المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الأولالعلوم الشرعية

- ‌حول التقليد والتجديد

- ‌ التفسير

- ‌القراءات

- ‌الحديث

- ‌ الأثبات

- ‌الإجازات

- ‌عيسى الثعالبي

- ‌أحمد البوني

- ‌ الفقه

- ‌الأثار الفقهية:

- ‌عبد العزيز الثميني:

- ‌خليفة بن حسن القماري:

- ‌النوازل والفتاوى والفرائض

- ‌الفصل الثانيعلم الكلام - التصوف - المنطق

- ‌ علم الكلام

- ‌ يحيى الشاوي

- ‌ التصوف

- ‌المناقب الصوفية:

- ‌شروح في التصوف:

- ‌المواعظ والردود:

- ‌المنطق

- ‌الفصل الثالثعلوم اللغة - النثر الفني

- ‌علوم اللغة ونحوها

- ‌البيان والمعاني (البلاغة) والعروض

- ‌فنون النثر

- ‌الشروح الأدبية:

- ‌التقاريظ والإجازات والعقود:

- ‌الرسائل:

- ‌الوصف:

- ‌الخطابة:

- ‌القصص والمقامات:

- ‌ أحمد المقري

- ‌أحمد بن عمار

- ‌الفصل الرابعالشعر

- ‌مدخل

- ‌الشعر الديني

- ‌الشعر السياسي

- ‌الشعر الاجتماعي

- ‌المجون والمزاح:

- ‌المدح والفخر:

- ‌الرثاء:

- ‌وصف المنشآت العمرانية:

- ‌الألغاز:

- ‌الشعر الذاتي

- ‌الشعر والمرأة:

- ‌الوصف:

- ‌الحنين والشكوى:

- ‌ ابن علي)

- ‌الشعر الشعبي

- ‌الفصل الخامسالتاريخ - التراجم - الرحلات

- ‌ مفهوم التاريخ

- ‌في السيرة النبوية

- ‌تواريخ عامة وتواريخ محلية

- ‌تراجم عامة

- ‌تراجم خاصة

- ‌ابن المفتي وتقييده

- ‌أبو راس الناصر

- ‌الرحلات

- ‌الورتلاني ورحلته

- ‌الفصل السادسالعلوم - الفنون

- ‌مقدمة

- ‌الحساب والفلك

- ‌الطب والجراحة والصيدلة

- ‌عبد الرزاق بن حمادوش

- ‌كتابه كشف الرموز:

- ‌كتابه تعديل المزاج:

- ‌الفنون

- ‌رأي العلماء والمتصوفة في الموسيقى:

- ‌ممارسة الموسيقى والغناء:

- ‌العمارة والخط والرسم:

- ‌المحتوى

الفصل: ‌ علم الكلام

في عصر ساد فيه التصوف كل شيء في الحياة تقريبا، لا يمكن أن يكون إنتاج علمائه إلا مصبوغا بالزهد والموعظة والالتزام بمبادئ المتصوفين والزهاد (1). ولا يضارع إنتاج الجزائريين في التصوف والمواعظ إلا إنتاجهم الأدبي الذي تلون أيضا بلون التصوف، كما سنرى. ويتصل بالتصوف‌

‌ علم الكلام

والمنطق. ولذلك تناولناهما في هذا الفصل أيضا. وليس هناك كتب فلسفية بالمعنى الدقيق للكلمة، فإذا وجدنا شيئا من ذلك، كالجدل والمطارحات ونحوها أدرجناها في هذا الفصل أيضا لصلتها بالمنطق والكلام. أما المواعظ والأذكار ونحوها فقد أضفناها إلى التصوف. ونظرا لأهمية يحيى الشاوي في علم الكلام والردود أفردنا له ترجمة في هذا الفصل.

علم الكلام

شاع لدى الجزائريين استعمال تعبير علم الكلام وعلم التوحيد على حد سواء. وكانوا يعتبرون هذا العلم من أهم العلوم بل هو أهمها. فقد عرفه مصطفى الرماصي في القرن الثاني عشر بما يلي: (علم الكلام أوثق العلوم دليلا، وأوضحها سبيلا، وأشرفها فوائد، وأنجحها مقاصد، إذ به تعرف ذات الحق وصفاته، ويصرف عنه ما لا يليق به ولا تقبله ذاته)(2). ورغم هذا

(1) انظر الفصل السادس من الجزء الأول.

