الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كأن قوافي الشعر مني جنادل
…
وكف الزمان منجنيق بها يرمى (1)
وهي من أحكم الشعر وأقواه في وقتها، ولعل هذه النغمة توضح لماذا غادر المنداسي الجزائر ساخطأ واستقر بالمغرب، رغم أننا لا ندري هل قال هذه القصيدة قبل أو بعد هجرته، وبالإضافة إلى ذلك فإن (ديوان
ابن علي)
يحتوي على بعض الشعر في الشكوى والاستغاثة. ومن ذلك قطع لجده ووالده في الشكوى، وشعر آخر لمحمد سعيد الشباح التلمساني في الاستغاثة، ونحو ذلك (2).
ومن الشعراء الذين اشتكوا أيضا من الزمان وأهله بمرارة، المفتي الحنفي ابن علي، وهو يستحق منا وقفة مطولة هنا لأنه كان من أقوى شعراءوقته.
ابن علي
مصادر ابن علي قليلة جدا. فالذي يريد أن يدرس حياته لا يكاد يجد ما يساعده في هذا الباب سوى مصدرين الأول ما كتبه عنه معاصره وزميله وتلميذه أحمد بن عمار في (نحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب). ونحن نعرف أن ما كتبه عنه هنا هو ملخص ما كتبه عنه مطولا في كتابه (لواء النصر في فضلاء العصر) الذي يعتبر الآن مفقودا. وقد نوه ابن عمار بابن علي كثيرا
(1) المكتبة الملكية - الرباط. رقم 7382، مجموع. ومنها أيضا نسخة في تطوان رقم 256 مجموع، وقد ذكر أبو حامد المشرقي قصيدة في التشكي أيضا كتبها السنوسي بن عبد القادر بن دحو. انظر كذلك ك 471، الخزانة العامة الرباط، 451 - 452.
(2)
كان جد ووالد ابن علي من الشعراء أيضا، أما محمد صعيد الشباح التنسي الأصل التلمساني المنشأ فلا ندري عنه الآن سوى أنه كان من الأدباء والشعراء، وأنه كان حيا سنة 1051 حيث وجدنا خطه على نسخة من كتاب (سحر البلاغة وسر البراعة)
لأبي منصور الثعالبي، وكانت بينه وبين ابن راس العين مراسلات انظر (مختارات مجهولة).
واعتبره إماما في الشعر وافتخر بأنه بدأ به تراجم من ترجم لهم في (لواء النصر). والثاني (ديوان ابن علي)، وهو عبارة عن مجموعة من الأشعار المختلفة والنقول المنسوبة له والمتعلقة بأسرته وحياته الخاصة، بالإضافة إلى بعض الأشعار المنسوبة إلى شعراء جزائريين متقدمين عنه أو معامرين له، ولذلك يسمى هذا المصدر أحيانا (أشعار جزائرية) وأحيانا (أشعار مختلفة).
وهناك أيضا مصادر أخرى تتحدث عن ابن علي، بأهمية أقل. من ذلك تقييد أو تاريخ ابن المفتي الذي تحدث فيه عن علماء عصره وعن الباشوات، وقد ختم ابن المفتي تاريخه حوالي سنة 1157 وقال في قائمة أسماء المفتين
الحنفيين التي أوردها أن ابن علي هو المتولي الآن وأن له في الفتوى أكثر من
ست سنوات (1)، وفي رحلة ابن حمادوش حديث قصير عن ابن علي أيضا، وقد سبقت الإشارة إليه (2). ومن مصادره أيضا رحلة عبد الرحمن الجامعي المغربي المسماة (نظم الدرر المديحية) التي تعتبر في حكم المفقودة، وقد نوه الجامعي، الذي تبادل الشعر مع ابن علي وأعجب به وبفضل ابن علي على الشعر واعتبره مجدد طريقة ابن الخطيب (3). كما أن الجامعي قد تبادل
الشعر مع ابن علي ونوه به في شرحه على رجز الحلفاوي.
