الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
إذا كان الحكم على ازدهار الحياة الثقافية في عصر من العصور يقوم على تقدم العلوم والفنون فيه، فإن العهد العثماني في الجزائر يعتبر فقيرا في هذه الناحية. فقد عرفنا عناية العلماء بالعلوم الشرعية والأدب والتواريخ المحلية والتصوف، ولكن عنايتهم بتدوين الطب والحساب والفلك والرسم والعمارة والموسيقى قليلة. ذلك أن ما كان متداولا من هذه العلوم والفنون لم يكن يخرج عن تقليد السابقين ولم يكن ممارسوه يتمتعون بالاستقلال العقلي وروح الابتكار. ولعل هذا هو ما جعل الرحالة الأجانب الذين عاشوا في الجزائر خلال العهد المذكور يحكمون، عن حق، حكما قاسيا على علماء الجزائر ويتهمونهم حتى بممارسة السحر والشعوذة والتخلي عن تراث أجدادهم وأفكارهم الإبداعية التي شاعت في العصر العباسي في المشرق وفي العصر الأموي بالأندلس. فقد اختفت أو كادت الكتابة في علوم الملاحة والكيمياء والجراحة والموسيقى خلال هذا العهد، وحل محل الحساب معلومات سطحية عن التعديل وقسمة التركات، ومحل الطب والجراحة ممارسة الخرافات والسحر والتمائم، وأصبحت الكيمياء، كما قال بعض الناقدين، عبارة عن محلول ماء الورد. وظلت الموسيقى حية ولكنها كانت تعزف بدون قواعد ولا تدوين للنوطة. فإذا ظهر عالم مهتم ببعض هذه العلوم والفنون نظر إليه على أنه شاذ وغير منسجم مع روح العصر والمجتمع. وهكذا كتب ابن حمادوش نفسه ذات مرة بعد أن اطلع في الطب على أحد الكتب المترجمة إلى العربية (وهو كتاب عجيب التأليف حسن الصنيع، لولا
أنه محشو كفرا تزل فيه الأقدام، فيجب التحذير منه ..) (1).
وقد لاحظ العلماء أنفسهم ظاهرة ضعف العناية بالحساب والفرائض، فقد ذكر عبد الكريم الفكون، وهو يتحدث عن ابن نعمون وولديه، أن (معهم معرفة مبادئ الفرائض قسمة، وبعض مسائل وصايا الصحيح، ومناسخات دون ما عدى ذلك من أبوابها ومشكلاتها لانقراض العلم في كل الأقطار فيما أعلمه، اللهم إلا ما شذ)(2). ولا يشير الفكون بعبارة (كل الأقطار) إلى الجزائر وحسب، ولكن إلى ما يعرفه من البلاد الإسلامية. حقا إننا نجد أحد العلماء يبرع في الحساب فيلفت النظر إلى نفسه لحاجة الناس إلى هذا العلم في التجارة وفي الوصايا والتركات ونحو ذلك. فعبد الكريم الفكون نفسه يشير إلى براعة أبي الحسن الغربي في الحساب والتعديل (3). كما أن ابن مريم قد ذكر أن محمد عاشور السلكسيني كان ماهرا في الحساب والفرائض (4). ولكن معظم ما كان يدرسه العلماء عندئذ في هذا العلم هو تلخيص ابن البنا المراكشي ومؤلفات القلصادي. فإذا زاد أحدهم شيئا عن ذلك فمن باب المهارة الشخصية وليس من باب الدرس والتحصيل.
لذلك لاحظ الأجانب أيضا ضعف علم الحساب والفلك وما إليهما في العهد العثماني. فقد أخبر الدكتور شو، الذي عاش فترة طويلة في الجزائر، أن العلماء هناك كانوا لا يعرفون إلا قليلا من الحساب، وأن الآلات الحاسبية، مثل الأسطرلاب، كان ينظر إليها نظرة فضولية لا عملية. كما لاحظ أن الجبر والحساب العددي لم يكونا معروفين لشخص واحد من بين عشرين ألف نسمة. فالتجار كانوا، كما لاحظ، يحسبون بالأصابع. ومع ذلك فالمفروض أن العلماء وأمثالهم يدعون معرفة أسرار الحروف والأعداد
(1) ابن حمادوش (الرحلة)، وهو يشير إلى (كتاب الدول) للملطي الذي قال عنه إنه رتبه على عشر دول، مبتدئا بآدم ومنتهيا فيه إلى أوائل القرن السابع.
(2)
(منشور الهداية)، 61.
(3)
نفس المصدر، 29.
(4)
(البستان)، 287.
وأنهم باستعمال هذه الأسرار يصلون إلى تحقيق أغراضهم كطرد الأرواح الشريرة وإيقاع الهزيمة بالعدو وجلب الحظ ونحو ذلك (1).
ونفس الشيء يقال عن علم الفلك. ذلك أن رصيد المعرفة في هذا الباب عند العلماء هو تأليف محمد بن أحمد الحباك وابن أبي الرجال القيرواني، وشرح السنوسي على الأول وشرح ابن القنفذ على الثاني. كما أن أرجوزة محمد بن علي المعروف بابن أبي مقرع كانت متداولة، ولكن التقدم في هذا الميدان كان متوقفا. فقد كادت تنحصر الأعمال الفلكية في تقويم الصلوات وحركة الليل والنهار وتعديل بعض الكواكب، ورغم دقة مزاول الشمس وحركة الظل فإن علم الملاحة لم يكن متطورا، وهو العلم الذي كنا نتوقع البراعة فيه لشهرة الجزائر في العهد العثماني بالنشاط البحري، فبالإضافة إلى البحر الأبيض خرج الأسطول الجزائري إلى المحيط الأطلسي وبحر الشمال وسواحل إيسلاندا، ومع ذلك فإن البحارة كانوا، حسبما لاحظ أحد الأجانب، يقتصرون على الخريطة البسيطة وعلى تمييز النقط الثماني الرئيسية من البوصلة (2). كما أنهم قد تعلموا خط العرض بملاحظة الشمس عند منتصف النهار، وقاموا بترجمة الجداول الخاصة بهذا الموضوع إلى اللغة العربية، وإذا أعوزتهم المعرفة بعلم الملاحة وهم في المحيط أجبروا خبيرا من سفينة أوروبية على توجيههم إلى أن يعودوا إلى البحر الأبيض (3).
وقد أصبح علم الكيمياء عملا يهرب منه العلماء بعد أن كان محببا في عصر الازدهار العلمي. فقد حكى الورتلاني أنه لم يكن يستعمله كما أنه لم يكن يستعمل أسرار الحروف والأوفاق، وهو هنا ينفي ذلك لأن غيره كان يلجأ إليها طلبا لفائدتها العاجلة أو الآجلة، أي أنهم كانوا يمارسون بها نوعا من السحر وليس نوعا من العلم. وقد تعجب الورتلاني حين وجد نقيب كسوة الكعبة في مصر يتعاطى علم الكيمياء كما أن النقيب قد تعجب من أن
(1) شو (الرحلة) 1/ 364.
(2)
نفس المصدر، 356.
(3)
شيلر 57.