الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإننا نجد أن شعر الإخوانيات قد سيطر على البيئة، فالشعراء كانوا يتبادلون المدح والنكت وحتى الهجاء والفخر، والعجيب أن شعر الرثاء قليل جدا رغم العاطفة القوية التي يتميز بها الناس عند فقد الأقارب والأحبة والشيوخ، كما أن شعر المجون قليل، ولكن لا غرابة في ذلك فإن المجتمع على العموم مجتمع منقبض قاس على نفسه، تقل فيه الطرف والنكت والشعر الخفيف، وقد عرفنا أن المرأة كانت في المقام الثاني وكانت مشاركتها قليلة في الظاهر، فلم تدخل ميدان الشعر الاجتماعي لا منتجة ولا موضوعا.
المجون والمزاح:
ويبدو أن محمد بن أحمد بن راس العين، الذي لا نعرف عنه إلا القليل والذي كان محل تقدير الشعراء والعلماء، ممن اشتهر بشعر المجون، ففي الوقت الذي كان فيه الفقهاء يلعنون شجرة الدخان ويفتون بعدم شربها أو تدخينها، كان ابن رأس العين يسخر من فتاواهم ويخاطب (التباغة) كما يخاطب الخمر المحرمة، وينادي النادل أن يسقيه إياها في غليون ممتاز لأن شربها في الليل في جلسات السمر مع الإخوان ينعش النفس والفؤاد، وهو يقول للنادل إن الفتوى بعدم شربها كلام باطل، وإنها عنده حلال طيب، وأن ضوءها يغني عن الصباح، وإن تعاطيها لا يفسد العقل كما يزعمون، وأن من لم يشربها لا يدرك حقيقتها.
اسقنيها تباغة تجلا
…
في حلى السبسى
شربها في الدجا مع الإخوان
…
جالب الأنس
اسقنيها ودع كلام السلاح
…
فهو عندي محال
لا تعطل شرابها يا صاح
…
فهي عندي حلال
شمعها يغني عن الصباح
…
في ظلام الليال
شربها ليس يفسد العقلا
…
لذوي الحس
كل من ذم شربها جهلا
…
فهو في بخس (1)
(1) كان ابن رأس العين حيا سنة 1058 كما وجدناه على بطاقة من (رقم الحلل) لابن الخطيب من أنه من نسخ هذا الشاعر. انظر مكتبة رضوان، المكتبة الوطنية - تونس، =
ومن الواضح أن ابن رأس العين متأثر بالمدرسة الأندلسية في نظم الموشحات، وأنه يعد مقدمة لابن علي في شعر المجون، كما سنرى، غير أننا نعرف أن ابن علي كان مفتيا أيضا، أما ابن رأس العين فلم يكن كذلك. فهو أحق بالمجون من صاحبه، ولكن اختلاف العصر (ابن رأس العين في القرن الحادي عشر وابن علي في الثاني عشر) يجعل المقارنة بينهما هامة في هذا الباب، وسنترجم لابن علي بعد حين.
ويدخل في شعر اللهو الاجتماعي التلغيز أو استخدام الألغاز عن طريق الشعر، تخفيفا من عبء الحياة، واختبارا للذكاء وتنشيطا للذهن، ونعرف أن سعيد قدورة قد تبادل الألغاز مع أحمد المقري في لغز (هاج الصنبر). ويحدثنا الفكون أن المقري قد عجز عن الجواب في الأول ولكنه وجد حله في المرة الثانية، وأنه قد نظم الإجابة شعرا (1).
وألف بركات بن باديس عملا في الألغاز سماه (نزع الجلباب في جمع بعض ما خفي في الظاهر عن الجواب) كما سماه في مكان آخر (بالمسائل السبعينية) لأنه جمع فيه كما قال سبعين مسألة في الألغاز نثرا وشعرا. وقال في أوله (وبعد فهذه سبعون مسألة كانت حاضرة على البال، وضعتها هنا
=
…
7059، أما الموشح أعلاه فهو من (كناش) المكتبة الوطنية - تونس، رقم 529،
وفي هذا الكناش أخبار أخرى عنه، وقد كتب الموشح سنة 1027، كما جاء ذكر ابن رأس العين في (ديوان ابن علي)، وسماه هناك (الكاتب البليغ) ووصفه (بالشيخ
الرئيس)، ووجدنا في بعض الوثائق أن ابن رأس العين كان نائبا عن سعيد قدورة
(توفي سنة 1066) في الخطابة بالجامع الكبير بالعاصمة، كما وجدنا في الأرشيف. (172) 31 - 228 Mi، أن ابن رأس العين كان بذمته مبالغ مالية محددة وأنه كان أمينا لأوقاف الحرمين، وذلك سنة 1114، فإذا صحت التواريخ المذكورة فإنه يكون قد عاش مدة طويلة. يبقى أن نشك في أن التاريخ الأخير قد يكون لأحد أفراد العائلة (ابن رأس العين) وليس بالضرورة تاريخ الشاعر الذي نتحدث عنه. انظر أيضا (مختارات مجهولة).
(1)
(منشور الهداية)، مخطوط.
تقييدا خوف النسيان والإهمال، مفيدا لأهل العرفان والكمال)، وقد اطلعت على نسخة من هذا العمل فوجدت فيه الألغاز التي ذكرها الفكون والتي ذكرها أيضا ابن حمادوش والتي كانت متداولة، فيما يبدو، بين علماء وأدباء الوقت (1).
كما يحدثنا عبد الرزاق بن حمادوش، في الرحلة أن لأحمد البوني كتابا في الألغاز، وأن عددا من الأدباء قد حاولوا الإجابة وفشلوا، حتى اضطروا إلى الكتابة إلى ابنه أحمد الزروق بعنابة يطلبون منه توضيح الجواب بمقتضى ما قصد إليه والده (2)، وقد اشترك في حل هذا اللغز بالشعر أيضا يحيى
الشاوي وسحنون بن عثمان الونشريسي، ومن جهة أخرى يذكر ابن ميمون في
(التحفة المرضية) أنه كانت لإبراهيم القنيلي الطرابلسي (قوة الألغاز والأحاجي .. وكان كثيرا ما يخاطب بها صاحبه الأول (محمد بكداش باشا) أمير المؤمنين بالدار السلطانية، وقعت بينهما في هذا الفن طرف تستلمح فتستملح، وأعاجيب تستلحظ فتستحفظ) (3)، ونفهم من هذا أن بكداش باشا كان يلاغز أيضا.
وقد حدثنا أحمد بن سحنون أيضا عن أنه كان يمازح الأمير عثمان ابن الباي محمد الكبير قبل توليه الحكم، ومن ذلك أنه قال فيه قصيدة (أثناء مزاح
أدبي، ومنزع عربي)، وهي:
عسى الليث عثمان يعذرنه
…
ويجري على خطة الكرم
وقد استعمل ابن سحنون نفس العبارة السابقة مع صهر الباي أيضا،
وهو محمد بن إبراهيم، الذي كان صديقا له، فقال فيه مرة عند غيابه عنه من قصيدة طويلة.
(1) يقع العمل في واحد وعشرين صفحة، وهو من نسخ سالم بن محمد إلى شعبان بن
جلول، سنة 1146، والسخة التي رأيناها من مكتبة الشيخ المولود بن الموهوب (عند السيد ماضوي). وكان بركات بن باديس حيا سنة 1107.
(2)
ابن حمادوش (الرحلة)، مخطوط، وقد ذكر ابن حمادوش نماذج من الإجابات، وبعضها جيد المستوى.
(3)
(التحفة المرضية) مخطوط باريس، 64.