المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الجهاد الجِهاد في اللغة: بذل الطاقة والوسع. وفي الشرع: قتال الكفار. قال - الممتع في شرح المقنع - ت ابن دهيش ط ٣ - جـ ٢

[ابن المنجى، أبو البركات]

الفصل: ‌ ‌كتاب الجهاد الجِهاد في اللغة: بذل الطاقة والوسع. وفي الشرع: قتال الكفار. قال

‌كتاب الجهاد

الجِهاد في اللغة: بذل الطاقة والوسع.

وفي الشرع: قتال الكفار.

قال المصنف رحمه الله: (وهو فرض كفاية، ولا يجب إلا على ذكرٍ حرٍّ مكلفٍّ مستطيعٍ، وهو: الصحيحُ الواجدُ لزاده، وما يحمله إذا كان بعيداً).

أما كون الجهاد فرض كفاية فلأنه واجب في الجملة، وليس واجباً على الأعيان: أما كونه واجباً في الجملة فبالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم} [البقرة: 190]، وقوله تعالى:{واقتلوهم حيث ثقفتموهم} [البقرة: 191]، وقوله تعالى:{وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الدين كلُّه لله} [الأنفال: 39]، وقوله تعالى:{انفروا خِفافاً وثقالاً} [التوبة: 41].

وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبةٍ من النفاق» (1). أخرجه مسلم.

وقولُه عليه السلام: «الجهادُ واجب عليكم» (2).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» (3) أخرجهما أبو داود.

وقوله: «من لقي الله بغير أثرٍ من جهاد لقي الله وفي إيمانه ثُلْمة» (4) أخرجه الترمذي.

وأما الإجماع فأجمع المسلمون في الجملة على وجوبه.

وأما كونه ليس واجباً على الأعيان فلقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [التوبة: 122]، وقوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسِهم فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1910) 3: 1517 كتاب الإمارة، باب ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (2533) 3: 18 كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (2504) 3: 10 كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو.

(4)

أخرجه الترمذي في جامعه (1666) 4: 189 كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط.

ص: 262

القاعدين درجةً وكلاً وعد الله الحسنى} [النساء: 95]. أثبت للمجاهد والقاعد الأجر ولا يكون القاعد مأثوماً، ولو كان فرض عين لأثم. وإذا وجب في الجملة ولم يجب على الأعيان لزم كونه فرض كفاية.

وأما كونه لا يجب إلا على ذَكَرٍ فلما روت عائشة قالت: «قلت: يا رسول الله! هل على النساء جهاد؟ قال: جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» (1).

ولأن المرأة ليست من أهل القتال لضعفها وخوفها ولذلك لا سهم لها.

وأما كونه لا يجب إلا على حرٍّ فلما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد» (2).

ولأن الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم يجب على العبد كالحج.

وأما كونه لا يجب إلا على مكلف فلأن الصبي والمجنون والكافر لا يجب عليهم سائر فروع الإسلام فكذلك الجهاد.

ولأن الصبي ضعيف عن القتال، والمجنون لا يتأتى منه، والكافر غير مأمون فيه.

وأما كونه لا يجب إلا على مستطيع فلأن غير المستطيع عاجز، والعجز ينفي الوجوب للمستطيع شرعاً. فعلى هذا لا يجب على مريض، ولا أعمى، ولا أعرج، ولا غير قادر على نفقته وما يحمله وما يقاتل به؛ لأن الله تعالى قال:{ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حَرَجٌ إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة: 91].

وقال تعالى: {ليس على الأعمى حَرَجٌ ولا على الأعرج حَرَج ولا على المريض حرج} [الفتح: 17].

ولأن هذه الأعذار تمنعه من الجهاد.

(1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2901) 2: 968 كتاب المناسك، باب الحج جهاد النساء.

وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4: 350 كتاب الحج، باب من قال بوجوب العمرة.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر. قال: «جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة. ولم يشعر أنه عبد. فجاء سيده يريده. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بعنيه فاشتراه بعبدين أسودين ثم لم يبايع أحداً بعد حتى يسأله: أعبد هو؟ » . (1602) 3: 1225 كتاب المساقاة، باب جواز بيع الحيوان بالحيوان من جنسه متفاضلاً.

ص: 263

والمانع مما ذُكِر مطلق العمى، والعرجُ الفاحش الذي يمنع المشي والركوب كالزمانة ونحوها. فأما اليسير الذي يتمكن معه من الركوب والمشي فلا يمنع وجوب الجهاد؛ لأنه متمكن منه أشبه الأعور. وكذلك المرض المانع هو الشديد فأما وجع الضرس والصداع الخفيف فلا يمنع لما ذكر في الأعرج.

وأما غير القادر فالمانع عدم قدرته على نفقته وآلة الجهاد وما يشتريها به؛ لأن النفقة ضرورة مقدمة على الحج ودين الغير فكذلك على الجهاد. وآلة القتال لا يمكن الجهاد إلا بها.

وأما القدرة على المركوب فإن كانت المسافة بعيدة اشترطت؛ لقوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوكَ لِتَحْملهم قلتَ لا أجدُ ما أحملُكم عليه} [التوبة: 92] ولذلك شرط المصنف رحمه الله في وجدان ما يحمله البعيد. وإن كانت المسافة قريبة لم يشترط القدرة عليه؛ لأنه سفر قريب لا مشقة في تحمله. ويشترط أن يكون جميع ما ذكر فاضلاً عن نفقة عياله وقضاء دينه وأجرة مسكنه؛ لما تقدم في الحج.

قال: (وأقلُّ ما يُفعل مرةً في كل عام إن لم تدْعُ حاجة إلى تأخيره).

أما كون الجهاد أقل ما يفعل مرة في كل عام إن لم تدع حاجة إلى تأخيره؛ فلأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام وهي بدل فكذلك مبدلُها الذي هو الجهاد.

وأما كونه لا يُفعل إذا دعت الحاجة إلى تأخيره مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في عدد أو عدة، أو يكون الإمام منتظر المدد يستعين به، أو يكون الطريق إليهم فيها مانع، أو ليس بها علف أو ماء، أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الإسلام ويطمع في إسلامهم إن أخر قتالهم، ونحو ذلك مما يرى معه المصلحة في ترك القتال؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً عشر سنين وأخّر قتالهم حتى نقضوا العهد» (1).

قال: (ومن حضر الصف من أهل فرض الجهاد، أو حَصَر العدو بلدَه تعيّن عليه).

أما كون الجهاد متعينٌ على من حضر الصف فلقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتمُ الذين كفروا زحْفاً فلا تُولوهم الأدبار? ومن يولهّم يومئذٍ دبُره إلا متحرّفاً لقتالٍ

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2518) 2: 974 كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد

وأخرجه أبو داود في سننه (2766) 3: 86 كتاب الجهاد، باب في صلح العدو.

