملة بينه وبينه.
والأول أولى لحديث أبي قتادة (1) فإنه ضمن لمن لم يعرفه وعمن لم يعرفه.
وأما كونه لا يعتبر كون الحق معلوماً؛ فلأن الله تعالى قال: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف: 72] ضمن القائل حمل بعير وهو غير معلوم لأنه يختلف.
ولعموم قوله عليه السلام: «الزعيم غارم» (2).
ولأنه التزام حق في الذمة من غير معارضة فصح في المجهول كالإقرار.
ولأنه يصح تعليقه بغرر وخطر وهو ضمان العهدة، وإذا قال: ألق متاعك في البحر وعليّ ضمانه فصح في المجهول كالعتاق والطلاق.
وأما كونه لا يعتبر كونه واجباً؛ فلأن الآية دلت على ضمان حمل بعير مع أنه لم يكن وجب.
فإن قيل: الضمان ضم ذمة إلى ذمة فإذا لم يكن على المضمون عنه شيء فلا ضم ولا يكون ثَم ضمان.
قيل: قد ضم ذمته إلى ذمة المضمون عنه في كونه يلزمه ما يلزمه وما يحدث في ذمة مضمونه يحدث في ذمته مثله وهذا كاف.
واشترط المصنف رحمه الله في عدم اعتبار كونه واجباً كون مآله إلى الوجوب لأن ما ليس بواجب ولا مآله إلى الوجوب لا يوجد فيه ضم ذمة إلى ذمة لا حالاً ولا مآلاً. ثم مثل غير المعلوم وغير الواجب ولكن مآله إلى الوجوب بقوله: ضمنت لك ما على فلان أو ما تداينه به.
(1) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(2)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
قال: (ويصح ضمان دين الضامن ودين الميت المفلس وغيره، ولا تبرأ ذمته قبل القضاء في أصح الروايتين).
أما كون ضمان دين الضامن يصح؛ فلأنه دين لازم في ذمته فصح ضمانه كسائر الديون.
وأما كون ضمان دين الميت يصح؛ فلأن أبا قتادة ضمن دين الميت (1). وصرح المصنف رحمه الله بالميت المفلس إشارة إلى قول من منع صحة ضمان الميت الذي لم يخلف وفاء. وقد دل حديث أبي قتادة على صحة ذلك فإنه ضمن ميتاً لا وفاء له وحثهم النبي صلى الله عليه وسلم على ضمانه فقال: «ألا قام أحدكم فضمنه» (2).
ولأنه دين ثابت فصح ضمانه كما لو خلف وفاء.
وأما كون ذمة المضمون عنه الميت لا تبرأ قبل القضاء في روايةٍ فكالمضمون عنه الحيّ.
وأما كونه يبرأ بنفس الضمان في روايةٍ فلما روى أبو سعيد الخدري قال: «كنا معَ النبي صلى الله عليه وسلم في جنازةٍ فلما وُضعت قال: هل على صاحبكم من دَين؟ قالوا: نعم. درهمان. فقال: صَلّوا على صَاحبِكم. فقال عليٌ: هما عليّ يا رسولَ الله! وأنا لهما ضَامن. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه. ثم أقبل عليّ فقال: جزاكَ اللهُ عن الإسلامِ خيراً وفكَّ اللهُ رهانكَ كما فَكَكْتَ رهانَ أخيك» (3) رواه الدارقطني.
وفيه: «فقيل: يا رسول الله هذا لعلي خاصة أم للناس عامة قال: للناس عامة» (4).
والأولى أصح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نفسُ المؤمنِ مُعلقةٌ بِدَينهِ حتى يُقضَى عنه» (5).
(1) سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(2)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(3)
أخرجه الدارقطني في سننه (292) 3: 78 - 79 كتاب البيوع.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 73 كتاب الضمان، باب وجوب الحق بالضمان.
(4)
تكملة للحديث السابق.
(5)
أخرجه الترمذي في جامعه (1078) 3: 389 كتاب الجنائز، باب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» .
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2413) 2: 806 كتاب الصدقات، باب التشديد في الدين.
وفي بعض أخبار أبي قتادة أنه لما ذكر أنه قضى عنه قال: «الآن بردت جلدته» (1).
وقوله: «فككت رهان أخيك» (2) أراد أنه كان امتنع من الصلاة عليه فلما ضمن عنه فكه من ذلك.