وفي ضوء هذه المصادر نستطيع أن نترجم لابن علي. فهو محمد بن
محمد المهدي بن رمضان بن يوسف العلج، وهو مشهور بابن علي، ويبدو أن أجداده قد نزحوا إلى الجزائر مع العثمانيين الأوائل، فنحن نجد في الوثائق أن جده محمد المهدي قد تولى الإفتاء الحنفي سنة 1045 وأنه كان معاصرا لمفتي المالكية سعيد قدورة، كما نجده يتعاطى الشعر أيضا. ففي (ديوان ابن علي) مختارات شعرية لجده المذكور، قالها في مناسبات عديدة.
(1) نور الدين (صفحات)، 277. انظر أيضا ديفوكس (المؤسسات الدينية)، 147.
(2)
رحلة ابن حمادوش، مخطوط.
(3)
الحاج صادق (المولد عند ابن عمار)، 290، من رسالة بعثها له الكتاني. انظر أيضا محمد المنوني (دعوة الحق)، مارس 1974، فقد تحدث عن ديوان ابن علي وعلاقته برحلة الجامعي.
من ذلك أنه بعث إلى علماء القسطنطينية يشكو لهم شيئا ألم به، وأنه قال قصيدة يمدح فيها السادة العلوية، وأنه مدح الشيخ علي بن عبد الواحد الأنصاري (توفي سنة 1057) بقصيدة، وتدل القصائد التي اطلعنا عليها لمحمد المهدي، جد ابن علي، أن له باعا قويا في الشعر، رغم الصفة الملحقة باسمه، وهي (العلج) التي توحي بأنه كان من أصل غير عربي، وكان جد ابن علي صديقا للقاضي محمد القوجيلي، وهو أيضا شاعر ماهر كما عرفنا، فقد روى ابن علي في ديوانه أن جده حكى له أنه كان ذات يوم مع الشيخ القوجيلي فمر بهما سعيد قدورة فانحرف عنه القوجيلي وسلم على جده (1)، كما أن والد ابن علي كان ينظم الشعر أيضا.
ويهمنا مما ذكرنا أعلاه عدة أمور تهم ابن علي نفسه. إن أسرة ابن علي كانت على صلة بالفتوى والوظائف الرسمية منذ عهد مبكر للحكم العثماني، وقد كان ابن علي يشير إلى ذلك في شعره. وأن الشعر عريق في أسرته أيضا. ذلك أن شعر جده ووالده شعر مقبول، ومن جهة أخرى نجد أن ابن علي قد تولى الفتوى وطال عهده فيها، وهي ظاهرة قليلا ما تتكرر في العهد العثماني للتقلبات التي حدثت فيه، ولولا بعض الإشارات السريعة في ديوانه لما عرفنا شيئا عن والده.
تولى ابن علي وظيفة الفتوى سنة 1150 خلفا لحسين بن محتمد العنابي الذي توفي في هذه السنة، وقد استمر في الوظيفة إلى حوالي سنة 1169 بدليلين: الأول أن ابن عمار قد تحدث عنه بعد سنة 1166 (وهي السنة التي حج فيها ابن عمار) وسماه (شيخنا وأستاذنا شيخ الإسلام)، وكانت عبارة
(1)(ديوان ابن علي). انظر أيضا ديفوكس (المؤسسات الدينية)، 143، أما الجامعي فقد ذكر نسب ابن علي هكذا:(أديب مصره، وفريد عصره، الأديب النابغ، فرقد البلاغة البازغ، أبو عبد الله سيدي محمد ابن العالم الناسك أبي عبد الله سيدي محمد المعروف بن علي، ابن ذي المقام العلي، علامة أوانه وشيخ الإسلام في زمانه أبي عبد الله سيدي المهدي الجزائري، برد الله ضريحه)، الجامعي (شرح رجز الحلفاوي) مخطوط باريس، رقم 5113.
