الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التي يبدو أنها خطبة جمعة أيضا، هكذا (الحمد لله الذي افتتح بفاتحة الكتاب سورة البقرة ليصطفي من آل عمران رجالا ونساء وفضلهم تفضيلا)(1) وهي خطبة مسجعة ويظهر عليها التكلف في أغلبها، وقد كان سعيد المقري خطيبا وإماما في تلمسان مدة طويلة، كما عرفنا (2).
القصص والمقامات:
لم يشع في الأدب الجزائري ما يسمى بالأدب القصصي إلا قليلا، وتذكر المصادر أن الأدب الشعبي كان غنيا بالحكايات والقصص التاريخية البطولية أو الملحمية، ولكنها كانت شفوية، ولا يوجد من المكتوب منها إلا القليل النادر، وكانت تستوحي موضوعاتها من التاريخ الإسلامي والعربي وألف ليلة وليلة، وعنتر بن شداد وسيرة بني هلال، وحتى من تاريخ الجزائر في العهد العثماني. ومن هذا الأخير قصة غرام عروج بربروس مع زافرة زوج سليم التومي، فقد وجد بعض الباحثين نسخة خطية من هذه القصة عند أحد المرابطين، وهو أحمد بن حرام (لعله هارون)، ولكننالا ندري ما إذا كانت لغة هذه القصة فصيحة أو عامية (3)، وكانت رواية القصة الشعبية على النحو الذي أشرنا إليه نوعا من الترفيه الاجتماعي، وكان أداؤها يجمع بين المسرحية أو التمثيلية والحكاية، وكان المؤدون لها، سواء اعتبرناهم ممثلين أو رواة، يؤدونها في الساحات العامة أو في المقاهي أو في خيام خاصة، وهم في ذلك يصعدون على منصة أو يتصدرون الحلقات والجماعات ويحكون للسامعين بأسلوبهم المؤثر المليء بالمبالغات ما جرى لأبطالهم من
(1)(نفح الطيب) 10/ 194 - 196.
(2)
انظر ترجمته في الفصل الرابع من الجزء الأول.
(3)
روى ذلك السيد لوجي دي تاسي في كتابه تاريخ الدول البربرية، الطبعة الفرنسية سنة 1725، وقد كتب اسم المرابط مرة حرام وأخرى حران. وقال عنه إنه من نسل سليم التومي وأنه كان مرابطا في جهة قسنطينة، وقال عن المخطوطة أنه وجدها مكتوبة على الرق وأخذ منها لكتابه المذكور، والظاهر أن اسم (زافرة) مصحف عن (ظافرة) حسب النطق العثماني.
مغامرات وأهوال وانتصارات، وبعد الانتهاء من أداء هذا الدور تجمع التبرعات المالية (1).
ومما يؤسف له أن المصادر المحلية قليلا ما تعرضت أو سجلت هذه الظاهرة الفنية الاجتماعية، فكأن هذه المصادر كانت مترفعة عن تسجيل مثل هذه الآثار الشعبية، فهي لا تسجل إلا أعمال الولاة وأهل الدين والعلماء والأغنياء ونحو ذلك، ولكن الشعراء الشعبيين قد تركوا في أزجالهم وقصائدهم الملحونة تسجيلا لهذه الظاهرة، وسنعرف بعض ذلك منهم في فصل الشعر، وحسبنا أن نذكر في هذا الفصل أن الموضوعات التي كانت تطرقها القصة الشعبية كانت تعرض أصبحابها إلى غضب السلطة أحيانا، لأن أصحابها كانوا يتحدثون أيضا عن الحرية والوطنية القبلية ومناصرة فريق دون فريق في الخصومات والثورات، بالإضافة إلى الموضوعات المشار إليها والمستمدة من تاريخ العرب والمسلمين، ومع ذلك فإن هؤلاء القصاصين كانوا محبوبين لدرجة أن بعض الضباط العثمانيين كانوا يستدعونهم إلى الأكشاك أو المجالس ونحوها لقص أخبارهم.
