الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الربا والصرف
الربا في اللغة: الزيادة. قال الله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [فصلت: 39] أي زادت.
وقال تعالى: {أن تكون أمةٌ هيَ أربَى من أمة} [النحل: 92] أي أكثر عدداً.
وفي الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة.
وهو محرم بالكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {وحرم الربا} [البقرة: 275] وما بعدها من الآيات.
وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتَنِبُوا السبعَ الموبقاتِ. قيل: يا رسول الله! ما هنّ؟ قال: الشركُ باللهِ، والسحرُ، وقتلُ النفسِ التي حرمَ اللهُ إلا بالحقِ، وأكلُ الرّبا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، والتولّي يومَ الزحفِ، وقذفُ المحصناتِ الغافلاتِ المؤمنات» (1).
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه لعنَ آكلَ الرّبا، ومُوكِلَهُ، وشَاهدَيه، وكَاتِبَه» (2) متفق عليهما.
وأما الإجماع فأجمعت الأمة على تحريم الربا في الجملة.
والصرف: عبارة عن بيع الدراهم بالدنانير أو بالعكس. وله شروط ستذكر إن شاء الله تعالى.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2615) 3: 1017 كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى:{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً} .
وأخرجه مسلم في صحيحه (89) 1: 92 كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (5032) 5: 2045 كتاب الطلاق، باب مهر البغي والنكاح الفاسد. ولم يذكر:«وشاهديه وكاتبه» .
وأخرجه مسلم في صحيحه (1598) 3: 1219 كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا ومؤكله. واللفظ له.
قال المصنف رحمه الله: (وهو نوعان: ربا الفضل، وربا النسيئة: فأما ربا الفضل فيحرم في الجنس الواحد من كل مكيل أو موزون وإن كان يسيراً كتمرة بتمرتين وحبة بحبتين. وعنه: لا يحرم إلا في الجنس الواحد من الذهب والفضة وكل مطعوم. وعنه: لا يحرم إلا في ذلك إذا كان مكيلاً أو موزوناً)(1).
أما قول المصنف رحمه الله: وهو نوعان؛ فعائد إلى الربا.
وأما كونه نوعين؛ فلأن (2) منه ما يحرم فيه التفاضل ومنه ما يحرم فيه النسيئة.
وأما كون ربا الفضل يحرم؛ فلأنه ربا فيدخل فيما تقدم ذكره في أول الباب.
فإن قيل: فقد قال عليه السلام: «لا رِباً إلا في النَّسيئَة» (3) رواه البخاري.
قيل: الحديث يحمل على الجنسين بدليل ما تقدم من الأحاديث. ثم هو مرجوح بالنسبة إلى ما تقدم لأنه مجمل وما تقدم مفصل. ويؤيده ما روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهبُ بالذهبِ مِثلاً بمثل، والتمرُ بالتمرِ مِثلاً بمثل، والبُرّ بالبُرِّ مِثلاً بمثل، والمِلحُ بالملحِ مِثلاً بمثل، والشعيرُ بالشعيرِ مِثلاً بمثل فمن زَاد أو ازْدَادَ فقد أرْبَا» (4). [رواه مسلم](5).
وأما كون ربا الفضل يحرم في الجنس الواحد من كل مكيل أو موزون على المذهب؛ فلأن علة المكيل كونه مكيل جنس وعلة الموزون كونه موزون جنس لأن أنساً روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وما وزن مثلاً بمثل إذا كان نوعاً واحداً، وما كيل مثلاً بمثل إذا كان نوعاً واحداً» (6).
ولأن قضية البيع المساواة (7)، والمؤثر في تحقيقها الكيل أو الوزن مع الجنس؛ لأن الكيل أو الوزن يسوي بينهما صورة والجنس يسوي بينهما معنى فكانا علة.
(1) في هـ: موزناً.
(2)
في هـ: فلأنه.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (2069) 2: 762 كتاب البيوع، باب بيع الدينار بالدينار نساءً.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1596) 3: 1218 كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه (1587) 3: 1211 كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً.
(5)
زيادة من ج.
(6)
أخرجه الدارقطني في سننه (58) 3: 18 كتاب البيوع.
(7)
في هـ: المواساة.
ولأن الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في غيره بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة.
وأما كون ذلك يحرم وإن كان يسيراً كتمرة بتمرتين وحبة بحبتين كالكثير فلاشتراكهما في الزيادة الموجبة للتحريم.
وأما كون ذلك لا يحرم إلا في الجنس الواحد من الذهب والفضة وكل مطعوم على روايةٍ؛ فلأن العلة في الذهب والفضة الثمينة وفيما عداهما الطعم.
أما كون العلة في الذهب والفضة الثمينة؛ فلأن الثمينة وصف شريف إذ به قوام الأموال.
ولأن العلة لو كانت فيهما الوزن لما جاز إسلامهما في الموزونات لأن أحد وصفي علة ربا الفضل تكفي في تحريم النسيئة.
وأما كون العلة فيما عداهما الطعم فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل» (1) رواه مسلم.
ولأن الطعم وصف شريف إذ به قوام الأبدان.
وأما كون ذلك لا يحرم إلا في المطعوم إذا كان مكيلاً أو موزوناً؛ فلأن العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلاً أو موزوناً لأن الطعم وكل واحد من وصفي الكيل والوزن له أثر فيجب التعليل به.
والأولى هي الصحيحة في المذهب لما تقدم.
وروى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخاف عليكم الربا» (2) رواه الإمام أحمد.