ص: 264

أو متحيزاً إلى فئةٍ فقد بَاء بغضبٍ من الله ومأواه جهنمُ وبئس المصير} [الأنفال: 15 - 16].

وأما كونه متعيٌن على من حَصَرَ العدو بلدَه فلعموم قوله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً} [التوبة: 41].

ولأن الكل استوى بالنسبة إلى القصد فوجب على الكل.

ولأن البلد إذا حُصر قرُب شَبَه من فيه بمن حضر الصف فوجب بعينه عليه كحاضر الصف.

ويتعين أيضاً على من استنفره الإمام؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض

الآية} [التوبة: 38].

ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا استنفرتم فانفروا» (1) متفق عليه.

قال: (وأفضل ما يُتطوع به الجهاد. وغزو البحر أفضل من غزو البر. ويُغزى مع كل بر وفاجر. ويقاتِل كلُّ قومٍ من يليهم من العدو).

أما كون الجهاد أفضل ما يُتطوع به فلما روى ابن مسعود قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لمواقيتها، قلت: ثم أيّ؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» (2) رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح.

وروى أبو سعيد الخدري قال: «قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله» (3) متفق عليه.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1737) 2: 651 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1353) 3: 1487 كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد قتح مكة على الإسلام والجهاد والخير

(2)

أخرجه الترمذي في جامعه (1898) 4: 310 كتاب البر والصلة، باب منه.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2634) 3: 1026 كتاب الجهاد والسير، باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه ماله في سبيل الله.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1888) 3: 1503 كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط.

ص: 265

وقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضلُ من جهاد في سبيل الله، أو حجةٍ مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال» رواه الخلال.

ولأن الجهاد بذل المُهْجة وإنفاق المال، ونفعه يعم المسلمين كلهم.

وأما كون غزو البحر أفضل من غزو البر؛ فلما روى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «شهيدُ البحر مثلُ شهديِ البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح. إلا شهيد البحر، فإنه يتولى قبض أرواحهم، ويُغْفرُ لشهيد البرِّ الذنوب كلُّها إلا الدَّين، ويُغفر لشهيد البحر الذنوب والدَّين» (1).

وفي حديث آخر: «غزوة في البحر مثلُ عشرِ غزَوات في البر» (2) رواهما ابن ماجة.

ولأن شهيد البحر أعظم خطراً ومشقة؛ لأنه بين خطر العدو وخطر الغرق، ولا يُمَكّن من الفرار إلا مع أصحابه فكان أفضلَ من غيره.

وأما كونه يغزو مع كل بر وفاجر فلما روى أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجهادُ واجبٌ عليكم مع كل أمير: براً كان أو فاجراً» (3).

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من أصل الإيمان: الكف عن من قال: لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتِل آخر أمتي الدجال لا يُبْطله جَوْرُ جائر ولا عَدْلُ عادل، والإيمان بالأقدار» (4) رواهما أبو داود.

ولأن ترك الجهاد مع الفاجر يُفضي إلى ظهور الكفار على المسلمين، وفيه إظهار كلمة الكفر وذلك أعظم الفساد.

وأما كون كل قوم يقاتِل من يليهم من العدو فلقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} [التوبة: 123].

(1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2778) 2: 928 كتاب الجهاد، باب فضل غزو البحر.

(2)

أخرجه ابن ماجة في سننه (2777) الموضع السابق. قال في الزوائد: في إسناده معاوية بن يحيى وهو ضعيف.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (2533) 3: 18 كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (2532) الموضع السابق.

ص: 266

ولأن الأقربَ أكثرُ ضرراً.

قال: (وتمام الرباطِ أربعون ليلة، وهو: لزوم الثغر للجهاد، ولا يُستحب نقل أهله إليه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» (1».

أما كون تمام الرباط أربعين ليلة، والمراد أربعون يوماً فلأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«تمامُ الرباط أربعون يوماً» (2).

وعن أبي هريرة: «من رابط أربعين يوماً فقد استكمل الرباط» (3) رواه سعيد بن منصور في سننه.

وعن ابن عمر «أنه قدم على أبيه فقال له: كم رابطت؟ قال: ثلاثين يوماً. قال: عزمتُ إلا رجعتَ حتى تُتِمَّها أربعون يوماً» (4).

وأما قول المصنف رحمه الله: وهو لزوم الثغر للجهاد فبيانٌ لمعنى الرباط.

فإن قيل: ما الثغر؟

قيل: كل مكان يُخيف أهلُه العدوَّ ويخاف منه.

وأما كون مَن فيه لا يُستحب له نقل أهله إليه فلأن الثغر مخوف ولا يُؤمن ظَفَر العدو من فيه واستيلاؤهم على الأهل. والمراد بالأهل النساء والذرية.

وأما قول المصنف رحمه الله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره فتنبيه على أن الرباط فيه فضيلة عظيمة؛ لما ذكر من الحديث (5). رواه أبو داود.

(1) أخرجه الترمذي في جامعه (1667) 4: 189 كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (19450) 4: 225 كتاب الجهاد، ما ذكر في فضل الجهاد والحث عليه.

وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (7606) 8: 157.

(3)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2410) 2: 159 كتاب الجهاد، باب ما جاء في فضل الرباط.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (19451) 4: 225 كتاب الجهاد، ما ذكر في فضل الجهاد والحث عليه.

(5)

سبق تخريجه قريباً ولم أره في أبو داود.

ص: 267

وفي حديث آخر أنه قال صلى الله عليه وسلم: «رباطُ يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامِه. وإن مات جرى عليه عملُه الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأَمِنَ الفَتّان» (1) رواه مسلم.

قال: (وتجب الهجرة على من يَعجز عن إظهارِ دينه في دار الحرب، وتستحب لمن قدَر عليه).

أما كونُ الهجرةِ، وهي: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام: تجب على من يعجز عن إظهار دينه في دار الحرب؛ فلأن الله تعالى قال: {إن الذين تَوَفّاهم الملائكة ظالمِي أنفسِهم قالوا فيم كنتُم قالوا كنّا مستضعفين في الأرضِ قالوا ألم تَكن أرض الله واسعةً فتُهاجروا فيها} [النساء: 97] إلى غير ذلك من الآيات.

وفي إطلاق المصنف رحمه الله وجوب الهجرة إشعارٌ ببقاء حكمها، وهو صحيح؛ لأن حكم الهجرة عندنا باقٍ إلى يوم القيامة؛ لأن الآيات والأخبارَ الدالة عليها شاملةٌ لكل زمان. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تَنقطع الهجرة ما كان الجهاد» (2) رواه سعيد وغيره.