فإذا عدنا إلى المصادر النثرية التي تسجل القصص والحكايات الشعبية فإننا لا نكاد نجد من ذلك شيئا (2)، وأقرب صيغة وجدناها من ذلك هي المقامة. وقد أسهم الجزائريون في هذا الميدان، ولعل أشهر من أسهم فيه منهم قبل العثمانيين هو محمد بن محرز الوهراني صاحب المقامات أو المنامات (3)، ولكن موضوعات الوهراني كانت مشرقية، لأنه عاش معظم
(1) بنانتي، ط 2، 226.
(2)
انظر تعريف عبد الحميد بورايو بقصة (جني الهيدور) لمؤلف تلمساني مجهول. وهي تضم مجموعة من القصص الاجتماعية والسياسية مستوحاة من ألف ليلة وليلة، وبطلها جميعا هو عبد الله بن منصور، في جريدة (الشعب) 22 يناير، 1981.
(3)
بروكلمان 2/ 911، وقد نشرت بالقاهرة، 1968. وكذلك ترك أحمد أحمد بن أبي حجلة مجموعة من المقامات كتبها أيضا في المشرق. ويقوم حاليا أحد الأساتذة بتحقيقها.
حياته الفنية في المشرق. ويقرب من ذلك الإنتاج المسمى بالمجالس وبالمرائي الصوفية، على غرار ما فعل محمد الزواوي الفراوسني في (تحفة الناظر)(1)، ويمكننا أن نغامر هنا فننسب ما يحكي عن كرامات الأولياء والصلحاء وما في ذلك من خيال ومغامرات وانتصارات إلى عنصر الحكاية الشعبية النثرية، فإذا صح ذلك فإن الأدب الجزائري إذن سيجد مادة خصبة في الحكايات المعزوة إلى الصالحين والزهاد عن مغامراتهم الروحية (2).
وأظهر كاتب استعمل المقامة هو محمد بن ميمون (3) في ترجمته لحياة الباشا محمد بكداش، والغريب أن ابن ميمون قد سمى كتابه في ذلك (التحفة المرضية في الدولة البكداشية في بلاد الجزائر المحمية)، ولم يسمه مثلا المقامات المرضية أو نحو ذلك من التسميات حتى تتسق مع المحتوى، وقد جمع ابن ميمون ذلك في ست عشرة مقامة، وجعل كل مقامة عبارة عن فصل من سيرة الباشا وأعماله، فمثلا المقامة الأولى في نبذة من أخلاقه، والثانية في تعيينه سنجق دار، والثالثة في توليه تقسيم خبز العسكر، والرابعة في توليه الحكم، الخ. ولعل هذه التسمية هي التي جعلت بعض النساخ يكتبون على التحفة عبارة (مقامات ابن ميمون)(4)، ورغم أن ابن ميمون أديب ماهر يذهب مذهب الفتح بن خاقان حتى أنه عندما حمد الله في المقدمة شكره أيضا على
(1) انظر عنه الفصل الأول من الجزء الأول.
(2)
في وفاة محمد الغراب وفرسة الزواوي المسماة بالرقطاء، وفي الكرامات التي رواها ابن مريم، وفي (بستان الأزهار) للصباغ، وغيرها من الآثار دليل على ما نقول.
(3)
مصادر ابن ميمون هي كتابه (التحفة المرضية) ورحلة ابن حمادوش، و (شرح الحلفاوية) للجامعي، و (تقييد) ابن المفتي، و (ديوان) ابن علي، انظر أيضا مقالتنا عن قصيدته في مدح ابن عبدي باشا في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
(4)
مخطوطة باريس، رقم 1625، وهي على ما يظهر أقدم النسخ إذ تعود إلى سنة 1121 أي أثناء حياة ابن ميمون والباشا معا، أما بكداش فقد قتل سنة 1122، وأما ابن ميمون فنعرف من رحلة ابن حمادوش أنه كان حيا سنة 1159، وبذلك يظهر أنه ألف التحفة وهو في سن الشباب، وقد ترجم (التحفة المرضية) إلى الفرنسية السيد روسو الفرنسي، وحققها محمد بن عبد الكريم سنة 1972.