ولأن الطُّعم لو كان علة لجرى الربا في الماء لكونه مطعوماً قال الله تعالى: {ومن لم يطعمه فإنه مني} [البقرة: 249]، ونهيه عليه السلام عن الطعام إلا مثلاً بمثل محمول على المطعوم المكيل أو الموزون، وكون الطعام وصفاً شريفاً ينافي تحريم البيع معه لأنه شرف من حيث تعلق الحاجة به وذاك يقتضي الإطلاق في التوصل إليه وشراءه بكل طريق ممكن ليحصل قوام البنية ويتمكن من العبادات.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1592) 3: 1214 كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (5885) 2: 109.
فعلى هذا كلما كيل أو وزن (1) يحرم التفاضل بينه وبين جنسه وإن لم يكن مطعوماً كالأشنان والنورة والقطن وما أشبه ذلك.
وعلى الرواية الثانية يحرم التفاضل في الذهب والفضة وفي كل مطعوم وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً كالسفرجل وما أشبه ذلك.
وعلى الرواية الثالثة يحرم التفاضل في المطعوم المكيل والموزون كالزبيب ولا يحرم في المطعوم غير المكيل والموزون كالسفرجل وما أشبهه، ولا في المكيل أو الموزون غير المطعوم كالحديد والأُشنان وما أشبههما.
قال: (ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزناً، ولا ما أصله الوزن كيلاً، فإن اختلف الجنس جاز بيع بعضه ببعض كيلاً ووزناً وجزافاً).
أما كون ما أصله الكيل لا يباع بشيء من جنسه وزناً؛ فلأن العبرة بالكيل في المكيل فلم يجز بيعه بغيره لما تقدم من اشتراط الكيل.
ولأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب وزناً بوزن، والفضة بالفضة وزناً بوزن، والبُر بالبُر كيلاً بكيل» (2). رواه الأثرم في حديث عبادة. ورواه أبو داود ولفظه: «البر بالبر مُدْيٌ بمُدْيٍ، والشعير بالشعير مديٌ بمديٍ، والملح بالملح مديٌ بمديٍ، فمن زاد أو ازداد فقد أربا» (3).
وأما كون ما أصله الوزن لا يباع بشيء من جنسه كيلاً؛ فلأن العبرة بالوزن في الموزون فلم يجز بيعه بالمكيل للمعنى المذكور في بيع ما أصله الكيل.
وأما كون البيع يجوز كيلاً ووزناً وجزافاً إذا اختلف الجنس؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم» (4).
(1) في هـ: ووزن.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 291 كتاب البيوع، باب اعتبار التماثل فيما كان موزوناً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
…
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (3349) 3: 248 كتاب البيوع، باب في الصرف.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه (1587) 3: 1211 كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً.
وأخرجه أبو داود في سننه (3350) 3: 248 كتاب البيوع، باب في الصرف. ولفظهما: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم
…
». من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
ولأنه يجوز التفاضل في ذلك وغاية ما يقدر في البيع المذكور حصول التفاضل وذلك جائز في الجنسين.
وقال المصنف في المغني: ذهب كثير من أصحابنا إلى تحريم ذلك.
قال ابن أبي موسى: لا خير فيما يكال بما يكال جزافاً، ولا فيما يوزن بما يوزن جزافاً اتفقت الأجناس أم اختلفت. ولا بأس ببيع المكيل بالموزون جزافاً. وقال ذلك القاضي والشريف أبو جعفر واحتج له بما روى أبو بكر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام مجازفة» ، وهذا طعام. والحديث الذي رواه مسلم فيما تقدم (1).
ولأنه بيع طعام بطعام أشبه الجنس الواحد.
والأول أصح لما تقدم من قوله: «فإذا اختلفت هذه الأصناف (2) فبيعوا كيف شئتم يداً بيد» (3).
ولأنه يجوز التفاضل فيه فجاز جزافاً من الطرفين كالمكيل بالموزون.
ولأن حقيقة التفاضل لا تمنع فإنه يجوز أن يبيع مد حنطة بأمداد شعير وشبههما فالجهل به أولى أن لا يكون مانعاً.
والحديث المذكور المراد به الجنس الواحد ولهذا جاء في بعض ألفاظه: «نَهى أن تُباعَ الصَبرة لا يعلمُ مَكيلُها من التمر» (4).
والظاهر أن الحديثين واحد، وإنما اختلفت ألفاظه. ثم هو مخصوص بالمكيل بالموزون فيقاس عليه محل النزاع.
(1) وهو قوله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل» . وقد سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(2)
في هـ: الأجناس.
(3)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه (1530) 3: 1162 كتاب البيوع، باب تحريم بيع صبرة التمر المجهولة القدر بتمر.
وأخرجه النسائي في سننه (4547) 7: 269 كتاب البيوع، بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر.
قال: (والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعاً كالذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، وفروع الأجناس أجناس كالأدقة والأخباز والأدهان).
أما قول المصنف رحمه الله: والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعاً؛ فبيان لمعنى الجنس لأنه لما تقدمت التفرقة بين الجنس والجنسين دعت الحاجة إلى تبيين الجنس.
والفرق بينه وبين النوع أن الجنس هو الشامل لأشياء كثيرة مختلفة بأنواعها، والنوع هو الشامل لأشياء كثيرة مختلفة بأشخاصها؛ فأنواع الذهب: المصري، والأتابكي، والصوري. وأنواع الفضة: الكاملي، والناصري، والظاهري. وأنواع البر: الحوراني، والسوادي، والغوطي، وما أشبه ذلك. وأنواع الشعير: المسدس، والرومي، ونحو ذلك. وأنواع الملح: التدمري، والجِثولي، وما أشبه ذلك.
