المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الأولالعلوم الشرعية

- ‌حول التقليد والتجديد

- ‌ التفسير

- ‌القراءات

- ‌الحديث

- ‌ الأثبات

- ‌الإجازات

- ‌عيسى الثعالبي

- ‌أحمد البوني

- ‌ الفقه

- ‌الأثار الفقهية:

- ‌عبد العزيز الثميني:

- ‌خليفة بن حسن القماري:

- ‌النوازل والفتاوى والفرائض

- ‌الفصل الثانيعلم الكلام - التصوف - المنطق

- ‌ علم الكلام

- ‌ يحيى الشاوي

- ‌ التصوف

- ‌المناقب الصوفية:

- ‌شروح في التصوف:

- ‌المواعظ والردود:

- ‌المنطق

- ‌الفصل الثالثعلوم اللغة - النثر الفني

- ‌علوم اللغة ونحوها

- ‌البيان والمعاني (البلاغة) والعروض

- ‌فنون النثر

- ‌الشروح الأدبية:

- ‌التقاريظ والإجازات والعقود:

- ‌الرسائل:

- ‌الوصف:

- ‌الخطابة:

- ‌القصص والمقامات:

- ‌ أحمد المقري

- ‌أحمد بن عمار

- ‌الفصل الرابعالشعر

- ‌مدخل

- ‌الشعر الديني

- ‌الشعر السياسي

- ‌الشعر الاجتماعي

- ‌المجون والمزاح:

- ‌المدح والفخر:

- ‌الرثاء:

- ‌وصف المنشآت العمرانية:

- ‌الألغاز:

- ‌الشعر الذاتي

- ‌الشعر والمرأة:

- ‌الوصف:

- ‌الحنين والشكوى:

- ‌ ابن علي)

- ‌الشعر الشعبي

- ‌الفصل الخامسالتاريخ - التراجم - الرحلات

- ‌ مفهوم التاريخ

- ‌في السيرة النبوية

- ‌تواريخ عامة وتواريخ محلية

- ‌تراجم عامة

- ‌تراجم خاصة

- ‌ابن المفتي وتقييده

- ‌أبو راس الناصر

- ‌الرحلات

- ‌الورتلاني ورحلته

- ‌الفصل السادسالعلوم - الفنون

- ‌مقدمة

- ‌الحساب والفلك

- ‌الطب والجراحة والصيدلة

- ‌عبد الرزاق بن حمادوش

- ‌كتابه كشف الرموز:

- ‌كتابه تعديل المزاج:

- ‌الفنون

- ‌رأي العلماء والمتصوفة في الموسيقى:

- ‌ممارسة الموسيقى والغناء:

- ‌العمارة والخط والرسم:

- ‌المحتوى

الفصل: ‌ أحمد المقري

كابن ميمون وابن سار وابن سحنون وابن علي، هذا اللون الأدبي الطريف، وهو المقامة.

ونود الآن أن نترجم لأديبين كبيرين تميزا بغزارة الإنتاج والتأثير على المعاصرين، وهنا‌

‌ أحمد المقري

من أدباء القرن الحادي عشر (17 م) وأحمد بن عمار من أدباء القرن الثاني عشر (18 م).

أحمد المقري

لو حاولنا أن نترجم للمقري ترجمة تقليدية لضاق عنه مجال هذا الكتاب، لأن إنتاجه غزير وحياته خصبة وتأثيره كبير، ثم ان هناك دراسات تناول أصحابها حياته وإنتاجه، ولا نريد أن نكرر هنا ما قاله مترجموه عنه هناك، وحسبنا إذن أن نلفت النظر إلى بعض النقط قبل الحديث عن المقري نفسه.

الأولى أننا سنركز في هذه الكلمة عنه على علاقته بالجزائر خلافا للمترجمين الآخرين الذين ركزوا على حياته في المغرب والمشرق، فجعلوه وكأنه لا صلة له بالجزائر وأهلها.

ثانيها أن المصادر التي سنعتمدها عنه هي ما رواه عن نفسه وما رواه عنه معاصروه، سيما عبد الكريم الفكون وعلي بن الواحد الأنصاري، ذلك أن معظم المترجمين، بمن في ذلك محققو كتب المقري، قد اعتمدوا على (خلاصة الأثر) للمحبي، رغم ما فيها من الإعجاب بالمقري والمبالغات.