(شيخ الإسلام) هي لقب المفتي الحنفي في الجزائر كما كانت في إسطانبول، والدليل الثاني أن المفتي الجديد، حسين بن مصطفي، قد تولى في هذه السنة
(1169)
دون أن نجد في قائمة المفتين من توسط بينه وبين ابن علي (1)، فهل
عزل ابن علي عندئذ أو توفي؟ ذلك ما لا نعلمه الآن، فإذا نظرنا إلى تاريخ ولاية جده الفتوى (سنة 1045) وسنة 1169 أمكننا أن نقدر أن تاريخ ميلاد
ابن علي كان حوالي 1090، غير أننا لا نجد في الوثائق ما يساعدنا على تحديد سنة الميلاد أو الوفاة، وهناك حادثتان تساعدان على تحديد أوليات ابن علي، فهو من الذين مدحوا محمد بكداش باشا وهنأوه بفتح وهران الذي وقع سنة 1119، ولو لم يكن ابن علي متقدما في السن وفي صناعة الشعر لما قال قصيدته الرائعة في هذه المناسبة التي لعلها أفضل القصائد التي قيلت في
الفتح وظروفه:
وإني وإن أحجمت أول مرة
…
على خوض هذا البحر والغير عائم
فما هي إلا هيبة الملك قلما
…
على مثلها في الناس يقدم قادم
وعهدي قوافي الشعر عني أذودها
…
زمانا وفكري موجه متلاطم ولولاك ما كان التفات لفكرة
…
ولا سام نظم الشعر كالدر سائم (2)
أما الحادثة الثانية فهي خصومة ابن علي مع محمد بن نيكرو مفتي المالكية سنة 1150، وهي الخصومة التي أدت إلى وفاة ابن نيكرو سنة 1152 (3).
استمد ابن علي حينئذ من أسرته تقاليد الشعر وتقاليد الفتوى، وكان المفتي الحنفي صاحب مكانة هامة في الدولة مما جعله أحيانا هدفا لسهام السياسة، كما رأينا، فالمنصب لم يكن مجرد وظيفة دينية بل كان وظيفة سياسية كبيرة، وكان المفتي الحنفي يدخل على الباشا ويحضر جلسات
(1) ديفوكس (المؤسسات الدينية)، 148.
(2)
انظر هذه القصيدة في شرح الجامعي على رجز الحلفاوي، وتبلغ 77 بيتا.
(3)
ذكر تفاصيل هذه الخصومة ابن المفتي، وقد اشترك فيها أيضا محمد بن ميمون ومحمد بن سيدي هدى وقال ابن المفتي ان ابن علي كان يقدح بلسانه في ابن نيكرو.
الديوان وله الكلمة العليا في المجلس الشرعي الأعلى، ولكن أهم من ذلك في نظرنا أن المفتي كان أيضا خطيب الجامع الجديد (الحنفي) ومدرسه الكبير، وكان ابن علي يشعر بثقل هذه المسؤولية عليه حين نازعته نفسه على قول العزل واتباع خيال الشعر، فقال يخاطب الحبيب:
لولا، وحقك، خطة قلدتها
…
زهرت بها في الخافقين شموعي ومنابر فيها رقيت إلى العلى
…
وقد استدار بها كثيف جموع
لنحوت منحى العامري صبابة
…
ولكان من حرق الجوى مشفوعي (1)
فابن علي يعرف أن سمعته كانت قائمة على الفتوى والمنبر حيث يقف خطيبا كل جمعة تحوطه الجماهير وهو يعظ ويرشد أو حلقة الدرس حيث يلتف حوله الطلبة والعلماء، ولولا هذه القيود الثلاثة لغدا في الشعر والحب كمجنون ليلى، ولكن ابن علي يعرف أيضا أن شموعه قد توقدت وسمعته قد ارتفعت بسبب هذه الوظائف وليس بقول الشعر.
