المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌باب عقد الذمة

‌باب عقد الذمة

عقدُ الذمة: إقرار بعض الكفار على كفرهم إذا بذلوا الجزية بشرطه. وسيبين مفصلاً إن شاء الله تعالى.

قال المصنف رحمه الله: (لا يجوز عقدها إلا لأهل الكتاب، وهم: اليهود والنصارى ومن يوافقهم في التدين بالتوراة والإنجيل كالسامرة، والفرنج، ومن له شبهة كتاب وهم المجوس. وعنه: يجوز عقدها لجميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب).

أما كون عقد الذمة لا يجوز لغير أهل الكتاب ومن له شبهة كتاب على المذهب فلأن الله تعالى قيد قتال الذين كفروا مُغيّىً إلى إعطاء الجزية بأهل الكتاب فلو لم يكن ذلك مختصاً بأهل الكتاب لم يكن في التقييد فائدة.

ولأن قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] عام في كل مشرك خرج منه أهل الكتاب لقوله من أهل الكتاب (1)، والمجوس للخبر فيبقى فيما عداهما على مقتضى الدليل.

وأما كونه يجوز لجميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب على روايةٍ؛ فلما روى الزهري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب» (2).

والأول أولى؛ لما ذكر.

ولأن غير الكتابي والمجوس لا يدل عليه القرآن ولا هو في معنى ما دل عليه لأن كفرهم أغلظ من كفر أهل الكتاب.

وأما ما روى الزهري (3).

(1) في هـ: من الكتاب، بإسقاط لفظ أهل.

(2)

لم أقف عليه هكذا. وقد روى أبو عبيد في الأموال عن الحسن قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب على الإسلام ولا يقبل منهم غيره، وأمر أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون» . (62) 30 باب أخذ الجزية من عرب أهل الكتاب.

(3)

بياض في هـ مقدار أربع كلمات.

ص: 343

وأما كون عقدها يجوز لأهل الكتاب فبالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون -إلى قوله: - من الذين أوتوا الكتاب} [التوبة: 29].

وأما السنة «فقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين وجهه إلى اليمن: فادعهم إلى الإسلام، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم» (1).

وأما الإجماع فأجمع المسلمون على جواز عقدها لأهل الكتاب.

وأما قول المصنف: وهم اليهود والنصارى ومن يوافقهم في التديّن بالتوراة والإنجيل كالسامرة والفرنج فبيانٌ للمراد من أهل الكتاب. قال الله تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} [الأنعام: 156] والمراد ما ذكر.

وأما كون عقدها يجوز لمن له شبهة كتاب وهم المجوس؛ فلما روى عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سُنوا بهم سُنة أهل الكتاب» (2).

وعنه أنه قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر» (3).

قال: (فأما الصابئي فينظر فيه فإن انتسب إلى أحد الكتابين فهو من أهله، وإلا فلا).

أما كون الصابئي الذي انتسب إلى أحد الكتابين من أهل ذلك الكتاب فلأنه إذا انتسب إلى أحد الكتابين شارك أهله في ذلك الكتاب فيدخل فيما تقدم.

وأما كون الذي لم ينتسب إلى ذلك كمن يقول أن الفلك حي ناطق، وأن الكواكب السبعة آلهة ليس من أهل الكتاب فلأنه مساوٍ لعبدة الأوثان في عدم انتسابه إلى كتاب فوجب أن لا يكون من أهله كعبدة الأوثان.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1731) 3: 1357 كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 189 كتاب الجزية، باب المجوس أهل كتاب والجزية تؤخذ منهم.

وأخرجه أبو عبيد في الأموال (78) ص: 35 باب أخذ الجزية من المجوس.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2987) 3: 1151 أبواب الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب.

ص: 344

قال: (ومن تهوّد، أو تنصّر بعد بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو ولد بين أبوين لا تقبل الجزية من أحدهما فعلى وجهين).

أما كون من تهوّد أو تنصّر بعد بعث نبينا صلى الله عليه وسلم تقبل منه الجزية على وجهٍ فلعموم النصوص المتقدم ذكرها.

وأما كونه لا يقبل منه على وجهٍ فلأنه انتقل إلى دين باطل.

وأما كون من ولد بين أبوين لا تقبل الجزية من أحدهما تقبل على وجهٍ فلما ذكر قبل.

وأما كونه لا تقبل منه على وجه فلأنه تعارض فيه القبول وعدم القبول فرجع إلى الأصل.

