الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتب عملا جديرا بالتقدير، وهو لم يكن يكتب كتابا بالمعنى التقليدي للكلمة ولكنه كان يقيد ملاحظات وآراء وتأملات، فإذا بها تصبح بالنسبة إلينا اليوم مصدرا قويا عن عصره وأهله، ولكن قيمة عمله تظل مرهونة بقيمة عمل الآخرين. ذلك أن الكتابة عن النواحي التي عالجها تكاد تكون مفقودة، والذين كتبوا، أمثال ابن ميمون وابن سحنون، كانوا مادحين لا ملاحظين، ولعل أقرب إلى عمل ابن المفتي في القيمة هي مذكرات ابن حمادوش أو رحلته، فقد وجدنا هناك تشابها كبيرا بين الرجلين والطريقتين، فكلاهما كان خارج مراكز القوة في الدولة، وكلاهما كان شديد الملاحظة، وكلاهما تحدث عن الباشوات والعلماء، حقا إن قائمة ابن حمادوش في ذلك قليلة التعاليق، خلافا لابن المفتي، كما أن ملاحظات هذا على العلماء أعمق وأكثر دقة وتنظيما، ولكن رحلة ابن حمادوش تحتوي أيضا، كما بينا في دراستنا عنه (1)، على أمور هامة، تزيد في الواقع من قيمة عمل ابن المفتي، فعسى أن يعثر الباحثون على كتابه كاملا وفي نسخته الأصلية (2).
أبو راس الناصر
لا يمكن أن نكتب فصلا عن التاريخ والتراجم في الجزائر خلال العهد العثماني دون الترجمة لأبي راس الناصر، فقد كان على رأس المؤرخين إنتاجا وإدراكا لأبعاد الدراسة التاريخية، وكنا قد نشرنا عنه، سنة 1974، بحثا قارنا فيه حياته وأعماله بحياة وأعمال عبد الرحمن الجبرتي المصري المعاصر له، ثم اننا قد أشرنا إليه في عدة مناسبات من كتابنا هذا، ولذلك
(1) درسنا رحلته في بحث نشرناه في (مجلة مجمع اللغة العربية) بدمشق، إبريل 1975. انظر أيضا كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
(2)
في دراستنا عن ابن المفتي رجعنا، بالإضافة إلى ما ذكرناه، إلى (المؤسسات الدينية) لديفوكس، وديلفان (المجلة الآسيوية) 1922، ونور الدين عبد القادر (صفحات من تاريخ مدينة الجزائر).
ستكون ترجمتنا له هنا ملخصة ومختصرة لأنه يمكن الرجوع إلى دراستنا المطولة المذكورة عنه (1).
ولد أبو راس سنة 1165 وتوفي سنة 1238، ومعنى ذلك أنه قد عاصر أحداثا هامة في حياة بلاده وفي حياة العالم الإسلامي قاطبة، ومن ذلك حملة أوريلي وحملة اللورد اكسموث الأوروبيين على الجزائر، وفتح وهران الثاني، وثورة درقاوة ضد العثمانيين، أما بالنسبة للعالم الإسلامي فلنذكر ظهور الدعوة الوهابية والحملة الفرنسية على مصر وصعود محمد علي، وبداية الإصلاح في الدولة العثمانية، وقد أثرت هذه الأحداث وغيرها على مزاجه وأحكامه.
واسمه الكامل هو محمد بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن أحمد بن الناصر الجليلي (2)، وبعض المؤلفين يقول (الناصري) بالنسبة رغم أن سلسلة نسبه التي كان حريصا عليها تذكره (الناصر) فقط بدون نسبة، وقد ولد في بيئة فقيرة جدا، نواحي جبل كرسوط (بالغرب الجزائري)، ورغم أن الحظ قد ابتسم له عدة مرات على يد بعض البايات، فإنه قد ظل حليف الفقر طول سنواته التسعين، ورحل به والده إلى نواحي متيجة قرب مدينة الجزائر، حيث عرف عن كثب الحكم العثماني، وهناك فقد والدته، زولة وهو صغير، وهو يقول عنها إنها كانت كرابعة العدوية علما وورعا. ثم انتقل به والده إلى نواحي مجاجة حيث كان الوالد يعلم القرآن للصبيان وحيث تزوج أيضا فرأى محمد أبو راس الصغير امرأة أخرى في البيت غير والدته، ولعله قد نفر من
(1) نشرت في (مجلة تاريخ وحضارة المغرب) عدد 12، 1974، كما نشرت في وقائع ندوة الجبرتي بمصر، القاهرة، 1976، وهي أيضا منشورة في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
(2)
كنا قد ذكرناه فيما كتبنا عنه، بالنسبة (الناصري) ولكن لما تأكدنا من نسبه العائلي ومن نسخة شرحه (الشقائق النعمانية) الذي شرح به قصيدة (روضة السلوان) للفجيجي، رأينا ألا نذكره منسوبا، وهكذا استعملناه (الناصر) في كل هذا الكتاب.