تعتبر ثقافة ابن علي وابن عمار الأدبية ثقافة تثير الدهشة في وقت كان فيه الأدب، والشعر خصوصا، بضاعة غير رائجة. فقد جمعا بين أدب المغرب والأندلس وأدب المشرق، طريفه وتليده، وكان بطلهما هو لسان الدين بن الخطيب، كما كان هو بطل أحمد المقري أيضا، ولكن تأثير ابن
سهل والفتح بن خاقان وابن زمرك والبحتري وأبي تمام والمتنبي عليهما لم
يكن قليلا أيضا، ورغم طول القطعة التالية فإننا نوردها لما فيها من حكم على ثقافة ابن علي، فقد مدحه فيها ابن عمار وقارنه في أغراضه الشعرية بعدد من الشعراء الذين عرف كل واحد منهم بالإجابة فيما قال، ولكن ابن علي، بناء على ابن عمار، قد فاق هؤلاء الشعراء:
وإذا تكلم فوق منبر وعظه
…
جلى لنا البصري في أزمانه
فإذا يشبب فهو عروة رقة
…
يهدي رقيق النسج من غيلانه
وإذا يصوغ
المدح فهو زهيره
…
مهما انبرى للقول في ابن سنانه
(1) ابن عمار (النحلة)، 77.
وإذا اغتدى يصف المباني والذرى
…
خر ابن حمديس على أذقانه
أو جال في وصف الرياض أو الربى
…
أعرى أبا إسحاق من إحسانه
أخملت ذكر ابن الحسين وفقت من
…
في عصره يعزى إلى حمدانه
ولقد تركت البحتري مقيدا
…
بسلاسل قد صاغ من عقيانه
كما قارنه ابن عمار في قول الحكمة بسقراط وهرمس (1)، ونلمس من هذه الأبيات أغراض شعر ابن علي كما كانت معروفة عند عالم معاصر له وصديق وتلميذ، وهو ابن عمار، وهي: التشبيب، والوصف، والمدح.
ورغم ما في حديث ابن عمار عن شيخه من عبارات الولاء والمدح فإننا نصل منها إلى صورة عامة عن شخص ابن علي، فهو موصوف بالحفظ الغزير، ورواية الحديث النبوي، والمهارة في التفسير وتأويل الآيات، بالإضافة إلى جودة الشعر والنثر، والفصاحة في الخطابة، وكان ابن علي، مع ذلك، يقوم الليل ويتهجد ويقرأ القرآن ويجمع المهابة إلى الدعابة، والبسط إلى الورع، والأدب إلى النسك، وهذه ميزات جليلة قلما تجتمع في واحد، وكان ابن علي، بحكم شاعريته، يجتمع بالأدباء ويرتاح إليهم، وقد عرفنا أنه كان يزور بيت ابن ميمون، وهو أديب وشاعر مثله. وكانت له مجالس أنس وعلم ومطارحات مع أحمد بن عمار، يخرجان فيها للتنزه في الرياض ويتزاوران في الديار، وكلاهما عبر في شعره عن هذه الصداقة الأدبية الجميلة، وكان إعجاب كل منهما بشعر الآخر يدفع بهما إلى المزيد والإجادة، وكان ذلك وسيلتهما الوحيدة في شحذ القرائح وتحريك القوافي، لأن الشعر، كما قلنا، كان بدون مشجعات سياسية ولا اجتماعية.
أعجب ابن علي باللغة العربية إعجابا كبيرا فأجابها شعرا ونثرا، وقد شكا من كون البعض لا يعرف مكانتها ولا مكانة الشعر فيها على الخصوص، ونحن نعرف رأيه في ذلك من حادثة رواها هو في ديوانه، فقد أتى فيه بأبيات نظمها المفتي الحنفي العثماني، أسعد أفندي، في المقام النبوي، ثم علق ابن
(1) ابن عمار (النحلة)، 47.