وعن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطعَ التوبةُ، ولا تنقطع التوبةُ حتى تطلع الشمس من مغربها» (3) أخرجه أبو داود.

وأما قوله عليه السلام: «لا هجرة بعد الفتح» (4)، وقوله:«قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية» (5) رواهما سعيد. فمعناهما: لا هجرة من مكة بعد فتحها، أو لا هجرة من بلدٍ بعد فتحه؛ بدليل أنه قال ذلك لمن أراد أن يهاجر من مكة بعد فتحها.

روي «أن صفوان بن أمية قيل له بعد الفتح: أنه لا دين لمن لا يهاجر. فأتى المدينة [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء بك أبا وهب؟ ] (6) فقال له ذلك. فقال: ارجع أبا وهب. فقد انقطعت الهجرة، ولكن جهاد ونية» (7). يعني من مكة.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1913) 3: 1520 كتاب الإمارة، باب فضل الرباط في سبيل الله عز وجل. عن سلمان.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2354) 2: 138 كتاب الجهاد، باب من قال: انقطت الهجرة.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (2479) 3: 3 كتاب الجهاد، باب فى الهجرة هل انقطعت.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2353) 2: 137 الموضع السابق.

(5)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2352) الموضع السابق.

(6)

ساقط من هـ.

(7)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 16 كتاب السير، باب الرخصة في الإقامة بدار الشرك لمن لا يخاف الفتنة.

ص: 268

وأما كونها تستحب لمن قدَر عليها فلأن في إقامته تكثيراً لعددهم واختلاطا بهم. وإنما لم تجب عليه لقدرته على إظهار دينه.

وظاهر كلام المصنف رحمه الله: أن الهجرة على ضربين: واجبة ومستحبة.

وقال في المغني: الناس على ثلاثة أضرب:

أحدها: من تُستحب له ولا تجب عليه.

والثاني: من تجب عليه.

والثالث: من تسقط عنه. وهو: من يعجز عنها (1) لمرض، أو إكراه على إقامة، أو ضعفٍ. فهذا لا يجب عليه ولا يوصف باستحباب؛ لقوله تعالى: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان

الآية} [النساء: 98]. وفيه نظر.

قال: (ولا يجاهِد من عليه دينٌ لا وفاءَ له، ومن أحد أبويه مسلم: إلا بإذن غريمه وأبيه، إلا أن يَتعين عليه الجهادُ فإنه لا طاعةَ لهما في ترك فريضةٍ).

أما كونُ من عليه دين لا وفاء له لا يجاهد إذا لم يأذن له غريمه في الجهاد مع عدم تعيّنِ ذلك عليه؛ فلأن الجهاد يُقصد منه الشهادة وبها تفوت النفس فيفوت الحق لفواتها.

وفي تقييد المصنف رحمه الله الدين بأنه لا وفاء له إشعار بأنه إن كان له وفاءٌ فله أن يجاهد بغير إذنٍ وهو صحيح. نص عليه أحمد رحمه الله؛ «لأن عبدالله بن حزام أبا جابر خرج إلى أُحُدٍ وعليه دين كثير. فاستشهد وقضاه عنه ابنه بعلم النبي صلى الله عليه وسلم» (2) ولم ينكر (3) ذلك.

ص: 269

وفي معنى الوفاء إقامة الكفيل المليء لأن الدَّين الذي له وفاء إنما لم يمنع من الجهاد لعدم ضياع حق الغريم بتقدير قتله في الجهاد وذلك حاصل في الكفيل المليء.

وأما كون من أحد أبويه مسلم لا يجاهد إذا لم يأذن له أبوه مع عدم تعيّن الجهاد عليه «فلأن رجلاً هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: هل لك باليمن أحد؟ قال: نعم. أبوان. قال: ارجع فاستأذنهما: فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما» (1) رواه أبو داود.

وروى عبدالله بن عمرو بن العاص قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أجاهد. فقال لك أبوان؟ فقال: نعم. قال: ففيهما فجاهد» (2).

وروى الترمذي عن ابن عباس مثله، وقال هذا حديث حسن صحيح.

ولأن بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين مقدم.

ولا فرق فيما ذُكر بين الأب والأم. ولذلك قال المصنف رحمه الله: ومَن أحد أبويه مسلم.

وفي قول المصنف رحمه الله: مسلم تنبيه على أنه لا يعتبر إذن الكافر منهما. وصرح به في المغني؛ لأن كثيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهدون وآباؤهم مشركون لا يستأذنونهم منهم: أبو بكر الصديق، وأبو عبيدة.

وأما كون من ذكر يجاهد بغير إذن من ذكر إذا تعين الجهاد عليه فلأنه يصير حينئذ فرض عين وتركه معصية. ولذلك قال المصنف: فإنه لا طاعة لهما في ترك فريضة.

ولأن الجهاد حينئذ عبادة متعينة فلم يعتبر إذن أحد فيها كالصلاة.

قال: (ولا يحل للمسلمين الفرارُ من ضعفهم إلا متحرّفين للقتال، أو متحيزين إلى فئة. وإن زاد الكفار فلهم الفرار إلا أن يَغلب على ظنّهم الظَّفَرُ).

أما كون المسلمين لا يحل لهم الفرار من الكفرة في الجملة فلأن الله تعالى قال: {إذا لقيتم الذين كفروا زَحْفاً فلا تُوَلّوهم الأدبار

الآية} [الأنفال: 15].

(1) أخرجه أبو داود في سننه (2530) 3: 17 كتاب الجهاد، باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (2529) الموضع السابق.

وأخرجه الترمذي في جامعه (1671) 4: 191 كتاب الجهاد، باب: ما جاء فيمن خرج في الغزو وترك أبويه. قال: وفي الباب عن ابن عباس.

ص: 270

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم عَدّ الفرار من الكبائر (1).

وأما ما يشترط لذلك فشرطان:

أحدهما: أن لا يزيد عدد الكفار على مثلي المسلمين، وهو المراد بضعفهم. فإن زاد فلهم الفرار؛ لقوله تعالى:{الآن خَفَّفَ الله عنكم وعلم أن فيكم ضَعفاً فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين} [الأنفال: 66] لفظه خبر ومعناه أمر بدليل قوله: {الآن خفف الله عنكم} ، ولئلا يخالف خبرَه عز وجل مَخْبَرُه؛ لأن الظفر في كل مرة لا يتفق للمسلمين.

وعن ابن عباس: «من فرّ من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر» (2).