ذلك وتعلم من والده القسوة، ولكن هذا الوالد سرعان ما توفي أيضا فأصاب أبا راس اليتم والفقر.
ولا ندري لماذا توجه عبد القادر، الأخ الأكبر لأبي راس، إلى المغرب، ولكن الظاهر أنه كان يبحث عن عمل، ومهما كان الأمر فقد كفل عبد القادر أخاه أبا راس وأخذه معه إلى المغرب، وهناك حفظ القرآن وشب، وعاد إلى معسكر بالفقر أيضا وبشيء من العلم، فوجد عالما قد طبقت شهرته آفاق الناحية، وهو عبد القادر المشرفي، الذي اشتهر بالإضافة إلى العلم التقليدي، بالأخبار والتاريخ. فتتلمذ عليه أبو راس وتأثر به كثيرا، ولازمه مدة، وكان أبو راس هو الذي يغسل ثياب الشيخ ويكويها كما يقول عن نفسه، ثم أحس أبو راس بشيء من الاستقلال العلمي فخرج إلى الريف وتزوج وبدأ ينشر علمه الذي حصل عليه، كما تولى القضاء، وقد دام على هذه الحال سنتين فقط، ثم عاد إلى معسكر لأنه أحس بمعلوماته تضعف في الريف، فاستقر بمعسكر ستا وثلاثين سنة. ففيها بلغت شهرته أقصاها وفيها انتصب للتدريس والفتوى وعرف بالحفظ والصوت الجهوري، وكان مجلسه العلمي كبيرا حتى بلغ، كما قيل، سبعمائة وثمانين مستمعا أحيانا. وكان شيخه عبد القادر المشرفي هو الذي رشحه ليكون خليفة له في التدريس.
وبالإضافة إلى المشرفي الذي كان له المربي والموجه والمشجع على شق حياته، درس أبو راس على مشائخ آخرين كثيرين ذكرهم في ثبته ورحلته، تتلمذ على بعضهم وهو في معسكر والمغرب ومدينة الجزائر وقسنطينة وتونس، وعلى آخرين حين توجه إلى الحج مرتين، في مصر والحرمين، ولا نريد هنا أن نثقل على القارئ بذكرهم، وحسبنا أن نحيل إلى دراستنا عنه المشار إليها وإلى رحلته المسماة (فتح الإله)، ولنذكر هنا من مشائخه أحمد بن عمار مفتي مدينة الجزائر الذي تأثر به، ومحمد مرتضى الزبيدي الذي خصه بكتاب سماه (السيف المنتضى فيما رويته بأسانيد الشيخ مرتضى)، وقد أخرج أبو راس عددا كبيرا من التلاميذ من أبرزهم أبو حامد المشرفي صاحب التآليف العديدة في التاريخ والأدب والرحلات.
كانت ثقافة أبي راس ثقافة عامة غير مركزة وثقافة محلية، وكانت تقوم على المجهود الشخصي أكثر من أي وسيلة أخرى، يعززها ذكاء حاد وذاكرة قوية وطموح بعيد المدى، وكان أبو راس معتدا بنفسه فخورا بما أنجز من تآليف وما جلب إليه من جمهور في الدرس وما يحفظه من الأسانيد والأخبار. فهو لا يراجع الدروس، ولا يبالي بقواعد النحو، وقد فاق جميع المؤلفين كثرة ما عدا السيوطي، وقد قيل في وصفه بأنه كان متوسط القامة، نحيف الجسم، أبيض البشرة، خفيف اللحية، صغير العينين، طويل الأنف نحيفه، كبير الرأس، ولعل كنيته (أبو راس) قد لصقت به لذلك.