قال: (ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع، ولا يصح ضمان دين الكتابة في أصح الروايتين).
أما كون ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري. وهو: أن يضمن شخص عن البائع الثمن متى خرج المبيع مستحقاً أو رد بعيب، وضمان العهدة عن المشتري للبائع. وهو: أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه أو إن ظهر فيه عيب أو استحق رجع بذلك على الضامن يصح؛ فلأن الحاجة تدعو إليه لأنه لو لم يصح ذلك لامتنعت المعاملات مع من لم يعرف وفي ذلك ضرر بين دافع لأصل الحكمة التي شرع البيع من أجلها ومثل ذلك لا يرد به الشرع.
وأما كون ضمان دين الكتابة لا يصح في روايةٍ؛ فلأنه ليس بلازم ولا يفضي إلى اللزوم لأن للمكاتب أن يُعَجِّزَ نفسه ويمتنع من الأداء فإذا لم يكن لازماً للأصل فالفرع أولى.
وأما كونه يصح في روايةٍ؛ فلأنه يصح أن يضمن عنه ديناً آخر فيصح أن يضمن عنه دين الكتابة.
والأولى أصح لما تقدم. والفرق بين مال الكتابة وبين غيره من الديون من حيث إن ذلك الغير إما لازم أو مآله إلى اللزوم بخلاف دين الكتابة فإنه ليس فيه واحد منهما لما تقدم.
(1) أخرجه أحمد في مسنده (14576) 3: 330.
(2)
سبق تخريجه قريباً.
قال: (ولا يصح ضمان الأمانات كالوديعة ونحوها إلا أن يضمن التعدي فيها، وأما الأعيان المضمونة كالغصوب والعواري والمقبوض على وجهِ السوم فيصح ضمانها).
أما كون ضمان الأمانات كالوديعة والشركة والمضاربة والمدفوع إلى الخياط والقصار لا يصح؛ فلأنها غير مضمونة على المضمون عنه. فكذلك على الضامن.
وأما كون ضمان التعدي فيها يصح؛ فلأنها مضمونة على من هي في يده في ذلك أشبهت المغصوب.
وأما كون ضمان الأعيان المضمونة المتقدم ذكرها يصح؛ فلأنها مضمونة على من هي في يده فهي كالحقوق الثابتة في الذمة.
قال: (وإن قضى الضامن الدين متبرعاً لم يرجع بشيء، وإن نوى الرجوع وكان الضمان والقضاء بغير إذن المضمون عنه فهل يرجع؟ على روايتين. وإن أذن في أحدهما فله الرجوع بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين).
أما كون الضامن لا يرجع بشيء إذا قضى الدين متبرعاً؛ فلأنه تبرع به أشبه ما لو وهبه إياه ثم قضاه عنه.
وأما إذا قضى ناوياً للرجوع فله أربعة أحوال:
أحدها: أن يضمن ويقضي بغير إذن المضمون عنه وفيها روايتان:
أحدهما: أنه يرجع لأنه قضاء مبرء من دين واجب فكان من ضمان من هو عليه كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه.
والثانية: لا يرجع لأن الضامن بغير إذن لو استحق الرجوع لاستحق أبو قتادة الرجوع على الميت ولو استحق ذلك لصار ديناً له عليه ولو صار ديناً له عليه لامتنعت الصلاة.
ولأنه فعل غير مأذون فيه فلم يستحق الرجوع فيه كما لو علف داوبه وأطعم عبيده بغير إذنه.
وأجاب المصنف رحمه الله في المغني عن عدم استحقاق أبي قتادة بأنه قضى متبرعاً بدليل أنه علم أنه لا وفاء له فلا يحتج به على من قضى معتقداً للرجوع لما بينهما من الفرق.
والحال الثانية: أن يأذن في الضمان دون القضاء (1) فله الرجوع لأنه أذن له في الضمان وهو ملزم للقضاء (2) فاستحق الرجوع كما لو صرح بالقضاء.
والحال الثالثة: أن يأذن له في القضاء دون الضمان (3) فله الرجوع أيضاً لأنه أدى عنه فرجع به كما لو ضمن بإذنه، أو كما لو لم يكن ضامناً.
الحال الرابعة: أن يضمن بإذنه ويقضي بإذنه فله الرجوع لأنه إذا رجع فيما إذا ضمن بإذنه أو قضى بإذنه؛ فلأن يرجع فيما إذا وقع الضمان والقضاء بإذنه بطريق الأولى.
