الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوي بها عضد التوحيد منشئها
…
فالسعد يكتبها والفخر يجليها (1)
الرثاء:
وإذا كانت الحياة رابطة قوية بين الشعراء، فإن الموت أيضا كان يقوي تلك الرابطة، بل يكشف عن أصالتها أو زيفها، فكما تبادل الشعراء
الإخوانيات أثناء الحياة جادوا بالشعر عند وقوع مصاب بأحد العلماء أو الشيوخ، وشعر الرثاء، على خلاف شعر المدح، قليل، ومما يذكر أننا لا نكاد نجد قصيدة فيما يمكن أن نسميه بالرثاء السياسي ، ذلك أن جميع المراثي، على قلتها، لا تخرج عن بكاء بعض الشيوخ ورجال الدين، فكأن نهاية الحاكم كانت تعتبر بشرى للأمة وليس نكبة قد حلت بها، وما دامت حياة معظم الولاة كانت تنتهي بمأساة (بما في ذلك حياة بكداش باشا الذي مدحه الشعراء) فإن رثاءه قد يجلب النقمة على الشاعر. ثم إن نفاق الحياة قد جعل الحاكم مهابا أثناء حكمه عندما تكون يده مبسوطة للعطاء ولكن الموت ينهي كل ذلك، فما فائدة الشاعر المنافق أثناء الحياة من رثاء واهبه بعد وفاته؟ وعلى كل حال فإن الرثاء السياسي يكاد يكون معدوما في الوثائق التي عندنا، وحتى الأبيات التي وجدت على ضريح صالح باي لم يكتب الشاعر اسمه تحتها فظلت غفلا، ولعل ذلك كان خوفا من الانتقام لأن صالح باي، رغم ما قيل عن شعبيته، قد مات مقتولا مغضوبا عليه من باشا الجزائر، ومع ذلك فنحن نسجل هذه الأبيات:
ضريح لاح (في) أوج السعادة
…
كما عقد الجواهر (في) النضادة (2)
باي الزمان أخو المعالي
…
به قد راح (صالحه) رشاده
أمير عاش في الدنيا سعيدا
…
وعند الموت قد حاز الشهادة
فكم منن له في الله جلت
…
وكم أجرى لطاعته جواده
(1)(الكتاب الباشي)، 20.
(2)
في الأصل بدون (في) الموجودة ين القوسين.
وجاهد في سبيل الله فوزا
…
فأفنى الفنش (1) واستوفى جهاده
مدارس قد بنى لله فضلا
…
وكم للخير بلغه مراده
بشهر محرم قد مات أرخ
…
أمير حاز مفتاح السعادة (2)
ولا شك أن الرثاء يكون أصدق إذا قيل في الشيوخ والأصدقاء والأقارب، ولكننا لا نجد من هذا إلا القليل كما ذكرنا، ومن ذلك رثاء مصطفى الرماصي القلعي لشيخه عمرو التراري بن أحمد المشرفي، وهي قصيدة جيدة وطويلة (150 بيتا)، ويقال إن الرماصي قد نسج فيها على منوال أبي حيان في رثاء شيخه أيضا في وزنها وقافيتها وعدد أبياتها، وتبدأ قصيدة الرماصي هكذا (3):
خليلي عوجا بي على طلل عفا
…
معالمه قد غيرت ومعاهده وأسفت عليه السافيات بعيدنا
…
دقاق الحصا فانحط منها أجالده (4) وأثناء حصار وهران الثاني (1205) أصيب قاصي معسكر، الطاهر بن حوا، برصاصة فأردته قتيلا، وكان ابن حوا قد عينه الباي عندئذ ليقود الطلبة، رفقة زميله محمد بن جلال (الجلالي)، لمجاهدة العدو، وقد كان لمقتله أكثر كبير في نفس الشاعر المجيد أحمد بن سحنون فرثاه بقصيدة قوية مطلعها:
عز نفسك عن صروف الزمان
…
كل شيء على البسيطة فان (5)
وقد سجل عبد الكريم الفكون بعض الأبيات التي رثى بها الشيخ علي
(1) يشير بالفنش إلى الإسبان ومشاركة صالح باي في رد غارتهم على الجزائر بقيادة
أوريلي سنة 1775 (1189).
(2)
أوردها شيربونو في (روكاي) 57 - 1856، 114 - 115.
(3)
مذكورة كاملة ني (كناش) أبي حامد المشرفي، ك 471 الخزانة العامة بالرباط، ص 435 - 438، وفي الخزانة العامة نسخة أخرى منها أيضا برقم 2787 د.
(4)
تبدأ قصيدة أبي حيان هكذا:
هو العلم لا كالعلم شيء تراوده
…
لقد فاز باغيه وأنجح قاصده
(5)
(الثغر الجماني)، مخطوط باريس.