أن جعل (الأدب ريحانة للشم، وقلد البلغاء قلائد العقيان في النثر والنظم)، فإن عمله أقرب إلى التاريخ منه إلى الأدب، ولذلك فضلنا أن ندرس كتابه في فصل التاريخ، أما النواحي الأدبية من الكتاب فهي شكله وأسلوبه. فقد جعله ابن ميمون على شكل المقامات، والمقامة من أنواع الأدب، كما أن أسلوبه مسجع رقيق، أما عنصر الحكاية والخيال الضروري للمقامة الفنية فيكاد يكون منعدما عند ابن ميمون، لقد حاول أن يجعل كل مقامة عبارة عن وحدة قصصية تخص موضوعا معينا، ولكنه كان مجبرا، وهو يتناول شخصيات تاريخية وأحداثا واقعية، أن يكتب التاريخ لا الأدب وأن يسجل الوقائع لا الخيالات: أليس هو القائل عن كتابه (ولم آل جهدا في تنقيحه، وتأليفه من صادق الخبر وصحيحه، على ما تجده من ألفاظ لغوية، وأنواع بديعية، وأخبار مستلمحة، وكتابات مستملحة)؟ (1)، فاعتماده صادق الخبر ومعاودته تأليفه بالتنقيح هو عين منهج التاريخ.
وأقرب مثل إلى المقامة التقليدية مقامة أحمد البوني المسماة (إعلام الأحبار بغرائب الوقائع والأخبار)، وكان البوني قد كتبها سنة 1106، وموضوعها هو علاقة العلماء بالسلطة والاستنجاد بصديقه مصطفى العنابي، والشكوى من وشايات أهل العصر، وهي بدون شك تقرب في أسلوبها وطريقتها من أسلوب وطريقة المقامة المعروفة، وفيها كثير من الخيال والإغراب والتهويل، ولكنها مع ذلك تقص أمرا واقعا وتذكر أشخاصا حقيقيين، وتقع المقامة في أربع صفحات، وهي تبدأ هكذا (الحمد لله الذي جعل المصائب وسائل لمغفرة الذنوب، والنوائب فضائل لذوي الأقدار والخطوب، وسلط سبحانه وتعالى على الأشراف، أرباب الزور والفجور والإسراف .. وبعد، أيها العلماء الفضلا، النبلاء الكملا، فرغوا أذهانكم، وألقوا آذانكم، وتأملوا ما يلقى إليكم من الخبر الغريب، وما يرسله الله تعالى على كل عاقل أريب، فقد ارتفعت الأشرار، واتضعت أربات المعارف
(1)(التحفة المرضية) 3، مخطوط باريس.
والأسرار، وانقلبت الأعيان، وفشا في الناس الزور والبهتان، وأهملت أحكام الشريعة، وتصدى لها كل ذي نفس للشر سريعة، بينما نحن في عيش ظله وريف، وفي أهنى لذة بقراءة العلم الشريف .. إذ سعى في تشتيت أحوالنا وقلوبنا، وهتك أستارنا وعيوبنا، من لا يخاف الله ولا يتقيه، فرمى كل صالح وفقيه بما هو لاقيه، واعتد في ذلك بقوم يظنون أنهم أفاضل، وهم والله أوباش أراذل .. وما كفاه بث ذلك في كل ميدان لأنه يسر الشيطان، حتى أوصله لمسامع السلطان، فلم نشعر إلا ومكاتب واردة علينا من جانب الأمير بعزل صديقنا الشهير، من خطة الفتوى، مع أنه ذو علم وتقوى، تحيرنا من ذلكط أشد التحير، وتغيرنا بسببه أعظم التغير ثم نادى منادي السرور، وقال ابشروا برفع السوء عنكم ودفع الشرور .. فقلنا يا هذا أصدقنا الخ) (1)، ورغم
أن البوني كان من العلماء الفقهاء فإن مقامته قد ظهر عليها الطابع الأدبي القوي والعبارة المتينة، ولكنها تظل تفتقر إلى عنصر الرمز والخيال البعيد.