الثاني: أن لا يريد بفراره التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة؛ لأن الله تعالى قال: {إلا متحرّفاً لقتالٍ أو متحيزاً إلى فئة} [الأنفال: 16]. ومعنى التحرف: أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن له؛ كمن في وجهه الشمس، أو الريح، أو هو في وَهْدَة (3) أو عطشان، أو في مكان منكشف فينحرف إلى ظل، أو موضع لا ريح فيه، أو مكان عال، أو موضع فيه ماء، أو هو مستترا، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب.

والتحيز إلى فئة هو: أن يصير إلى قومٍ من المسلمين ليكون مع الجماعة ويقوَى بهم على قتال العدو. سواء بعدت أو قربت؛ لأن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني فئة لكم» (4) وكان بالمدينة.

وقال عمر: «أنا فئة كل مسلم» (5). وكانت جيوشه بالشام والعراق وخراسان ومصر. رواهما أبو سعيد.

(1) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال:

والتولي يوم الزحف

».

أخرجه أبو داود في سننه (2874) 3: 115 كتاب الوصايا، باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم.

(2)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11151) 11: 93.

(3)

في هـ: هذه، وفي القاموس: الوَهْدَة: الأرض المنخفضة.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2539) 2: 209 كتاب الجهاد، باب من قال الإمام فئة كل مسلم.

(5)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2540) 2: 210 الموضع السابق.

ص: 271

وأما كونهم لهم الفرار إذا زاد عدد الكفار على ضعف المسلمين فلأن شرط عدم الحِلّ أن لا يزيد، وذلك مفقود هاهنا.

وأما قول المصنف رحمه الله: إلا أن يغلب على ظنهم الظفر فاستثناء من كون المسلمين لهم الفرار مع الزيادة. فعلى هذا إن غلب على ظنهم الظَّفَر لا يحل لهم الفرار وإن كثر العدو. وصرح في المغني: بأن ذلك أولى وليس بواجب. وهذا هو الذي حكاه مَن علمنا من الأصحاب؛ لأن الله أباح له الفرار من الزائد على ضعفه مطلقاً من غير تفصيل فلا يقيد بغير ذلك. فعلى هذا يحمل استثناء المصنف على الأَولى؛ لما فيه من الجمع بين نقليه وموافقة الأصحاب. ويصححه أن قوله: فلهم الفرار إذن في الفرار.

وللإذن صور:

أحدها: أن يؤذن له مع أن الفرار والثبات سواء كمن استوى عنده الظفر والهلاك.

والثانية: أن يؤذن له مع أن الثبات أولى كمن غلب على ظنه الظفر.

والثالثة: أن يؤذن له مع أن الفرار مستحب كمن غلبت على ظنه السلامة بفراره، والهلاك وكسر قلوب المسلمين بثباته. فيكون المصنف قد استثنى من مطلق اللفظ أحد محامله وذلك جائز.

ولو قيل بوجوب ما اقتضاه ظاهر لفظ المصنف لم يكن فيه بعداً؛ لأن الجهاد إنما وجب نكاية للعدو وإظهاراً لكلمة الحق فإذا غلب على ظنه الظفر تعين وإن كثروا تخليصاً لمقصود ما وجب الجهاد لأجله.

قال: (وإن أُلقيَ في مركبهم نارٌ فعلوا ما يرون السلامة فيه، فإن شكّوا فعلوا ما شاؤا من المُقام أو إلقاءِ نفوسهم في الماء، وعنه: يلزمهم المُقام).

أما كون من أُلقي في مركبهم نار يفعلون ما يرون فيه السلامة فلأن حفظ الروح واجب، وغلبة الظن قائمة مقام اليقين في كثير من الأحكام فليكن هاهنا كذلك.

وأما كونهم إذا شكّوا يفعلون ما شاؤا من المُقام أو إلقاء نفوسهم في الماء على المذهب فلأنهم ابتلوا بشرين لا مزية لأحدهما على الآخر.

وأما كونهم يلزمهم المُقام على رواية فلأنهم إذا رموا نفوسهم كان موتهم بفعلهم بخلاف إقامتهم فإن موتهم بفعل غيرهم.

ص: 272

قال صاحب النهاية فيها: الأول أصح؛ لأنهم ملجئون إلى الإلقاء، ولا ينسب إليهم الفعل بوجهٍ، ولعل الله تعالى يخلصهم.

ص: 273

فصل [في أحكام القتال]

(ويجوزُ تبييت الكفار، ورميُهم بالمنجنيق، وقطعُ المياه عنهم، وهدمُ حصونهم).

أما كون تبييت الكفار وهو كبْسهم ليلاً وقتلهم وهم غارّون يجوز؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم شن الغارة على بني المصطلق ليلاً» (1).

ولا فرق بين أن يكون فيهم نساؤهم وذراريهم أو لم يكن «لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: إنا نبيت العدو وفيهم النساء والصبيان. فقال: هم منهم» (2) متفق عليه.

ولأن ذلك لو منع لأفضى إلى تعطيل الجهاد.

وأما كون رميهم بالمجنيق يجوز فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف» (3) أخرجه الترمذي مرسلاً.

وعن عمرو بن العاص «أنه نصب المنجنيق على الإسكندرية» (4).

وسواء في ذلك الحاجة وعدمها.

قال المصنف في المغني: هو ظاهر كلام أحمد.

(1) عن ابن عمر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارُّون» .

أخرجه البخاري في صحيحه (2403) 2: 898 كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقاً فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1730) كتاب الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2850) 3: 1097 كتاب الجهاد والسير، باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1745) 3: 1365 كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد.

(3)

ذكره الترمذي في جامعه 5: 94 كتاب الأدب، باب ما جاء في الأخذ من اللحية.

وأخرجه أبو داود في المراسيل من حديث أيوب السختياني. ص: 183 كتاب الجهاد، باب في فضل الجهاد.

(4)

ذكره البيهقي في السنن الكبرى 9: 84 كتاب السير، باب قطع الشجر وحرق المنازل.

ص: 274

وأما كون قطع المياه عنهم وهدم حصونهم يجوز فلأن القصد إضعافهم وإرهابهم ليجيبوا داعي الله تعالى.

قال: (ولا يجوز إحراقُ نحل، ولا تغريقه، ولا عَقْرُ دابة ولا شاة إلا لأكلٍ يُحتاج إليه. وفي حرق شجرهم وزرعهم وقطعِه روايتان:

إحداهما: يجوز إن لم يضر بالمسلمين.

والأخرى: لا يجوز إلا أن لا يُقدر عليهم إلا به، أو يكونوا يفعلونه بنا.

وكذلك رميهم بالنار، وفتح المياه ليغرقهم).