وأما كون الضامن إذا استحق الرجوع يرجع بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين؛ فلأنه إذا كان الأقل ما قضاه (4) فإنه يرجع بما غرم. ولهذا لو أبرأه الغريم لم يرجع بشيء وإن كان الأقل الدين قد أدى ما لا يجب على المضمون عنه أداؤه فيكون متبرعاً.
فإن قيل: لو دفع عن الدين عرضاً بم يرجع؟
قيل: يرجع بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين لما ذكر.
قال: (وإن أنكر المضمون له القضاء وحلف لم يرجع الضامن على المضمون عنه سواء صدقه أو كذبه. وإن اعترف بالقضاء وأنكر المضمون عنه لم يسمع إنكاره).
أما كون الضامن لا يرجع على المضمون عنه إذا أنكر المضمون له القضاء وحلف؛ فلأن المضمون عنه ما أذن للضامن إلا في قضاء مبر ولم يوجد.
وأما كون الحكم كذلك سواء صدقه المضمون عنه أو الضامن أو كذبه؛ فلأن المانع من الرجوع تفريط الضامن من حيث: إنه قضى بغير بينة وذلك مشترك بين التصديق والتكذيب.
فإن قيل: لو كان القضاء ببينة؟
(1) في هـ: والحال الثانية أن يضمن بإذن ويقضي بغير إذن.
(2)
في و: ملتزم القضاء.
(3)
في هـ: الحال الثالثة أن يضمن بغير إذن ويقضي بإذن.
(4)
في و: قضى.
قيل: إن كانت بينته حاضرة عادلة فلا إشكال وإن كانت ميتة أو غائبة لم يرجع الضامن على المضمون عنه لإنكاره الوفاء الموجب للرجوع. ورجع عليه إن صدقه؛ لأنه معترف أنه ما قصر ولا فرط. وإن كانت البينة مردودة بأمر ظاهر كالكفر والفسق الظاهر لم يرجع عليه الضامن أيضاً صدقه أو كذبه للتفريط؛ لأن وجود هذه البينة كعدمها. وإن ردت بأمر خفي كالفسق الباطن أو لكون الشهادة مختلفاً فيها كشهادة العبيد ونحوها احتمل أن يرجع؛ لأنه قضاه ببينة شرعية والجرح والتعديل ليس إليه واحتمل أن لا يرجع؛ لأنه قضاء بمن لا يثبت الحق بشهادته.
وأما كون إنكار المضمون عنه إذا اعترف المضمون له بالقضاء لا يسمع؛ فلأن ما في ذمته حق للمضمون له فإذا اعترف بالقبض من الضامن فقد اعترف بأن الحق صار للضامن فيجب أن يقبل إقراره؛ لكونه إقرار في حق نفسه.
قال: (وإن قضى المؤجل قبل أجله لم يرجع حتى يحل. وإن مات المضمون عنه أو الضامن فهل يحل الدين عليه؟ على روايتين. وأيهما حل عليه لم يحل على الآخر).
أما كون الضامن لا يرجع بما قضاه قبل أجله؛ فلأنه متبرع بالتعجيل. فلم يرجع قبل الأجل؛ كما لو قضاه أكثر من الدين.
وأما كون الدين المؤجل يحل بموت المضمون عنه أو الضامن على روايةٍ؛ فلأن ذمة الميت تخرب بالموت. فلو لم يحل؛ لأدى إلى ضياع حقه مما له على الميت.
وأما كونه لا يحل على روايةٍ؛ فلأن التأجيل حق من حقوق الميت. فلم يبطل بموته؛ كسائر حقوقه.
ولأن موته لا يوجب حلول ماله فلا يجب حلول ما عليه.
وأما قول المصنف رحمه الله: وأيهما حل عليه لم يحل على الآخر فمعناه: أن المضمون عنه إذا مات وقلنا يحل عليه بالموت لم يحل على الضامن؛ لأن الإنسان لا يحل عليه دين بموت غيره بل يبقى الدين حالاً بالنسة إلى المضمون عنه مؤجلاً بالنسبة إلى الضامن، وذلك جائز؛ لما يذكر بعد إن شاء الله تعالى.
وكذا لو مات الضامن وقلنا: يحل بموته لا يحل على المضمون عنه؛ لما ذكر.