قال: (ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب، وتؤخذ الزكاة من أموالهم مثلَيْ ما يؤخذ من المسلمين، ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم. ومصرفه مصرف الجزية. وقال الخرقي: مصرف الزكاة. ولا يؤخذ ذلك من كتابي غيرهم. وقال القاضي: تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم).

أما كون الجزية لا تؤخذ من نصارى بني تغلب فلما روي «أن عمر دعاهم إلى بذل الجزية فأبو وأنفوا، وقالوا: نحن عرب. خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة. فقال عمر: لا آخذ من مشرك صدقة. فلحق بعضهم بالروم. فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين! إن القوم لهم بأس وشدة، وهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تُعِنْ عليك عدوك بهم، وخذ منهم الجزية باسم الصدقة. فبعث عمر في طلبهم وردهم» (1).

وأما كون الزكاة تؤخذ من أموالهم مثلَيْ ما يؤخذ من المسلمين فلأن تكملة حديث عمر المتقدم ذكره: «وضعّف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين، ومن ثلاثين بقرة تبيعين، ومن كل عشرين ديناراً دينارا، ومن كل مائتي درهم عشر دراهم، ومما سقت السماء الخمس، وفيما سقي بنضح أو عرب أو دولاب العشر» .

(1) أخرج نحوه أبو عبيد في الأموال (71) ص: 32 كتاب سنن الفيء، باب أخذ الجزية من عرب أهل الكتاب.

ص: 345

واستقر ذلك من قول عمر ولم يخالف غيره من الصحابة فكان إجماعاً.

وأما كون ذلك يؤخذ من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم فلأن حكم المأخوذ منهم حكم الزكاة، والزكاة تؤخذ في جميع هذه الصور فكذا يؤخذ منهم فيما هو ملحق بها.

وأما كون مصرف المأخوذ منهم مصرف الجزية على قول غير الخرقي فلأنه مأخوذ من مشرك.

ولأنه جزية مسماة بالصدقة، ولذلك قال عمر:«هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى وأبوا الاسم» .

وأما كون مصرفه مصرف الزكاة على قول الخرقي فلأنه مسمى باسم الصدقة مسلوك به فيمن يؤخذ منه مسالك الصدقة فيكون مصرفه مصرفها.

قال المصنف رحمه الله في المغني: الأول أقيس لأن المعنى أخص من الاسم. ولأنه لو كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعه إلى فقراء من أخذت منهم كصدقات المسلمين.

وأما كون ذلك لا يؤخذ من كتابي غيرهم على المذهب فلأن قوله تعالى: {مِن الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية} [التوبة: 29]، وقوله عليه السلام لمعاذ:«خذ من كل حالم ديناراً» (1) عامٌّ في كل كتاب خرج منها نصارى بني تغلب لفعل عمر وإجماع الصحابة عليه فيبقى فيما عداه على مقتضاه.

و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الجزية من أهل نجران» (2) وكانوا نصارى.

و«أخذها من أكيدر دومة» (3) وهو عربي.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (3038) 3: 167 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية.

وأخرجه الترمذي في جامعه (623) 3: 20 كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر.

وأخرجه النسائي في سننه (2452) 5: 26 كتاب الزكاة، باب زكاة البقر.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه عن ابن عباس قال: «صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غدرة على أن لا تهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنوا عن دينهم ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا الربا» . (3041) 3: 167 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية.

(3)

أخرج أبو داود في سننه عن أنس بن مالك وعن عثمان بن أبي سليمان «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكَيْدر دومة فأُخِذ فأتوه به فحقن له دمه وصالحه على الجزية» . (3037) 3: 166 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية.

ص: 346

وأما كونها تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم على قول القاضي فلأنهم من العرب أشبهوا بني تغلب.

قال: (ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا زمِنٍ ولا أعمى ولا عبدٍ ولا فقير يعجز عنها).

أما كون الصبي لا جزية عليه فلأن قوله عليه السلام: «خذ من كل حالم» (1) يدل بمفهومه على أنه لا يؤخذ من صبي.

ولأن عمر كتب إلى أمراء الأجناد «أن اضربوا الجزية ولا تضربوها على النساء والصبيان» (2) رواه سعيد وأبو عبيد والأثرم.

وأما كون المرأة لا جزية عليها فلما تقدم من قول عمر.

وأما كون الزمِنِ والأعمى لا جزية عليهما فلأنهما محقونان الدم أشبها الصبي والمرأة. وفي معناه من راهبٍ وشيخ فانٍ وشبههما.

وأما كون العبد لا جزية عليه فلقوله عليه السلام: «لا جزية على العبد» (3).

وعن ابن عمر مثله.

ولأنه مال فلم تجب عليه الجزية كسائر الحيوانات.