وأما قول المصنف رحمه الله: كالذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح فتصريح بأشياء لكل واحد منها اسم خاص يشمل أنواعاً.
وأما كون فروع الأجناس أجناساً كدقيق القمح ودقيق الشعير وخبز القمح وخبز الشعير ودهن اللوز ودهن الجوز؛ فلأن الفروع تبع للأصل فلما كانت أصول هذه أجناساً وجب أن تكون هذه أجناساً إلحاقاً للفروع بأصولها.
قال: (واللحم أجناس باختلاف أصوله. وعنه: جنس واحد، وكذلك اللبن. وعنه: في اللحم أنه أربعة أجناس: لحم الأنعام، ولحم الوحش، ولحم الطير، ولحم دواب الماء. واللحم والشحم والكبد أجناس).
أما كون اللحم أجناساً باختلاف أصوله على المذهب؛ فلأنه إذا اختلف أصله فروعُ أصول هي أجناس فكانت أجناساً كالأدقة والأخباز.
وأما كونه جنساً واحداً على روايةٍ؛ فلأنه اسم تحته أنواع فكان جنساً واحداً كالطلع.
وأما كونه أربعة أجناس كما ذكر المصنف على روايةٍ؛ فلأن الحيوانات المذكورة تختلف في المنفعة والقصد والأكل فكانت أجناساً. وصحح القاضي هذه الرواية قاله المصنف في المغني. ونصر ابن عقيل الأول.
وقال المصنف رحمه الله في المغني: وهو الأشبه بالأصول فإن كثيراً من المشتركات في (1) الأسماء مختلفة الأجناس لاختلاف أصولها كما تقدم.
فعلى هذا لحم الإبل جنس بخاتيها وعِرَابها. والبقر جنس عِرَابها وجواميسها. والغنم جنس ضأنها، ومعزها. والوحش أجناس بقرها جنس وغنمها جنس وظباؤها جنس. وكل ما له اسم يخصه تحته أنواع جنس والطير أجناس.
وأما كون اللبن فيه روايتان:
إحداهما: أنه يختلف كأصوله.
والثانية: أنه جنس واحد فلما ذكر في اللحم.
وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه لا تجري الرواية الثالثة في اللحم في اللبن لأنه عطفه على الروايتين في اللحم ثم خصص اللحم رواية ثالثة.
وقال في الكافي بعد ذكره الروايات الثلاث في اللحم: وفي الألبان من القول مثل ما في اللحم لأنها من الحيوانات يتفق اسمها أشبهت اللحم.
وظاهر هذا أن في اللبن الروايات الثلاث وهو أظهر لاتحادهما في المعنى.
وأما كون اللحم والشحم والكبد أجناساً؛ فلأنها مختلفة في الاسم والخلقة فكانت أجناساً كالإبل والبقر والغنم.
قال: (ولا يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه، وفي بيعه بغير جنسه وجهان).
أما كون بيع لحمٍ بحيوان من جنسه كلحم إبل بإبل وغنم بغنم وما أشبههما لا يجوز فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نَهى عن بيعِ اللحمِ بالحيوان» (2).
وروي عنه أنه عليه السلام: «نهى أن يباع حي بميت» (3).
ولأنه نوع فيه الربا بِيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز كبيع السمسم بالشيرج.
(1) ساقط من هـ.
(2)
أخرجه مالك في الموطأ (64) 2: 507 كتاب البيوع، باب بيع الحيوان باللحم. قال ابن عبدالبر: لا أعلمه يتصل من وجه ثابت.
(3)
أخرجه الشافعي في البيوع، باب فيما نهي عنه من البيوع وأحكام أخر 2: 145/ 484.
وأما كون بيع لحم بحيوان من غير جنسه كلحم إبل بغنم ولحم غنم ببقر لا يجوز في وجهٍ فلعموم ما تقدم.
وروي عن ابن عباس «أن جزوراً نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه (1) فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني جزءاً بهذا العناق. فقال: لا يصلح هذا» .
وهل يشترط في غير الجنس كونه مأكولاً؟ فيه وجهان:
أحدهما: يشترط. ذكره أبو الخطاب في رؤوس المسائل.
والثاني: لا يشترط. فلا يجوز بيع لحم غنم وشبهه بحمار ونحو ذلك لدخوله في عموم ما تقدم.
وصحح صاحب النهاية فيها الأول وعلله بأن المنع إنما كان لأجل الربا فإذا لم يكن مأكولاً لم توجد العلة فوجب أن يزول الحكم لزوال علته. وجعله المصنف في المغني ظاهر قول أصحابنا.
وأما كون بيع لحم بحيوان من غير جنسه يجوز في وجهٍ؛ فلأن النهي عن بيع اللحم بالحيوان إنما كان لاشتمال الحيوان على جنس اللحم؛ لأن ذلك يؤدي إلى الربا فإذا لم يكن من جنسه وجب الجواز لزوال العلة المقتضية للتحريم.
وقيل: هذان الوجهان مبنيان على كون جميع اللحم جنساً أو أجناساً. فإن قيل: جميعها جنس واحد لم يجز بيع اللحم بالحيوان مطلقاً، وإن قيل: أجناس جاز لأن التفاضل مع اختلاف الجنس لا يضر.
قال: (ولا يجوز بيع حب بدقيقه ولا سويقه في أصح (2) الروايتين).
أما كون بيع حب بدقيقه أو سويقه لا يجوز في روايةٍ؛ فلأن كل واحد مكيل ويشترط في بيع المكيل بجنسه التساوي وهو متعذر هنا لأن أجزاء الحب تنتشر بالطحن.