وثالثها أننا لم نكرر هنا ما قلتاه عنه في فصول سابقة أو لاحقة من هذا الكتاب كدوره في الإنتاج الديني ونحوه.

ولد أحمد المقرى ونشأ وتثقف في تلمسان، وقد ظل وفيا لهذا التكوين الأصلي حتى وهو يتمتع بالجاه والحظوة في القاهرة ودمشق، فبدأ في تأليف كتاب لم يتمه عن تاريخ تلمسان وأهلها سماه (أنواء نيسان في أنباء تلمسان)،

ص: 212

وكان يذكر محاسن تلمسان وجمالها وهو في المغرب والمشرق، وكان يقارنها بفاس ودمشق. وعندما كان في المغرب موفور الكرامة لم يصبر على زيارتها والبقاء فيها عدة سنوات (1010 إلى 1013). ولا غرابة في ذلك فهو بالإضافة إلى أصوله العائلية حيث أجداده ووالده، وجمال تلمسان الطبيعي، كان هناك عمه سعيد المقري الذي تحدثنا عن مكانته العلمية، وهو الذي أسهم في تكوين ابن أخيه تكوينا أدبيا موسوعيا بعد أن قرأ عليه سنوات طويلة، ونعتقد أن الفتن التي كانت دواليك بين سكان تلمسان والعثمانين هي السبب في هجرة المقري نهائيا من تلمسان إلى فاس (1).

ورغم وجود كتاب له مثل (روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من علماء مراكش وفاس) فإن حياة المقري في المغرب ما زالت مجهولة. حقا ان هناك أشعارا وكناشات تنسب إلى المقري في المغرب وتلقي على حياته هناك بعض الضوء، ولكن هذه المصادر لا تجيب على كثير من الأسئلة المتعلقة بحياته ونشاطه في المغرب (2)، ويبدو أن طموح المقري كان بلا حدود، ولا يشبهه بين الشعراء والأدباء إلا طموح المتنبي، ألم يقل المقري عن نفسه بعد هجرته إلى المشرق:

ولي عزم كحد السيف ماض

ولكن الليالي من خصومي

وقد كان معجبا بالمغرب، متوليا فيه الوظائف السامية، كالإمامة

(1) تحدثنا عن بعض هذه الفتن، ومن مصادرنا فيها كتاب (البستان) لابن مريم (وكعبة الطائفين) لابن سليمان. وقد كثرت هجرة علماء تلمسان خلال هذه الأثناء إلى المغرب، ومنهم الشاعر سعيد المنداسي الذي كان معارضا للعثمانيين، وقد تحدث أحمد المقري عن علاقته بعمه سيد المقري في كل من (روض الآس) و (نفح الطيب).

(2)

في (روض الآس) ذكر المقري من أجازوه بالمغرب (وكان ذلك قبل هجرته إلى المشرق)، ومنهم أحمد بن القاضي صاحب (جذوة الاقباس) وأحمد بن أبي القاسم التادلي، وأحمد بابا التمبكتي السوداني، والمفتي محمد القصار، وقد ترجم للمقري صاحب (نشر المثاني) ترجمة وافية 1/ 346 - 351، واستفاد مما كتبه عنه اليوسي في محاضراته.

ص: 213

والخطابة والفتوى، وهي وظائف العلماء البارزين في عهده في الجزائر أيضا. وكان بعض سلاطين المغرب يقدمون علماء الجزائر، وخصوصا تلمسان، لأسباب سياسة تتعلق بسياستهم من الدولة العثمانية عموما، والجزائر بصفة خاصة، وإذا كان بعض علماء الجزائر قد سجلوا انطباعهم نحو العثمانيين، معهم أو ضدهم، فإن أحمد المقري لم يسجل، حسب علمنا، انطباعه سواء عندما كان في الجزائر أو عندما كان في المغرب أو حتى بعد أن هاجر إلى المشرق، ولعل من أسباب ذلك أن عالما من أبرز علماء أسرته، وهو عمه سعيد المقري، كان متوليا لوظيفة الخطابة والإمامة والفتوى في تلمسان تحت العثمانيين قرابة أربعين سنة.