علي على ذلك بقوله: (وها أنا أذكرها هنا تبركا، وليعلم الواقب عليها أن الممدوح (يقصد أسعد أفندي) كان ممن يحاول الصناعة الشعرية ويتحيز إلى الفئة الأدبية، فانظر هذه الهمة حيث تكلف هذا العجمي معرفة اللسان العربي، مقدما على ما أحجم عنه أكابر العلماء وهو نظم الشعر الذي هو أجمل ما التحفته الهمة، وعرفته هذه الأمة، فإنه مطلق اللسان من عقال، ومنطق الإنسان بصواب المقال) (1). وكأن ابن علي يدعو الناس إلى العناية باللغة العربية ويدعو المثقفين خصوصا إلى الاهتمام بالشعر متخذا من هذه القصة حجة له، ونعرف من مصدر آخر أن ابن علي هو الذي أمر، وهو المفتي المطاع، بترجمة (غزوات عروج وخير الدين) من التركية إلى العربية (2) لأنه لم يكن يحذق اللسان التركي.
نظم ابن علي كثيرا من الشعر في الأغراض التي ذكرناها وغيرها،
وقد قال ابن عمار عنه ان (أيدي الناس ممتلئة من شعره)، وأخبر أن ابن علي قد ناوله ديوانه مخطوطا فنقل منه بعض قصائد الغزل في (نحلة اللبيب) واقتصر على ذلك، لأن (الديوان غزير المادة) في الأغراض
الأخرى (3)، ويفهم من كلام ابن عمار أن ديوان ابن علي كله من شعره،
ولكن يبدو أن الموضوع في حاجة إلى توضيح، فالديوان، على ما يبدو،
جمع بين شعر ابن علي وشعر غيره، وكان ابن علي قد اختار من شعر غيره، سيما شعر القرن السابق له (الحادي عشر) في ديوانه. فذكر قصائد لجده
ووالده ومحمد القوجيلي وأحمد المانجلاني، وابن رأس العين ومحمد بن
ميمون وغيرهم، وأضاف إلى ذلك بعض شعره الخاص، وقد أوضح ابن علي في مقدمة ديوانه سبب جمعه لهذه الأشعار فقال: (دعاني لجمع هذا الديوان،
(1)(ديوان ابن علي)، مخطوط.
(2)
نور الدين عبد القادر (صفحات) 200، كذلك (غزوات عروج وخير الدين) له، ط. الجزائر 1934، 128. انظر أيضا المكتبة الوطنية - باريس رقم 1878 وكذلك الملحق رقم 852 مكرر.
(3)
ابن عمار (النحلة)، 81.
ما منيت به من أبناء الزمان، من شماتة ان ألمت مصيبة، وسهام من نكايتهم مصيبة، فجنحت إلى صرف تلك البلابل، بما يفوق عن احتساء البلابل .. وهو ما صيغ من ألسن بعض أهل العصر، وربما أضفت إلى ذلك ما سمحت به القريحة الجامدة، فجاء نزهة من نزه الأفكار، ومجتلى خرائد وأبكار) (1). فواضح من هذا أنه جمع في ديوانه شعره ومختارات من شعر غيره.
ولكن هذا الديوان اليوم معقود بالطريقة التي وضعه عليها صاحبه، ذلك أن الموجود الآن منه عبارة عن نماذج بعضها بصيغة المتكلم، مما يدل على أنه ابن علي، وبعضها بصيغة الغائب مما يدل على أن أحدهم هو الذي يورد النماذج ويتصرف في اختيارها، وكأن الموجود من الديوان اليوم هو مختار المختار. وهناك مشكلة أخرى تثار حول هذا المختار، وهي من اختاره؟ هل اختاره أحمد بن عمار، وبذلك يكون الديوان جزءا من كتابه (لواء النصر) المفقود أيضا؟ ويؤكد هذا أن ابن علي قد ناول ابن عمار ديوانه كما أسلفنا فأخذ منه الغراميات في (النحلة) وسكت عن الباقي، مضيفا أنه ترجم لابن علي مطولا في (لواء النصر)، أو هل اختاره عبد الرحمن الجامعي الذي عرف ابن علي أيضا وصادقه وتبادل معه الشعر والمدح؟ وبذلك يكون الموجود من الديوان جزءا من رحلة الجامعي المفقودة والمسماة (الدرر المديحية)(2) ونحن نرجح أن يكون جزءا من (لواء النصر) لابن عمار، لأن هذا هو الذي عاصر طويلا ابن علي ولازمه إلى أن تقدم العمر بكليهما، ولأن في الديوان
تعاليق وأخبارا لابن عمار أيضا، أما الجامعي فلم يطل الإقامة في الجزائر فهو
قد خرج قبل سنة 1136، والمعروف أنه قد توفي سنة 1141، بينما عاش
ابن علي بعده حوالي ثلاثين سنة.