(2)

الرماصي (حاشية على أم البراهين للسنوسي) ك 2499 الخزانة العامة بالرباط، ضمن مجموع، في حوالي 300 صفحة، قارن هذه المقالة بمقالة محمد السنوسي أيضا عن علم الكلام في الفصل الأول من الجزء الأول.

ص: 91

الإلحاح من الرماصي على ضرورة تعلم علم الكلام فإن الورتلاني، الذي عاش في نفس العصر، قد روى أن علماء الخنقة كانوا لا يتعلمون علم الكلام لأنه في نظرهم لا يحتاج إلى دليل. ولعل بعض العلماء كان يهرب من التعمق في علم الكلام لأن ذلك يؤدي في نظرهم إلى الكفر أو الخروج عن الدين. وليست الخلافات المذهبية والفلسفية إلا نتيجة لمدارسة علم الكلام والتعمق فيه والتمادي في الاستباط والبحث عن الأدلة.

والعقائد السائدة لدى الجزائريين هي عقائد الأشعري، وهي عقائد جمهور أهل السنة (1). وكانت مؤلفات محمد بن يوسف السنوسي في العقائد هي المصدر المحلي لدراسة علم الكلام. وقد اصطبغت هذه المؤلفات بالصبغة الصوفية. ورغم أن السنوسي كان يجمع بين علمي الظاهر والباطن فإن شارحيه ومحشيه ودارسي مؤلفاته قد مالوا، تبعا لروح العصر، إلى علوم الباطن. وقد أصبح كل من خالف هذا التيار يتهم بالتجسيم والاعتزال والإيمان بظواهر النصوص، ومن ثمة يحكم عليه بالكفر والزندقة. حدث هذا لعبد القادر الراشدي مفتي قسنطينة في القرن الثامن عشر الميلادي (2)، فقد اتهمه علماء بلده بالكفر والإلحاد لقوله بالتجسيم. وقد انتصر محمد بن الترجمان للأشعري ضد الماتريدي في رسالته (الدر الثمين) التي سنتحدث عنها. وفي إجابته عن قضية تتعلق برؤية الله في الدنيا والآخرة، صرف ابن العنابي الرأي القائل بالمشاهدة الحسية في الدنيا إلى أنه رأى المعتزلة وأنه لا يقول هو به بل يتبع رأي أهل السنة (لوضوح أدلتهم)(3).

(1) من المفيد أن يطالع المرء المناقشة التي دارت في المغرب بين ابن حمادوش الجزائري وأحمد الورززي المغربي حول الاستدلال على أفضلية الأنبياء على الملائكة أو العكس وحول مذهب الأشاعرة وغيرهم، وقد كان الورززي متهما بالأخذ برأي المعتزلة، ابن حمادوش (الرحلة) مخطوطة.

(2)

(تعريف الخلف برجال السلف) 2/ 219.

(3)

ابن العنابي (مسألة في التوحيد) جواب له على سؤال في هذا الموضوع، ك 1089 الخزانة العامة - الرباط، مجموع.

ص: 92

وتبعا لانتشار المذاهب الإسلامية والمبالغة في التصوف شاعت في الجزائر أيضا تفسيرات كثيرة تتخذ علم الكلام منطلقا لها. فبالإضافة إلى ذات الله وصفاته درس علماء الكلام إيمان العالم وإيمان المقلد، واختلفوا حول ذلك، كما اختلفوا حول تعلق قدرة الله تعالى بالحيز أو لا. فهذا محمد البوزيدي، أحد علماء قسنطينة في القرن الحادي عشر (17 م) كان، كما يقول الفكون، صاحب دعوة كبيرة في علم الكلام. فكان يدرس عقائد السنوسي ومختصر ابن الحاجب الفقهي. وكان يقول بأن (المقلد غير مؤمن وأن العامة مختلف في إيمانها) كما كان يقول إن (قدرة الله لا تتعلق بتحيز الجوهر). ويبدو أن البوزيدي لم يكن وحده في هذا التفسير، فقد أكد الفكون أن (هذا مذهب سرى في جل أهل المغرب سريان النار في الهشيم)(1). ولا ندري من أين جاء هذا المذهب إلى أهل المغرب، ولكن من المؤكد أنه ليس مذهبا جديدا.

