الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونفس الشيء يقال عن عناية الجزائريين بعلم العروض، فرغم جودة الأشعار التي سنعرض لها عندهم، فإن التأليف في قواعد العروض قليل جدا، ومن هذا القليل شرح سعيد قدورة على (الرامزة الشافية في علمي العروض والقافية) للخزرجي المعروف بأبي الجيش المغربي، والذي سماه (شرح المنظومة الخزرجية)(1)، وينسب إلى بركات بن باديس شرح على متن الخزرجية أيضا. ولا شك أن هناك محاولات أخرى لم نطلع عليها في هذا الميدان. ومهما كان الأمر فإن هذا النوع من التأليف لا يخرج عن كونه أدوات مدرسيه.
فنون النثر
نعني بالنثر هنا النثر الفني أو الأدبي، وهو يشمل المقامات والرسائل الرسمية (الديوانية) والإخوانية، والوصف، والتقاريظ، والتعازي، وعقود الزواج، التي تفنن فيها أصحابها، والإجازات المنمقة، والشروح الأدبية، والقصص، والخطب. وقد كان الأدب الجزائري في العهد العثماني غنيا ببعض هذه الفنون كالرسائل والتقاريظ، ولكنه كان فقيرا فى بعضها كالخطب والقصص.
وقبل أن ندخل في تفاصيل هذه الفنون ودراستها، نذكر بما قلناه في الجزء الأول من أن معرقلات نمو اللغة وانتشار الأدب كانت أقوى من المشجعات، فالولاة كانوا لا يفقهون العربية ولا يتذوقون أدبها، ولا نتوقع ممن هذه حالته تشجيع الأدباء والشعراء وتذوق إنتاجهم وتقديره، حقا إننا وجدنا بعض الباشوات، مثل محمد بكداش، يجمع حوله نخبة من المثقفين باعتباره، كما قيل، (قد جمع النظم والنثر والخطابة والشعر) ولكن حكمه لم يزد على ثلاث سنوات (2)، وشجع الباي محمد الكبير، كما عرفنا، حركة
(1) زاوية تانعملت ببني ملال (المغرب)، 299 مجموع.
(2)
يذكر ابن ميمون أن محمد بكداش كان (له أدب غض المقاطف رطب المعاطف) وأنه =
النسخ والتأليف والتعليم بالعربية فازدهرت هذه الحركة في عهده وظهرت أسماء من الأدباء والعلماء كانوا مدينين له بالمساعدة المادية ولكن الحركة اختفت باختفائه، ونفس الشيء يقال عن مشاريع صالح باي في التعليم التي لم تتواصل بعده، فهذه النماذج كانت تعتمد على جهود فردية ونادرة، كما رأينا، وليست قائمة على سياسة مستمرة ومرسومة، وقد دام حكم محمد باشا خمسا وعشرين سنة دون أن نعرف أنه قدم شاعرا أو أجاز كاتبا على تأليف أو شجع حركة التعليم، ونفس الشيء يقال عن حسين باشا الذي بقي في الحكم اثني عشر سنة، وهكذا كان كل حاكم، من الداي إلى الباي، يستغل حكمه للربح المادي الشخصي وخدمة حاشيته وجنوده الذين كانوا جميعا غرباء عن الشعب لسانا وذوقا.
وبالإضافة إلى ضعف مستوى الثقافة، وإلى منافسة اللغة التركية (بل واللغات الأوروبية الأخرى التي كان بعض الباشوات يتكلمونها لأنها لسانهم الأم) للغة العربية في الدواوين وفي المجالس الرسمية وفي التجارة فإن هناك بعض اللهجات المحلية التي كانت أيضا تزاحم اللغة العربية، فبعض مناطق الأوراس وجرجرة وميزاب كانت تتكلم اللهجات المحلية ولم يكن هذا مقصورا على الطبقة العامة، بل كان موجودا عند العلماء أيضا، فالورتلاني يحدثنا أن هناك من كانوا يمدحون الرسول صلى الله عليه وسلم ويتناولون التصوف باللهجة المحلية، وقد تمنى هو أن يكون كلامهم بالعربية حتى تدرك حلاوته وطلاوته وقوة إبداع أصحابه، وضرب لذلك مثلا بعلي بن درار وسعيد الفاني (1).
يضاف إلى ذلك أن الفئة المثقفة، كما عرفنا، قد انحصر نشاطها في بعض الوظائف الرسمية التي لا علاقة لها بالأدب وتذوقه وتشجيعه، فالقضاة
= كان بارعا في فنون الأدب وأنه كان يكتب بالسجع. انظر (التحفة المرضية) مخطوط باريس، ص 54. وقد نوه عبد الرحمن الجامعي أيضا بأدب بكداش، انظر فصل العلماء من الجزء الأول.
(1)
الورتلاني (الرحلة)، 187 - 198، 603.
والمفتون والمدرسون وكتاب الإنشاء كانوا راضين بالمستوى الذي كانوا عليه، ولم يكونوا يطمحون إلى مستوى أفضل منه لعدم الحاجة إليه، بل ان الباشوات والولاة عموما كانوا يفضلون المستوى الثقافي الأدنى على المستوى الأعلى، لأنهم هم أنفسهم لم يكونوا مثقفين، وكان يرضيهم من الموظف أن يكون في مستواهم أو أقل منهم، أما الجزائريون الطموحون إلى المزيد من العلم والأدب وذوو المواهب الدفينة الذين كانوا راغبين عن الوظائف. الجامدة والتبعية الذليلة فقد اختاروا طريق الهجرة إلى حيث يجدون الرعاية والاعتراف بإنتاجهم وفضلهم، وكان هذا مصير أديبين كبيرين سنترجم لهما في هذا الفصل، وهما أحمد المقري وأحمد بن عمار، كما كان مصير الشاعر سعيد المنداسي.
وقد أدى موقف الولاة ومنافسة اللهجات واللغات وشيوع الجهل وضعف المستوى الثقافي وجمود الوظيفة وهجرة أصحاب المواهب إلى شيوع اللحن على ألسنة الكتاب والمدرسين، حتى من الذين لم نتوقعه منهم، لكثرة تآليفهم ووفرة علمهم، أمثال أبي راس الناصر، وقد تحدث هو عن هذه الظاهرة في الإنتاج كما تحدث عنها أحمد بن سحنون الراشدي والورتلاني، وشاع الخطأ، وخصوصا في الشعر، حيث كثر ما يسمى بالشعر الملحون والشعر الفصيح المكسور، وكان اللجوء أحيانا إلى الشعر الملحون أو الشعبي يبرره التلغيز الذي يقصده الشاعر ليغطي هجومه على الأوضاع السياسية والأخلاقية، وكان بعض الشعراء يتبسطون لكي يسهل على العامة فهم مرادهم، وقد احتج أبو راس في شرح (العقيقة) بأن محمد الهواري (1) كان يلحن في كتاباته، وأن المنداسي قد كتب بالملحون ولم يكن عاجزا عن الإعراب وإنما نظم العقيقة بالشعر الملحون (لتسهل للعوام كما تسهل
للخواص) (2).
(1) عن محمد الهواري انظر الفصل الأول من الجزء الأول.
(2)
أبو راس (شرح العقيقة) ورقة 4 - 5، مخطوط باريس رقم 5028.