الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مرتين كما أسلفنا. وكان اهتمامه بالتاريخ والأنساب وحافظته القوية يساعدانه على التقاط ما قد يفوت الآخرين عن الأماكن التي زارها. تجول أبو راس في المغرب الأقصى عدة مرات، وأثناء حجتيه تجول في تونس ومصر والحرمين وسورية والقدس وغيرها. بالإضافة إلى تنقلاته في وطنه الجزائر وكان في كل ذلك يجادل ويسجل الحوادث ويروي العلوم ويطلع. وهذه هي بعض التواريخ الهامة في حياته قد تساعدنا على فهم رحلته، فقد توجه إلى المغرب للدراسة وهو يافع أثناء تاريخ لا نعرفه بالضبط، وقد يكون بين 1175 و 1180، وكان في مدينة الجزائر عدة مرات منها مرة سنة 1214. وكان حجه الأول سنة 1204 وحجه الثاني سنة 1226. وكلاهما على ما يظهر كان بحرا. وكان في رحلته يحاول أن يقتدي بابن رشيد وابن مرزوق الخطيب والعياشي والدرعي. ولكن شتان ما كتب وما كتبوا. فقد كتب (فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته) وخصص فيه فصلا عن رحلاته في المغرب والمشرق. فإذا به لا يتحدث إلا عن شيوخه الذين درس عنهم والقضايا العلمية التي عرضت له هنا وهناك وبعض الأخبار عن العلماء وعن حركة محمد بن عبد الوهاب، ونحو ذلك. ولذلك قال أحد الباحثين إن رحلة أبي راس غير مهمة (1). ولعل أبا راس، الذي اشتهر بتكرار الشروح على نفس العمل، قد تحدث عن رحلته المقصودة في كتابه المفقود (عدتي ونحلتي في تعداد رحلتي).
الورتلاني ورحلته
أسهم الورتلاني بعمل كبير في التاريخ، وهو لذلك يستحق منا وقفة قصيرة نختم بها هذا الفصل. ونود أن نشير إلى أن دراستنا عن (الرحلات الحجازية الجزائرية) قد تضمنت نبذة عن حياته وتحليلا لما كتبه بالخصوص
(1) فور بيقي (المجلة الآسيويمة)، 1899، 316، وانظر عن أبي راس ما كتبناه عنه في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
عن الجزيرة العربية ومصادره في ذلك.
ولد الحسين بن محمد السعيد في بني ورثلان، ومن ثمة نسبته الورثلاني، سنة 1125 وتوفي بنفس المكان سنة 1193. ويذهب الورثلاني إلى أنه من أسرة عربية شريفة. وكان جده قد جاء من ميلة وصاهر أسرة محمد أمقران حاكم منطقة قنزات وأصبح شيخ علم معترفا له وأسس نفوذ الأسرة الروحي في المنطقة حتى أنه بعد أن توفي أقيمت له قبة باعتباره من كبار المرابطين، وهكذا اجتمع في أصول الورثلاني الدين والدنيا: الدين عن طريق جده ووالده اللذين كانا أيضا من المرابطين، والدنيا عن طريق أخواله أولاد أمقران الذين كانوا حكاما ورجال سيف. وقد تزوج الورثلاني نفسه من إحدى بنات هذه الأسر الكبيرة، وهي أسرة المسعود بن عبد الرحمن من بني عيدل. كما كانت أسرته على صلة بعائلات قسنطينة.
