الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المذكور إبراهيم السقا وعبد القادر الرافعي (1).
ومن مسندي أوائل القرن الماضي زيد العابدين المشرفي المعروف بابن عبد الله سقط. وقد لعب هذا الشيخ دورا في الأحداث التي جرت بين الجزائريين والفرنسيين. وتهمنا هنا الناحية العلمية من حياته. فقد تثقفبالجزائر على عدد من شيوخ الناحية الغربية، ومنهم أبو راس، ثم رحل إلى المشرق فأخذ العلم إجازة من بعض العلماء هناك. وقد وصفه أبو حامد المشرفي في كتابه (ياقوتة النسب الوهاجة) أنه كان كثير الحفظ حتى أنه كان يحفظ صحيح البخاري متنا وإسنادا كما كان يحفظ صحيح مسلم، بالإضافة إلى حفظ السيرة النبوية والأخبار والتواريخ وشيوخ المذهب. وله (فهرسة) تشهد له بذلك. ومن جهة أخرى ذكر له الكتاني مجموعة من الشيوخ الذين قرأ عليهم وأجازوه بالمغرب والمشرق (2).
الإجازات
إذا كانت الإجازة تعتبر (شهادة كفاءة) أو تأهيل يستحق بها المجاز لقب الشيخ أو الأستاذ في العلوم المجاز بها، فإنها بتقادم العهد أصبحت لا تعني كل هذا، لتساهد المجيزين في منحها. فلم يعد هناك تحقق من المجازين في كفاءتهم ودرايتهم بالعلوم ولا من أخلاقهم وسلوكهم، كما أن الإجازة لم تعد تقيد بالقراءة والمشافهة أو حتى بالجزء المقروء من الكتاب، فقد أصبحت
(1) دار الكتب المصرية، تيمور، مصطلح حديث، 167، 597. وإجازته للسقا تاريخها 1242.
(2)
الكتاني 2/ 15. ولعل ابن عبد الله سقط هو نفسه الذي قيل إن محمد النفزي الفاسي، مفتي المالكية بمكة والمتوفى بها سنة 1245، قد أجازه. فقد وجدت في فهرسة النفزي إجازة لمن اسمه أبو محمد عبد القادر الشهير بابن عبد الله (كذا ولم ترد معها عبارة سقط) المشرفي الراشدي المعسكري، وهذا الفهرس قد جمعه أحمد بن محمد بن عجيبة المتوفى سنة 224 1. دار الكتب المصرية، مصطلح حديث (مجاميع 7، ش).
تمنح بالمراسلة والسماع، كما أنها أصبحت تعطي مطلقة في كل العلوم وكل الكتب التي تعلمها المجيز سواء قرأها المجاز أم لا. وهذا التساهل نتج عنه ضعف مستوى التعليم لأن المجازين أصبحوا يتصدرون للتدريس ويمنحون بدورهم الإجازات لغيرهم في علوم وكتب لم يدرسوها على أحد.
ومن جهة أخرى خضعت الإجازات لنوع من المجاملات بين العلماء، فطالب الإجازة (يستدعي) المجيز ببيت شعر أو بقطعة أو برسالة يطلب منه الإجازة ويصفه بألقاب ما أنزل الله بها من سلطان كالبحر والمحيط والشمس والكوكب، ويتردد المجيز قليلا (وهو تردد تقليدي أيضا لأن العادة جرت كذلك) وقد يعتذر بأنه ليس من فرسان هذا الفن، لكنه في النهاية يستجيب للإطراء والمدح فيقلد جيد المجيز بألقاب أخرى فيها التنبؤ والتوسم كالشاب الأريب، وعنوان النجابة، والهلال الذي سيصبح بدرا، ونحو ذلك. ومن الذين انتقدوا التساهل في منح الإجازات، ولا سيما عند المشارقة، الشيخ عبد الكريم الفكون. فقد لاحظ مرة أن بلديه علي بن داود الصنهاجي القسنطيني قد قرأ على الشيخ سالم السنهوري المصري وأجازه هذا وهو (أي الصنهاجي) لا علم له سوى (حفظ بعض المسائل المشهورة من الطهارة وبعض العبادات وبعض المعاملات التي لا تجهل في الغالب. ولا بحث معه ولا تدقيق ولا نظر، والعجب إجازة الشيخ المذكور له. ولا حول ولا قوة إلا باللهء (1).
