الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن المفتي وتقييده
من الغريب أن المؤلفين الجزائريين المعاصرين لابن المفتي لم يشيروا إليه ولا إلى كتابه في مؤلفاتهم المعروفة لدينا. فلا ابن حمادوش ولا ابن عمار ولا الورتلاني ولا غيرهم من مؤلفي القرن الثاني عشر (18 م) قد ذكر شيئا فيما نعلم، عن هذا الرجل وعمله، رغم أهمية ملاحظاته وأحكامه كما سنرى. وأول من نقل عنه نصوصا كاملة وترجمها إلى الفرنسية هو الباحث الفرنسي ألبير ديفوكس خلال القرن الماضي، أي بعد قرن من وفاة ابن المفتي والظاهر أن الكاتب الإسباني غونزاليز عاد إلى كتاب ابن المفتي بخصوص باشوات وعلماء الجزائر خلال العهد العثماني، رغم أنه لم يذكره من بين مصادره. أما الذي قدم عمله إلى القراء ودرسه بشيء من التفصيل فهو الكاتب الفرنسي ديلفان سنة 1922. وقد حصل السيد نور الدين عبد القادر على نسخة من عمل ابن المفتي ونشر منه مقتطفات في كتابه (صفحات من تاريخ مدينة الجزائر) المطبوع سنة 1964 (1).
اهتم ديفوكس بالناحية العلمية والدينية من كتاب ابن المفتي فأخذ عنه ما كتبه عن المفتين الحنفيين والمالكيين أثناء العهد العثماني وما قيده بشأن علاقات العلماء والفقهاء بعضهم ببعض من جهة وعلاقاتهم بالسلطة الحاكمة من جهة أخرى. وقد نشر ديفوكس بعض النصوص منه مترجمة إلى الفرنسية في (المجلة الإفريقية) أولا ثم جمع مقالاته ونشرها في كتابه (المؤسسات الدينية في مدينة الجزائر). ولكن ما قام به ديفوكس حول هذا الكتاب ما زال ناقصا لأنه لم يعرف بالمؤلف (ابن المفتي) ولا بكتابه ولم يهتم بالجزء السياسي والاقتصادي منه المتعلق بالباشوات والحياة الاجتماعية. فظلت الصورة التي نعرفها عن ابن المفتي وكتابه غامضة وناقصة. ولسنا متأكدين أن
(1) نذكر أيضا أن كاتبا مجهولا قد كتب سنة 1923، تعليقا على ما كتبه ديلفان عن ابن المفتي، ونشر ذلك في (مجلة المستعمرات الفرنسية) 1923، 318 - 324 معنونا مقاله هكذا (مؤرخ عربي من مدينة الجزائر في القرن 18).
غونزاليز قد عاد إلى عمل ابن المفتي في رسالته المسماة (مشاهير مسلمي مدينة الجزائر). ثم إنه إذا صح أنه رجع إليه فإنه لم يأخذ منه سوى قائمة جافة من أسماء الباشوات الذين تولوا الحكم في الجزائر وبعض مشاهير العلماء على عهدهم مع ذكر وظائفهم ووفياتهم. ومن جهة أخرى فهو لم يشر أصلا إلى ابن المفتي في مصادره كما ذكرنا، رغم أنه أشار إلى غيره كابن حمادوش.