ولكن المغرب، رغم طول مكثه فيه، لم يكن في حالة استقرار سياسي، فالنزاعات كثيرة والعلماء كانوا في مقدمة وقود الفتنة إذا وقعت لأن مكانتهم، وخصوصا إذا كانوا في منصب الإفتاء، تجعلهم هدفا لطلب التأييد والنصرة، ولا شك أن المقري لم يكن يغيب عنه ما وقع لبلديه، عبد الواحد الونشريسي في المغرب أيضا، عندما رفض خلع بيعة السلطان، ومقتله على يد أنصار المطالب بالعرش، لذلك عندما أحس المقري بأن الأمور تسير على غير ما يروم ادعى التوجه إلى الحج سنة 1027، وبذلك يكون قد قضى في المغرب حوالي ربع قرن، وهي فترة هامة من حياته، ومع ذلك فما تزال غير مدروسة. ويسجل صديقه ومعاصره عبد الكريم الفكون سبب هجرة المقري من المغرب بهذه العبارات. بعد فساد البلاد بتبدل دولها بين أولاد أسيرها، حتى تداعت للخراب ارتحل المقري (يقال إنه عن خوف من الأمير الذي تولى اذ ذاك لكونه (المقري)، فيما يقال، له خلطة بالأمراء والانتماء إلى بعض دون بعض) (1)، ،وقد أشار المقري نفسه إلى هذه الظروف دون أن يفصح عنها بقوله لما قضى الله (برحلتي من بلادي ونقلتي عن محل طارفي وتلادي بقطر المغرب الأقصى) ويشير إلى سماسرة الفتن والأهوال الذين

(1)(منشور الهداية)، ترجمة المقري.

ص: 214

جعلوا الأمن في المغرب عزيز المنال (1)، والغريب أنه أطال في وصف قصور المغرب وطبيعته واعتبره بلاده ولكنه قلما ذكر أهله.

ومهما كانت أسباب رحلته من المغرب، فإنه يبدو أن المقري كان ينوي العودة إليه لأنه ترك فيه أهله وابنته ومكتبته، ولعله قد حاول المكث في الجزائر، قريبا من المغرب، حتى تنجلي الأمور السياسية، فقد وجدناه يستقر بمدينة الجزائر سنة 1027، بعد أن مر بمسقط رأسه تلمسان، واتصل في الجزائر بالعلماء وشرع في التدريس وخصوصا التفسير، وتبادل مع كبير علماء الجزائر عندئذ، وهو سعيد قدورة، الألغاز والنكت والمعلومات، وقد روى الفكون ذلك في شيء من التعريض بالمقري قائلا إنه نزل دار الجزائر على فقهائها وعلمائها، وتصدى للتدريس بها، وقرأ بها التفسير على ما قيل، وسأله عالم الجزائر وخطيبها أبو عثمان سعيد بن إبراهيم كدورة (كذا يكتبه الفكون) لغزا بعنوان (هاج الصنبر) فلم يصب المقري الجواب في الأول وأصابه في المرة الثانية، ثم سافر إلى المشرق (2). فهل وجد المقري مدينة الجزائر غريبة عنه فواصل سيره إلى المشرق؟ ذلك ما لا تكشف عنه الوثائق حتى الآن، وقد يكون سفره من المغرب بالبر خوفا من القراصنة، كما قال، ولكن تلمسان بالنسبة إليه هي بلد الآباء والأجداد، وهو الذي تمثل في شأنها بهذين البيتين:

بلد الجدار ما أمر نواها

كلف الفؤاد بحبها وهواها

يا عاذلي في حبها كن عاذري

يكفيك منها ماؤها وهواها (3)

(1) مقدمة (نفح الطيب) ط. 1949. وقد جاء في (الاستقصا) 6/ 22 بعض التوضيح لهذه الظروف، فقد استفتى المأمون الثائر المطالب بالعرش علماء فاس، ومنهم المقري، على جواز افتداء أهله من يد الإسبان بمنحهم مدينة العرائش، فأجابه البعض خوفا، وامتنع البعض ففروا واختفوا ومنهم أحمد المقري ومحمد الجنان .. الخ.

(2)

(منشور الهداية) انظر أيضا كتاب محمد بن سعيد قدورة (جليس الزائر وانيس السائر)، مخطوط.

(3)

(أزهار الرياض) 1/ 6 - و (نفح الطيب) 7/ 352. والبيتان لابن مرزوق. وبلد الجدار هي تلمسان.