ولكن العادة جرت أن لا تكون الإجازة إلا بعد القراءة على الشيخ المجيز وملازمته أياما وشهورا بل أعواما في بعض الأحيان، ومناظرته في بعض المسائل. وقد يقرأ الطالب على الشيخ بعض مؤلفاته، أو بعض الكتب الأخرى كصحيح البخاري أو الكتب الستة، وبعض التفسير ونحو ذلك. فهذا عيسى الثعالبي قد لازم شيخه علي بن عبد الواحد الأنصاري أكثر من عشر سنوات. وهذا عمر المانجلاتي قد لازم الأنصاري أيضا أربع عشرة سنة.
(1)(منشور الهداية) مخطوط.
ولكن بضعف العناية بالإجازة أصبح التلميذ لا يقطع المسافات لحضور درس أستاذه ولا يتحمل عناء السفر والغربة، وأصبح المشائخ يمنحون الإجازة لتلاميذهم عن طريق السماع بهم، وبدل أن تكون الإجازة خاصة مقيدة بالجزء المقروء أو المسموع أصبحت عامة مطلقة في كل المرويات والمقروءات. وأحيانا نجد بعض المجيزين يجيزون غيرهم بكل ما كانوا قد أجيزوا به. ومن الملاحظ أيضا أن الإجازة التي كانت خاصة بالعلم قد انتقلت أيضا إلى الطرق الصوفية. فقد وجدنا شيوخا يجيزون تلاميذهم بالسبحة والضيافة والخرقة الصوفية ونحو ذلك من مظاهر الدخول في حضرة الشيخ والتتلمذ عليه في الطريقة التي يسلكها. ولكن الذي يعنينا في هذا الفصل هو الإجازة العلمية وليس الإجازة الصوفية.
وهناك ثلاثة أصناف من الإجازة: إجازة الجزائريين للجزائريين، وإجازة الجزائريين لغيرهم، وإجازة علماء المسلمين لعلماء الجزائر. ومن الطبيعي أننا لن نحصي، في أي صنف من هذه الأصناف، عدد الإجازات، لأن ذلك يكاد يكون مستحيلا، ولكن الهدف هو سوق نماذج من كل صنف للتعرف على اهتمام الجزائريين بعلم الحديث خصوصا وطلب العلم عموما. فالإجازة، مهما انتقدنا التساهل في منحها، كانت عنوانا على كسب نصيب من العلم بالنسبة للمستجيز وعلامة على التبحر والتخصص في نفس العلم بالنسبة لمانحها. ولما كان الجزائريون كثيرا ما خرجوا من بلادهم لطلب العلم في البلدان الإسلامية فمن الواضح أنهم كانوا من طلاب الإجازة في الغالب وليس من مانحيها. ومع ذلك فلو أحصينا عدد الجزائريين الذين منحوا الإجازات في المشرق والمغرب لاندهشنا لكثرتهم.
ومن الغريب أن العلماء الجزائريين لم يجيزوا بعضهم البعض إلا قليلا. من ذلك إجازة محمد الزجاي لأحمد بن محمد الشريف المعروف بابن سحنون مؤلف (الثغر الجماني). فقد ذكر هو في هذا الكتاب نص الإجازة مخافة ضياعها، كما قال. وبناء عليه فإن ابن سحنون قد لازم الزجاي ومجلسه العلمي عدة أيام وليال. فقد قرأ عليه صحيح البخاري وكبرى
السنوسي، وأكثر القرآن الكريم، ومعظم جمع الجوامع للسبكي، وجوهرة الأخضري وسلمه، وحواشي السعد ومتنه وألفية ابن مالك وشروحها، ورسالة الوضع، ونخبة ابن حجر (1). ومن هذه المواد نعرف ماذا كان يدرس الشيخ الزجاي أيضا، كما نعرف برنامج الدراسات في العهد العثماني لأن هذه المواد تكاد تكون هي البرنامج الأساسي في مختلف الأقاليم.