أما ديلفان الذي نشر عمله في (المجلة الآسيوية) فقد عرف قليلا بابن المفتي وكتابه من خلال ما كتبه ابن المفتي نفسه عن أسرته وحالته وتأليفه. كما أشار ديلفان إلى كيف حصل على نسخة من تأليف ابن المفتي التي لا تضم، حسب رأيه سوى الجزء الخاص بالباشوات، وهي من نسخ أحد النساخ الذين وظفتهم فرنسا في بداية عهدها بحكم الجزائر، وليست هي النسخة التي كتبها ابن المفتي على كل حال. وبذلك كانت نسخة ديلفان خالية من الجزء المتعلق بالعلماء والحياة الدينية. وأما نور الدين عبد القادر فقد عوض ما فقده عمل ديلفان حين حصل على نسخة غير جيدة من كتاب ابن المفتي تضم حياة المفتين والعلماء. وبينما وجدنا ديلفان يشيد بخط وأسلوب النسخة التي حصل عليها، وجدنا نور الدين عبد القادر ينتقد خط وأسلوب النسخة التي اطلع عليها، ومن سوء الحظ أن نور الدين بدل أن يقدم لنا النسخة كما هي حتى نشاركه في التعرف على أسلوب المؤلف، عمد إلى صياغته فاعلا، كما قال، ما فعل الشيخ الدردير مع مختصر الشيخ خليل.
وهكذا يتضح أن كتاب ابن المفتي، رغم أهميته في نظر كل الذين رأوه وأخذوا عنه، لم يقدم كله كعمل موحد ولم يدرس دراسة تاريخية منهجية تبين محاسنه وعيوبه وتضعه في مكانه من بين الأعمال التاريخية التي نحن بصددها. ولم نحصل نحن على نسخة جديدة من هذا العمل، ولكننا سنحاول أن نجمع المعلومات المتفرقة التي قيلت عن ابن المفتي وكتابه وندرسها ونخرج منها بنتيجة.
ولد ابن المفتي (وهو الاسم الذي اختاره لنفسه) في مدينة الجزائر بتاريخ لا نعرفه بالضبط من عائلة كانت متصلة بالحكم اتصالا مباشرا. فهو من الكراغلة المنحدرين من نسل عثماني وجزائري. فإذا عرفنا أنه أنهى كتابه بذكر تولية المفتي المالكي الحاج أحمد الزروق بن محي الدين بن عبد اللطيف سنة 1166 وأنه لم يكتب كتابه إلا بدافع الكبر والحزن أمكننا أن نتصوره قد ولد أواخر القرن الحادي عشر، وليكن ذلك حوالي سنة 1095 (1). ومن جهة أخرى فإن والده، المفتي حسين بن رجب شاوش بن محمد، قد ولد أيضا بالجزائر. وتولى الفتوى سنة 1102، وعمره ثلاثون سنة، ومعنى هذا أنه قد ولد سنة 1072. وبذلك يكون قد أنجب ابنه (المؤلف) وهو في حوالي الثالثة والعشرين من عمره. وقد توفي المفتي حسين بن رجب شاوش في مدينة الجزائر ودفن بها. والعجيب أنه بالرغم من حرص ابن المفتي على ذكر التواريخ فإنه لم يذكر متى ولد وتوفي والده ولا متى ولد هو.
أما جده، رجب بن محمد، فقد ولد في قارة حصار، بالقرب من أزمير في آسيا الصغرى. وجاء إلى الجزائر مع أخيه الأكبر، ضمن الشبان المغامرين الذين كانوا يلتحقون بالجيش العثماني في الجزائر، وكثير من هؤلاء الشبان المغامرين كانوا يصلون إلى مراتب عالية في الدولة إذا كانوا يتمتعون بالذكاء والتعرف على طرق الصعود، ويمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى صعود نجم محمد بكداش باشا وصالح باي. ولم يصل رجب بن محمد إلى تولي الولاية ولكنه وصل إلى مرتبة قد تفوقها من بعض النواحي. فقد أصبح قرصانا أو بحارا يعمل على سفينتين تملكهما زهرة باي، أرثا عن أبيها وزوجها. ثم أصبح (شاوش) العسكر، وهي وظيفة سامية، تسمح لصاحبها بالتعرف على أسرار الدولة والتدخل في التولية والعزل والتأثير على الولاة أنفسهم، ثم
(1) ما يؤكد هذا أنه قال إنه شاهد في صباه مدى شهرة المفتي محمد بن سعيد قدورة، والمعروف أن محمد قدورة قد توفي سنة 1107، فيكون عمر ابن المفتي حينئذ حوالي اثني عشرة سنة.