سيطرت إذن مؤلفات محمد السنوسي في التوحيد سيطرة تامة على الدارسين لهذا العلم طيلة العهد العثماني. ولم يكن ذلك مقصورا على الجزائر وحدها بل تجاوزها إلى معظم الأقطار العربية والإسلامية، غير أن الذي يهمنا هنا هو سيطرة هذه المؤلفات على الدارسين في الجزائر. وأهم مؤلفات السنوسي المشار إليها هي ما يعرف بالعقائد السنوسية، وهي العقيدة الصغرى والعقيدة الوسطى والعقيدة الكبرى، ولكن أهم الجميع هي الأولى لوضوحها واختصارها، وهي المعروفة أحيانا باسم (أم البراهين). وليس معنى هذا أن العقيدتين الأخريين لم يهتم بهما الدارسون، ولكن معناه أن جهودهم قد تركزت في التدريس والشرح حول العقيدة الصغرى، ويليها العقيدة الوسطى فالكبرى. فأنت لا تكاد تجد عالما خلال هذا العهد لم يدرس لطلابه (صغرى السنوسي)، كما كانت تسمى، أو يتناولها بالشرح والتحشية وأحيانا بشرح المشروح وتحشية المحشى. وقد كثرت هذه الشروح

(1)(منشور الهداية)، كلمة (هشيم) مكتوبة في الأصل (العجم) وذلك سبق قلم، كما يقولون.

ص: 93

والحواشي على صغرى السنوسي حتى أصبحت بشكل ظاهرة في حد ذاتها، وكأن الفكر الفلسفي والديني قد تجمد عندها فلم يعد قادرا على الخوض في مسائل التوحيد إلا من خلال عمل السنوسي.

وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن شروح عقائد السنوسي نشير إلى عمل آخر في التوحيد كان أيضا قد شغل العلماء في العهد المذكور، ونعني به منظومة أحمد بن عبد الله الجزائري، المعروفة باسم (المنظومة الجزائرية). وكان الجزائري معاصرا للسنوسي، كما عرفنا، وقد نظمها وهو ما يزال شابا (1)، وأرسل بها إلى محمد السنوسي بتلمسان لشرحها فقام هذا بشرح المنظومة شرحا ظل هو أيضا مصدرا آخر هاما للتقليد بين العلماء في هذا الميدان (2). ورغم سهولة (المنظومة الجزائرية) وقربها من عقول الدارسين الشادين، فإن شرح السنوسي عليها هو الذي حببها للعلماء والطلاب على حد سواء، وقد أخذت، هي الأخرى، شهرة واسعة ليس في الجزائر فحسب بل في العالم الإسلامي أيضا، إذ لا تكاد تخلو مكتبة قديمة من مخطوطة منها. ويمكن القول، بدون مبالغة، إن دراسة التوحيد في الجزائر خلال العهد العثماني كانت تقوم على إنتاج السنوسي والجزائري، بالإضافة إلى (إضاءة الدجنة) لأحمد المقري.

وكما شرح السنوسي منظومة الجزائري شرح أيضا أرجوزة محمد بن عبد الرحمن الحوضي المعروفة (بواسطة السلوك)(3). وقد عرف فيها

(1) هذا ما أكده أحمد بن ساسي البوني في إجازته لابنه، وقد تعرضنا إليها. انظر ترجمة البوني في الفصل الأول من هذا الجزء.

(2)

هناك نسخ كثيرة لهذا الشرح، منها نسخة المكتبة الوطنية بالجزائر التي تعود إلى سنة 884 (1479)، وهي في 268 ورقة تحت رقم 2178، وعن السنوسي والجزائري انظر الفصل الأول من الجزء الأول.

(3)

بروكلمان 2/ 992، وتوجد منها نسخة في المكتبة الوطنية بالجزائر رقم 899، منسوخة بقلم عبد القادر بن عمر الحارثي سنة 938، ولعله كان من تلاميذ الحوضي، انظر عن الحوضي الفصل الأول من الجزء الأول.

ص: 94

الحوضي علم التوحيد أيضا بأنه (أشرف العلوم) وأنه أساس جميع العلوم. وفيها نظم جميع مسائل التوحيد المتعارف عليها، وجعلها سهلة مفهومة التعبير قريبة المعنى (يقرأها الصبيان في المكاتب) وتؤدي إلى إدراك قضايا التوحيد حتى يخرج قارئها من التقليد الأعمى في معرفة الله، كما أنه جعلها في متناول الكبار المنصفين من العلماء لاختصارها لمسائل المطولات. وقد كان الحوضي شاعرا بالسليقة ولذلك كانت أرجوزته سلسة العبارة وجيدة.