وبهذا الصدد نذكر أن أحمد الزروق البوني قد أجاز الورتلاني صاحب الرحلة كما أن محمد بن عبد الرحمن الأزهري قد أجاز حمودة المقايسي. وتذكر المصادر أيضا أن يحيى الشاوي قد تلقى إجازتين من مواطنه محمد السعدي بن محمد بهلول، الأولى إجازة بقراءته عليه موطأ الإمام مالك وبعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم ورواية الكتب الثلاثة المذكورة بسنده عن شيوخه فيها (2). والثانية ما يسمونه بالمصافحة. فقد أجاز محمد السعدي للشاوي مصافحة الفقيه محمد العربي يوسف الفاسي له بزاوية محمد بن أبي بكر الدلائي (3). كما ذكر شعبان بن عباس المعروف بابن عبد الجليل القسنطيني أن شيخه المفتي محمد بن علي الجعفري القسنطيني أيضا قد أجازه إجازة عامة بعد سنة 1139 إثر القراءة عليه (سنين عديدة). كما ذكر الكتب التي قرأها عليه كالألفية وخليل وألفية العراقي والمحلى في الأصول وصغرى السنوسي والفلك والبخاري (4).
وطالما جلس علماء الجزائر لتلقي العلم على بعضهم بعضا، ومع ذلك لا نكاد نجد أنهم قد منحوا الإجازات لبعضهم. فمجالس سعيد قدورة وسعيد المقري وعمر الوزان وبموراس ونحوهم كانت عامرة ومع ذلك فإن الإجازات
(1)(الثغر الجماني) مخطوط باريس، ص 39 - 40.
(2)
انظر دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 335، ضمن مجموع.
(3)
نفس المصدر، رقم 313 ورقم 366.
(4)
نص هذه الإجازة في مخطوط بمكتبة المولود بن الموهوب عند السيد ماضوي عبد الرحمن، وهي في عدة صفحات ولكنها مبتورة، ويدعى محمد بن علي الجعفري بالبوني أيضا، وهو تلميذ أحمد ساسي البوني.
الصادرة عنهم لتلاميذهم لا تكاد تذكر. وقد قيل إن يحيى الشاوي قد اضطر إلى أن يسافر مع شيخه عيسى الثعالبي مسافة (ثماني مراحل) إلى أن درس عليه علم المنطق، ولكننا لا نجدهم يتحدثون عن كون الثعالبي قد أجاز الشاوي في هذا العلم (1). ونعرف أن أبا راس قد ورد على مدينة الجزائر وأخذ العلم على ابن عمار وغيره فيها، ولكننا لا نعرف أن هناك إجازة من ابن عمار لأبي راس. فيبدو أن علماء البلد الواحد لا يمنحون عادة الإجازات لبعضهم، وكأن الإجازة لا تأتي إلا نتيجة اغتراب وسفر طويل وتتلمذ على غير أهل البلد. ومن جهة أخرى نعرف أن عيسى الثعالبي قد روى مرويات ثلاثة شيوخ على الأقل من الجزائر وهم سعيد قدورة، وعلي الأنصاري، وعبد الكريم الفكون. وقد ترجم لثلاثتهم في ثبته.
ومن الطريف أن نذكر إجازة أحمد بن قاسم البوني لابنه أحمد الزروق (الذي أشركه فيها مع محمد بن علي الجعفري القسنطيني - البوني الأصل -)(2). ولعل أطرف من ذلك إجازة محمد قدورة لأخيه أحمد قدورة. ولدينا نص طلب الإجازة الذي تقدم به الأخ لأخيه، على عادتهم في ذلك، وهو في عشرين بيتا، ونحن نكتفي منه بهذه الأبيات المعبرة، فقد قال أحمد قدورة يخاطب أخاه الذي كان عندئذ مفتي المالكية بالعاصمة:
قطب الزمان ونخبة الفضلاء
…
وسلالة النجباء والعلماء
شيخ الجزائر، حبرها وخطيبها
…
وإمامها حقا بغير مراء
جل السعيد (3) محمد العلم الذي
…
أحيا العلوم بفطنة وذكاء
إلى أن يقول:
تلميذكم ومحبكم بل عبدكم
…
طلب الإجازة منكم بوفاء
(1)(خلاصة الأثر) للمحبي 3/ 241.
(2)
اطلعت على هذه الإجازة في مكتبة زاوية طولقة واستفدت منها وطلب نسخها فلم أحصل على طائل.