أما كون إحراق النحل وتغريقه وعقر دابة أو شاة لغير أكل يحتاج إليه لا يجوز فـ «لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ليزيد وهو يوصيه حين بعثه أميراً: يا يزيد! لا تحرقن نحلاً ولا تغرقه، ولا تَعقرن دابة عجماء ولا شاة إلا لمأكلة» (1) أخرجه سعيد بن منصور.

ولأن في ذلك إتلاف مال الغانمين من غير حاجة.

وإنما اشترط المصنف رحمه الله الحاجة في الأكل لأن قيمة الحيوان تكثر وتسمح بها أنفس الغانمين.

وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه مثل الطعام. أي يجوز لهم ذبح الحيوان وأكله من غير حاجة كما يجوز لهم أكل الطعام.

وأما كون حرق شجرهم وزرعهم وقطعه يجوز في رواية فلقوله تعالى: {ما قطعتم من لِينة أو تركتموها قائمةً على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} [الحشر: 5].

وروى ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّق نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة فأنزل الله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها

الآية} [الحشر: 5]. ولها يقول حسان:

وهانَ على سَراةِ بني لُؤيٍ

حريقٌ بالبويرةِ مستطيرُ» (2)

(1) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2383) 2: 148 كتاب الجهاد، باب: ما يؤمر به الجيوش إذا خرجوا.

وأخرجه مالك في الموطأ (10) 2: 358 كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2201) 2: 820 كتاب المزارعة، باب قطع الشجر والنخل.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1746) 3: 1365 كتاب الجهاد والسير، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها.

ص: 275

متفق عليه.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: «حَرِّق» (1) رواه أبو داود.

وأما كونه لا يجوز في روايةٍ فلأن في حديث أبي بكر المتقدم: «ولا تعقرن شجراً مثمراً» (2).

ولأنه قد روي نحو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً.

ولأن فيه إتلافاً محضاً فلم يجز كعقر الحيوان.

واشتراط المصنف رحمه الله في الرواية الأولى أن لا يُضر بالمسلمين؛ لأن الضرر منفي شرعاً بقوله عليه السلام: «لا ضرر ولا إضرار» (3).

واستثنى في الرواية الثانية أمرين: أن لا يُقدر عليهم إلا به، أو يكونوا يفعلونه بنا: أما إذا لم يُقدر عليهم إلا بذلك فلأنه لو لم يجز لأدى إلى ترك الجهاد، وأما إذا فعلوا ذلك بنا فلينزجروا عن فعل ذلك.

وأما قول المصنف رحمه الله: وكذلك رميهم بالنار وفتح الماء ليغرقهم فمعناه أن في ذلك روايتين كحرق الشجر والزرع وقطعهما: إحداهما: يجوز لأن القصد نكايتهم وإقامة كلمة الحق فإذا كان وسيلة إليه جاز كالقتل.

والثانية: لا يجوز: أما النار فلأنها لا يعذب بها إلا الله، وأما الماء فلأن الإتلاف به يعم. مع أن عنه مندوحة.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (2616) 3: 38 كتاب الجهاد، باب في الحرق في بلاد العدو.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (2843) 2: 948 كتاب الجهاد، باب التحريق بأرض العدو.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2383) 2: 148 كتاب الجهاد، باب: ما يؤمر به الجيوش إذا خرجوا.

(3)

أخرجه ابن ماجة في سننه (2341) 2: 784 كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره. قال في الزوائد: في إسناده جابر الجعفي متهم.

وأخرجه مالك في الموطأ (31) 2: 571 كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق. ولفظهما:«لا ضرر ولا ضرار» .

وأخرجه الدارقطني في سننه (85) 4: 228 كتاب في الأقضية والأحكام، في المرأة تقتل إذا ارتدت. واللفظ له.

ص: 276

فعلى هذا لو لم يقدر عليهم إلا به أو فعلوه بنا جاز لما مر في حرق الشجر.

قال: (وإذا ظفِر بهم لم يُقتل صبيٌ ولا امرأةٌ ولا راهبٌ ولا شيخٌ فانٍ ولا زمِنٌ ولا أعمى لا رأي لهم، إلا أن يُقاتلوا. فإن تَتَرَّسوا بهم جاز رميهم، ويَقْصِد المقاتلة. وإن تترسوا بمسلمين لم يجز رميهم إلا أن يُخاف على المسلمين فيرميهم ويقصِد الكفار).

أما كون كل واحد من الصبي والمرأة والشيخ الفاني لا يقتل إذا لم يكن ذا رأي ولم يقاتل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «انطلقوا بسم الله. لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا امرأة» (1) رواه أبو داود.

وأما كون الراهب لا يُقتل إذا كان كذلك فلأن في حديث أبي بكر الذي في وصيته لزيد: «ستمرون على قومٍ في صوامع لهم. احتبسوا أنفسهم فيها. فدعوهم حتى يُميتهم الله على ضلالتهم» (2).

وأما كون كل واحد من الزَّمِن والأعمى لا يقتل إذا كان كذلك فبالقياس على الشيخ الفاني؛ لا شتراكهم في عدم النكاية.

وأما كون جميع من ذُكر يقتل إذا كان ذا رأي أو قاتل: أما كونه يقتل إذا كان ذا رأي فلأن الرأي من أعظم المؤنة في الحرب. وقد جاء عن معاوية أنه قال لمروان والأسود: «أمددتما علياً بقيس بن سعد وبمائة، فوالله لو أنكما أمددتماه بثمانية آلاف مقاتل ما كان بأغيظ لي من ذلك» .

وأما كونه يُقتل إن قاتل «فلأن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على امرأة مقتولة يوم الخندق فقال: من قتل هذه؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله! فقال: ولم؟ قال: نازعتني قائمة سيفي. فسكت» (3).

وفي حديثٍ آخر: «وقف على امرأة مقتولة. فقال: ما بالها قتلت وهي لا تقاتل» (4).

(1) أخرجه أبو داود في سننه (2614) 3: 37 كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2383) 2: 148 باب ما يؤمر به الجيوش إذا خرجوا.

(3)

أخرجه أبو داود في المراسيل من حديث عكرمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة بالطائف، فقال: ألمْ أنْهَ عن قتل النساء؟ من صاحب هذه المرأة المقتولة؟ فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله! أردفتُها، فأرادت أن تصرَعني، فتقتلني. فأمرَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُوارى» . ص: 183 كتاب الجهاد، باب في فضل الجهاد.

(4)

عن حنظلة الكاتب، قال:«غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا على امرأة مقتولة قد اجتمع عليها الناس. فأفرجُوا له. فقال: ما كانت هذه تُقاتل فيمن يُقاتل» .

أخرجه ابن ماجة في سننه (2842) 2: 948 كتاب الجهاد، باب الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان.