تنقل أبو راس كثيرا بالنسبة لمعظم علماء عصره، ولعله كان يتردد على مدينة الجزائر التي سكن قربها وهو صغير، فقد وصف لنا علماءها في رحلته وتتلمذه على بعضهم، كأحمد بن عمار في تاريخ لم يحدده، ومهما كان الأمر فقد زارها بالتأكيد سنة 1214 لأنه سجل ذلك في رحلته، كما وجدنا نفس التاريخ على تقريظ ابن الأمين له عندئذ، والغالب أنه قد زار مدينة الجزائر أيضا وقسنطينة أثناء حجته الأولى، سنة 1204 والثانية سنة 1226، وكذلك زار تونس ومصر والحرمين وسورية وغزة والقدس، كما زار المغرب طالبا للعلم في تاريخ لا نعرفه ثم زاره سنة 1216، وخصوصا مدينة فاس وتطوان، وتناقش مع العلماء وحضر مجلس السلطان هناك، وقد ألف في تطوان بعض كتبه وأهداه إلى السلطان سليمان، ولعله قد رجع إلى المغرب أيضا بعد ثورة الطريقة الدرقاوية المشار إليها، وسواء كان في المغرب أو في تونس أو المشرق فإن أبا راس كان يجادل العلماء ويناقشهم ويدعوه الحكام ويناقشونه، وقد سجل ذلك في رحلته، فهو كما قلنا كان معتدا بنفسه، وكان على صلة وطيدة ببايات الغرب الجزائري ولا سيما محمد الكبير الذي خصه أبو راس بالقصائد والتأليف. وبنى له بعضهم قبة سماها (قبة المذاهب الأربعة) لأن أبا راس كان يفتي بها، كما أن بعضهم قد بنى له مكتبة وقدم له كرسيا يجلس عليه عند الدرس لكثرة المزدحمين عليه، بالإضافة إلى النقود والحاجات الأخرى الضرورية لمعاشه، ولذلك نجد أبا راس يشيد في كتبه
بولاة آل عثمان وبدورهم الإسلامي، فهو حينئذ من المؤرخين الموالين للدولة العثمانية وولاتها في الجزائر.
كتب أبو راس أكثر من غيره من الكتاب الجزائريين، ورغم أنه ألف تقريبا في كل فرع من العلوم المعروفة في وقته فإن أغلب كتبه في التاريخ والأنساب والأخبار، وقد ذكر هو نفسه في رحلته ثلاثة وستين كتابا بين صغير وكبير وقسمها إلى ثلاثة عشر قسما مبتدئا بالقرآن ومنتهيا بالشعر، ونسب إليه بعضهم 137 كتابا (1)، ومن كتبه التي لم يذكرها في رحلته عشرون كتابا معظمها في التاريخ والأنساب أيضا، وكثير من هذه الكتب قد ضاع، وتمكنا من الاطلاع على عدد منها ما يزال مخطوطا مثل رحلته (فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته) التي رأينا منها نسختين في المغرب، و (الشقائق النعمانية في شرح الروضة السلوانية) في مصر، و (عجائب الأسفار) في الجزائر وباريس، و (الدرة الأنيقة)، و (إسماع الأصم) و (الحلل السندسية) وغيرها، ومن الغريب أن بعض مؤلفات أبي راس قد ترجمت ونشرت بالفرنسية بينما لم تنشر إلى الآن كتبه بالعربية (2)، ومن الكتب المنسوبة لأبي راس والتي لم نطلع عليها كتاب في أخبار ملوك الترك والروم، وآخر في ملوك فرنسا، وآخر في أنساب الجن الخ.
وفي دراستنا المذكورة عنه حللنا كتابيه (عجائب الأسفار ولطائف الأخبار) و (الحلل السندسية)، وقد بينا أيضا هناك طريقة المؤلف في الكتابة
(1) جاء ذلك في مؤلف وجده فور بيقي عند زميله ديلفان (المجلة الآسيوية) 1899، 306 - 309.
(2)
باستثناء (الإصابة فيمن غزا المغرب من الصحابة) الذي نشر مع ترجمة فرنسية في تونس سنة 1301 (1884 م)، وهناك شخص آخر يدعى أيضا محمد بوراس، قال عنه محمد المرزوقي أنه من أهل جربة تونس وأنه كان حيا سنة 1222 وأن له تأليفا بعنوان (مؤنس الأحبة في أخبار جربة) نشره المرزوقي بتونس سنة 1960، وقد خلط المرزوقي فيه بين محمد بوراس الناصر الجزائري، وأحمد بن ناصر الدرعي، فانظره.