(3)
يعني والدهما المفتي سعيد بن إبراهيم قدورة. انظر ترجمته في فصل التعليم من الجزء الأول.
بجميع ما تروونه عن والد
…
أو غيره من سائر العلماء وقد جاء في النص أيضا:
عمرت دهرا للعلوم تبثها
…
بالكتب والتدريس والإملاء وبقيت فردا لارتقاء منابر
…
للوعظ والتذكير والإيضاء (1) وقد منح الجزائريون كثيرا من الإجازات لغيرهم من علماء المسلمين. ولنذكر هنا بعض ذلك فقط. فإذا عدنا إلى رحلة ابن زاكور المغربي إلى الجزائر وجدنا فيها نماذج من هذه الإجازات والطريقة التي حصل بها ابن زاكور عليها، وأسلوب منحها وكفاءة شيوخه فيها. وقد ذكر ابن زاكور على الأقل ثلاثة من مشاهير علماء الجزائر في القرن الحادي عشر، وهم عمر المانجلاتي، ومحمد بن عبد المؤمن، ومحمد بن سعيد قدورة. وبناء على ابن زاكور فإن المانجلاتي قد درس العلم بجد واجتهاد وانقطاع، وأن شيوخه قد درسوه أيضا على مشائخ جلة من المشرق والمغرب قراءة وإجازة وإعلاما، وإنه بالرغم من أنه لا يشعر بأنه مؤهل لمنح الإجازة فقد أجاب غرض ابن زاكور. وقد اتبع المانجلاتي الأسلوب المتعارف عليه، وهو الاعتذار، لكونه غير مؤهل لهذه الدرجة (ولكن خلت الديار فساد غير مسود) وأن الزمان قد تغير (وتحولت الأحوال واشتغل البال)(2).
والإجازة الثانية من علماء الجزائر لابن زاكور هي إجازة محمد بن عبد المؤمن. وقد كان محمد بن عبد المؤمن يسمى بـ (أديب العلماء وعالم الأدباء) لجمعه بين الأدب والفقه (3). وقد وصفه ابن زاكور بأنه (ممن ضرب
(1)(جليس الزائر وأنيس السائر) منسوب لأحد أفراد عائلة قدورة. مخطوط بالمكتبة الوطنية، غير مرقم، اشترته المكتبة من الشيخ المهدي البوعبدلي وفي كلمة (إيضاء) خروج عن القواعد.
(2)
ابن زاكور (الرحلة)8. وقد سبق الحديث في فصل التعليم من الجزء الأول عن المواد التي درسها المانجلاني وكانت الإجازة بتاريخ 1094.
(3)
انظر عنه رحلة ابن حمادوش، فقد أورد له نص عقد زواج كتبه ابن عبد المؤمن بمناسبة زواج عبد الرحمن المرتضى الشريف، وأصبح العقد مثالا يحتذيه الموثقون =
بسهم وافر من العلم. العالم الفقيه اللوذعي جامع الفضائل). وبعد اعتذار ابن عبد المؤمن لعدم أهليته أجاز ابن زاكور بما أجازه به شيخاه علي الشرملسي المصري وأحمد بن تاج الدين نزيل المدينة، كما أجازه بمنظومته في العقائد والفروع وطلب منه أن يشرحها إذا تمكن (1). أما محمد بن سعيد قدورة فقد أجاز ابن زاكور إجازة مطلقة عامة (في جميع مقروءاتي معقولا ومنقولا توحيدا ونحوا) ولم يذكر قدورة أي شيخ من أشياخه وإنما اكتفى بقوله:(فليحدث بذلك إن أحب عن أشياخي إلى المؤلفين)(2).