ص: 215

ولعل المقري لا يقصد بذلك الحنين تلمسان وحدها، إذ أنه طالما ردد حنينه أيضا إلى مراتع صباه بالمغرب الأقصى، رغم أن حياته في فاس جعلته، كما قال، لا يفكر فيها إلا في (هم أو هول)(1). والذي يطالع مقدمته لـ (نفح الطيب) يدرك أن الرجل كان كثير الشوق إلى وطنه رغم ما وجده في المشرق، ولا سيما في الشام، من حفاوة وتكريم. وكان المقري كثير التمثل بالأشعار وبعبارة (الحنين إلى الوطن مجال لكل حر ومضمار) و (حب الوطن من الإيمان). وبذلك يكون المقري من أوائل المثقفين الجزائريين الذين كرروا موضوع الحنين إلى الوطن بهذه القوة.

وتشهد المصادر الأخرى على ذلك، حتى مصادر خصومه أو نقاده، فهذا عبد الكريم الفكون الذي انتقده في أخلاقه وسلوكه الاجتماعي، أقر، وكان قد عرفه وخبره وسافر معه، بأن للمقري (محبة في المغاربة) وله معهم مباسطة، ويقول الفكون صراحة بأن المقري كان (مشغوف بوطنه وأهله). وأنه كان كثير الحج مع الركب المغربي ليتحدث مع أهله ويتسلى ويسمع أخباره، كما كان يتراسل مع عدد من علمائه وأدبائه (2)، ورغم أن الفكون يعلل حنينه بكونه ترك ابنته وأهله وراءه حتى أنه كان يبكي ويحزن كلما ذكرهم، فإن المقصود هو حنين المقري إلى المغرب العربي، ولا سيما الجزائر التي مدحها كما سبق، بخلاف فاس.

ويبدو أن طموحه والخوف من العودة إلى المغرب هما اللذان كانا وراء بقائه في المشرق، فقد سافر من الجزائر إلى تونس بالبر أيضا، ولعله قد مر في طريقه بقسنطينة والتقى بعلمائها كما كان يفعل معظم الحجاج. ونال في تونس من حسن الاستقبال ما شهد له مرافقة عالم تونس عندئذ، محمد تاج

(1) أزهار الرياض، المقدمة.

(2)

تحدثنا عن مراسلة المقري مع الفكون نفسه، انظر فصل النثر، فقرة الرسائل، من هذا الجزء، وقد راسله أيضا تلميذه علي بن عبد الواحد الأنصاري ومحمد بن يوسف التاملي المراكشي، وكلاهما من المغرب، وحدثاه عن أحوال البلاد هناك وسمعة المقري فيها ورواج كتبه ونحو ذلك.

ص: 216

العارفين العثماني له، فقد ركب مع المقري السفينة ونزلا مصر، ومنها سافر المقري بحرا أيضا إلى جدة، فأدى العمرة سنة 1020 ثم فريضة الحج في السنة الموالية، ويقول عن نفسه أنه كان ينوي الإقامة عند البيت العتيق الذي أخذته عنده رعشة وانبهار، ولكنه عاد إلى مصر سنة 1029 لظروف لم يكشف عنها، وتزوج بها، ولعل أحواله المادية هي التي أخبرته على أن يبدأ في مصر السلوك الذي انتقده معاصره الفكون. ومهما كان الأمر فإنه ابتداء من هذه السنة تصبح حياة المقري واضحة أكثر ومسجلة ومدروسة أيضا إلى حد كبير، فقد ظل يتنقل بين مصر والحجاز، ثم أضاف إلى ذلك بيت المقدس ودمشق. فحج حوالي خمس مرات وسافر إلى القدس عدة مرات وذهب إلى الشام على الأقل مرتين، ولكنه لم يعد إلى البلاد التي أحبها كثيرا أو إلى تلك التي أقام بها ربع قرن يعلم ويتعلم، وإذا كانت هذه نكبته هو النفسية فهي بدون شك نكبة وطنه أيضا، لأنه لو عاد إليه بعلمه الغزير وأدبه الجم لأسهم في نهضته وتكوين جيل من الأدباء والعلماء، ولكن القدر شاء أن يقيم المقري اثني عشرة سنة أخرى من حياته بعيدا عن أهله ووطنه، ذلك أن أجله قد وافاه سنة 1041 وهو في مصر يستعد للعودة إلى دمشق.