قال: (ويصح ضمان الحالّ مؤجلاً. وإن ضمن المؤجل حالاًّ لم يلزمه قبل أجله في أصح الوجهين).
أما كون ضمان الحال مؤجلاً يصح؛ فلما روى ابن عباس «أن رجلاً لزمَ غَريماً له بعشرة دنانير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ما عندي شيء أعطيكه. فقال: والله لا فارقتك حتى تَقضيَني أو تَأتيَني بِحَمِيلٍ. فجرّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له (1) النبي صلى الله عليه وسلم: كَم تَستنظِرُه؟ قال: شهراً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنا أحملُ. فجاءهُ في الوقتِ الذي قال النبي (2) صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين أصبتَ هذا؟ قال: من مَعدن. قال: لا خيرَ فيها. وقضاها عنه» (3).
ولأنه ضمن مالاً بعقد مؤجل. فكان مؤجلاً؛ كالبيع.
فإن قيل: الدين الحالّ لا يتأجل فكيف يتأجل على الضامن؟ أم كيف يثبت في ذمة الضامن على غير الوجه الذي يثبت في ذمة المضمون عنه؟
قيل: الحق (4) يتأجل في ابتداء ثبوته إذا كان ثبوته بعقد، وهذا ابتداء ثبوته في حق الضامن فإنه لم يكن ثابتاً عليه حالاً. ويجوز أن يخالف ما في ذمة المضمون عنه بدليل: ما لو مات المضمون عنه والدين مؤجل.
وأما كونه إذا ضمن المؤجل حالاً لا يلزمه قبل أجله في وجهٍ؛ فلأن الضامن فرع المضمون عنه، فلا يستحق مطالبته دون أصله.
ولأن المضمون عنه لو ألزم نفسه تعجيل ذلك لم يلزمه فلأن لا يلزم الضامن أولى.
(1) ساقط من هـ.
(2)
في هـ: للنبي.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (3328) 3: 243 كتاب البيوع، باب في استخراج المعادن.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2406) 2: 804 كتاب الصدقات، باب الكفالة.
(4)
ساقط من هـ.
ولأن الضمان التزام دين ثابت في الذمة، فلا يجوز أن يلزمه ما ليس بلازم للمضمون عنه.
وأما كونه يلزمه قبل أجله في وجهٍ؛ فلأن مقتضى صحة الضمان ذلك.
فصل في الكفالة
الكفالة بالبدن صحيحة بالكتاب والمعنى: أما الكتاب فقوله تعالى: {لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم} [يوسف: 66].
وأما المعنى؛ فلأن الحاجة داعية إلى الاستيثاق بضمان المال أو بالبدن وضمان المال يمتنع منه كثير من الناس فلو لم تجز الكفالة بالبدن لأدى إلى الحرج وعدم المعاملات المحتاج إليها.
قال المصنف رحمه الله: (وهي التزام إحضار المكفول به. وتصح ببدن من عليه دين وبالأعيان المضمونة).
أما قول المصنف رحمه الله: وهي التزام إحضار المكفول به؛ فبيان لمعنى الكفالة.
وأما كون الكفالة التزام إحضار المكفول به؛ فلأن الواقع عليه العقد هو الملتزم إحضاره والعقد في الكفالة واقع على بدن المكفول به فكان إحضاره هو الملتزم به كالضمان فإن العقد لما كان واقعاً على المال كان ذلك المال هو الملتزم به. فكذلك هاهنا.
وأما كون الكفالة ببدن من عليه دين تصح؛ فلأن الدين حق مال. فصحت الكفالة به؛ كالضمان.
وأما كونها بالأعيان المضمونة كالغصوب والعواري يصح؛ فلأن ضمانها صحيح. فكذلك الكفالة بها.
ولأن الكفالة بالأعيان أولى من الكفالة بالبدن؛ لأن الكفالة بالبدن ذريعة إلى حصول المقصود، والكفالة بالأعيان متعلقة بالمقصود، فإذا صحت فيما هو ذريعة إلى المقصود فلأن تصح بما هو المقصود بطريق الأولى.
قال: (ولا تصح ببدن من عليه حد أو قصاص، ولا بغير معين كأحد هذين).
أما كون الكفالة ببدن من عليه حد لا تصح فلما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا كفالة في حد» (1).