وقبل ابن زاكور منح أحمد العبادي التلمساني الإجازة لابن عسكر مؤلف (دوحة الناشر). وقد عاش الشيخ العبادي حياة متقلبة نتيجة تقلب ظروف العصر. فبعد استيلاء العثمانيين على تلمسان والاضطرابات التي رافقت ذلك هاجر إلى المغرب فأقام في فاس وزار مراكش وأكرمه السلطان عبد الله الغالب (توفي سنة 981) إكراما خاصا. ولكنه ما لبث أن عاد إلى تلمسان واستقر نهائيا، كما يقول ابن عسكر، في مليانة. وقد ذكر ابن عسكر نص إجازته له في مؤلفه (3). ولم يكن العبادي سوى نموذج من الجزائريين الذين منحوا الإجازة لبعض علماء المغرب. فالحدود العلمية بين الجزائر والمغرب تكاد تكون غير موجودة. ويكفي أن نشير هنا إلى مكانة أحمد الونشريسي وابنه عبد الواحد وأحمد المقري ومحمد الكماد بين المغاربة. ولنشر أيضا إلى إجازة عيسى الثعالبي للعياشي، وإجازة سعيد المقري لأحمد بن القاضي صاحب (جذوة الاقتباس)(4).
= لما فيه من أدب وشريعة، وكان قد درس في المشرق أيضا، وكان حسني النسب.
(1)
ابن زاكور (الرحلة)، 17.
(2)
نفس المصدر، 28.
(3)
ترجمته والإجازة في (دوحة الناشر) النص الفرنسي، ص 200 - 202. وكان والد العبادي من علماء تلمسان أيضا، هاجر إلى فاس وتولى التدريس بالقرويين، ثم عاد أيضا إلى تلمسان حيث توفي حوالي 1524 م (931) هـ. أما ابنه فلا نعرف متى توفي بالضبط.
(4)
ذكر ذلك أحمد المقري في (روضة الآس) 268، وتاريخ الإجازة هو سنة 1009.
أما عن العلاقة بين علماء الجزائر وتونس كما تصورها الإجازات فقد كانت أيضا وطيدة ولكننا لا نحفظ منها إلا القليل. ورغم رحيل الجزائريين إلى تونس لطلب العلم والإقامة والتجارة فإن القليل من علماء تونس قد زاروا الجزائر نسبيا خلال العهد العثماني. ولعل ذلك يعود إلى اكتفاء علماء تونس الذاتي من طلب العلم. فلهم جامع الزيتونة يروي غلتهم، وهم إذا أرادوا المزيد فالشرق أمامهم، ولم تكن الجزائر تقدم لهم شيئا تقريبا مما كانوا يطلبون. ومع ذلك فإننا نجد الورتلاني وأبا راس يتحدثان عن علاقاتهم الوثيقة مع علماء تونس. ثم إن أحمد بن عمار قد أجاز تلميذه إبراهيم السيالة التونسي كما ذكرنا آنفا. كما أن ابن العنابي قد أجاز محمد بيرم وغيره.
وقد كان منح الإجازات للسلاطين والوزراء أمرا غير شائع، ولكن محمد بن أحمد الشريف الجزائري قد منح أحد الوزراء العثمانيين إجازة شملت الأحاديث النبوية والمؤلفات. وهذا الوزير هو أحمد باشا نعمان الذي تولى، بالإضافة إلى منصب الوزير في بلاده، وظيفة شيخ الحرم بالحجاز. وأثناء ذلك كان محمد بن أحمد الشريف مجاورا ومدرسا بمكة، فطلب منه الباشا الإجازة فيما سمعه منه ففعل. وقد قال المجيز عن ذلك:(فأسعفته في ذلك، وأتحفته بما هنالك، تطييبا لخاطره وتنشيطا لفكره وناظره).
وبعد البسملة والتصلية افتتح محمد الشريف إجازته بقوله: (أما بعد فقد طلب من هذا العبد الفقير المعترف بالقصور والتقصير، أيام المجاورة بالحرم المكي، وذلك سنة 1154، أربع وخمسين ومائة وألف، إنسان عين الفضائل والمفاخر، وسلالة فضلاء الوزراء كابر عن كابر. عمدة السلطنة العثمانية، وليث غياهبها الباهر. ورئيس الغزاة المجاهدين، فكم قصم سيفه من كافر وفاجر، فهل أتاك خبر الفيش (1)(؟) وما شتت فيه من شمول
(1) كذا، ولعلها الفنش التي تعني النصارى، وتطلق في الجزائر غالبا على الإسبان.