أصبح بولكباشيا أو عسكريا متقاعدا. وظل كذلك إلى أن توفي بحصر البول ودفن في باب الواد. وقد أنجب رجب بن محمد، الذي أصبح يدعى بعد الوظيفة رجب شاوش، ابنه حسينا حوالي سنة 1072 كما أسلفنا. ولعل زوجه كانت من الجزائريات وبذلك تكون جدة المؤلف جزائرية، ولكن هذا أمر غير واضح. وكان رجب شاوش الذي عرف الدولة وأسرارها قد حرص على أن ينشأ ابنه حسين نشأة علمية وأن يهيئه لتولي وظيفة سامية أرقى معنويا من وظيفته هو، وهي الفتوى الحنفية، وكذلك كان الأمر.
وتحدث ابن المفتي عن والده، حسين بن رجب شاوش، فقال إنه تولى الفتوى سنة 1102 عن ثلاثين سنة، كما أشرنا. ووصفه أوصافا جليلة تليق بمقام الوالد وبمقام المفتي أيضا. فقد أخبر عنه أنه أول كرغلي تولى الفتوى الحنفية في الجزائر، بينما كانت من قبل في أيدي علماء الحنفية الموفدين من إسطانبول. وكان معاصر والده في الفتوى المالكية هو أحمد بن سعيد قدورة. وكلاهما، في نظر ابن المفتي، قد ملأ مكانه كما يجب، وقد مدح والده بأنه زان وظيفته فكان خطيبا ماهرا ومفتيا وقورا. وكانت الأسئلة ترد عليه من مختلف الناس، ولا سيما في الخريف عندما تكثر الخصومات بينهم على أراضي الفلاحة. وأهم من ذلك أن الباشوات كانوا يجلونه، بل كانوا يقفون له ويقبلون يده احتراما. وكان يفضل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، حتى أن شؤونه الخاصة كانت مهملة. ونحن قد نفهم من ذلك أن المفتي حسين بن رجب كان مهملا لولده - المؤلف - أيضا ما دام يقضي أوقاته في خدمة الآخرين. ودام حسين بن رجب شاوش على تلك الحال ثماني سنوات أو اثني عشر سنة (1)، إلى أن تولى الباشوية عطشى
(1) في النص جاء مرة أنه بقي ثماني سنوات ومرة أنه بقي اثني عشر سنة، والمعروف أن عطشى مصطفى قد تولى سنة 1112 وظل إلى سنة 1117 حين قتل بعد هزيمته في تونس، وبذلك تكون مدة حسين بن جرب أكثر من ثماني سنوات، فإذا كان الباشا قد عزله عند توليه فتكون مدته عشر سنوات، أما إذا عزله بعد ذلك فالقول بأنه ظل اثني عشرة سنة أصح.
مصطفى (1) فعزل والد ابن المفتي وعين بدله محمد النيار. ومن المفهوم أن ابن المفتي كان قاسيا جدا على محمد النيار. فقد اتهمه بأنه أهان وظيفة الفتوى وأنه كان هو الذي يقف للباشا وينحني لتقبيل يده مرارا وأنه هو الذي سن هذه السنة السيئة التي بقيت منذئذ، كما اتهمه بالجهل ورقة الدين.