ومهما كان الأمر، فإن الديوان يضم عددا من قصائد ابن علي في الغزل وغيره، كما يضم عددا من القصائد التي اختارها لغيره، ولكي يخرج المرء
(1)(ديوان ابن علي)، المقدمة.
(2)
ناقش هذه النقطة أيضا محمد المنوني في (دعوة الحق)، مارس 1974، وهو يميل إلى كون الديوان جزءا من رحلة الجامعي المفقودة.
بصورة واضحة عن محتوى هذا الديوان عليه أيضا أن يعود إلى (نحلة اللبيب)
لابن عمار ليقارن بين ما أورده له فيها وما هو موجود في الديوان أو الباقي منه، وما زلنا لم نفعل ذلك حتى الآن (1)، وفي المصدرين عدد من قصائد وأبيات الغزل التي قالها ابن علي في مناسبات مختلفة.
ومن ذلك قوله:
ومهفهف حلو الشمائل قادني
…
نحو الصبابة قده المياس ومنه أيضا من قصيدة أخرى طويلة:
أقصى، فدمعي من جفوني مهرق
…
وقسا فرق لي العدو الأزرق
وعندما كتب له ابن ميمون قصيدته المشار إليها في المرأة التي أحبها
ابن علي ولم ينلها، قال ابن علي مجيبا: أسهم رماني من لحاظك صائب
…
فجاءت إلى قلبي تحث المصائب كما أجابه بقصيدة أخرى في الغرض نفسه:
يمينا لقد عزت علي المطالب
…
ولي أبدا من سحر عينيك طالب وفي مناسبة أخرى تغزل ابن علي على هذا النحو: شقائي بعينيه ألذ مدامة
…
فيا طيبها لو لم تؤد إلى الحتف
فيا راحتي ما أنت في طي راحتي
…
ويا مهجتي عما تدرينه كفي
وغزل ابن علي كثير ومتنوع كما قلنا، وكان يصف في المرأة الأشياء الظاهرة، وشاعريته قوية في هذا الباب، وتدل على تمكنه من الشعر، وقد صدق ابن عمار حين قال فيه:(هذا الإمام هو خاتمة الشعراء العظام بهذا الصقع، ليس لغليل الأدب بعده نقع)(2)، وهو جيد في وصف حالة العاشق، خصوصا عند اليأس والشكوى من الرقيب وهجر الحبيب، ولم يكتف بصب غزله في القصيدة التقليدية فقط بل صبه أيضا في موشحات رقيقة، وسبق أن
(1) قمنا بذلك، ونشرنا عملنا في (مختارات مجهولة من الشعر العربي)، ط. 2، 1992.
(2)
ابن عمار (النحلة)، 39.