أما مقامات عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري فقد جمعت كل ذلك، وهي ثلاث كتبها على ما يظهر وهو في المغرب. الأولى سماها (المقامة الهركلية) وقد وصف فيها بيته التعسة بأحد فنادق مكناس، المسمى فندق الرحبة، وما سمعه من الجلبة والضجيج أثناء الليل الدامس وتشاجر القوم رجالا ونساء، وأثناء ذلك سمع امرأة تطالب جاره بدفع كيت وكيت على ما فعله معها من نكاح، ثم هدأت أعصاب ابن حمادوش ولكنه قرر عدم العودة إلى هذا الفندق الغريب، ونام. وختم المقامة بسبعة أبيات شعرا في نفس المعنى، وتناول في مقامته الثانية حالته عند خروجه من تطوان وتوجهه إلى
(1) مكتبة جامع البرواقية، مخطوط رقم 15. نسخها لي الأستاذ الشيخ الفضيل طوبال، إمام جامع البرواقية، وقد نشرتها في مجلة (الثقافة) عدد 58 (1980)، 35 - 43 انظر عن أحمد البوني الفصل الأول من هذا الجزء، ولعل مصطفى العنابي هو نفسه مصطفى بن عبد الله البوني الذي تحدثنا عنه في فقرة الخطابة، وهو الذي يرد أيضا في (تقييد) ابن المفتي، وهو أستاذه، وكان العنابي وأخوه حسين العنابي (جد محمد
ابن العنابي) من خصوم أحمد قدورة وابن نيكرو.
مكناس، وقد وصف فيها متاعبه وهدفه من زيارة المغرب بمرافقة اثنين من التجار، والطريق الصعبة التي مروا بها والأخطار التي تعرضوا لها ممن يسميهم العربان، وغرائب ما شاهد أثناء الطريق، أما المقامة الثالثة فقد سماها (المقامة الحالية)، وهي رمزية وصف فيها حالته مع الناس والدنيا والرحلة، وخسارته التجارية ودنو أجله كما قال نتيجة كل ذلك، وكان ابن حمادوش في هذه المقامة يتحدث عن شخص رمزي متعلقا به حبا (ولعله يقصد زوجه)، ومع ذلك سبب له التعب والنكد، وختمها كالأولى بالشعر والدعاء (1).
وهذا نموذج من المقامة الهركلية (الحمد لله، حدى بي حادي الرحلة، إلى أن دخلت في بعض أسفاري هركلة، ودخلت بها في خان، كأنه من أبيات النيران، أو كنائس الرهبان، بل لا شك أنه من أبيات العصيان .. فاختصصت منه بحجرة، فكأنها نقرة فى حجرة. فغلقت بابى، لأحفظ صبابي، وآمن حجابي .. حتى مد الليل جناحه، وأوقد السماء مصباحه، وهدأت الأصوات، وصرنا كالأموات. فلم يوقظني إلا جلبة الأصوات، وتداعى القينات، والتدافع بمنع وهات .. وإذا بجاري بيت، يحاسب (صاحبه) قينة على كيت وكيت، وهي تقول له فعلت كذا وكذا فعله، وتدفع أجر فعله .. فقلت بعدا لهذا الجار، ولا شك أنه بئس القرار، ولبئس الخان، كأنه حان، ثم رجعت إلى هجعتي، وتجاوزت عن وجعتي).
ومن الواضح أن مقامات ابن حمادوش، من الوجهة الفنية المحضة، تعتبر أكمل وأفضل، إذ لا ينقصها عنصر الحكاية ولا الخيال ولا طرافة الموضوع ولا الرمز، ثم إنها تجمع النثر إلى الشعر، والذي يعيبها في نظرنا أن ابن حمادوش من الرياضيين والأطباء، وليس من الأدباء، ولكن يكفيه في هذا الميدان أنه كتب ذلك في الوقت الذي لم يتناول فيه الأدباء المعروفون،
(1) المقامات الثلاث في رحلة ابن حمادوش. انظر دراستنا عنه في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، وكذلك مقالتي (أشعار ومقامات ابن حمادوش الجزائري) في مجلة (الثقافة)، عدد 49، 1979.