الكوافر، وبدد فيه من دماء تلك المناحر، وهو الذي حاز قصبات السبق لا يدانيه في الذكاء والسياسة مناظر، نجل الوزارة وقائم مقامها وقطب رحاها وعليه مدارها، حضرة مولانا ولي النعم أبو الخيرات أحمد باشا نعمان باشا زاده، دام عزه ورفعته وحفت بالحفظ والعناية حضرته، سماع بعض الأحاديث والإجازة فيها وغيرها كسند السبحة والضيافة ونحوها، وهو إذاك شيخ الحرم الشريف زاده الله شرفا، فأسعفته في ذلك وأتحفته بما هنالك تطييبا لخاطره، وتنشيطا لفكره وناظره، والله تبارك وتعالى المسؤول في التوفيق والقبول، وبه أستعين، فأقول: سمع منا الوزير المشار إليه ..) (1).
وبعد أن يسرد الأحاديث التي سمعها منه يذكر أيضا مؤلفاته التي بلغت أحد عشر مألفا (إلى غير ذلك مما لنا من تقييد وتقرير، وبيان وتحرير، وبسط وتفسير). ومعظم مؤلفالت محمد الشريف تحوم حول الأحاديث النبوية والتصوف. ومن ذلك (جامع الأصول المنيفة من مسند أحاديث أبي حنيفة) الذي قال عنه أنه جعله في التبويب والترتيب نظير موطأ الإمام مالك. وكان محمد الشريف يوقع تآليفه هكذا (خادم العلم والعلماء الشيخ محمد بن أحمد الشريف الجزائري مولدا ومنشأ الأزميري وطنا وملجأ) فهو إذن من الجزائريين الذين يعودون إلى أصول عثمانية ويعتنقون المذهب الحنفي. وقد هاجر إلى المشرق وجاور بمكة واستوطن أزمير لأسباب لا نعلمها الآن. وقد نعرض إلى بعض مؤلفاته في فصل التصوف.
وتعتبر إجازة البوني والراشدي لمحمد مرتضى الزبيدي إجازة بالمراسلة، لأنهما لم يجتمعا به، الأول من عنابة والثاني من قسنطينة. وقد ذكر الكتاني أن الزبيدي قد ترجم للراشدي في (معجمه) وسماه فيه (شيخنا الإمام المحدث الصوفي النظار)(2). وبناء على الزبيدي فإن الراشدي قد توفي سنة 1194. وممن أجازوا الزبيدي أيضا من الجزائريين محمد المنور
(1) هذه الإجازة مصورة، عن النسخة الأصلية من إسطانبول.
(2)
الكتاني، 1/ 172.
التلمساني المتوفى سنة 1172. وقد أجاز يحيى الشاوي عددا من علماء المشرق منهم المحبي صاحب (خلاصة الأثر) بعد أن درس عليه هو وجماعة من الشاميين تفسير سورة الفاتحة من البيضاوي، والألفية والعقائد ونحوها. وكانت الإجازة نظما ذكره المحبي (1). وممن أجازهم الشاوي أيضا محمد بن زيد الدين الكفيري، وذلك بأسانيده ومروياته عن مشائخه في كتب الموطأ
وصحيح البخاري وغيرها (2). كما أجاز تقي الدين الحسني بالإجازة التي منحه إياها شيخه محمد السعدي البهلول (3). ولا شك أن الشاوي قد أجاز غير هؤلاء أيضا (4).
أما ابن عمار فقد منح سنة 1205 إجازة إلى مفتي الشام عندئذ محمد خليل المرادي. وقد ذكر ابن عمار في هذه الإجازة بعض شيوخه في مصر وفي الحرمين كما ذكر العلوم التي تلقاها عنهم، بالإضافة إلى بعض الأثبات. فمن مشائخه بمكة عمر بن أحمد، وبالمدينة حسن بن محمد سعيد، وبمصر محمد الحفني، ومن هذه الإجازة نعرف أن ابن عمار يروي الحديث عن عيسى الثعالبي بطريق محمد الحفني (5). وبالإضافة إلى إبراهيم السقا وعبد القادر الرافعي منح ابن العنابي الإجازة إلى محمد بيرم التونسي ومحمد بن علي الطحاوي المصري وغيرهما. وقد عرفنا أنه كان يقلد أستاذه ابن الأمين في منح الإجازة لكل من أدرك حياته. وكان أحمد المقري قد منح الإجازات أيضا لعلماء المشرق. وقد روى هو أنه أجاز أحمد الشاهين
(1)(خلاصة الأثر) 4/ 486. وقد هاجم الشاوي الفلاسفة في هذا النظم، وعدد الأبيات خمسة عشر.