قلنا إنه تغزل في المذكر أيضا، ومن وصف أحواله النفسية قوله: ولي كبد تناهى الوجد فيها
…
وكانت قبل ذلك لا ترام
زهى ورد الجمال لها فحلت
…
بساحته وطاب لها المقام
ومن قصائده الغزلية الجميلة قوله:
قسما بصبح جبينك الوهاج
…
ما أنت إلا راحتي وعلاجي
وفي أحواله الاجتماعية والدينية وصراعه مع نفسه يقول:
يلومونني في العشق والكأس والغنا
…
وقالوا سفيه الرأي غير مصيب
وهل لذة الدنيا سوى صوت مطرب
…
ونشوة خمر أو عناق حبيب
ولكنه في النهاية تاب كما تاب معظم الشعراء ودعا الله أن يغفر له هذا الانجراف نحو اللذات:
إلهي أطعت النفس والغي والصبا
…
وقد حجبتني عن رضاك ذنوب
فإن كان ذنبي أزعج القلب خوفه
…
قحسن رجائي فيك كيف يخيب (1)
وبالإضافة إلى الغزل الذي برع فيه ابن علي، فقد أجاد أيضا في الوصف والمدح والشكوى والرثاء والإخوانيات، ومن أجود قصائده في الرثاء ما قاله في زوجته حين توفيت عنه:
رأيت بها عصر الشباب معاصري
…
وخيلت أني كنت من ساكني عدن
فما راعني إلا النوى صاح صيحة
…
فزعزع من عرشي وضعضع من ركني
وقال لمن كانت حياتي وراحتي
…
وريحانتي: قومي إلى منزل الدفن
فحالت يد الأقدار بيني وبينها
…
فأصبحت مسلوب الحجا ذاهل الذهن (2) وقد افتخر ابن علي ينفسه وعرف أن المثل القائل بأن (مطربة الحي لا تطرب) يصدق عليه، فقد كثر حساده وناقدوه الذين طعنوا في فضله ودعوه (سفيه الرأي) كما قال في شعره، ولكنه مع ذلك انتصب لهم ودافع عن نفسه
(1) هذه الأبيات وغيرها موجودة في (نحلة اللبيب).
(2)
(ديوان ابن علي) و (نحلة اللبيب) لابن عمار، 67.
بأنه كالنجم لن ينالوه بسوء، وهاجمهم بأنهم أجلاف لا يفقهون وأنهم
مغترون موتورون:
وإذا نسوا فضلي فكم من فاضل
…
قبلي سقوه السم في كيسانه
نصبوا حبائل مكرهم وتعرضوا
…
بسهامهم للنجم في كيوانه
من كل أرعن أهوج الأخلاق قد
…
أربى على فرعون مع هامانه
أو لم ير المغتر أن العز لا
…
يبقى ملابسه على فتيانه
أجلاف هذا العصر حقا لو رأوا
…
حسان ما جنحوا إلى إحسانه
إن أنكروا فضلي لخبث طباعهم
…
فالدر ليس يعز في أوطانه (1)
لا ندري إن كان ابن علي قد خرج من الجزائر لأغراض دينية كالحج أو
علمية أو سياسية إذ أن المصادر صامتة عن ذلك، فإذا ثبت أنه برع في الشعر على هذا النحو دون أن يدرس اللغة والأدب في غير الجزائر فذلك يزيد من إعجابنا به، وقد كانت له صلات بعلماء المغرب نذكر منهم الجامعي والورززي، وكان لابن علي شعر في كليهما، أما الأول فقد تبادل معه الشعر والنثر وكتب عنه في شرحه لرجز الحلفاوي وفي رحلته المفقودة، وأما الثاني فنعرف ما قاله فيه ابن علي حيث طلب منه الإجازة، ولكننا لا نعرف ما قال الورززي
في ان علي. وفي الديوان إشارة إلى أن ابن علي قد أجاب عن قطعة مدحه
بها أحد علماء فاس بقوله:
يمينا لقد أظهرت سحر بيان
…
بلفظ بديع رائع ومعان
ويبدو مما قرأناه أن ابن علي يتفوق في شعره الذاتي على شعره الاجتماعي كالمدح. فشعره الغزلي والوصفي وفي أحوال النفس أقوى بكثير من الشعر الذي قاله مثلا في الورززي والجامعي. غير أن قصيدته الميمية في فتح وهران تظل بلا نظير، وقد أعجب الجامعي بابن علي، وسماه (أديب العلماء، وعالم الأدباء، محيي طريقة لسان الدين ابن الخطيب، الإمام الخطيب ابن الإمام الخطيب). وفي الجامعي قال ابن علي قصيدة على منوال
(1) ابن عمار (النحلة)، 43.