ولأن الكفالة استيثاق يلزم الكفيل ما على المكفول عند تعذر إحضاره والحدود مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهات فلا يدخل فيها الاستيثاق ولا يمكن استيفاؤها من غير الجاني.
وأما كونها ببدن من عليه قصاص لا تصح؛ فلأنه بمنزلة من عليه حد معنى فليكن بمنزلته حكماً.
وأما كونها بغير معين كأحد هذين لا يصح؛ فلأن المكفول به مجهول لا يعلم في الحال ولا في المآل بخلاف ضمان المجهول فإنه إن لم يمكن معرفته في الحال يمكن معرفته في المآل.
قال: (وإن كفل بجزء شائع من إنسان أو عضو، أو كفل بإنسان على أنه إن جاء به وإلا فهو كفيل بآخر أو ضامن ما عليه صح في أحد الوجهين).
أما كون الكفالة بجزء شائع من إنسان كثلثه أو ربعه يصح؛ فلأنه لا يمكنه إحضار ذلك إلا بإحضار الكل.
وأما كونها بعضو كيده أو رجله أو ما أشبههما يصح؛ فلأنه لا يمكنه إحضاره على صفته إلا بإحضار الكل.
وأما كونها إذا كفل بإنسان على أنه إن جاء به وإلا فهو كفيل بآخر أو ضامن ما عليه يصح؛ فلأن ذلك كفالة أو ضمان فصح تعليقه على شرط كضمان العهدة.
وأما قول المصنف رحمه الله: في أحد الوجهين فإشارة إلى الخلاف والخلاف في الصور الثلاث: أما الصحة فقد تقدم دليلها، وأما عدم الصحة: أما في الجزء الشائع والعضو؛ فلأن تسليم ذلك وحده متعذر والسراية ممتنعة، وأما في الصور الثلاثة؛ فلأنه تعليق عقد على آخر. فلم يصح؛ كالبيع المعلق على آخر.
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 77 كتاب الضمان، باب ما جاء في الكفالة ببدن من عليه حق.
وقال المصنف رحمه الله في المغني: قال القاضي: ولا تصح الكفالة ببعض البدن بحال؛ لأن ما لا يسري لا يصح إذا خص به عضو كالبيع والإجارة.
وظاهر قول القاضي: أنه لا تصح الكفالة بالجزء الشائع ولا بالعضو؛ لأنه قال: لا تصح ببعض البدن، وما ذكره من التعليل لا يدل على عدم الصحة في الجزء الشائع؛ لأن بيع ذلك وإجارته جائزة. ولم يفرّق المصنف رحمه الله في العضو بين كونه مما لا يبقى البدن بدونه؛ كالرأس والكبد، ولا بين كونه يبقى؛ كاليد والرجل.
وذكر في الكافي: إذا تكفل بوجهه صح، ولم يحك فيه خلافاً. وهو الظاهر الذي ينبغي حمل كلامه هاهنا عليه؛ لأن الوجه يكنى به عن الكل فصح كما لو تكفل ببدنه.
وحكى في الكافي أيضاً وجهاً ثالثاً في الفرق بين ما لا يبقى البدن بدونه؛ كالرأس، وبين ما يبقى؛ كاليد وشبهها.
قال: (ولا تصح إلا برضا الكفيل. وفي رضا المكفول به وجهان).
أما كون الكفالة لا تصح إلا برضا الكفيل؛ فلأنه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه.
وأما كونها لا تصح إلا برضا المكفول به في وجهٍ؛ فلأن مقصودها إحضاره فإذا تكفل بغير إذنه لم يلزمه الحضور معه.
وأما كونها تصح بدونه في وجهٍ؛ فبالقياس على الضمان.
والأولى أولى؛ لما ذكر. وبه يظهر الفرق بين الكفالة وبين الضمان؛ لأن مقتضى الكفالة إحضار المكفول به فإذا كان بغير إذنه لم يلزمه الحضور فلا يحصل مقصود الكفالة. والضمان تمكين الضامن أن يقضي الدين ولا يحتاج إلى المضمون عنه.
قال: (ومتى أحضر المكفول به وسلمه برئ إلا أن يحضره قبل الأجل وفي قبضه ضرر).
أما كون الكفيل إذا أحضر المكفول به وسلمه إلى المكفول له عند الأجل أو بعده يبرأ؛ فلأن المسلَم فيه لو أحضره المسلَم إليه عند الأجل أو بعده لزم قبوله فكذا هاهنا؛ لأنه في معناه.