في الشرق عاش المقري حياة حافلة بالنشاط العقلي، فقد ألف معظم كتبه هناك، ولا سيما موسوعته (نفح الطيب)، وألف عددا من كتبه الدينية في المدينة المنورة، مثل (فتح المتعال) و (أزهار الكمامة)(1). واتصل بالوجهاء والعلماء، ولعله اتصل أيضا ببعض الأمراء، ومدح هؤلاء بالشعر، وأظهر حفظه الواسع وموهبته الأدبية فوجد تقديرا كبيرا، ولا سيما من علماء الشام، أمثال المفتي عبد الرحمن العمادي والوجيه أحمد بن الشاهين، وطارت شهرته كمدرس في الأزهر والجامع الأموي فهرع إليه علماء كل بلد وأعيانها على نحو وصفه المحبي وصفا شيقا (2)، فلا داعي لتكراره هنا، وقد زوجه السادة الوفائية بمصر من ابنتهم على نحو لا يفعلونه مع كل الناس، ولكن

(1) عن كتبه الدينية انظر الفصل الأول من هذا الجزء.

(2)

المحبي (خلاصة الأثر) 1/ 303.

ص: 217

مكانته في مصر لم تصل إلى المكانة التي تمتع بها في الشام، وكان حاله في مصر وموقفه منها يذكر المرء بحال وموقف المتنبي أيضا منها، فبينما مدح الشام بكل جميل عاتب مصر بأبيات مرة وتأسف فيها على حاله:

تركت رسوم عزى في بلادي

وصرت بمصر منسى الرسوم

ونفسي عفتها بالذل فيها

وقلت لها عن العلياء صومي

ولا شك أن هذا كان أثتاء نزوة من نزواته وثور من ثوراته النفسية، وإلا فنحن نعلم من سيرته أنه أكرم في مصر أيضا وتولى فيها الوظائف وألف الكتب، غير أن طموحه كان أبعد من وسائله، وقد أصابته بعض النكبات في مصر أيضا، فقد توفت والدته وابنته من السيدة الوفائية، بالإضافة إلى غربته عن ابنته وأهله في المغرب (1)، فلا غرابة إذن أن تنقبض نفسه وتثور.

ابتسم الحظ للمقري، وهو في أخريات أيامه، فتعزى عن غربته ونكباته، فقد اعترف له العلماء، وخصوصا علماء الشام.، بما هو أهل له من الحفظ والأدب والظرف، لذلك أكثر من ذكرهم في (نفح الطيب) قائلا عنهم (نوهوا بقدري الخامل)، ونذكر من (هؤلاء أحمد بن الشاهين وعبد الرحمن العمالي ومحمد بن يوسف الكريمي ومحمد بن علي القاري ويحيى المحاسني، فقد تبادل معهم الإجازات والتقاريظ والمدائح والطرف والهدايا والأشعار، وفي هذا الجو عاش المقري حياة اجتماعية وعلمية شبيهة بحياته في المغرب العربي، في تلمسان أو في فاس، وكان إلحاح علماء الشام عليه في تعريفهم بلسان الدين بن الخطيب وبتاريخ الأندلس وأخبارها هو الذي دفعه إلى كتابة موسوعته الأندلسية (نفح الطيب). وقد نشط عقله وشاعريته في هذا الجو المنعش للآمال والطموح فأنتج أبحاثا ضافية وأشعارا غزيرة لو جمعت لجاءت في ديوان ضخم، وكيف لا تتنعش آماله وطموحه وقد قال فيه العمادي، مفتي الشام عندئذ:

شمس هدى أطلعها المغرب

وطار عنقاء بها مغرب

(1)(نفح الطيب) 3/ 224، وقد عزاه في ذلك ولي نعمته وصديقه أحمد بن الشاهين.