(2)
دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، ضمن مجموع رقم 313، وهي بخط المجيز نفسه.
(3)
نفس المصدر، رقم 335 ضمن مجموع.
(4)
جاء صاحب الأعلام 9/ 214، بلوحة رقم 1460 من إجازة للشاوي بدار الكتب المصرية (313 مصطلح) وعليها خط الشاوي.
(5)
إجازة ابن عمار للمرادي من مخطوطات المكتبة الظاهرية بدمشق. انظر مقالتي (إجازة ابن عمار الجزائري للمرادي الشامي) في مجلة (الثقافة) عدد 45، 1978.
الدمشقي بتأليفه (إضاءة الدجنة) بطلب منه، كما أجازه بغيرها (1).
وبالمقابل، تلقى علماء الجزائر الإجازات من علماء المسلمين في المشرق والمغرب، وهذا هو الكثير الغالب. ولا نريد أن نعدد الإجازات وأصحابها فليس ذلك من هدفنا هنا، ولكننا ننبه إلى أن بعض الإجازات التي سنشير إليها قد تضمنت في الغالب العلوم كلها، كما يقول الورتلاني، ولم تكن خاصة بعلم الحديث وحده، وأحيانا كانت تتناول الفقه والتوحيد والتصوف، وكلها في الواقع علوم مشتركة. وقد كانت إجازات علماء المالكية في مصر والحرمين لعلماء الجزائر كثيرة الورود لاتفاق المذهب. أما علماء المغرب العربي فالمذهب بينهم واحد، لذلك أجاز عدد من علماء المغرب أحمد المقري قبل رحيله إلى المشرق. ومنهم أحمد بن القاضي صاحب (جذوة الاقتباس) وأحمد بن أبي القاسم التادلي ومحمد القصار وأحمد بابا التمبكتي (2). ومن جهة أخرى سجل عبد الرزاق بن حمادوش في رحلته مجموعة من الإجازات التي منحها له بعض علماء المغرب في عهده، وهم أحمد الورززي ومحمد بن عبد السلام البناني وأحمد بن المبارك وأحمد السرايري (3). كما أخذ محمد المنور التلمساني إجازة من الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي (4). وأثناء مرور عبد القادر بن شقرون الفاسي على نواحي بسكرة في طريقه إلى الحج أجاز الفقيه خليفة بن حسن القماري سنة 1192 (أو 1193) بعد أن قرأ أجزاء من نظمه المشهور لخليل. ووصف المجاز بأنه من فرسان البراعة وأنه على خلق حسن (5).
(1)(نفح الطيب) 3/ 181.
(2)
ذكر المقري ذلك في كتابه (روض الآس) في تراجم العلماء المنكورين. انظر كذلك فهرس دار الكتب المصرية تيمور، 171، مصطلح الحديث.
(3)
ابن حمادوش (الرحلة) مخطوطة. انظر دراستي عنه في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). ج 1، ط. 3 1990.
(4)
فهرس دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 181 مجموع.
(5)
من نسخة خطية في مكتبة الصادق قطايم بقمار، بوادي سوف. انظر أيضا رسالة =
وقد عرفنا أن الورتلاني قد حصل على إجازات كثيرة من شيوخ مصر أثناء إقامته بالأزهر، بعضهم أجازه بالعلوم وبعضهم أجازه بأوراد الطريقة الشاذلية. فهذا الشيخ البليدي قد أجازه في سائر العلوم، وهذا عبد الوهاب العفيفي قد أجازه إجازة مطلقة في العلوم العقلية والنقلية، وهو الذي لقنه الذكر على الطريقة الشانلية (وقد أخذنا عنه الطريق ورسم الحقيقة وإنه لقننا الأذكار وجددنا عليه العهد في الطريقة الشاذلية المحصنة). أما (سلطان العارفين) الشيخ الحفناوي فقد أجاز الورتلاني في المعقول والمنقول (1). ولوجمعت إجازات الورتلاني من علماء مصر وغيرهم لجاءت ربما في كتاب، لأن بعضهم قد أجازه بخط يده وبعضهم قد أجازه بخطوط تلاميذه، ولكن معظم إجازات الورتلاني كانت عن طريق القراءة والملازمة. وقد حضر معه بعض ذلك معاصره ومواطنه أحمد بن عمار.