وأما كونه يجوز في روايةٍ؛ فلأن الدقيق نفس الحب وإنما تكسرت أجزاؤه فجاز بيع البعض بالبعض كالحب المكسر بالصَّحاح.
(1) في هـ: عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
ساقط من هـ.
فعلى هذا تعتبر المساواة بالوزن لأن الكيل لا يحصل به التساوي لما ذكر.
وأما كون الأصح أنه لا يجوز فلما تقدم.
ولأن التساوي بالكيل متعذر بخلاف المكسر بالصحاح فإن الكيل غير متعذر.
واعتبار الوزن فيما هو مكيل لا يصح لما تقدم في بيع المكيل وزناً وبعكسه.
قال: (ولا يجوز بيع نيئه بمطبوخه، ولا أصله بعصيره، ولا خالصه بمشوبه، ولا رَطْبه بيابسه).
أما كون بيع نيء الشيء بمطبوخه كالحنطة بالهريسة أو بالحريرة أو بالنشاء أو ما أشبه ذلك لا يجوز؛ فلأن النار تعقد أجزاء المطبوخ وتنفخها فلا يحصل التساوي.
وأما كون بيع أصله بعصيره كالسمسم بالشيرج والزيتون بالزيت وما أشبه ذلك لا يجوز؛ فلأنه مال ربا بيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز كبيع اللحم بالحيوان.
وأما كون بيع خالصه بمشوبه لا يجوز كلبن لا ماء فيه بلبن مخلوط بماء لا يجوز فلانتفاء التساوي المشترط.
وأما كون بيع رَطْبه بيابسه كبيع الرطب بالتمر فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر. فقال: أينقص الرطب (1) إذا يبس؟ فقالوا: نعم. فقال: لا إذاً» (2). علل بالنقصان إذا يبس وهو موجود في كل رطب بِيع بيابسه.
قال: (ويجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة، ومطبوخه بمطبوخه، وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف، وعصيره بعصيره، ورطبه برطبه).
أما كون بيع جميع ذلك بما ذكر يجوز؛ فلأنه متساو في الحال على وجهٍ لا ينفرد أحدهما بالنقصان في ثاني الحال فوجب أن يجوز كبيع التمر بالتمر.
(1) ساقط من هـ.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (3359) 3: 251 كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1225) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة.
وأخرجه النسائي في سننه (4546) 7: 269 كتاب البيوع، اشتراء التمر بالرطب.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2264) 2: 761 كتاب التجارات، باب بيع الرطب بالتمر.
وأخرجه مالك في الموطأ (22) 2: 485 كتاب البيوع، باب ما يكره من بيع التمر.
وأما قول المصنف رحمه الله: في الدقيق إذا استويا في النعومة فتنبيه على اشتراط التساوي في النعومة؛ لأن الكيل يسع من الخشن أكثر من الناعم لتفرق أجزاء الناعم فلا يحصل التساوي المشترط.
وأما قوله في المطبوخ والخبز إذا استويا في النشاف فتنبيه على اشتراط التساوي في النشاف لأن أحدهما إذا كان أكثر رطوبة من الآخر (1) لا يحصل التساوي المشترط.
قال: (ولا يجوز بيع المحاقلة. وهو: بيع الحب في سنبله بجنسه، وفي بيعه بغير جنسه وجهان، ولا المزابنة. وهو: بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، إلا في العرايا. وهي: بيع الرطب في رؤوس النخل خرصاً بمثله من التمر كيلاً فيما دون خمسة أوسق لمن به حاجة إلى أكل الرطب ولا ثمن معه ويعطيه من التمر مثل ما يؤول إليه ما في النخل عند الجفاف. وعنه: يعطيه مثل رطبه، ولا يجوز في سائر الثمار في أحد الوجهين).
أما كون بيع المحاقلة لا يجوز فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعِ المحاقَلَة» (2). والنهي يقتضي التحريم والفساد.
ولأن الحب إذا بيع بجنسه لا يعلم مقداره بالكيل، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.
وأما قول المصنف رحمه الله: وهو بيع الحب في سنبله بجنسه فتفسير لبيع المحاقلة.
قال أبو عبيد: المحاقلة بيع الزرع في سنبله بالبر.
وأما كون بيع الحب في سنبله بغير جنسه لا يجوز في وجهٍ؛ فلأن بيع زرع الحنطة بحنطة إنما سمي محاقلة لأنه في الحقل وهذا المعنى موجود في غيره مما ذكرنا فيجب أن يدخل فيه.
قال الأزهري: والحقل القراح المزروع.
(1) في هـ: الإجزاء.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (2093) 2: 768 كتاب البيوع، باب بيع المخاضرة.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1536) 3: 1174 كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة
…
وأما كونه يجوز في وجهٍ؛ فلأن تفسير أبي عبيد الحديث يدل على ذلك لأنه قال: المحاقلة بيع الزرع في سنبله بالبر.
ولأن النهي لخوف التفاضل المحرم وهو منتف في الجنسين.
وأما كون بيع المزابنة إذا لم يكن عرايا [لا يجوز](1)؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة» (2)، والنهي يقتضي التحريم والفساد. ترك العمل به في العرايا لما يأتي فيبقى فيما عداه على مقتضاه.
وأما قول المصنف رحمه الله: وهو بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر؛ فتفسير لبيع المزابنة المحرم. وفي الحديث أن ابن عمر قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المُزابَنَةِ. والمزابنةُ بيعُ ثمرِ النخلِ بالتمرِ كيلاً» (3) رواه مسلم.
وأما كون بيع العرايا يجوز فلما روى أبو هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّص في العرية في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق» (4) متفق عليه.