وأخرجه أحمد في مسنده (17647) 4: 178.

ص: 277

ولأنه لو لم يجز قتل من ذُكر لأدى إلى تلف من قاتله.

وأما كون الكفار يجوز رميهم إذا تترسوا بمن ذكر من الكفار الذين لا يجوز قتلهم فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمجنيق» (1) وفيهم النساء والصبيان.

ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد؛ لأنهم إذا علموا ذلك تترسوا بهم.

وأما كون الرامي يقصد المقاتلة فلأن ذلك هو المقصود.

وأما كونهم لا يجوز رميهم إذا تترسوا بمسلمين ولم يخف على المسلمين فلأن ذلك يؤول إلى قتل المسلمين مع أن لهم مندوحة.

وأما كونهم يجوز رميهم إذا خيف على المسلمين مثل أن تكون الحرب قائمة أو لا يقدر عليهم إلا بذلك فلأنه حال ضرورة.

وأما كون الرامي يقصد الكفار فلأنهم هم المقصودون بالقتل.

قال: (ومن أسر أسيراً لم يجز له قتلُه حتى يأتي به الإمام إلا أن يمتنع من المسير معه ولا يمكنه إكراهه).

أما كونُ من أسر أسيراً لا يجوز له قتله حتى يأتي به الإمام إذا لم يمتنع من المسير معه أو امتنع وأمكنه (2) إكراهه على ذلك فلأنه إذا صار أسيراً كانت الخيرة فيه إلى الإمام فلم يجز قتله لما فيه من إبطال الخيرة المستحقة للإمام.

وأما كونه يجوز له قتله إذا لم يسر معه ولا يمكنه إكراهه فلأنه لو لم يجز قتله لأدى ذلك إلى إطلاقه.

(1) سبق تخريجه ص: 274.

(2)

في وو هـ: ولا يمكنه.

ص: 278

قال: (ويخيّر الأمير في الأسرى: بين القتل، والاسترقاق، والمنِّ، والفداء بمسلم أو مال. وعنه: لا يجوز بمال. إلا غير الكتابي ففي استرقاقه روايتان. ولا يجوز أن يختار إلا الأصلح للمسلمين، فإن أسلموا رَقّوا في الحال).

أما كون الأمير يخير في الأسرى من أهل الكتاب بين القتل والاسترقاق والمن والفداء: أما القتل فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قَتل رجال قريظة، وهم ما بين الستمائة والسبعمائة» (1).

و«قتل يوم بدر عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث صبراً» (2).

وأما الاسترقاق فلأنه يجوز إقرارهم على كفرهم بالجزية فبالرق أولى.

ولأنه أبلغ في صَغارهم.

وأما المن والفداء فلقوله تعالى: {فإما مَنّا بعدُ وإما فداءً} [محمد: 4].

و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم منّ على أبي عَزّة الشاعر» (3).

و«منّ على العاصي بن الربيع» (4).

(1) أخرجه الترمذي في جامعه (1582) 4: 144 كتاب السير، باب ما جاء في النزول على الحكم. وفيه: وكانوا أربعمائة.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من طريق محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل بالأسارى حتى إذا كان بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط. فجعل عقبة بن أبي معيط يقول يا ويلاه! علام أقتل من بين هؤلاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعداوتك لله ولرسوله. فقال: يا محمد! مَنُّك أفضل. فاجعلني كرجل من قومي إن قتلتهم قتلتني، وإن مننت عليهم مننت عليّ، وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم. يا محمد! من للصبية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النار. يا عاصم بن ثابت قدمه فاضرب عنقه. فقدمه فضرب عنقه» 9: 64 كتاب السير، باب ما يفعله بالرجال البالغين منهم.

وأخرجه أبو داود في المراسيل من حديث سعيد بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة من قريش صبراً: المطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط. ص:183.

(3)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من طريق سعيد بن المسيب مطولاً 6: 320 كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في من الإمام على من رأى من الرجال البالغين من أهل الحرب.

(4)

عن عائشة قالت: «لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على ابن العاص قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَق لها رِقة شديدة وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها. فقالوا: نعم» .

أخرجه أبو داود في سننه (2692) 3: 62 كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال.

وأخرجه أحمد في مسنده (26405) 6: 276.

ص: 279

و «على ثمامة بن أثال» (1).

و«فادى أسيراً برجلين من أصحابه أسرتهما ثَقيف» (2).

و«فادى أسارى بدر» (3).

وأما كون الفداء يجوز بمسلم أو بمال على المذهب فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم فادى بمسلم في أسرى ثقيف» (4) و «بمال في أسرى بدر» (5).

وأما كونه لا يجوز بمالٍ على رواية فلأن الله تعالى عاتب رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على فداء الأسرى يوم بدر بالمال بقوله: {تُريدون عرض الدنيا} [الأنفال: 67].

(1) عن أبي هريرة قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد. فجائت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال. سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سوارى المسجد. فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي يا محمد خير. إن تقتل تقتل ذا دم. وإن تنعم تنعم على شاكر. وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى كان بعد الغد. فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك. إن تنعم تنعم على شاكر. وإن تقتل تقتل ذا دم. وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت

الحديث. وفيه: أطلقوا ثمامة».

أخرجه مسلم في صحيحه (1764) 3: 1386 كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عمران بن حصين مطولاً (1641) 3: 1262 كتاب النذر، باب لا وفاء لنذر في معصية الله

وأخرجه الترمذي في جامعه مختصراً (1568) 4: 135 كتاب السير، باب ما جاء في قتل الأسارى والفداء.

وأخرجه أحمد في مسنده مختصراً (19738) 4: 427.

(3)

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما كان يوم قال نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيف ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة

الحديث. وفيه: فقال أبو بكر رضي الله عنه يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان فإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار وعسى الله أن يهديهم فيكونون لنا عضداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر رضي الله عنه ولكني أرى أن تمكنني من فلان قريباً لعمر فأضرب عنقه وتمكن علياً رضي الله عنه من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر رضي الله عنه ولم يهو ما قلت فأخذ منهم الفداء

الحديث بطوله».

أخرجه أحمد في مسنده (208) 1: 31.

(4)

سبق تخريجه قريباً.

(5)

سبق تخريجه في الحديث السابق.

ص: 280

والأول أولى؛ لأن دليل الرواية منسوخ.

وأما كون الأمير يخير في غير الكتابي، وهو: من لا يُقَر على دينه كعبدة الأوثان بين القتل والمن والفداء فلما تقدم.

وأما كونه له استرقاقه في رواية فكالكتابي.