ولأنه محقون الدم أشبه الصبي.

وأما كون الفقير لا جزية عليه فلقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286].

ولأنه مال يجب بحول الحول فلم يلزم الفقير كالزكاة والعقل.

(1) سبق تخريجه قريباً.

(2)

أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن أسلم عن عمر رضي الله عنه «أنه كتب إلى أمراء أهل الجزية أن لا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي قال: وكان لا يضرب الجزية على النساء والصبيان» 9: 198 كتاب الجزية، باب من يرفع عنه الجزية.

وأخرج أبو عبيد في الأموال عن قتادة عن أبي مجلز «أن عمر بعث عمار بن ياسر، وعبدالله بن مسعود، وعثمان بن حنيف إلى أهل الكوفة، فوضع عثمان على أهل الرؤوس: على كل رجل أربعة وعشرين درهما كل سنة وعطل من ذلك النساء والصبيان. ثم كتب بذلك إلى عمر فأجازه» . (102) ص: 42 كتاب سنن الفيء، باب فرض الجزية.

(3)

قال ابن حجر: روي مرفوعاً، وموقوفاً على عمر، ليس له أصل. اهـ تلخيص الحبير 4:123.

ص: 347

واشترط المصنف رحمه الله في الفقير العجز عن الأداء لأنه هو الذي يتعذر عليه وتشمله الآية فلو كان لا يعجز عنها ولو بصنعة وجبت عليه لأنه في حكم الأغنياء.

قال: (ومن بلغ أو أفاق أو استغنى فهو من أهلها بالعقد الأول، ويؤخذ منه آخر الحول بقدر ما أدرك).

أما كون من بلغ أو أفاق أو استغنى من أهل الجزية بالعقد الأول فلأنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه تجديد عقد لصبي بلغ ولا مجنون أفاق ولا فقير استغنى.

ولأن العقد يكون مع سادة أهل البلدة فيدخل فيه سائرهم فكذا هؤلاء.

وأما كون من ذكر يؤخذ منه في آخر الحول بقدر ما أدرك فلأن الجزية للسنة.

فعلى هذا من وجد منه ما ذكر في أول السنة أخذ في آخرها كل الجزية، ولو وجد في نصفها أخذ نصفها، وعلى هذا بالحساب، ولا يترك حتى يتم حولاً من حين وجد سببه لأنه يحتاج إلى إفراده بحول، وضبط حول كل إنسان يؤخذ منه يشق ويتعذر.

قال: (ومن كان يجن ويفيق لفقت إفاقته فإذا بلغت حولاً أخذت منه، ويحتمل أن يؤخذ منه في آخر كل حول بقدر إفاقته منه).

أما كون من ذكر تلفق إفاقته فلأنه أمكن من غير مشقة.

وأما كون من بلغت إفاقته حولاً تؤخذ منه الجزية حينئذ على المذهب فلأن حوله لا يكْمل إلا حينئذ.

وأما كونه يحتمل أن يؤخذ منه في آخر كل حول بقدر إفاقته منه فلأن الجزية تؤخذ في كل حول فوجب الأخذ منه بحسابه.

ص: 348

قال: (وتقسم الجزية فيجعل على الغني ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط أربعة وعشرون، وعلى الفقير اثنا عشر. والغني منهم من عدّه الناس غنياً في ظاهر المذهب).

أما كون الجزية تقسم بين أهل الكتاب فيجعل ثمانية وأربعون درهماً على الغني، وأربعة وعشرون على المتوسط، واثنا عشر على الفقير فلأن عمر رضي الله عنه هكذا فعل (1) بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه فكان إجماعاً.

فإن قيل: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما وجهه إلى اليمن: «خذ من كل حالم ديناراً» (2).

قيل: الجواب عنه من وجهين:

أحدهما: أن الفقر كان فيهم أغلب. ولذلك يروى عن مجاهد أنه قيل له: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: ذلك من أجل اليسار.

وثانيهما: أن الجزية يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام وكان الدينار في ذلك الزمان اجتهاد إمامه والأربعة اجتهاد إمام زمنها.

وأما كون الغني من عدّه الناس غنياً في ظاهر المذهب فلأن المقادير توقيفية ولا توقيف في ذلك فوجب رده إلى العرف كالحِرز والقبض.

وفي قول المصنف رحمه الله: في ظاهر المذهب إشعار بأن فيه خلافاً وهو صحيح لأن فيه ثلاث روايات:

إحداها: ما تقدم.

وثانيها: أن من ملك نصاباً فهو غني قياساً على المسلم.