ورغم أن أحمد بن زكرى التلمساني، المعاصر للسنوسي أيضا، قد اشتهر، كما عرفنا، بدراسة التوحيد والتأليف فيه، فإن شهرته فيه لم تبلغ شهرة زميله السنوسي. ومع ذلك فقد كانا فرسي رهان في هذا الميدان. فقد ألف أحمد بن زكري رجزا في التوحيد سماه (محصل المقاصد به تعتبر العقائد)، وهو الذي وصفه ابن عسكر بأنه عمل بلا نظير (1)، وهو أيضا الرجز الذي اعتذر السنوسي عن شرحه قائلا إنه لا أحد يقدر على ذلك سوى الناظم نفسه. ورغم صعوبة عمل ابن زكرى فقد قام الورثلاني في القرن الثاني عشر بشرح (محصل المقاصد)، ولكنه أخبر أنه لم يتمه.

فإذا عدنا إلى عقائد السنوسي، وجدنا أن شراحها كثيرون، ومن أوائل من شرح العقيدة الصغرى تلميذه ومترجمه محمد بن عمر الملالي (2)، كما تناولها أحمد بن أغادير الذي كان، كما يقول ابن عسكر، من جبال بني راشد. ونحن لا نعرف عن هذا الشرح أكثر مما ذكره عنه صاحب (دوحة الناشر). فقد قال إن كتب ابن أغادير كانت منبعا للباحثين، ولا سيما في علم التوحيد والشريعة، كما أنه قد نسب إليه (تعاليق) لا ندري موضوعها.

ولكن شهرة ابن أغادير ظلت كشهرة السنوسي وابن زكرى، تقوم على علم

(1)(دوحة الناشر) لابن عسكر (الترجمة الفرنسية)، 205، وعن ابن زكرى انظر الفصل الأول من الجزء الأول.

(2)

الخزانة الملكية بالرباط، رقم 9073، مجموع، والشرح في حوالي 26 ورقة.

ص: 95

التوحيد (1). وحوالي نفس الفترة قام الشيخ عمر الوزان في قسنطينة بشرح الصغرى أيضا (2). ومن تلاميذ الوزان عبد الرحمن الأخصري، الذي شرح أيضا صغرى السنوسي، وهو الشرح المذكور ضمن مؤلفاته (3). وقد عرف الأخضري بنظم العلوم المختلفة ومنها مسائل التوحيد، وينسب إليه رجز في ذلك أيضا. ولكن ليس من المعروف ما إذا كان قد شرحه بنفسه.

ومن الذين كتبوا عن العقيدة الصغرى للسنوسي وتناولوها بالتدريس والتعليق، سعيد قدورة. فقد كان من مشاهير المدرسين، كما سبق. وكان لا يكاد يترك علما يدرسه لطلابه إلا ووضع عليه شرحا أو حاشية. ومن ذلك شرحه لعقيدة السنوسي. فقد درسها لطلابه متنا وشرحا، ثم بدا له أن يضيف إلى شرح السنوسي نفسه فوائد كان قدورة يستحسنها وزوائد كان قد قيدها من هنا وهناك، وقرر أن يجعل كل ذلك (حاشية) على الشرح المذكور. وقد اتبع قدورة في حاشيته نفس الأسلوب المتبع عندئذ وهو شرح الألفاظ والمعاني والاستنتاج بالتعاليق الدينية وما يجر إليه الظرف من أحكام (4).

وهناك عالم آخر لم يبلغ شهرة قدورة ولكنه لا يقل عنه ورعا وعلما، وهو مصطفى الرماصي. فقد وضع أيضا حاشية على شرح صغرى السنوسي. وبعد أن أشار إلى أن الصغرى عظيمة الفائدة (لبركة مؤلفها) وأن السنوسي أشهر من ألف في عمل الكلام رغم كثرة المعتزين به، قال إن بعض المعاصرين من إخوانه قد طلبوا منه وضع حاشية عليها فأجابهم إلى طلبهم.