ص: 218

فأشرقت في الشام أنوارها

وليتها في الدهر لا تغرب (1)

ألف المقري معظم كتبه، التي بلغت ثمانية وعشرين تأليفا، عندما كان في المشرق، وباستثناء (أزهار الرياض) و (روض الآس) فإننا لا نعرف أنه قد ألف في المغرب أو في تلمسان، ولعله قد بدأ (أنواء نيسان) في المغرب أيضا. وقد ألف معظم كتبه الدينية في الحجاز، بينما اشتغل بالأدب والتاريخ وهو في القاهرة ودمشق. ولا نعرف أنه ألف شيئا عندما كان في القدس التي أكثر من الترداد عليها. وقد نشر البعض من كتبه حتى الآن ولكن معظمها ما يزال مخطوطا أو مجهولا، ومن أهم كتبه المطبوعة على الإطلاق موسوعته (نفح الطيب) الذي ألفه بوحي وبإلحاح من أعيان الشام وعلمائه، كما عرفنا، ويبدو أن المقري كان قد شرع في مشروعه منذ كان في المغرب، ذلك أن موضوع (نفح الطيب) الرئيسي، وهو لسان الدين بن الخطيب والأندلس، قد طرقه أيضا في (أزهار الرياض)، حتى أن كثيرا من لوحاته في الكتاب الأخير قد أعاد إنتاجها في (النفح)، وكان اقتراح أحمد بن الشاهين الأولي عليه هو التوسع في حياة ابن الخطيب بإفراده بكتاب، ومعنى ذلك التوسع فيما كان قد بداه في (أزهار الرياض)، وقد اختار المقري عنوان كتابه الجديد ليتلاءم مع ابن الخطيب فجعله (عرف الطيب في أخبار الوزير ابن الخطيب)، ولكن الحديث عن ابن الخطيب قد جره إلى الحديث، عن الأندلس، إما منطقيا وإما باقتراح من زملائه العلماء، وهكذا ولدت التسمية الجديدة للكتاب، وهي (نفح الطيب الخ)، وبناء على الأخبار، التي ساقها المقري بنفسه، فإنه ذهب إلى الشام سنة 1037، وفي نفس السنة عاد إلى مصر وشرع في الكتابة (2)، وفي خلال سنة وبعض السنة انتهى من نفح الطيب في القاهرة أيضا، حيث

(1) نفس المصدر 3/ 168، وهي قصيدة طويلة أرسلها إليه لما كان المقري في مصر، وقد أجابه المقري عنها شعرا رقيقا.

(2)

(نفح الطيب) 9/ 342، ومن كتبه المطبوعة، بالإضافة إلى (نفح الطيب)، أجزاء من (أزهار الرياض)، و (إضاءة الدجنة) في التوحيد، و (فتح المتعال) في نعال الرسول صلى الله عليه وسلم، و (روض الآس) عن حياة المقري بالمغرب.

ص: 219

جاء في خاتمة الكتاب أنه انتهى منه سنة 1038 بالقاهرة وزاد عليه في السنة الموالية بعض الإضافات.

ونحن هنا أمام بعض التساؤل: لماذا لم يؤلف المقري كتابه في الشام التي أحبها وأحب أهلها وأحبوه، والكتاب أساسا كأنه موجه إليهم وبوحي منهم؟ لعل المقري قد ترك كتبه ورقاعه في القاهرة التي قضى فيها فترة طويلة والتي فيها أيضا عائلته الجديدة، ولعل كرم أهل الشام وحياتهم الاجتماعية النشطة لا تسمح له بالعكوف على كتابة مثل هذا العمل الضخم، فاختار لذلك القاهرة التي يخلو فيها لنفسه. ومن جهة أخرى يكاد يكون مستحيلا في نظرنا أن يؤلف المقري موسوعته في ظرف سنة أو نحوها، سواء كان ذلك بالتحرير الشخصي أو بطريق الإملاء. ومن الممكن أن يكون قد سود الكتاب ثم اشتغل عليه بقية حياته أي إلى سنة 1041، ومن الممكن أيضا أن تكون له رقاع ونصوص حول نفس الموضوع أعدها من قبل في القاهرة فنسقها وأضافها إلى (نفح الطيب) والدليل على ذلك ما أشرنا إليه من التكرار الموجود في (الأزهار) و (النفح).