وثالثها: أن ملك عشرة آلاف ديناراً فهو غني لأن من ملك دون ذلك لا يعد في بعض البلاد غنياً.

والأول أصح؛ لما ذكر.

(1) أخرجه أبو عبيد في الأموال عن حارثة بن المضرب (103) ص: 42، وعن محمد بن عبدالله الثقفي (104) ص: 43 كتاب سنن الفيء، باب فرض الجزية.

(2)

سبق تخريجه ص: 346.

ص: 349

ولأن العرف يختلف بالنسبة إلى البلدان فوجب اعتباره لئلا يحكم بغنى شخص وهو فقير عند أهل بلده.

قال: (ومتى بذلوا الواجب عليهم لزم قبوله، وحرم قتالهم. ومن أسلم بعد الحول سقطت عنه الجزية. وإن مات أخذت من تركته. وقال القاضي: تسقط).

أما كون من بذل الواجب يلزم قبوله فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «ادعهم إلى أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» (1).

وأما كونه يحرم قتالهم فلقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله -إلى قوله: - حتى يعطوا الجزية} [التوبة: 29] جعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم. فمتى بذلوا الجزية حرم قتالهم لذلك، ولما تقدم من الحديث.

وأما كون من أسلم بعد الحول سقط عنه الجزية فلأن الله تعالى قال: {قُل للذين كفروا إن ينتهوا يًغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38].

وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس على المسلم جزية» (2) رواه الخلال.

وروي عن عمر أنه قال: «إن أخذها في كفه ثم أسلم يردها عليه» .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج» يعني الجزية.

ولأن الجزية صَغار ولا تجب عليه كالمسلم.

ولأنها وجبت بسبب الكفر فوجب أن يُسقطها الإسلام كالقتل.

وأما كون من مات تؤخذ الجزية من تركته على المذهب فلأن الجزية دَين وجب عليه في حياته فلم تسقط بموته كدين الآدمي.

وأما كونها تسقط على قول القاضي فلأن الجزية عقوبة فسقطت بالموت كالحد.

والأول أولى؛ لما ذكر. والحد إنما يسقط لفوات محله وتعذر استيفائه بخلاف هذا.

(1) سبق تخريجه ص: 344.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (3053) 3: 171 كتاب الخراج، باب في الذمي يسلم في بعض السنة هل عليه جزية؟ .

وأخرجه الترمذي في جامعه (633) 3: 27 كتاب الزكاة، باب ما جاء ليس على المسلمين جزية.

وأخرجه أحمد في مسنده عنه (1949) 1: 223. وأخرجه عن جرير (2577) 1: 285.

وأخرجه أبو عبيد في الأموال عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه (121) ص: 49 كتاب سنن الفيء، باب الجزية على من أسلم من أهل الذمة.

ص: 350

قال: (وإن اجتمعت عليه جزية سنين استوفيت كلها. وتؤخذ الجزية في آخر الحول. ويمتهنون عند أخذها، ويطال قيامهم وتجر أيديهم).

أما كون الجزية إذا اجتمعت تستوفى كلها فلأنها دَين فإذا اجتمعت استوفيت كلها كديون الآدمي.

ولأنها حق مال يجب في آخر كل حول فلم تتداخل كالدية.

وأما كون الجزية تؤخذ في آخر الحول فلأنها مال يتكرر بتكرار الحول فوجب أخذها في آخر الحول لا في أوله كالدية.

فإن قيل: فالله تعالى قال: {حتى يعطوا الجزية} [التوبة: 29] أمر بالقتال إلى أن يعطوا الجزية فينبغي أن يجب بأول الحول.

قيل: المراد الالتزام. بدليل أنه يحرم قتلهم بمجرد البذل قبل الأخذ.

وأما كونهم يمتهنون عند أخذ الجزية ويطال قيامهم وتجر أيديهم فلأن الله تعالى قال: {حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29].

فإن قيل: الامتهان المذكور هل هو مستحق أو مستحب؟

قيل: فيه خلاف. ويتفرع عليه عدم جواز التوكيل إن قيل هو مستحق لأن العقوبة لا يدخلها النيابة. وكذا عدم صحة ضمان الجزية لأن البراءة تحصل بأداء الضامن فتفوت الإهانة. وإن قيل هو مستحب انعكست الأحكام المذكورة.

قال: (ويجوز أن يُشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين، وتبين أيام الضيافة وقدر الطعام والإدام والعلف وعدد من يضاف، ولا تجب عليهم من غير شرط. وقيل: تجب).

أما كون اشتراط الضيافة المذكورة على أهل الكتاب تجوز فلأن النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه «أنه ضرب على نصارى أيلة ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة نفس وأن يضيفوا من يمر بهم من المسلمين» (1).