وأما ما يشترط لجواز بيع العرايا فأمور:
أحدها: أن يكون الرطب على رؤوس النخل فلو كان على وجه الأرض لم يجز لأن الرخصة وردت في بيعه على رؤوس النخل ليؤخذ شيئاً فشيئاً.
وثانيها: أن يكون البيع بخرصها من التمر لا أقل ولا أكثر «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم أن يبتاعوا العرية بخرصها من التمر» (5) متفق عليه.
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2)
سيأتي تخريجه في الحديث الآتي.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (2073) 2: 763 كتاب البيوع، باب بيع المزابنة
…
وأخرجه مسلم في صحيحه (1542) 3: 1171 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (2078) 2: 764 كتاب البيوع، باب بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب والفضة.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1541) 3: 1171 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه (2253) 2: 839 كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1540) 3: 1170 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا.
وفي معنى الخرص روايتان:
إحداهما: ينظر كم يجيء منها تمر فيبيعها بمثله لأنه يخرص في الزكاة كذلك.
والثانية: يبيعها بمثل ما فيها من الرطب لأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال بالكيل فإذا خولف الدليل في أحدهما وأمكن أن لا يخالف في الآخر وجب.
وثالثها: كون التمر معلوماً بالكيل لأن في بعض الألفاظ: «رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلاً» (1) متفق عليه.
ولأن الأصل الكيل من الطرفين سقط في أحدهما للتعذر فيجب في الآخر بقضية الأصل.
ولأن مع ترك الكيل من الطرفين يكثر الغرر فإذا وجد أحدهما كان الغرر أقل.
ورابعها: كون المبيع دون خمسة أوسق لما يأتي.
وعن الإمام أحمد يجوز في الخمسة؛ لأن الرخصة ثبتت في العرية ثم نهي عما زاد على الخمسة، وشك الراوي في الخمسة في قوله:«رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرية في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق» (2) فردت إلى أصل الرخصة.
والأول المذهب لأن الأصل تحريم الرطب بالتمر خولف فيما دون الخمسة بالخبر والخمسة مشكوك فيها فترد إلى الأصل.
وخامسها: أن يكون بالمشتري حاجة إلى أكل الرطب «لأن زيد بن ثابت حين سأله محمود بن لبيد: ما عراياكم هذه؟ سمى رجالاً محتاجين من الأنصار شَكَوا إلى
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2080) 2: 764 كتاب البيوع، باب تفسير العرايا.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1539) 3: 1169 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا.
(2)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطباً يأكلونه وعندهم فضول من التمر فرخص لهم أن يتبايعوا العرايا بخرصها من التمر يأكلونه رطباً» (1) متفق عليه.
ومتى خولف الأصل بشرط لم تجز مخالفته بدون ذلك الشرط.
ولأن ما أبيح للحاجة لم يبح مع عدمها كالزكاة للمساكين والرخص في السفر.
وسادسها: أن لا يكون معه ثمن غير التمر لقوله في الحديث: «ولا نقد بأيديهم» .
وسابعها: أن يقبض البائع الثمن والمشتري الرطب قبل تفرقهما لأنه بيع تمر بتمر فاعتبرت فيه أحكامه. وقبض التمر بالكيل، والرطب بالتخلية؛ لأن الكيل ممكن في التمر دون الرطب.
وأما كون مثل ما ذكر لا يجوز في سائر الثمار لا يجوز في وجهٍ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المُزَابنةِ، الثمرِ بالتمرِ، إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم. وعن بيع العنب بالزبيب و [عن] كل ثمر بخرصه» (2) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن.
وأما كونه يجوز في وجهٍ وهو للقاضي؛ فلأن حاجة الناس إلى رطب هذه الثمار كحاجتهم إلى الرطب فجاز قياساً على النخل.
والأول أصح؛ لما ذكر.
وعن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه أرخص في بيع العرايا بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك» (3).
ولأن الرخصة وردت في تمر النخيل وغيره لا يساويه في كثرة الاقتيات به وسهولة خرصه فيختص الحكم به.
(1) أخرجه الشافعي في اختلاف الحديث (ر. فتح الباري 4: 459 طبعة الريان). وقول المصنف: متفق عليه وهم.
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه (1303) 3: 596 كتاب البيوع، باب منه. وما بين المعكوفين زيادة من الجامع.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (2072) 2: 763 كتاب البيوع، باب بيع المزابنة وهي بيع الثمر بالتمر
…
وأخرجه مسلم في صحيحه (1539) 3: 1168 كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا.
قال: (ولا يجوز بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض، ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما كمد عجوة ودرهم بمدين أو بدرهمين أو بمد ودرهم. وعنه: يجوز بشرط: أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه).
أما كون ما ذكر لا يجوز على المذهب ويسمى مسألة مُدّ عجوة؛ فلأنه مفض إلى (1) الربا وسيبين إن شاء الله تعالى.
وأما كونه يجوز بشرط كون المفرد أكثر من الذي معه غيره كمدين بمد ودرهم، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه كمد ودرهم بمد ودرهم على روايةٍ؛ فلأن الزائد في مقابلة غير الجنس.
قال المصنف في الكافي: الأول المذهب لما روى فضالة بن عبيد قال: «أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادةٍ فيها ذهب وخَرَزُ ابتاعها [رجل] بتسعةِ دنانير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حتى تميز بينهما» (2) رواه أبو داود.
ولأن الصفقة إذا جمعت (3) شيئين مختلفي القيمة انقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما. بدليل ما لو اشترى شقصاً وسيفاً فإن الشفيع يأخذ الشقص بقسطه من الثمن. فإذا قسم الثمن على القيمة أدى إلى الربا لأنه إذا باع درهماً ومداً قيمته درهمان بمدين قيمتهما ثلاثة حصل في مقابلة الجيد مد وثلث.