آبهلول (ويسميه أحيانا البهلولي) وقدم لها بقوله إن البهلولي كان (فطنا لقنا صاحب شعر كثير وفصاحة وفهم وله إنشادات شعر كثير)(1)، وكان الفكون صديقا له كما كان صديقا لأخيه عبد الرحمن البهلولي، لذلك كان صادق العاطفة في رثائه.
أما سعيد قدورة فقد رثى شيخه محمد بن علي آبهلول المجاجي بقصيدة طويلة ذكر فيها أن شيخه قد توفي شهيدا بعد أن طعنه رجل من بني نائل، الذين قال عنهم إنهم قوم خوارج، وأشاد فيها بنسبه وشرفه وعلمه، وأنه كان بالخصوص عالما بالنحو والتوحيد والفقه والمنطق، ومطلع هذه القصيدة: مصاب جسيم كاد يصمى مقاتلي
…
ورزء عظيم قاطع للمفاصل وقد شكا قدورة من الدهر الذي أذل العلماء بحكم الجهال وتطاولهم عليهم، وبكى شيخه آبهلول على لسان الأرامل واليتامى والضعفاء، والأسرى المسلمين الذين كان الشيخ المجاجي يساعد على افتدائهم، كما بكى فيه العلم والتقى، وذكر أن الطلبة كانوا يشدون الرحال للقراءة عليه في زاويته: لمنزله كانت تشد رحالنا
…
فمن راكمب يسعى إليها وراجل وأخيرا وجه قدورة خطابه إلى قاتل الشيخ وتوعده بسوء المغبة، وقال عنه إنه (خارجي) لا يدين بسنة عموم المسلمين.
أحقا قتلت الألمعي محمدا
…
على قول حق لا على قول باطل (2) قتلت امرءا من شأنه العلم والتقى
…
فيا خير مقتول ويا شر قاتل
فإنك من أشرار قوم خوارج
…
بني نائل لا فزت يوما بنائل (3)
(1) انظر ذلك والقصيدة في (منشور الهداية).
(2)
يشير بذلك إلى فتوى الشيخ بعدم جواز زواج القاتل من إحدى النساء، وهو سبب القتل.
(3)
نقل القصيدة أبو حامد المشرفي في (ياقوتة النسب الوهاجة)، 149 - 159 مخطوط، وذكرها سعيد قدورة في ترجمته لنفسه أيضا، المكتبة الوطنية. تونس، رقم 422 مجموع. وهي في 62 بيتا. وقد وجدنا القصيدة في مصدر آخر منسوبة إلى
المانجلاتي وليس إلى قدورة.
وقد حظي عبد الرحمن الثعالبي بعدد من المراثي ليس في عصره فقط
ولكن حتى في عصور متأخرة (1)، ومن ذلك قصيدة القاضي محمد بن مالك فيه، وهي قصيدة جيدة وطويلة لولا أن النسخة التي اطلعنا عليها منها قد أساء إليها النساخ أيما إساءة، وقد بدأها ابن مالك بالغزل جريا على العادة، رغم
أنه قاض، وغزله فيها رقيق على كل حال، ثم تخلص من ذلك إلى مدح
الثعالبي وأخلاقه، وكون مدينة الجزائر قد أصبحت به مأوى الأولياء وموطن السعادة، كما عدد مؤلفات الثعالبي وأسانيده وقدرته على رواية الحديث، ووصف ضريحه ومقامه في نفوس الناس، وبعد ذلك انطلق ابن مالك في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وتعداد معجزاته مستنجدا به ومستنصرا، ونظرا للأخطاء الفادحة التي في القصيدة نكتفي هنا بمطلعها، راجين أن يعثر الباحثون على نسخة أوفى وأصح مما اطلعنا عليه:
أيا جيرة حلرا بخير مقام
…
لكم قد صبا قلبي وطاب مقامي
ثم خلص إلى القول:
وما صبوتي فيمن رأوه حقيقة
…
ولكنني أصبو لحب إمام
أبو زيد القطب الأجل الثعالبي
…
إمام الورى طرا بكل مقام (2)
وقبل أن نترك الحديث عن المراثي نشير إلى مرثية محمد القوجيلي في المفتي أحمد الزروق بن عمار بن داود (3)، وقصيدة عبد الرزاق بن حمادوش
(1) أشرنا إلى قصيدة تلميذه أحمد بن عبد الله الجزائري فيه، في الفصل الأول من الجزء
الأول.
(2)
اطلعنا من هذه القصيدة على نسختين، نسخة مكتبة جامع البرواقية رقم 49 مجموع، ونسخة الخزانة العامة بالرباط رقم ك 2867، وهي في مائة وثلاثة أبيات، وبعد ذلك اطلعنا على نصها في (تعريف الخلف) 2/ 254 وفيه أنها لعلي بن أحمد الشريف بن مالك الجزائري.
(3)
جاء ذلك في (ديوان ابن علي) مخطوط، وكان أحمد الزروق متوليا للفتوى حوالي سنة 1028 بمدينة الجزائر.