في هذا الجو نشأ ابن المفتي، وتعلم العلم المعروف في عصره، كما تعلم السياسة والمؤامرات التي كان يديرها الجنود والعلماء للوصول إلى الحكم والجاه. ولا شك أن من أساتذته في ذلك والده نفسه. فهو بحكم وظيفة الفتوى كان عليه أن يكون مدرسا في الجامع الجديد كما عرفنا. وقد ذكر ابن المفتي بعض تلاميذ والده الذين تولوا الفتوى أيضا، ومنهم محمد بن الماستجي الذي تولاها وعمره أقل من ثلاثين سنة. وهناك عدد من الشيوخ الذين تلقى ابن المفتي عليهم العلم أيضا، بالإضافة إلى والده. وقد ذكر هو منهم ثلاثة كانوا جميعا من أبرز العلماء في وقتهم، وتولوا جميعا وظائف عالية، وهم: محمد بن نيكرو وعمار المستغانمي، وكلاهما تولى الفتوى، ومصطفى العنابي الذي تولى القضاء. وتربى ابن المفتى مع جيل من العلماء أيضا. فحين ذكر المفتى الحاج أحمد الزروق بن عبد اللطيف، وهو آخر من ذكره في كتابه، كما أشرنا، قال عنه إنه كان شريكه في مجلس درس عمار المستغانمي ومحمد بن نيكرو. ويفهم من سياق ابن المفتي أن والده لم يهيئه لتولي الفتوى بعده. كما يفهم أيضا أنه لم يتول وظائف عالية شأن زملائه وأساتذته. ولكن هذه قضية ما تزال غامضة.
ومهما كان الأمر فإن ابن المفتي كان على ثقافة عملية. فبالإضافة إلى مكانته داخل المجتمع والسياسة كان شديد الملاحظة لما يجري حوله. فقد أخبر أنه حضر جلسة الديوان عندما كان والده متقلدا للفتوى وشاهد كيف يقوم الباشا إجلالا لوالده ويقبل يده. وذكر أنه ذهب إلى آسيا الصغرى
(1) مات مقتولا في القليعة عند زاوية أولاد سيدي مبارك سنة 1117.
وغيرها حين قال إنه زار سنة 1128 قارة حصار، مسقط رأس جده، كما أخبر عن نفسه أنه زار قبر حسين ميزو مورتو في جزيرة شيو (1). ولا ندري أين حملته رجلاه أيضا، فلعله قد زار إسطانبول وسورية (التي قال إن الجزائر تقارن بها في الثروة) كما قد يكون حج وزار مصر وغيرها. ولكنه لا يذكر هو نفسه سوى مسقط رأس جده وقبر الباشا ميزو مورتو في شيو.
إن هذه الخلفية عن حياة وأسرة ابن المفتي تعطى فكرة عن عمله أيضا. فهو كرجل من رجال الدولة والعلم جدير بأن يكون نافذ الملاحظة وثيق المصدر. وقد اعتمد في تأليفه على مصادر عديدة منها المكتوب ومنها الشفوي ومنها التجربة الشخصية. فأسرته كانت عريقة في خدمة الدولة، كما لاحظنا، ولا شك أنه كان يملك الوثائق الرسمية النادرة التي كانت لجده ووالده. وكان له شيوخ بارزون وأصدقاء في مقام عال في المجتمع والحكم. ومن مصادره جدته لأمه التي كانت تخبره ببعض حوادث القرن السابق له (القرن الحادي عشر)، بالإضافة إلى ما عاشه هو من أحداث وما شاهده من أمور وسجله من ملاحظات. ونفهم من مقدمة كتابه أنه عاش حتى كبرت سنه ونضجت تجربته. كما نفهم منها أنه قد فقد أسرته وأطفاله وبقي وحيدا يعاني الوحدة والحزن والكبر. وهذا أقسى ما يصيب الإنسان في آخر عمره.
فقد ذكر أن الوحدة والحزن والكبر وفقد الأولاد هي التي دفعته إلى تقييد ما قيد. ولم يكن دافعه الشهرة أو التشهير بأحد، بل ولم يكن التأليف العلمي من هوايته، وإنما أراد التسلي والتأسي، والاشتغال بشيء ينسيه، مؤقتا على الأقل، بعض حزنه وشعوره بالوحدة، فكان هذا الشيء هو العمل الذي نحن بصدده والذي تناوله الكتاب المذكورون بطريقة مبعثرة كما لاحظنا. والغريب أيضا أن ابن المفتي الذي أخفى اسمه، تواضعا أو لسبب آخر لا نعلمه، لم يجعل عنوانا لما قام به أيضا. ولعل أقرب إلى الصواب
(1) تولى باشوية الجزائر سنة 1094، ثم هرب بحياته بعد أكثر من ست سنوات إلى شرشال ومنها ركب البحر إلى إسطانبول حيث أصبح قبطان الأسطول العثماني، وقد استولى عل جزيرة شيو، ودفن بها، حيث زار ابن المفتي قبره.