قال: (وإن باع نوعي جنس بنوع واحد منه كدينار قراضة وصحيح بصحيحين جاز. أومأ إليه أحمد وذكره أبو بكر، وعند القاضي هي كالتي قبلها).
أما كون البيع في هذه المسألة يجوز على ما أومأ إليه الإمام أحمد؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب مثلاً بمثل» (4)، والمماثلة المعتبرة المساواة في الوزن. والجودة
(1) ساقط من هـ.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (3351) 3: 249 كتاب البيوع، باب في حلية السيف تباع بالدراهم. وما بين المعكوفين من السنن. وأصله عند مسلم مختصراً (1591) 3: 1213 كتاب المساقاة، باب بيع القلادة فيها خرز وذهب.
(3)
في هـ: أجمعت.
(4)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
ساقطة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «جيدها ورديئها سواء» . واختلاف القيمة ينبني على الجودة والرداءة.
ولأنه باع ذهباً بذهب متساوياً في الوزن فصح كما لو اتفق النوع.
وأما كونها كالتي قبلها فهي كمسألة مد عجوة عند القاضي؛ فلأن الثمن ينقسم على عوضه على حسب اختلافه في قيمته فكان الحكم هنا كما سبق.
والأول أصح لما سبق. والثمن إنما ينقسم على المعوض فيما يشتمل على جنسين أو في غير الربويات بدليل ما لو باع نوعاً بنوع يشتمل على جيد ورديء.
قال: (ولا يجوز بيع تمر منزوع النوى بما نواه فيه. وفي بيع النوى بتمر فيه النوى، واللبن بشاة ذات لبن، والصوف بنعجة عليها صوف روايتان).
أما كون بيع تمر منزوع النوى أي لا نوى فيه بتمر فيه نوى لا يجوز؛ فلأنه يقع النوى فضلة فلا يحصل التساوي.
وأما بيع النوى بتمر فيه نوى يجوز في روايةٍ؛ فلأن النوى في التمر غير مقصود ولهذا جاز بيع التمر بالتمر.
وأما كونه لا يجوز في روايةٍ؛ فلأن النوى مكيل فإذا باع كيلين نوى بكيل تمر فيه نوى لم يجز لأن التفاضل موجود.
ولأنه إذا باع نوى وتمراً بنوى فقد باع جنساً فيه الربا ومعه غيره وقد تقدم فساده.
وأما كون بيع اللبن بشاة ذات لبن، وبيع الصوف بنعجة لها صوف فيه الروايتان فلما ذكر في بيع النوى بتمر فيه نوى.
قال: (والمَرجع في الكيل والوزن إلى عرف أهل الحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وما لا عرف له به ففيه وجهان أحدهما: يعتبر عرفه في موضعه. والآخر: يرد إلى أقرب الأشياء شبهاً به بالحجاز).
أما كون المَرجع في الكيل والوزن إلى عرف أهل الحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إن كان له عرف؛ فلقوله عليه السلام: «المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة» (1)، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يُحمل قوله على تبيين الأحكام.
ولأن ما كان مكيلاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف التحريم بتفاضل الكيل إليه فلا يجوز أن يتغير، وهكذا الوزن.
وأما كون ما لا عرف له بالحجاز يعتبر عرفه في بلده في وجهٍ؛ فلأن المرجع في القبض والحِرْز والتفرق إلى العرف فكذا هنا.
وأما كونه يرد إلى أقرب الأشياء شبهاً به بالحجاز في وجهٍ؛ فلأن الحوادث تُرَدّ إلى الأشبه بالمنصوص عليه فكذا هاهنا.
قال المصنف في المغني: هو القياس.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3340) 3: 246 كتاب البيوع، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«المكيال مكيال المدينة» .
وأخرجه النسائي في سننه (2520) 5: 54 كتاب الزكاة، كم الصاع.
فصل [في ربا النسيئة]
قال المصنف رحمه الله: (وأما ربا النسيئة: فكل شيئين ليس أحدهما ثمناً، علة ربا الفضل فيهما واحدة؛ كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون لا يجوز النسأ فيهما. وإن تفرقا قبل التقابض بطل العقد).
أما كون ربا النسيئة لا يجوز؛ فلأنه ربا فيدخل في الأدلة المذكورة أول الباب، وفي حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق (1) إلا مثلاً بمثل ولا تبيعوا منها غائباً بناجز» (2).
وأما كون كل شيئين ليس أحدهما ثمناً، علة ربا الفضل فيهما واحدة لا يجوز النسأ فيهما؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد» (3).
وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء» (4) متفق عليه.
وإنما اشترط كون أحدهما ليس ثمناً في كون النسأ لا يجوز لأن أحد العوضين إذا كان من الأثمان والآخر من غيرها جاز النسأ بغير خلاف لأن الشرع رخص في السلم والأصل في رأس ماله الدراهم والدنانير فلو لم يجز النسأ لانسد باب السلم في الموزون.
(1) في ج: لا تبيعوا الذهب بالورق ولا الورق بالذهب.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (2068) 2: 761 كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1584) 3: 1208 كتاب المساقاة، باب الربا.
(3)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (2027) 2: 750 كتاب البيوع، باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1586) 3: 1209 كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً.
وإنما اشترط علة ربا الفضل واحدة؛ لأنها إذا اختلفت كالمكيل بالموزون أو اتفقت كالثياب بالثياب يكون في جواز النسأ خلاف يأتي ذكره بعد إن شاء الله تعالى.