(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 194 كتاب الجزية، باب كم الجزية.

ص: 351

وروى الأحنف بن قيس «أن عمر شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة» (1) رواه أحمد.

وروي عن عمر «أنه قضى على أهل الذمة ضيافة ثلاثة أيام وعلف دوابهم وما يصلحهم» (2).

ولأن الاشتراط ضرب من المصلحة لأنهم ربما امتنعوا من مبايعة المسلمين إضراراً بهم فإذا اشترطت عليهم الضيافة أُمن ذلك.

وأما كون أيام الضيافة وقدر الطعام والإدام والعلف وعدد من يضاف يبين فلأن الضيافة حق وجب فعله فوجب بيانه كالجزية.

وقال المصنف في الكافي ما معناه: أنه إن شرط عليهم الضيافة وأطلق جاز؛ لأن عمر لم يقدر ذلك. ولما شكي إليه اعتداء الأضياف قال: «أطعموهم مما تأكلون» (3). فعلى هذا لا يجب عليهم ضيافة أكثر من يوم وليلة لأن ذلك الواجب على المسلم، ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم؛ لقول عمر.

وأما كون الضيافة المذكورة لا تجب من غير شرط على الأول ذكره القاضي فلأنها أداء مال فلا تجب عليهم بغير رضاهم كالجزية.

وأما كونها تجب على قولٍ فلأنها تجب على المسلم فالكافر أولى.

قال: (وإذا تولى إمام فعرف قدر جزيتهم وما شرط عليهم أقرهم عليه، وإن لم يعرف رجع إلى قولهم فإن بان له كذبهم رجع عليهم. وعند أبي الخطاب أنه يستأنف العقد معهم).

(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن الأحنف بن قيس «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يشترط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا قناطر وإن قتل بينهم قتيل فعليهم ديته» . 9: 196 كتاب الجزية، باب الضيافة في الصلح.

(2)

أخرجه أبو عبيد في الأموال عن نافع عن أسلم «أن عمر ضرب الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانبير، وعلى أول الورق: أربعين درهما، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام» . (100) ص: 42 كتاب سنن الفيء، باب فرض الجزية ومبلغها، وأرزاق المسلمين وضيافتهم.

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (16446) 4: 36.

ص: 352

أما كون الإمام المتولي يُقر أهل الذمة على عقدهم الأول على المذهب فلأن الخلفاء أقروهم على ذلك لم يجددوا لمن كان في زمنهم عقد.

ولأنه عقد لازم أشبه الإجارة.

وأما كونه يقرهم على ما كانوا عليه إذا عرف قدر جزيتهم وما شُرط عليهم فلأن ذلك هو موجَب العقد الأول وقد تقدم أنهم يقرون عليه.

وأما كونه يُرجع إلى قولهم إذا لم يعرف قدر جزيتهم وما شرط عليهم فلأنه لا يمكن معرفته إلا من جهتهم.

وأما كونه يرجع عليهم بالنقص إذا بان لهم كذبهم بإقرار أو بينة فلأنه واجب عليهم بالعقد الأول فكان للإمام المتجدد أخذه كالأول.

وأما كونه يستأنف العقد معهم على قول أبي الخطاب فلأن المتولي إمام أشبه الأول.

قال: (وإذا عقد الذمة كتب أسمائهم وأسماء آبائهم وحلاهم ودينهم، وجعل لكل طائفة عريفاً يكشف حال من بلغ وأسلم واستغنى وسافر ونقض العهد وخرق شيئاً من أحكام الذمة).

أما كون الإمام يكتب أسماء أهل الذمة وأسماء آبائهم وحلاهم ودينهم إذا عقد الذمة فلأنه يعرفهم بذلك. والمراد بكتب أسمائهم وأسماء آبائهم أن يكتب فلان بن فلان، ويكتب حلاهم أن يكتب صفاتهم لأن الحلا جمع حلية والمراد بها الحلية التي لا تختلف من طول وقصر وسمرة وبياض ومن كونه أدعج العينين مقرون الحاجبين أقنى الأنف أبلج أكحل. ويكتب دينهم أن يكتب يهودي نصراني مجوسي.

وأما كونه يجعل لكل طائفة عريفاً فليعرفه بما ذكره المصنف رحمه الله؛ لأن الجزية تتجدد بالبلوغ وتكثر بالاستغناء وتسقط بالإسلام ويتعذر الأخذ مع السفر ويمنع حقن الدم بها عند النقض والحاجة داعية إلى معرفة ذلك كله.

ص: 353