وقد نشر إبراهيم اللقاني في القرن الحادي عشر الإجازة بين الجزائريين. ذلك أن كثيرا منهم قد نوهوا به وتلقوا عليه العلم. ويبدو أنه كان ذابئع الصيت متمكنا في الفقه المالكي. ومما يلفت النظر أن إبراهيم اللقاني لم يمنح الإجازة لعالم جزائري بعينه ولكنه منح إجازة لمجموعة من علماء الجزائر، مثل علي بن مبارك القليعي (2) وسعيد قدورة وسحنون (3) رفيق سيدي علي البهلول (4). وقد تضمنت الإجازة غيرهم بالطبع ولكننا للأسف لم
= (إتحاف القاري بسيرة خليفة بن حسن القماري) تأليف محمد الطاهر التليلي القماري. مخطوطة.
(1)
الورتلاني (الرحلة)289.
(2)
لا شك أنه من مدينة القليعة القريبة من مدينة الجزائر والمشهورة بأسرة سيدي علي مبارك المشتغلة بالتصوف.
(3)
الظاهر أنه هو سحنون الونشرسي شارح (السراج) للأخضري، وسيأتي الحديث عنهفي فصل العلوم من هذا الجزء.
(4)
يبدو أنه من أسرة أبهلول التي كانت لها زاوية بنواحي تنس. انظر ترجمة سعيد قدورةفي فصل التعليم من الجزء الأول.
نطلع عليها. وقد قال في آخر الإجازة (أجزت لمن ذكر ولأولادهم ولأهل قطرهم .. جميع ما مر التنبيه عليه وجميع ما يجوز لي وعني روايته من مقروء ومسموع ومجاز ومكاتبه ووجادة ومراسلة وأصول وفرع ومعقول ومنقول)(1) فهي إجازة عامة في نوعها وفي هدفها لأنها لا تتعلق بنوع معين من العلم ولا بعالم واحد في الجزائر.
ولمحمد مرتضى الزبيدي أيضا تأثير على علماء الجزائر بطريق الإجازة. فهو من الذين اشتهروا بالتبحر في العلوم والتأليف فيها ونشر الإجازة بين المعاصرين. وقد سبق أن أشرنا إلى أنه قد أجاز أبا راس وحمودة المقايسي. ولعله قد أجاز أيضا أحمد بن عمار وغيره من علماء الجزائر الذين ترددوا على مصر في النصف الثاني من القرن الثاني عشر. وقد ذكر الكتاني أن للزبيدي إجازة عامة لأهل قسنطينة تقع في مجلد صغير، وله أخرى لأهل الراشدية (2). وكان محمد الأمير (وهو جزائري الأصل) قد أجاز أبا راس وغيره من الجزاريين واشتهر علماء مصريون آخرون بمنح الإجازات للجزائريين مثل: علي بن سالم السنهوري، وعلي الشرملسي وعلي الأجهوري ومحمد البابلي ومحمد الزرقاني وأحمد الجوهري. فقد أخذ محمد بن عبد الكريم الجزائري عن البابلي والزرقاني (3). وأخد محمد بن عبد المؤمن، كما عرفنا، عن الشرملسي (4). وأخذ محمد المنور التلمساني عن أحمد المجيري (5). كما أخذ علي بن الأمين عن أحمد الجوهري (6).
(1) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 19 م ضمن مجموع. وقد توفي إبراهيم اللقاني سنة 1041.
(2)
الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 408.
(3)
الجبرتي، 1/ 68. وبناء عليه فقد أخذ محمد بن عبد الكريم أيضا عن مغفتي تعز محمد الحبشي.
(4)
ابن زاكور (الرحلة) /23.
(5)
دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، مجموع رقم 181، والإجازة بخط المجيز سنة 1168. وقد توفي المجيري الملوي سنة 1181.
(6)
ذكر ذلك ابن الأمين نفسه في رسالته المسماة (أما بعد). مخطوط. انظر فصل اللغة =