وأما قول المصنف رحمه الله: كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون فإشارة إلى ما فيه علة ربا الفضل على الصحيح من المذهب.
ومن جَعَل العلة الثُّمنية والطعم ينبغي أن يمثل بالمطعوم ولا حاجة له إلى قوله: ولم يكن أحدهما ثمناً؛ لأن الثمينة لا تتعدى إلى غير الذهب والفضة، ومن جعلها الوزن والطعم أو الكيل والطعم ينبغي أن يمثل بالتمر وما أشبهه.
وأما كون العقد يبطل إذا تفرقا قبل التقابض؛ فلأن ما اشترط قبضه في المجلس يبطل العقد بالتفرق قبله كالصرف.
قال: (وإن باع مكيلاً بموزون جاز التفرق قبل القبض، وفي النسأ روايتان).
أما كون التفرق قبل القبض فيما ذكر يجوز؛ فلأنه لو لم يجز لكان القبض شرطاً في جميع ما يحرم في النسأ وليس كذلك لأنه لو كان كذلك لما بقي ربا نسيئة لأن العقد يفسد بعدم التقابض، والإجماع منعقد على أن من أنواع الربا ربا النسيئة.
وأما كون النسأ فيه لا يجوز في روايةٍ؛ فلأنهما مالان من أموال الربا ليس أحدهما ثمناً فلم يجز النسأ فيهما كالمكيل بالمكيل.
وأما كونه يجوز فيه في روايةٍ؛ فلأنه لم يوجد فيه أحد وصفي علة الربا. فجاز النسأ فيه؛ كالثياب بالحيوان.
قال: (وما لا يدخله ربا الفضل كالثياب والحيوان يجوز النسأ فيهما. وعنه: لا يجوز. وعنه: لا يجوز في الجنس الواحد كالحيوان بالحيوان، ويجوز في الجنسين كالثياب بالحيوان).
أما كون ما لا يدخله ربا الفضل كالثياب والحيوان وما أشبه ذلك مما ليس فيه ربا الفضل المتقدم ذكرها يجوز النسأ فيه على المذهب؛ فلما روى عبدالله بن عمرو قال:
«أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أستسلف إبلاً فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى مجيء المصدق» (1). [رواه أبو داود](2). وإذا جاز في الجنس الواحد ففي الجنسين أولى.
وأما كونه لا يجوز فيهما على روايةٍ؛ فلأنه بيع عرض بعرض فلم يجز النسأ فيهما كالعرض الذي يجري فيه ربا الفضل.
وأما كونه لا يجوز في الجنس ويجوز في الجنسين على روايةٍ؛ فلأن سمرة روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعِ الحيوانِ بالحيوانِ نَسِيئة» (3) قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وذلك يدل على عدم جواز النسأ في الجنس الواحد بمنطوقه وعلى جوازه في الجنسين بمفهومه.
وحكى المصنف رحمه الله في الكافي رواية رابعة هي: أن ذلك جائز مع التساوي، غير جائز مع التفاضل في الجنس الواحد؛ لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الحيوانُ اثنين بواحدٍ لا يصلحُ نسيئاً ولا بأسَ به يداً بيد» (4) قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وعن ابن عمر «أن رجلاً قال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل؟ فقال: لا بأس إذا كان يداً بيد» (5) رواه الإمام أحمد في المسند.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3357) 3: 250 كتاب البيوع، باب في الرخصة في ذلك. ولفظه:«عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً فنفذت الإبل فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة» .
(2)
زيادة من ج.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (3356) 3: 250 كتاب البيوع، باب في الحيوان بالحيوان نسيئة.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1237) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
وأخرجه النسائي في سننه (4620) 7: 292 كتاب البيوع، بيع الحيوإن بالحيوان نسيئة.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2270) 2: 763 كتاب التجارات، باب الحيوان بالحيوان نسيئة.
وأخرجه أحمد في مسنده (20237) 5: 21.
(4)
أخرجه الترمذي في جامعه (1238) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2271) 2: 763 كتاب التجارات، باب الحيوان بالحيوان نسيئة.
(5)
أخرجه أحمد في مسنده (5885) 2: 109.
قال: (ولا يجوز بيع الكالئ بالكالئ وهو بيع الدين بالدين).
أما كون بيع الكالئ بالكالئ لا يجوز فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» (1).
ولأن في ذلك غرراً لأنه ربما وقع ممن الدين في ذمته جحود، أو منع، أو ظهر مفلساً فلا يقدر على تسليمه.
وأما قول المصنف رحمه الله: وهو بيع الدين بالدين فتفسير لبيع الكالئ بالكالئ.
قال أبو عبيد بعد ذكر بيع الكالئ بالكالئ: هو النسيئة بالنسيئة.
(1) أخرجه الدارقطني في سننه (269) 3: 71 كتاب البيوع.
فصل [في الصرف]
قال المصنف رحمه الله: (ومتى افترق المتصارفان قبل التقابض أو افترقا عن مجلس السَّلم قبل قبض رأس ماله بطل العقد، وإن قبض البعض ثم افترقا بطل في الجميع في أحد الوجهين، وفي الآخر يبطل فيما لم يقبض).
أما كون العقد يطبل إذا افترق المتصارفان قبل التقابض؛ فلأن القبض في المجلس شرط في صحته بغير خلاف. والأصل فيه قوله عليه السلام: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» (1) وقوله: «بيعوا الذهب بالورق» (2) و «نهى أن يباع غائب منها بناجز» (3).
ولأن الصرف إنما سمي صرفاً لانصراف كل واحد منهما عن صاحبه فإذا لم يحصل التقابض فقد ذهب معنى الصرف.