تسمية عمله (تقييدات)، لأنها في الواقع كذلك. فهو لم يقم بتأليف تقليدي فيه المقدمة والأبواب والفصول والخاتمة. كما أنه لم يكتب جريدة أو مذكرات، كما فعل ابن حمادوش، وإنما سجل ما ظهر له وما تذكره من أمور تتعلق بالحكام والعلماء والمجتمع والعلاقات الخارجية والحياة الاقتصادية والثقافية وهو في مركز هام مثل مدينة الجزائر عاصمة أكبر دولة عندئذ في المغرب العربي.
ومما نشر حتى الآن عن ابن المفتي نفهم أن تقييداته قد قسمت إلى ثلاثة أقسام: مقدمة، وقسم العلماء والمجتمع، وقسم الباشوات والحياة السياسية والاقتصادية. وفي خطبة الكتاب أو المقدمة تحدث عن دوافع التأليف وحالته النفسية والعائلية وصلته هو بالكتابة. وقال على سبيل التواضع انه غير مؤهل لمثل هذا العمل وإنه ليس أفضل من يكتبه. ومع ذلك أقدم عليه لأنه لم يجد ما يفعله غير الكتابة. كما أنه ذكر الأشياء التي أوردناها عن والده وجده وزيارة مسقط رأس جده وغير ذلك من الأمور المتصلة بالعائلة. ولا ندري أي القسمين ورد الأول: قسم العلماء أو قسم الباشوات (1). ذلك أن ديفوكس ونور الدين عبد القادر اللذين استفادا من القسم الأول لم يوضحا هذه النقطة. ويبدو أن كلا منهما قد اطلع على قسم العلماء مستقلا تماما عن بقية الكتاب. ونحن نرجح، رغم أن الدليل يعوزنا، أن ابن المفتي قد انتقل، بعد الخطبة، إلى الحديث عن قسم العلماء لأن ذلك متصل بحياة والده الذي كان منهم، ثم جاء بقسم الباشوات باعتباره قسما ثالثا في الكتاب. ولا ندري أيضا ما إذا كان للكتاب خاتمة.
وما دام الكتاب لم يعثر عليه كله بين دفتين فمن الصعب وصف حجمه وأسلوب صاحبه وطريقة بدايته ونهايته، فقد أخبر ديلفان أن النسخة التي عثر عليها معروضة للبيع ضمن أوراق ديفوكس، تحتوي على تسع ورقات
(1) ذكرنا من قبل أن ديلفان قال إنه وجد في نسخته خطبة الكتاب متبوعة بتاريخ الباشوات.
وعنوانها (تاريخ الباشوات الذين حكموا جزائر الغرب)(1)، ويفهم من هذا أن هذه النسخة تضم قسما فقط من تقييدات ابن المفتي، ولم يخبر ديفوكس، الذي كان أول المستفيدين من التقييدات، عن حجم الكتاب، كما أن نور الدين عبد القادر لم يصف حجم النسخة التي قال إنه قد عثر عليها عند أحد الأصدقاء، ونتصور أن كل التقييدات (بما فيها الخطبة وقسم العلماء وقسم الباشوات) لا تتجاوز خمسين ورقة (2).