ومع ذلك فإن الورثلاني نشأ نشأة فقيرة أساسها التقشف الصوفي. وفي المدرسة القرآنية، التي كان يديرها والده، حفظ الورثلاني القرآن الكريم وهو في سن مبكرة. وبعد أن شب ذهب يبحث عن العلم في مختلف الزوايا، فتعلم الفقه والنحو ثم أضاف إلى ذلك علمي التصوف والتوحيد، ولا شك أنه نال حظا من اللغة والأدب والعروض والتاريخ. وهكذا أصبح الورثلاني، كجده ووالده، من علماء المنطقة البارزين، ومن الذين يدين لهم الناس بالطاعة الروحية والاحترام. وقد أصبح بعد ذلك من المدرسين وشيخ زاوية الأسرة. وكان يذهب للتدريس في بجاية وغيرها. وتخرج على يديه عدد كبير من التلاميذ الذين تولوا بدورهم وظائف دينية سامية. وغلبت على الورتلاني الروح الصوفية أكثر من الروح الفقهية، ومع ذلك فقد كان يجمع بين علوم الظاهر والباطن. وكان يسير في مذهبه الصوفي على مبادئ الطريقة الشاذلية. وكان لا يهتم باللباس ولكنه كان يبدي اهتماما بأحوال الدنيا. كما كان يكره أهل الحضر والحكام العثمانيين. وأصبح كمرابط يتدخل بين الناس لإصلاح ذات البين ويعلم مبادئ الدين التي حرفها البعض عن مواضعها. وقد ذكر أنه أثناء رحلته الأخيرة أخذ معه زوجتيه: عيوشة التي كانت من
عائلة المسعود بن عبد الرحمن، وعائشة. وقد قال عن عيوشة التي توفيت له في تونس أثناء عودته من الحج، إنها كانت تحفظ ربع القرآن وتحفظ أيضا الوظيفة الزروقية وجزءا من رسالة ابن أبي زيد القيرواني. وكان له أبناء أحدهم، هو محمد كان متزوجا من فاطمة، أخت عيوشة المذكورة. وقد ذهب معه إلى الحج وروى كيف كان خائفا عليه من اللصوص في الجزيرة العربية.
ألف الورثلاني عدة كتب معظمها في الفقه والتصوف والتوحيد وقد أشرنا إليها في مكانها من هذا الكتاب. وأكبر عمل ألفه في التاريخ والأخبار هو الرحلة التي نحن بصددها. وكان له شعور قوي بالتاريخ، خلافا لبعض علماء عصره. فعزم على أن يكتب عملا ضخما يضاهي به أو يفوق عمل الدرعي والعياشي وغيرهما من كتاب الرحلة المغاربة. وقد سمى رحلته تسمية تلفت نظرنا ونحن بصدد دراسة التاريخ، وهي (نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار). وانتقد في المقدمة، كما مر في بداية هذا الفصل، عدم اهتمام أهل بلاده بالتاريخ وسخريتهم من دراسته ودارسيه، بينما علم السيرة النبوية جزء منه. واعتبر هو علم التاريخ من العلوم التي تزيد في فضل الإنسان وتبعده عن القبائح. فكان هذا رأيا غريبا من الورثلاني الذي كان مهتما بالتصوف وعلوم الباطن أيضا.
حج الورثلاني مرتين (أو ثلاث مرات) الأولى سنة 1153 والثانية سنة 1166 والثالثة سنة و 117. وفي إحدى هذه الحجات اضطر إلى الرجوع من تونس. وكان قد سافر بالبر لأنه وصف طريقه بالتفصيل. وقد مر الورثلاني في طريقه، بعد أن ودع وداعا حارا عائليا وشعبيا، بقصر الطير حيث آلاف الحجاج من جميع الطبقات والجهات. وقصد سيدي خالد وأولاد جلال وبسكرة، ومنها إلى سيدي عقبة فزريبة الوادي فزريبة حامد، ثم توزر وقابس. وبعد ذلك تابع سيره على الساحل الليبي متوقفا بطرابلس وبرقة. وقد وصف الورثلاني هذه الأماكن بالتفصيل، كما وصف مصر وأهلها وعلماءها وعاداتها. ومن مصر توجه إلى الجزيرة العربية وتحدث عن ساحل
البحر الأحمر وعن القرى والمدن التي تحاذيه وعادات القبائل هناك مع ركب الحجيج المغربي والمصري. كما تحدث، كلما اقترب من مكة، عن العيون والآبار والحياة السياسية والزراعية في المناطق التي مروا بها. وبالإضافة إلى ذلك تحدث عن مكة أيام موسم الحج وعن المدينة وحياتها، وعن العلماء الذين لقيهم. وكان يرغب في الإقامة بالمدينة غير أن أهله لم يتركوه يفعل فاضطر إلى العودة معهم. وقد تحدث هناك عن فقدان الأمن في الطريق ووفرة الماء وقلته ومقابلته لأمير مكة ولأمير فزان، وعن عادات المصريين مع المغاربة.