أعجب المقري بلسان الدين بن الخطيب فنسج على منواله، ولعل إعجابه به لم يقتصر على الأسلوب الأدبي فنحن نعتقد أن المقري كان يحاول تقليد ابن الخطيب في حياته السياسية أيضا لو ساعفته الأيام، ولكن هذه قضية أخرى يهتم بها الدارسون لحياة الرجلين. أما نحن هنا فحسبنا التنبيه إلى أن المقري قد اتبع طريقة ابن الخطيب في تحرير العبارة وانتقاء الألفاظ والسجع الجميل وتوشيح النثر بالشعر، وحتى في اختيار غدد من الموضوعات، وقد هدف المقري إلى أن يكون كتابه مرجعا للشعراء والأدباء وطلاب الموعظة فقال في خاتمته (اعلم أن هذا الكتاب معين لصاحب الشعر، ولمن يعاني الإنشاء والنثر من البيان والسحر، وفيه من المواعظ والاعتبار، ما لم ينكره المنصف عند الاختبار، وكفاه أنه لم ير مثله في فنه فيما علمت، ولا أقولها تزكية له)(1)، ورغم أن

(1) نفس المصدر 10/ 363.

ص: 220

المقري يتواضع أمام القارئ فيرجو العفو عن الزلل، ويعتذر، لكونه ترك مصادره بالمغرب فإنه، من جهة أخرى، كان معتزا بعمله فكرر أنه لم يسبق إليه بقوله:(وقد توهمت أني لم أسبق إلى مثله في بابه، إذ لم أقف له على نظير أتعلق بأسبابه).

شرح المقري طريقته في هذه العبارة (ورجوت أن يكون هدية مستملحة مستعذبة، وطرفة مقبولة مستغربة)، وقال إنه قد أورد فيه النظم والنثر، وأخبار الملوك والرؤساء، سواء في ذلك من أحسن أو من أساء، وذلك للعبرة والأذكار. كما جاء فيه بالهزل والمجون للترويح على القارئ، بالإضافة إلى المواعظ والنصائح وحكايات الأولياء والتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم (1)، وقد أوقعته هذه الطريقة في عدة مزالق يمجها الذوق اليوم، وهي الاستطرادات الكثيرة والتكرار الممل أحيانا، وذكر القصص التي ليس لها أهمية والأشعار الضعيفة، مع إهماله حادثة سقوط الأندلس الذي كان قريبا منه، كما أنه أثقل عبارته بالسجع الذي أصبح مع طول الكتاب مزعجا، وهو لا يتخلص منه إلا قليلا؛ وكانت مصادر المقري في كل ذلك مروياته الشخصية ومعارفه كشاهد عيان لما وقع بالأندلس في حياته أو ما أخذ من الجيل الذي سبقه من أهل الأندلس المطرودين، بالإضافة إلى مصادر أخرى مكتوبة مستمدة من المسعودي وابن خلدون والغبريني والبكري وابن بشكوال وابن الخطيب وابن بطوطة وابن سعيد وابن حيان وابن خاقان وابن جبير وابن بسام وابن خلكان وابن الأثير، وقد قسم كتابه إلى قسمين رئيسيين الأول في أخبار الأندلس وفيه ثمانية أبواب، والثاني في أخبار ابن الخطيب وفيه أيضا ثمانية أبواب، ورغم الصلة بين القسمين فإنه يمكن في الواقع فصلهما تماما، فالمهتم بتاريخ الأندلس وآدابها ونظمها المختلفة يكتفي بالقسم الأول (وفيه أخبار أيضا عن ابن الخطيب)، والمهتم بحياة ابن الخطيب السياسية والعلمية والأدبية يمكنه الاستغناء عن القسم الأول.

(1) نفس المصدر 1/ 118 - 119.

ص: 221

ومهما كان الأمر، فإن عمل المقري في (نفح الطيب) لا يفوته في بابه إلا عمل ابن خلدون في تاريخه، وإن كان ابن خلدون قد وضع المقدمة في نظرية علم الاجتماع والاقتصاد السياسي والعمران فإن المقري قد وضع في (نفح الطيب) مقدمة لا غنى عنها في حياة الأندلس وعلمائها وشعرائها، وقد صدق شكيب أرسلان في وصفه لـ (نفح الطيب) بأنه (حقيبة أنباء، وقمطر حوادث، وخزانة آداب، وكشكول لطائف، وديوان أشعار). وفي قوله إن من لم يقرأ (نفح الطيب) ليس بأديب (1)، وقد أشاد بعمل المقري أصدقاؤه الشاميون المعاصرون له، كما أشاد به المحبي الذي عاش بعده بفترة قليلة والذي اعتبره جاحظ المغرب. ثم أهمل الناس المقري، كما أهملوا ابن خلدون، إلى حين اكتشفهما الأوروبيون في القرن الماضي فنشر وترجم القسم الأول من (نفح الطيب) كما نشرت وترجمت مقدمة ابن خلدون، وعندئذ عاد العرب والمسلمون إلى الرجلين يستفيدون من آثارهما ويدرسون أخبارهما، وإذا كان ابن خلدون قد حظي بترجمات وافية لحياته فإن المقري ما زال لم يظفر بهذه الترجمة إلى الآن (2).