(1)(دوحة الناشر) 222، وبناء عليه فإن ابن أغادير مات في بداية العقد الخامس من القرن العاشر.

(2)

(نيل الابتهاج)197.

(3)

انظر لوسياني ترجمة (السلم)، 5 - 6، وقد عد الورثلاني حوالي ثلاثين تأليفا للأخضري. انظر أيضا (العقد الجوهري) لأحمد بن داود، وهو مخطوط خاص، وكذلك الخزانة العامة بالرباط، رقم د 3228.

(4)

المكتبة الملكية بالرباط، رقم 4496 مجموع، والمكتبة الوطنية بتونس (ح. ح. عبد الوهاب)، رقم 18713.

ص: 96

ولم يذكر الرماصي المنهج الذي سار عليه في تعليقه بل دخل مباشرة في عمله فبدأ يبين ألفاظ ومعاني كلام السنوسي. فكلامه إذن كلام تقليدي، وإنما أضاف إليه معارفه الخاصة وأسلوبه. وهذه الحاشية تعتبر جهدا ضخما إذا حكمنا من حجمها (1).

وقام الورتلاني بشرح وتحشية عمل السنوسي أيضا. فالورثلاني، كما عرفنا، كان مولعا بعلم التوحيد، وقد ناقش فيه علماء الخنقة وانتصر له وبين أنه ضرورى لمعرفة الله، وأنه ضروري أيضا للمتصوف. وكان السنوسى، الذي يسمونه أحيانا (شيخ الموحدين) قد قال عن علم الكلام (ليس علم من علوم الظاهر يورث معرفته تعالى ومراقبته إلا علم التوحيد وبه يفتح له في فهم العلوم كلها. وعلى قدر معرفته به يزداد خوفه منه تعالى وقربه منه)(2). لذلك وضع الورثلاني شرحا على خطبة أو مقدمة شرح السنوسي على صغراه، كما وضع حاشية على شرح السكتاني المراكشي على صغرى السنوسي أيضا. وقد أخبر الورثلاني في رحلته أنه أطلع الشيخ الحطاب في مصر على هذين العملين فاستحسنهما، وكان ذلك أثناء توجهه إلى الحج (3). ومن هذه الإشارة نفهم أن الورثلاني قد أكمل الشرح والحاشية. والورثلاني من العلماء القلائل الذين وضعوا أيضا شرحا على وسطى السنوسي. وهذا كله يبرهن على عنايته بعلم التوحيد.

ولكن الورثلاني لم يكن وحده في هذه العناية. فقد عرفنا أن معظم العلماء كانوا يدرسون علم التوحيد ويكتبون فيه. ومن هؤلاء ابن مريم. فهو تبعا لمدرسة السنوسي، قد جمع أيضا بين التصوف وعلم الكلام وألف في الاثنين. ومن تآليفه في علم الكلام (كشف اللبس والتعقيد عن عقيدة أهل

(1) الخزانة العامة بالرباط، ك 2499، مجموع، والنسخة التي اطلعنا عليها نسخها يحيى بن عبد القادر بن شهيدة بتلمسان سنة 1236، وقد انتهى الرماصي من حاشيته سنة 1105، وتبلغ حوالي ثلاثمائة صفحة.

(2)

روى ذلك ابن مريم في (البستان)277.

(3)

الورتلاني (الرحلة)284.

ص: 97

التوحيد)، وشرح له على مختصر الصغرى للسنوسي (1). كما قام الشيخ خليفة بن حسن القماري بشرح الصغرى أيضا، والظاهر أنه شرح كبير لأنه قد قسمه إلى خمسة أقسام وجعل كل قسم أجزاء، وهكذا (2). ورغم عناية ابن حمادوش بالفلك والطب فإنه تأثر بتيار العصر فكتب شرحا على العقيدة الكبرى سماه (مباحث الذكرى في شرح العقيدة الكبرى). وقد قال إنه مزج به ألفاظها واستخرج به نضارها (فجاء بحمد الله يرضي الناظرين ويعين القاصرين، مشتملا على خمسة وستين مبحثا)، وأخبر ابن حمادوش أن شرحه قد اشتمل على تسع عشرة كراسة (3). وقد وضع محمد بن عبد المؤمن أرجوزة في العقائد والفروع، كما سبق، وجعل جزأها الأول في العقائد أو علم الكلام وبدأها بقوله:

الله موجود قديم باقي

مخالف للخلق بالإطلاق

وقائم بنفسه وأحد

ذاتا وفعلا صفة يعتقد

ثم الوجود صفة نفسية

والخمسة الأخرى غدت سلبية

وأرجوزة ابن عبد المؤمن، بقسميها، سهلة واضحة، لأن صاحبها أيضا من العلماء الأدباء والأدباء العلماء كما يقول ابن حمادوش. وقد أجاز ابن عبد المؤمن بهذه الأرجوزة الرحالة المغربي ابن زاكور ورخص له في شرحها إذا أراد (4).