اعتمد الورثلاني في هذه الرحلة على مصادر كثيرة، فعن الجزائر اعتمد بالطبع على مشاهداته الخاصة، وعلى ما رواه له العلماء الذين لقيهم فيها. وقد طاف فيها كثيرا من غربها إلى شرقها. وكان يهتم خاصة بالزوايا والمرابطين وحياة العامة مع السلطة العثمانية. ومن الكتب التي اعتمد عليها أيضا (عنوان الدراية) للغبريني، و (النبذة المحتاجة في ذكر ملوك صنهاجة) و (الوغليسية) بشرح عبد الكريم الزواوي. أما عن أخبار طريق الحج وتونس ومصر وطرابلس والجزيرة العربية فقد اعتمد على (رحلة) الدرعي بالخصوص، ثم العياشي وعلى (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) و (الأدلة السنية) لابن الشماع وكذلك اعتمد على مؤلفات المقريزي والبكري، والعبدري، والسمهودي وابن فرحون، والشطيبي. كما أنه رجع إلى مصادر أخرى لم يذكرها. وقد أكثر الورثلاني من النقل على الدرعى الذي كان أحيانا ينقل عنه الصفحات كاملة، ويسميه (شيخ شيوخنا).
وقد بين الورثلاني في المقدمة أنه كان ينوي كتابة رحلة عظيمة تكون مفخرة له ولبلاده، ولكنه سرعان ما ظهر عليه الفتور، وأكثر من النقل والاستطراد، وتداخلت معلوماته. (وبعد فإني لما تعلق قلبي بتلك الرسوم والآثار، والرباع والقفار والديار، والمعاطن والمياه والبساتين والأرياف والقرى والمزارع والأمصار، والعلماء والفضلاء والنجباء والأدباء من كل مكان من الفقهاء والمحدثين والمفسرين الأخيار، والأشياخ العارفين والأخوان والمحبين المحبوبين من المجاذيب المقربين والأبرار، من المشرق
إلى المغرب سيما أهل الصحو والمحو إذ ليس لهم مع غير الله قرار - أنشأت رحلة عظيمة يستعظمها البادي ويستحسنها الشادي، فإنها تزهو بمحاسنها عن كثير من كتب الأخبار، مبينا فيها بعض الأحكام الغريبة والحكايات المستحسنة والغرائب العجيبة وبعض الأحكام الشرعية، مع ما فيها من التصوف مما فتح به علي أو منقولا من الكتب المعتبرة) (1) ولا ندري إن كان الورثلاني قد ألف هذه الرحلة دفعة واحدة أو على مرات. فهو يذكر أن دفترا قد ضاع منه في ليبيا أثناء عودته وكان يحتوي على ملاحظات حول أماكن الماء ببرقة. كما أخبر كذلك أنه كان يغتنم فرصة استراحة القافلة ويكتب ملاحظاته. ولعل الورثلاني كان يأخذ أثناء الحج ملاحظات في شكل مذكرات وتقاييد حتى لا تفلت منه المعلومات، وعندما عاد إلى وطنه أخذ في كتابة الرحلة أو في إملائها. ويبدو أنه كان يمليها على تلاميذه وأنه لم يراجع ما أملاه، لذلك كثر التكرار والأخطاء وتداخل المناسبات (2). ولعل الكبر قد حال دون المراجعة، رغم أن الإملاء قد تم سنة 1182.