وأما كونه ليس له ذلك في رواية فلأنه لا يقر بالجزية. وهذه الصورة هي المراد من قول المصنف (1): إلا غير الكتابي ففي استرقاقه روايتان. وهو استثناء من قوله: ويخير الأمير بين القتل أي يخير الأمير في الكتابي بين أمور أربعة وفاقاً. وفي غير الكتابي يخير بين أمور ثلاثة وفي الرابع خلاف.

فإن قيل: أيدخل فيما ذُكر العبد والنساء والصبيان والرهبان ومن كان زمنا أو أعمى أو شيخاً فانياً أو نحو ذلك؟

قيل: لا؛ لأنهم لا يجوز قتلهم: أما العبد فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أدركوا خالداً فمروه أن لا يقتل عسيفاً» (2).

وأما البواقي فلما مر.

فإن قيل: ما حكمهم؟

قيل: يصيرون أرقاء بنفس السبي لأنهم مال لا ضرر في اقتنائهم أشبهوا البهائم.

وصرح المصنف رحمه الله في المغني في فصل: أن الكافر إذا كان مولى مسلم: على جواز استرقاق الشيخ الزَّمِن. ونقله غيره من الأصحاب فقال: كل من لا يقتل كالأعمى وغيره يَرِق بنفس السبي.

وقال المصنف رحمه الله في الكافي: الرجال الذين يحرم قتلهم كالشيخ الفاني ونحوه لا يجوز سبيهم؛ لأنه لا نفع فيهم. وطريق الجمع بين نقليه ونقل غيره: أن من لا يجوز قتله إن كان فيه نفع جاز سبيه، وإلا فلا. وتعليله في الكافي يؤيد هذا الجمع. إلا أنه يمكن أن يقال: ما من أحد إلا وفيه نفع لأن الزمِن يمكن كونه ناطوراً، والأعمى يمكن كونه ينفخ في كور الحداد؛ كما روي عن عمر «أنه أمر من كان من الصحابة كذلك بذلك» .

(1) سقط لفظ: المصنف من هـ.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (2669) 3: 53 كتاب الجهاد، باب في قتل النساء.

ص: 281

وأما كون الأمير لا يجوز له أن يختار إلا الأصلح للمسلمين من الأمور المتقدم ذكرها فلأنه نائب للمسلمين فلا يجوز له فعل ما غلب على ظنه أنه لا مصلحة فيه.

فإن قيل: فإن تردد.

قيل: القتل أولى.

وأما كون من أسلم ممن تقدم ذكره يُرق في الحال فلأنه يحرم قتله لقوله عليه السلام: «لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث» (1)، وهذا مسلم، وإذا كان قتله حراماً وجب أن يصير رقيقاً كالمرأة.

وقال المصنف رحمه الله في الكافي: يخير فيهم الإمام بين المن عليهم وبين فدائهم وبين إرقاقهم؛ لأنه إذا جاز ذلك في حال كفرهم ففي حال إسلامهم بطريق الأولى.

قال: (ومن سُبي من أطفالهم منفرداً، أو مع أحد أبويه فهو مسلم. وإن سبي مع أبويه فهو على دينهما).

أما كون من سبي من أطفال الكفار منفرداً أو مع أحد أبويه مسلماً فلما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولودٍ يولد على الفطرة. وإنما أبواه يُهوّدانه ويُنصّرانه ويُمجّسانه» (2) رواه مسلم. جعل التبعية لأبويه فإذا سبي منفرداً أو مع أحدهما انقطعت تبعيته عنهما فوجب بقاؤه على حكم الفطرة.

وأما كونه على دين أبويه إذا سبي معهما فلأن التبعية باقية.

قال: (ولا ينفسخ النكاح باسترقاق الزوجين. وإن سبيت المرأة وحدها انفسخ نكاحها وحلت لسابيها).

أما كون نكاح الزوجين لا ينفسخ باسترقاقهما فلأن الرق معنى لا يمنع ابتداء النكاح فلا يقطع استدامته كالعتق.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6484) 6: 2521 كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {أن النفس بالنفس والعين بالعين

}.

وأخرجه مسلم في صحيحه (1676) 3: 1302 كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (2658) 4: 2047 كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة.

ص: 282

وأما كونه ينفسخ إذا سبيت المرأة وحدها فلأنها تحل لسابيها لما يأتي، ولو لم ينفسخ نكاحها لما كان كذلك.

وأما كونها تحل لسابيها فلقوله تعالى: {والمحصناتُ -أي والمزوجات- من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء: 24] أي بالسبي.

روى أبو سعيد الخدري قال: «أصبنا سبايا يومَ أوطاس ولهن أزواج في قومهن. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: {والمحصناتُ من النساء إلا ما ملكت أيمانكم

الآية} [النساء: 24]» (1) رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن.

قال: (وهل يجوز بيع من استُرق منهم للمشركين؟ على روايتين).

أما كون بيع من استرق من الكفار يجوز للمشركين على رواية فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم باع سبي بني قريظة من أهل الحرب» .

ولأنهم لا يُمنعون من إثبات أيديهم عليهم فلم يمنعوا من ابتداء ذلك كالمسلم.

وأما كون ذلك لا يجوز على روايةٍ فلأنه يروى عن عمر «أنه كتب ينهى أمراء الأمصار عن ذلك» .

ولأن في إبقائهم في دار الإسلام تحصيلاً لإسلامهم غالباً فلا يجوز ردهم إلى الشرك كما لو أسلموا.

قال: (ولا يفرق في البيع بين ذوي رحم محرم إلا بعد البلوغ على إحدى الروايتين).

أما كون من ذُكر لا يفرق بينهم قبل البلوغ فلما روى أبو أيوب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من فرّق بين والدة وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» (2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.

وعن علي رضي الله عنه قال: «وهَب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين. فبعت أحدهما. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل غلامك؟ فأخبرته. فقال: رده رده» (3) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب.

(1) أخرجه الترمذي في جامعه (3016) 5: 234 كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة النساء.

(2)

أخرجه الترمذي في جامعه (1566) 4: 134 كتاب السير، باب في كراهية التفريق بين السبي.

(3)

أخرجه الترمذي في جامعه (1284) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين أو بين الوالدة.

ص: 283

ولأنه لا يفرق بين الوالد والولد الطفل وفاقاً فكذلك كل ذوي رحم محرم.

وأما كونهم لا يفرق بينهم بعد البلوغ على رواية فلما ذُكر قبل.

وأما كونهم يفرق بينهم على رواية فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُفرق بين الأم وولدها. فقيل: إلى متى؟ قال: حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية» (1).

ولأن الأحرار يتفرقون بعد البلوغ فالعبيد أولى.