وقد أصبحت (إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة) لأحمد المقري تنافس عقيدة السنوسي في الأهمية. فقد عرفنا أن المقري كان من المبرزين في الحديث والتوحيد بالإضافة إلى الأدب والتاريخ، وهو على خلاف معظم علماء عصره لم يكن من المتصوفة. كتب المقري (إضاءة الدجنة) نظما بلغ فيه حوالي خمسمائة بيت تناول فيها أصول الدين وقضايا التوحيد. وقام

(1) ذكر ذلك ضمن كتبه في (البستان)314.

(2)

محمد الطاهر التليلي (إتحاف القاري)، مخطوط خاص.

(3)

ابن حمادوش (الرحلة)، وهي الآن مطبوعة.

(4)

ابن زاكور (الرحلة)17.

ص: 98

بتدريسها في مكة ومصر ودمشق، وأجاز بها بعض العلماء الذين كانوا يحضرون درسه فيها، ومنهم أحمد الشاهين بدمشق. وقد لخص المقري كل ذلك في هذه الأبيات:

وإنني كنت نظمت فيه

لطالب عقيدة تكفيه

سميتها (إضاءة الدجنة)

وقد رجوت أن تكون جنه

وبعد أن أقرأتها بمصر

ومكة بعضا من أهل العصر

درستها لما دخلت الشاما

بجامع في الحسن لا يسامي (1)

ولأهميتها وسلاستها قام عدد من العلماء بشرحها. ولا يعرف أن ناظمها قد شرحها بنفسه اللهم إلا إملاءاته على طلابه حين تدريسها. فقد أخبر المقري أن معاصره عبد الكريم الفكون القسنطيني كان ينوي وضع تقييد على (إضاءة الدجنة)(2). ولا ندري إن كان الفكون قد قام فعلا بذلك، فقد رأيناه شديد النقد للمقري في أخلاقه، كما أن الفكون لم يذكر ذلك في مؤلفاته التي أشار إليها في كتابه (منشور الهداية). والغالب على الظن أنه لم يفعل. ولكن الذي قام بشرحها فعلا وأعجب بصاحبها هو محمد بن المختار بن الأعمش العلوي الشنقيطي. وذكر محمد بن الأعمش دافعه في وضع شرح على (إضاءة الدجنة) وهو كون المقري قد جعلها (في نظم عجيب وأسلوب غريب. ونفخ فيها ما في المطولات بأوجز لفظ وأحسن ترتيب). والملاحظ أن ابن الأعمش قد اعتمد في شرحه على عقائد السنوسي أيضا (3). وهناك شروم أخرى على إضاءة الدجنة (4).

(1)(نفح الطيب) 3/ 101، وهو يشير بـ (فيه) إلى علم الكلام وبالجامع إلى الجامع الأموي بدمشق.

(2)

نفس المصدر 3/ 240.

(3)

المكتبة الوطنية - باريس، رقم 2443 مجموع، واسم شرح الشنقيطي هو (فتوحات ذي الرحمة والمنة في شرح إضاءة الدجنة).

(4)

نفس المصدر، رقم 5432، مجموع.

ص: 99

ولمحمد بن الترجمان رسالة في التوحيد سماها (الدر الثمين في تحقيق القول في صفة التكوين). والنسخة التي اطلعنا عليها منها يبدو أنها بخط المؤلف نفسه، الذي عاش في القرن الثاني عشر للهجرة. ورغم قصرها (خمس ورقات) فقد تناول فيها ابن الترجمان أهم المسائل التي كانت تدور بين الأشعرية والماتريدية. ورتبها على فصول ومقدمة وخاتمة. أما المقدمة فعن مدلول التكوين لغة وما يتعلق به، وأما الفصول الثلاثة فهي كما يلي:

1) في تحقيق مذهب الماتريدي في صفة التكوين.