وأما كونه إذا أحضره قبل الأجل وفي قبضه ضرر لا يبرأ؛ فلأن المسلَم فيه لو أحضره المسلَم إليه قبل وقته وفي قبضه ضرر لم يلزمه قبلوه فكذا هاهنا؛ لأنه في معناه أيضاً.
قال: (وإن مات المكفول به، أو تلفت العين بفعل الله تعالى، أو سلّم نفسه برئ الكفيل).
أما كون الكفيل يبرأ بموت المكفول به؛ فلأن الحضور سقط عن المكفول به. فبرئ كفيله؛ كما لو برئ من الدين.
ولأن (1) ما التزمه من أجله سقط عن الأصل فبرئ الفرع كالضامن إذا قضى المضمون عنه الدين.
وأما كونه يبرأ بتلف العين بفعل الله تعالى؛ فلأن تلف العين بمنزلة موت المكفول به.
وقيد المصنف رحمه الله التلف بكونه بفعل الله تعالى؛ لأنه لو كان بفعل آدمي وجب على المتلف بدلها.
قال: (وإن تعذر إحضاره مع بقائه لزم الكفيل الدين أو عوض العين. وإن غاب أمهل الكفيل بقدر ما يمضي فيحضره، فإن تعذر إحضاره ضمن ما عليه).
أما كون الكفيل يلزمه الدين أو عوض العين إذا تعذر إحضار المكفول به مع بقائه؛ فلعموم قوله عليه السلام: «الزعيم غارم» (2).
ولأن الكفالة بالبدن أحد نوعي الكفالة. فوجب الغرم بها؛ كالضمان.
وأما كونه يمهل بقدر ما يمضي فيحضر المكفول به إذا غاب؛ فلأنه لا يمكن إحضاره إلا بذلك.
وأما كونه يضمن ما عليه إذا تعذر إحضاره؛ فلما تقدم.
(1) في هـ: فلأن.
(2)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
قال: (وإذا طالب الكفيل المكفول به بالحضور معه لزمه ذلك إن كانت الكفالة بإذنه، أو طالبه صاحب الحق بإحضاره، وإلا فلا).
أما كون المكفول به يلزمه الحضور مع الكفيل إذا طالبه بذلك وكان قد كفله بإذنه؛ فلأنه شغل ذمته من أجله بإذنه. فكان عليه تخليصها؛ كما لو استعار عبده فرهنه بإذنه كان للسيد مطالبته بتخليصه.
وأما كونه يلزمه ذلك إذا طالبه صاحب الحق بإحضاره؛ فلأن طلبه منه توكيل له في إحضاره. فلزمه الحضور معه؛ كما لو صرح له بالوكالة.
وأما كونه لا يلزمه ذلك إذا كان قد كفله بغير إذنه ولم يطلبه منه صاحب الحق؛ فلأن المكفول لم يشغل ذمته. وإنما شغلها الكفيل باختياره مع أنه ليس بوكيل.
قال: (وإذا كفل اثنان برجل فسلمه أحدهما لم يبرأ الآخر. وإن كفل واحد لاثنين فأبرأه أحدهما لم يبرأ من الآخر).
أما كون أحد الكفيلين لا يبرأ بتسليم صاحبه المكفول به؛ فلأن إحدى الوثيقتين انحلت من غير استيفاء. فلم تنحل الأخرى؛ كما لو أبرأ أحدهما أو انفك أحد الرهنين من غير قضاء الحق. وفارق هذا ما إذا سلم المكفول به نفسه من حيث إنه أصل لهما فإذا برئ الأصل برئ فرعاه، وكل واحدٍ من الكفيلين ليس فرعاً للآخر فلم يبرأ ببراءته. وكذلك لو أبرأ المكفول به برئ كفيلاه، ولو أبرأ أحد الكفيلين برئ وحده دون صاحبه.
وأما كون الكفيل الواحد لاثنين لا يبرأ إذا أبرأه أحد المكفول لهما؛ فلأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين فإذاً يكون قد التزم إحضاره عند كل واحدٍ منهما، فإذا
أبرأه أحدهما برئ منه وبقي حق الآخر كما لو كان في عقدين، وكما لو ضمن ديناً لرجلين فوفى أحدهما حقه.