قال: (وإذا حصر الإمام حصناً لزمه مصابرته إذا رأى المصلحة فيه، فإن أسلموا أو من أسلم منهم أحرز دمه وماله وأولاده الصغار، وإن سألوا الموادعة بمالٍ أو غيره جاز إن كانت المصلحة فيه، وإن نزلوا على حكم حاكم جاز إذا كان بالغاً عاقلاً من أهل الاجتهاد).

أما كون الإمام إذا حصر حصناً يلزم مصابرته إذا رأى المصلحة فيها فلأن عليه فعل ما فيه مصلحة المسلمين وقد وُجدت. وكلام المصنف رحمه الله مشعرٌ بأن الإمام إذا رأى المصلحة في الانصراف جاز. وهو صحيح. صرح به في المغني؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف فلم ينَل منهم شيئاً فانصرف قبل فتح الحصن» (2).

وأما قول المصنف رحمه الله: فإن أسلموا

إلى آخره فمشعر بأنه يزول اللزوم المذكور إذا وجد منهم إسلام أو سؤال موادعة أو نزول على حكم حاكم. وهو صحيح: أما زواله بالإسلام فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» (3). فعلى هذا من أسلم منهم حَقن دمه وماله وأولاده الصغار: أما الدم والمال فلأن في تتمة الحديث المذكور: «فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم» .

(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 128 كتاب السير، باب الوقت الذي يجوز فيه التفريق.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (4070) 4: 1572 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (25) 1: 17 كتاب الإيمان، باب {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} .

وأخرجه مسلم في صحيحه (22) 1: 53 كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله

ص: 284

وأما الأولاد فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم أبناء سَعْيَة، فأحرز إسلامهما أموالهما وأولادهما» (1).

ولأن الأولاد الصغار تبع لهم في الإسلام فكذلك في العصمة.

وأما زواله بالموادعة فلأن الغرض إعلاء كلمة الإسلام وصَغار الكفرة وذلك حاصل. فعلى هذا يجوز بالمال وبغير مال كما يجوز المن عليهم.

واشترط بعض الأصحاب في عقدها بغير مال أن يعجز المسلمون أو يستضروا بالمقام ليكون ذلك عذراً في الانصراف.

وأما زواله بالنزول على حكم حاكم فـ «لأن بني قريظة حين حصرهم النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا على حكم سعد بن معاذ» (2).

فعلى هذا يشترط في الحاكم أن يكون مسلماً حراً بالغاً عاقلاً مجتهداً؛ لأنه حكم أشبه ولاية القضاء.

ولم يذكر المصنف رحمه الله اشتراط ذكوريته واشترطه في الكافي كذلك.

(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن عاصم بن عمرو بن قتادة عن شيخ من قريظة أنه قال: «هل تدري عما كان إسلام ثعلبة وأسيد ابني سعية وأسد بن عبد نفر من هدل لم يكونوا من بني قريظة ولا نضير كانوا فوق ذلك فقلت: لا. قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال: له ابن الهيبان فأقام عندنا والله ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس خيراً منه فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين فكنا إذا قحطنا وقل علينا المطر نقول له يا ابن الهيبان أخرج فاستسق لنا فيقول لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة فنقول: كم نقدم؟ فيقول صاعاً من تمر أو مدين من شعير ثم يخرج إلى ظاهرة حرتنا ونحن معه فيستقي فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمر الشعاب قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة فحضرته الوفاة فاجتمعنا إليه فقال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع فقلنا: أنت أعلم فقال: إنه إنما أخرجني أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه هذه البلاد مهاجره فاتبعه فلا تسبقن إليه إذا خرج يا معشر يهود فإنه يسفك الدماء ويسبي الذراري والنساء ممن خالفه فلا يمنعكم ذلك منه ثم مات فلما كانت تلك الليلة التي افتتحت فيها قريظة قال: أولئك الفتية الثلاثة وكانوا شبانا أحداثا يا معشر يهود للذي كان ذكر لكم ابن الهيبان قالوا: ما هو؟ قالوا: بلى والله لهو يا معشر اليهود أنه والله لهو لصفته ثم نزلوا فأسلموا وأخلوا أموالهم وأولادهم وأهاليهم قال: وكانت أموالهم في الحصن مع المشركين فلما فتح رد ذلك عليهم» 9: 114 كتاب السير، باب الحربي يدخل بأمان وله مال في دار الحرب.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3896) 4: 1511 كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى قريظة.

ص: 285

قال: (ولا يحكم إلا بما فيه حَظٌّ للمسلمين من: القتل، والسبي، والفداء. فإن حكم بالمن لزم قبوله في أحد الوجهين، وإن حكم بقتل أو سبي فأسلموا عصموا دماءهم، وفي استرقاقهم وجهان).

أما كون الحاكم المذكور لا يحكم إلا بما فيه حظٌّ للمسلمين من الأمور المذكورة فلأنه نائب الإمام فقام مقامه في اختيار الأحظ.

ولأنه يخير فلم يجز فيه إلا الأحظ كخيرة الإمام إذا أسر أسيراً.

وأما كونه إذا حكم بالمن يلزم قبول حكمه في وجهٍ وهو للقاضي فلأنه نائب الإمام فلزم قبوله منه إذا رآه كالإمام.

وأما كونه لا يلزم في وجه وهو لأبي الخطاب فلأنه إذا لم يره الإمام تبين أنه لا حظ فيه.

فإن قيل: كلام المصنف رحمه الله مطلق وتعليل الوجه الثاني يقتضي كونه مقيداً بأن الإمام لم يره.

قيل: هكذا علله في الكافي.

وقيده صاحب الخلاصة فيها فقال: فإن حكم بالمن فأبى الإمام.

وهو حسن لما ذكر. [إلا أن فيه نظراً من حيث إن الوجه المذكور لأبي الخطاب ولم يقيده في هدايته](1).

وأما كونهم يعصمون دمائهم إذا حَكم بقتلهم أو سبيهم فأسلموا فلأن قتل المسلم حرام.

وفي اقتصار المصنف رحمه الله على عصمة الدماء دليل على عصمة المال. وقد صرح بذلك في الكافي، ونقله غيره.

وإنما لم يعصموا أموالهم؛ لأنها صارت للمسلمين قبل إسلامهم.

وأما كونهم لا يُسترقون في وجهٍ فلأنهم أسلموا قبل استرقاقهم أشبه ما لو أسلموا قبل القدرة عليهم.

(1) ساقط من هـ.

ص: 286

وأما كونهم يُسترقون في وجه فلأنهم أسلموا بعد القدرة عليهم ووجوبِ قتلهم أشبه الأسير إذا أسلم بعد اختيار الإمام قتله.

ص: 287