أما الخط فالظاهر أنه لا أحد من الباحثين المذكورين قد عثر على نسخة ابن المفتي الأصلية. فنسخة ديفوكس لا نعرف عن خطها شيئا لأنه لم يصفها. ونسخة ديلفان قال عنها ان خطها شرقي جميل كتبها أحد النساخين الذين دخلوا في خدمة الفرنسيين بعد الاحتلال، وقد أخبر نور الدين عبد القادر أن نسخته رديئة الخط لا تكاد تقرأ وأن فيها بعض البياض، وأنها مليئة بالأخطاء الفاحشة. أما الأسلوب فنور الدين يرى أن تعبير النسخة التي حصل عليها (في غاية البساطة والسذاجة، يستعمل كثيرا من عبارات اللغة الدارجة)، وكان المؤلف يستعمل أيضا بعض العبارات التركية، بينما ذكر ديلفان أن نسخته حسنة الأسلوب واضحة، فهل يمكن لابن المفتي، الذي تتلمذ على شيوخ جلة ذكرنا بعضهم، أن يكتب بأسلوب (في غاية البساطة
(1) جاء في قائمة الكتب التي قيدها البارون ديسلان في الجزائر عنوان هو (بيان ملوك الجزائر)، كان قد حمله بيروبرجر معه في قسنطينة، فهل يكون هذا هو جزءا من عمل ابن المفتي. انظر فقرة المكتبات من الفصل الثالث من الجزء الأول.
(2)
الظاهر أن النسخة الأصلية من الكتاب مفقودة كما فقد الكثير من مؤلفات هذا العصر، ولم يبق منه إلا شذرات نقلها بعض النساخ هنا وهناك لأغراض مختلفة. وقد ذكر ديلفان أنه بذل قصارى جهده في الحصول على نسخة كاملة منه فلم يستطع، كما أنه لم يستطع أن يرى نصا أصليا منه، وفي مراسلة بيني وبين الشيخ البوعبدلي ذكر لي أن نسخة من تقييدات ابن المفتي كانت عند المرحوم أحمد الأكحل الذي توفي منذ أربع سنوات بالجزائر، وفي مكالمة هاتفية مع الشيخ عبد الرحمن الجيلالي ذكر لي أن نسخة منه عند السيد نور الدين عبد القادر. وقد اجتمعت أنا مع نور الدين سنة 1968، ولم أساله عن تقييدات ابن المفتي لعدم اهتمامي بها عندئذ.
والسذاجة) كما يقول نور الدين؟ ويبدو ذلك بعيدا الآن، اللهم إلا إذا قلنا ان ابن المفتي لم يكن من صنف المثقفين أصلا.
وقد أخبر ابن المفتي في البداية بأن علم التاريخ عبادة ومنة جزيلة، وأن معرفة أخبار العلماء منقبة جليلة. ومن رأيه أن الجزائريين لم يهتموا بعلم التاريخ وأخبار العلماء، وأن ما كتبه الكتاب في ذلك غير مدروس ولا معروف. وهذه حقيقة، لأن أبا راس والورتلاني وغيرهما قد ذهبوا نفس المذهب، وعلى هذا الأساس أراد ابن المفتي أن يملأ هذا الفراغ، فكتب عن الحياة السياسية في قسم الباشوات، وتحدث عن مدينة الجزائر وسكانها ونظامها السياسي ووسائل عيش السكان، والكوارث الطبيعية التي أصابتها وعلاقة سكانها بالأتراك والإسبان، ونظام الأمناء والمؤسسات الدينية، وأما الباشوات فقد ذكر منهم 54 باشا من إسحاق سنة 921 هـ إلى إبراهيم خوجة سنة 1158 (1)، ولم يذكر الباشا إلا مرة واحدة رغم أن بعضهم قد حكم عدة مرات، ووصف ما وقع في عهد كل واحد من ثورات داخلية وحروب خارجية وقضية الكراغلة التي أفاض فيها (وهو منهم)، وما قام به كل منهم من أعمال خيرية واجتماعية، وعلاقة الباشوات بالسلطان، وتقاليد التولية والعزل والصراع الذي يصحب ذلك، وذكر أن السكان كانوا ضحية شره الولاة وأن هؤلاء كانوا أحيانا يفرضون ضرائب على العلماء والأعيان، ومدح حكم الحاج علي آغا الذي قال عنه ان الناس فيه قد اقتنوا كل ثمين وبنوا المنازل الفخمة وركبوا الخيول والبغال الفارهة وأنشأوا الحدائق الجميلة وتوفر عندهم الذهب والفضة وعم الرخاء، وكان رخاء الجزائر مضرب المثل حتى أصبحت تقارن بسورية، كما وصف ما أصاب الجزائر من أزمات اقتصادية نتيجة هجوم الأجانب والزلازل والطاعون.