2) في تحقيق مذهب الأشعري فيه.

3) في مسائل اختلف فيها الأشعرية والماتريدية من علم الكلام. وقد جعل الخاتمة في بيان الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة في صفات الأفعال. ويبدو ابن الترجمان، الذي لا نعرف عن حياته الآن إلا النزر اليسير، متمكنا من المسائل الخلافية وكأنه كان من أعيان رجال الدين والفلسفة في زمانه. وقد جاء في خاتمة الرسالة ما يلي:(قاله وكتبه الفقير إلى رحمة ربه المنان، أسير ذنبه محمد بن الترجمان، الشريف الجزائري)(1). ومن جهة أخرى ذكر ابن سليمان أن لشيخه بلقاسم بن عثمان الدارجي كتابا سماه (كتاب الحقائق) نقل منه ابن سليمان كلام هذا الشيخ في عقائد السنوسي وغيرها (2).

وقد فاخر أبو راس بأنه لم يتفوق عليه في كثرة التأليف إلا السيوطي، ومن تآليفه بالطبع ما يتناول مسائل التوحيد وقضايا الدين عموما. من ذلك (الزهر الأكم في شرح الحكم) في التوحيد، و (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة)، و (قاصي الوهاد في مقدمة الاجتهاد) كلاهما في المذاهب. وحين عد أبو راس تأليفه جعل التوحيد أحد أقسامها. وكان ولوعا بمناقشة مسائل

(1) المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2187، النسخة التي رأيناها عليها تملك السيد مصطفى ابن الحاج أمحمد خزناج بالشراء سنة 1224. عن ابن الترجمان، انظر سابقا.

(2)

ابن سليمان (كعبة الطائفين) 3/ 122.

ص: 100

علم التوحيد مع علماء عصره في حله وترحاله، حتى أنه سجل من ذلك في (عجائب الأسفار) وفي غيره عدة مسائل تناقشها معهم في الجزائر وتونس ومصر والحجاز. كما سجل ملاحظاته على علاقة الوهابية بمذهب الإمام ابن حنبل. ورغم سيطرة التصوف على علماء العصر فإن أبا راس لم يكن من المتصوفة، وكان في حياته العلمية والدنيوية شبيها بأحمد المقري: كثير الحفظ والتأليف، كثير المدح للأمراء والأعيان، غير أن المقري كان أقوى منه أدبا، ولا نستغرب بعد ذلك أن نجد أبا راس قد قام بشرح صغرى السنوسي، فهو لم يكد يترك متنا إلا شرحه، حتى أنه قد شرح بعض الأعمال ثلاث مرات.

وكل من عبد العزيز الثميني ومحمد بن العنابي قد اهتم بالتوحيد أيضا، وكان كلاهما من رجال الدين البارزين في عصرهما. أما الثميني فقد اهتم بقضايا المذهب الإباضي الفقهية والاجتماعية، ولكنه لم يهمل علم الكلام، فقد ذكر له من تآليفه فيه شرح يدعى (النور) وهو على النونية في علم الكلام.

كما أن كتاب (التاج) الذي اختصر فيه (منهاج الطالبين) لخميس العماني يتناول مسائل التوحيد والفقه (1). أما ابن العنابي فقد تناول مسائل كثيرة في التوحيد في فتاويه الكثيرة، ولكن أهم ما سجلناه له هو جوابه على سؤال وجه إليه وكتبه بخط يده في رسالة صغيرة. وقد افتتح الجواب بهذه العبارة (ورد علي سؤال نصه، بعد عنوان، إذا قيل حيث كان أهل الحق مطبقين على أن الحق تعالى يرى في الآخرة بالأبصار وأن الرؤية عبارة عن الإدراك. فأقول، اعلم أن المدركات تنقسم إلى ما يدخل في الخيال كالصور المتخيلة والأجسام المتلونة المتشكلة، وإلى ما لا يدخل في الخيال كالذات العلية وكل ما ليس بجسم كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها ..) وقد قارن ابن العنابي في إجابته بين مذهب أهل السنة ومذهب المعتزلة في هذه المسألة، ولكنه غلب في النهاية مذهب أهل السنة قائلا: (ونحن لا نقول به (يعني مذهب

(1) مقدمة كتاب (النيل) 1/ط الجزائر، 1967.

ص: 101