وكان الورثلاني عند كلمته، ولا سيما بالنسبة لأخبار المتصوفة. فقد خصص قسما كبيرا من رحلته لأخبارهم في الجزائر وغيرها. وتحدث أيضا عن الخرافات والغيبيات والكرامة المنسوبة إليهم. وتحدث عن شروط الساعة، وكتب بعض مذكراته عند قبر بعضهم تبركا به، وعزم على صيام الدهر، وقال عن الحمى التي أصابته في المدينة إنها هدية من الرسول إليه، وأقر بنبوة خالد بن سنان العبسي، وتوجه بقلبه وروحه لزيارة قبر عبد الرحمن الأخضري، وقبر عقبة بن نافع، وغيرهم من الأولياء والصالحين. وناقش
(1) الورتلاني، المقدمة، 3.
(2)
يذهب الحاج صادق في دراسته لرحلة الورتلاني إلى أن هذا لم يكن يعرف العربية جيدا، وهو ادعاء غير صحيح في نظرنا، لأن الورتلاني كان من الفقهاء العاملين، ولم تكن الأخطاء نتيجة جهله بقواعد اللغة ولكن لعدم مراجعة الكتاب بعد الفراغ منه، وكان قد أملاه على من لم يكن يحذق اللغة. انظر الحاج صادق (المجلة الإفريقية)، 1951، 390 - 391.
قضية شرب القهوة وتناول الدخان وسماع الموسيقى، واستنكر خروج المرأة متبرجة، وقطع الميراث عنها في بعض الجهات، وغير ذلك من العادات القبيحة في نظره والتي سماها عمل الجاهلية. كما استنكر طريقة الحكم العثماني وقلة العلم في عهده وشيوع الرشوة والاستيلاء على الأوقاف وانتشار الظلم. وقال عن أهل الجزائر أثناء الحج إن (أهل وطننا فيهم الغلظة والجفاء وسوء الأدب وعدم إذعانهم للحكم)، وفي مكان آخر قال عنهم أيضا (وأما الركب الجزائري فلا حكم عندهم أصلا، ولا يتوقفون عند الأمر والنهي). وقارن بين الجزائر وتونس وطرابلس فوجد أن الحياة الاقتصادية في البلدين الأوليين أغنى وأخصب، بينما كانت ليبيا تعيش على ما يرد إليها من الخارج وليس فيها من المناطق الخصبة سوى جزء ضئيل. وهذه الملاحظات نفسها أبداها بالنسبة لمصر والحجاز إذ أكثر من الحديث هناك عن فساد الأمن وقلة المياه وحالة الزراعة ونحو ذلك.
وهكذا يتضح أن رحلة الورثلاني، رغم كل ما فيها، تعتبر موسوعة أخبار عن جزء كبير من العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر (18 م). فهي من المراجع التي لا غنى عنها في هذا المجال. وكان تكرار حجه وإتقانه للعربية ومعرفته بعادات الشرق والغرب قد جعلت الورثلاني حكما منصفا على العصر وأهله في كثير من المناسبات، وقد يكون من المفيد للتاريخ أن نعثر على كناشاته التي كان يسجل فيها ملاحظاته أو على النسخة الأصلية المملاة من الرحلة. فرجل كالورثلاني تضم أوراقه هاتيك الملاحظات والانطباعات والأحكام جدير بالدراسة والبحث بطريقة أكثر عمقا وشمولا مما درس به حتى الآن (1).
(1) عدنا في هذا التعريف بالورتلاني وعمله إلى رحلته المطبوعة، وإلى ما كتبه عنه الحاج صادق في عمله المذكور، وكذلك دراستنا عنه التي قدمناها لندوة تاريخ الجزيرة العربية، وعلى من يرغب في معرفة ما كتبه الورتلاني عن الجزيرة العربية والمشرق عموما، أن يعود إلى هذه الدراسة. وقد ظهرت عده بحوث عن الورتلاني منذ كتبنا عنه هنا، مثل بحث المختار فيلالي، جامعة قسنطينة.