أما في قسم العلماء والأعيان فقد أفاض في الحديث عنهم وعن
(1) الغريب أن القائمة التي أوردها عبد الرزاق بن حمادوش في رحلته لهؤلاء الباشوات الذين ذكر منهم 69، تبدأ أيضا بإسحاق وتنتهي بإبراهيم سنة 1158، غير أن ابن حمادوش يذكر تاريخ ولاية إسحاق سنة 915، وليس 921.
أخلاقهم ووظائفهم، وقد ذكر أصل وظيفة الفتوى عموما، وفتوى الحنفية خصوصا، وذكر قائمة المفتين المالكية والحنفية، وفصل القول في بعضهم مثل عائلة قدورة (سعيد، ومحمد، وأحمد، وصهرهم عبد الرحمن المرتضى الخ)، وأوضح ما بين هؤلاء العلماء من تحاسد وصراع على الوظيفة، وما هناك من مؤامرات يسندها إلى بعض أساتذته وكبار المتصلين بهم، ولكنه كان ينصف المظلوم في أحكامه ويظهر الحقيقة الخفية، وهو الذي ذكر الخلاف الشديد الذي وقع بين محمد بن ميمون وابن علي ومحمد بن سيدي هدى ضد ابن نيكرو، وكيف تجادل المفتي الحنفي والمفتي المالكي في عهده حتى انتهى الأمر إلى تدخل الباشا وعزل المفتي الثاني، ووصف من كان في مستوى المسؤولية المسندة إليه ومن كان دونها، وكان كثير النقد شديد الملاحظة، معتمدا على مصادر قلما يحصل عليها غيره، بل كان يتدخل أحيانا في الحياة الخاصة للعلماء ليقدم صورة واضحة عنهم، فقد ذكر أن أستاذه محمد بن نيكرو كان يعاني من زوجه التي لم تكن أم أولاده ومن ابنه الأكبر، كما ذكر أن أستاذه عمار المستغانمي كان خطيبا عييا وأنه كان يعاني من زوجه التي كانت تكثر من الضيفان حتى افتقر ولم يعد يملك سوى القميص الذي يلبسه وكثرت عليه الديون.
كل الذين اطلعوا على تقييدات ابن المفتي حكموا بأن صاحبها قد قام بعمل هام لم يسبق إليه. فهو أولا كان رجلا واعيا مسؤولا عما يقول، وكان، كما يقول ديلفان، مستقل الفكر لا يقبل أي معلومات بدون مناقشة، وكان يرد الحكايات والخرافات غير المقبولة، بل كان يحاول أن يرد الإنسان المتهم ظلما إلى مكانه الحقيقي، وأخبر ديفوكس أن ابن المفتي كان في عمله مخلصا وجادا وأنه جمع معلومات هامة عن العصر وأهله لا تتوفر في غير كتابه، وأنها معلومات لا يمكن أن تكون مختلقة، ولذلك اعتمد عليه في وصف المفتين رغم أنه عادة لا يثق فيما كتبه الجزائريون، أما نور الدين فقد أعجب بالفوائد الجمة التي يجنيها قارئ كتابه لتفاصيلها عن حياة العلماء والأعيان خصوصا.
والواقع أن ابن المفتي، الذي لا نعرف حتى الآن اسمه الحقيقي، قد