بقي أن نقول إن المقري، رغم أدبه وشعره وطموحه، كان متدينا عن عقيدة وليس مجاراة لأهل العصر. فقد أخذه الانبهار عند رؤية الكعبة الشريفة، وألف مجموعة من كتبه عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وحج حوالي خمس مرات، وزار بيت المقدس حوالي سبع مرات، وكان حافظا للسند مجيدا في تدريس التفسير وصحيح البخاري كما عرفنا، وألف في التوحيد (إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة). وقرظ شرحا في التصوف كتبه محمد بن سعد الكلشني على رسالة للشيخ أرسلان. وترجم في (نفح الطيب) لأبي مدين وأطال في ذلك لأنه شيخ جده، وللتبرك به، كما ذكر الكثير من كراماته

(1) شكيب أرسلان (الحلل السندسية) 2/ 153.

(2)

ترجم للمقري عبد الله عنان، والحبيب الجنحاني، وعبد الغني حسن، ومحمد بن عبد الكريم، كما ظهرت عنه مقالات بأقلام مختلفة مثل شكيب أرسلان وطاهر أحمد مكي.

ص: 222

ومناقبه (1)، وعندما كتب عن الفكون قال عنه إنه مائل إلى التصوف (ونعم ما فعل). لذلك يظهر لنا أن ما كتبه عنه معاصره الفكون من نقد في السلوك الديني والاجتماعي لا يتماشى مع الواقع، وأن الفكون قد بالغ في حكمه على صديقه، حقا إن المقري لم يكن متصوفا ولكنه كان من علماء السنة العاملين، كما رأينا.

ولا شك أن النثر الفني قد تقدم على يدي المقري في وقت كادت لا تكتب الأقلام غير شروح الفقه ومنامات التصوف، وكان وراء المقري تراث من أسرته، فجده، محمد المقري، شيخ ابن خلدون، كان من المؤلفين الأدباء البارزين، وهو صاحب كتاب (بلوغ الآراب في لطائف العتاب) الذي ما يزال مخطوطا. وعمه، سعيد المقري رغم عدم شهرته بالتأليف، كان شاعرا وأديبا رقيقا، ومدرسا من الدرجة الأولى كما عرفنا (2)، وكانت تلمسان على عهده بقايا من تقاليد العهد الزياني التي احتفي بها أحمد المقري في (أزهار الرياض) بذكره أخبار أبي حمو وغيره. كل ذلك كان يمده بتجربة جيدة في الصياغة النثرية والأساليب الأدبية، وفي فاس وجد المغاربة والأندلسيين يذكرون عهود الشباب الأدبي في الفردوس المفقود وأبطاله كابن الخطيب فكانت هذه المدرسة المغربية - الأندلسية هي التي أثرت وأثمرت على أحمد المقري، وهي المدرسة التي بدأ بها (أزهار الرياض) الذي خص به القاضي عياض ثم نقلها معه إلى المشرق، فوجد أن الأساليب هناك قد دخلتها العجمة منذ سقوط بغداد، فإذا به يتألق وسط الكتاب، ويأتي في ذلك بالعجب العجاب. فالمقري إذن يعتبر مجددا ناقلا المدرسة الأندلسيه من المغرب العربي إلى المشرق العربي، وهذه الزاوية من مساهمته ما تزال، حسب علمنا، غير مدروسة أيضا. ولولا خوف الإطالة، ولولا أن بعض كتبه مطبوع ومتداول لأتينا على نصوص من نثر المقري الذي سحر به المشارقة (3).

(1)(نفح الطيب) 9/ 342 - 351.

(2)

ترجمنا لسعيد المقري في فصل التعليم من الجزء الأول.

(3)

إلى الآن لا نعرف من عثر عر كتبه (الغث والسمين والرث والثمين) أو (البدأة =

ص: 223