وأما كونه يبطل إذا افترقا عن مجلس السَّلَم قبل قبض رأس ماله؛ فلأن قبض رأس ماله في المجلس لما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى (4).
وأما كونه يبطل فيما لم يقبض إذا افترقا قبل قبض البعض فلفوات القبض المشترط.
وأما كونه يبطل الباقي ففيه وجهان مبنيان على تفريق الصفقة.
(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه (1240) 3: 541 كتاب البيوع، باب: ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلا بمثل
…
بلفظ: «
…
بيعوا الذهب بالفضة
…
».
(3)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(4)
ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
قال: (وإن تقابضا ثم افترقا فوجد أحدهما ما قبضه رديئاً فرده بطل العقد في إحدى الروايتين، والأخرى إن قبض عوضه في مجلس الرد لم يبطل، وإن رد بعضه وقلنا يبطل في المردود فهل يبطل في غيره؟ على وجهين).
أما كون العقد يبطل إذا تصارفا في الذمة وتقابضا ثم افترقا فوجد أحدهما ما قبضه رديئاً فرده في إحدى الروايتين؛ فلأن قبض مال الصرف شرط لما تقدم وقد تبين أنه غير مقبوض.
وأما (1) كونه لا يبطل إذا قبض البدل في مجلس الرد في الرواية الأخرى؛ فلأن قبض البدل في مجلس الرد يقوم مقام قبضه في مجلس البيع فوجب كونه مثله.
وقول المصنف رحمه الله: فوجد ما قبضه رديئاً يشمل ما إذا كان من جنس المعقود عليه كالسواد في الفضة والوضوح في الذهب، وما إذا كان العيب من غير جنسه مثل أن يظهر نحاساً أو رصاصاً. واشترط في المغني كون العيب من الجنس فيجب حمل لفظه هنا على ذلك إذا قلنا: قبض البدل يقوم مقام قبضه في مجلس الرد، وإذا قلنا: لا يقوم لا حاجة إلى التفصيل؛ لأن البطلان مشترك بين العينين.
وأما كونه يبطل في غير المردود إذا رد البعض لكونه رديئاً، وقيل (2) يبطل في المردود ففيه وجهان مبنيان على تفريق الصفقة.
قال: (والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد في أظهر الروايتين فلا يجوز إبدالها. وإن وجدها معيبة خُيّر بين الإمساك والفسخ، ويتخرج أن يمسك ويطالب بالأرش. وإن خرجت مغصوبة بطل العقد، والأخرى لا تتعين فلا يثبت فيها ذلك).
أما كون الدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد مثل أن يقول: بعتك هذا الدينار بهذه الدراهم في أظهر الروايتين؛ فلأن ذلك عوض مشار إليه في العقد فوجب أن يتعين كسائر الأعواض.
ولأنه أحد العوضين فتعين بالتعيين كالآخر.
(1) في هـ: أما.
(2)
في هـ: قيل.
فعلى هذا لا يجوز إبدالها لأن العقد واقع على عينها فإذا أخذ غير ذلك أخذ ما لم يشتره.
وإن وجدها معيبة خُيّر بين الإمساك والفسخ كما إذا وجد المبيع معيباً، ولا أرش له مع الإمساك إن كان العقد وقع على مثله كالدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير لأن أخذ الأرش مفض إلى التفاضل المحرم. وخرّج القاضي وجهاً في جواز أخذه في المجلس وعلله بأن الزيادة طرأت بعد العقد.
قال المصنف في المغني: ليس لهذا الوجه وجه.
وإن وقع العقد على غير مثله كالدراهم والدنانير فله أخذ الأرش في المجلس (1). ذكره المصنف في المغني ولم يحك فيه خلافاً وعلله بأن أكثر ما فيه حصول زيادة من أحد الطرفين ولا يُمنع ذلك في الجنسين. ثم قال: ولذلك أجزنا أخذ الأرش في المبيع. ثم قال: وإن كان بعد التفرق لم يجز لأنه يفضي إلى حصول التفرق قبل قبض أحد العوضين.
فعلى هذا يجب حمل كلام المصنف هنا على ما إذا كان العقد مشتملاً على الدراهم والدنانير من الطرفين ليطابق ما ذكره في المغني.
وإن خرجت مغصوبة بطل العقد كما لو خرج المبيع مغصوباً.
وأما كونها لا تتعين في روايةٍ؛ فلأنه يجوز إطلاق ذلك في العقد فلا تتعين كالمكاييل والصنج.
فعلى هذا يجوز إبدالها لأن المقصود يحصل بذلك، وإن وجدها معيبة لم يخير بين الإمساك والفسخ بل له المطالبة بما لا عيب فيه لأن حقه لم يتعين فيها أشبه ما لو كان الصرف في الذمة، وإن خرجت مغصوبة لم يبطل العقد وله المطالبة بالبدل لما ذكر قبل.
(1) في هـ: الجنس.
قال: (ويحرم الربا بين المسلم والحربي وبين المسلمين في دار الحرب كما يحرم بين المسلمين في دار الإسلام).
أما كون الربا (1) يحرم بين المسلم والحربي؛ فلأن الربا إنما حرم لعلة التفاضل المنهي عنه شرعاً وذلك موجود بين المسلم والحربي كما هو بين المسلم والمسلم.
وأما كونه يحرم بين المسلمين في دار الحرب فلعموم قوله سبحانه: {وحرم الربا} [البقرة: 275]، وقوله:{الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} [البقرة: 275]، وقوله عليه السلام:«من زاد أو ازداد فقد أربا» (2).
(1) ساقط من هـ.
(2)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..