الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بشعر المديح النبوي وبالحديث وفروعه وبرحلات الحج. على أن كثيرين ممن تعلقوا بشمائل الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا من شعراء الملحون وكانوا في نظمهم يسبقون العاطفة على التاريخ ويخاطبون المشاعر لا العقول، كما سنرى في الرحلات.
تواريخ عامة وتواريخ محلية
نعني بالتاريخ العام ما لا يتناول الجزائر بل يتناول الظواهر التاريخية التي حدثت في منطقة واسعة أو فترة طويلة، أما التاريخ المحلي فنعني به ما تناول ناحية خاصة من نواحي القطر الجزائري أو حادثة معينة جرت فيه، وقد قلنا في بداية هذا الفصل بأن الجزائريين لم يكتبوا في التاريخ العام إلا قليلا بينما نجد لهم عدة أعمال في التاريخ المحلي.
ومن أبرز من كتب في التاريخ العام أحمد المقري صاحب (نفح الطيب)، فقد قسم هذا الكتاب الموسوعي قسمين رئيسيين الأول في تاريخ الأندلس الإسلامية، والثاني في حياة ابن الخطيب، ويهمنا هنا القسم الأول، فقد جعله المقري في ثمانية أبواب، وصف في أوله جزيرة الأندلس من طبيعة ومناخ وعمران ونبات ومآثر، وفي الباب الثاني تحدث عن فتح الأندلس على يد موسى بن نصير وطارق بن زياد وما تلا ذلك من تطورات، وتناول في الباب الثالث ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس وجهاد أهله وما جرى هناك من حروب، وخص الباب الرابع بأخبار مدينة قرطبة لمكانة الخلافة فيها ووصف جامعها الكبير وحدائقها ومنشآتها، وعرف في الباب الخامس بالذين رحلوا من الأندلس إلى المشرق وتوسع في ذلك إلى عصره هو، وكان الباب السادس في الذين هاجروا من المشرق إلى الأندلس وطاب لهم فيها المقام، وجعل الباب السابع في الحديث عن أهل الأندلس وما أعطاهم الله من مواهب وعلوم وصفات تميزوا بها عن غيرهم، أما الباب الثامن فقد خصصه
لتغلب الإسبان على المسلمين هناك وما جرى بين الطرفين من حروب وما
ارتكبه الإسبان ضد المسلمين من فظائع.
وبذلك كان القسم الأول من (نفح الطيب) في منتهى الأهمية بالنسبة لدارس تاريخ الأنداس، فهو، كما قلنا، موسوعة ثرية في هذا الباب. ومن ثمة اهتم به العرب والأجانب الذين تهمهم حياة الأندلس. وكان (نفح الطيب) معروفا قبل عصر الطباعة في العالم الإسلامي يتناسخه الناسخون ويتبادله العلماء، ومنذ ظهرت الطباعة طبع الكتاب كما ترجم القسم الذي نتناوله إلى عدة لغات أوروبية، أما ترجمة ابن الخطيب فلا تهمنا هنا، وسنشير إليها في الحديث عن التراجم، والمعروف أن المقري قد ألف (نفح الطيب) في المشرق بإلحاح من أهل الشام الذين كانوا يتطلعون أكثر من غيرهم إلى معرفة أخبار الأندلس التي تربطهم بأهلها روابط عديدة، ولكن عمل المقري هذا لا يخلو من نقد. فقد قيل عنه انه محشو بالاستطرادات وتكرار المعلومات ومثقل بالسجع، مع ضعف في بعض النواحي الإخبارية، ومع ذلك فالكتاب كان وسيظل مرجعا أساسيا في تاريخ الأندلس كما كان تاريخ ابن خلدون مرجعا أساسيا في تاريخ المغرب العربي.
وكان المقري في الواقع قد بدأ يؤلف عن الأندلس وأهلها منذ كان في تلمسان وفاس، ففي هذا التاريخ ألف (أزهار الرياض) الذي ملأه أيضا بأخبار الأندلس وأهلها رغم أنه في ترجمة القاضي عياض. لذلك تكررت حوادث الكتابين عند المقري فكان (نفح الطيب) هو النسخة المنقحة الأخيرة في هذا الباب لأنه ألفه بين سنوات 1037 و 1039، وقد صدق هو حيث قال في نهاية (نفح الطيب)(اعلم أن هذا الكتاب معين لصاحب الشعر، ولمن يعاني الإنشاء والنثر من البيان والسحر، وفيه من المواعظ والاعتبار، ما لم ينكره المنصف عند الاختبار، وكفاه أنه لم ير مثله في فنه فيما علمت، ولا أقوله تزكية له)(1).
والملاحظ هنا أن المقري قد ركز على أهمية كتابه الأدبي أكثر من أهميته التاريخية.
(1)(نفح الطيب) 10/ 363. انظر ترجمتنا للمقري في فصل اللغة والنثر من هذا الجزء.
ويأتي أبو راس بعد المقري في تناول التاريخ العام. فقد وضع أبو راس
كتابا في حياة الأندلس وعلاقة أهلها بالمغرب العربي وما جرى بين المسلمين والإسبان من نزاع منذ العهد الإسلامي في الأندلس إلى فتح وهران الثاني أي إلى عصر المؤلف، وكان دافعه إلى كتابة هذا العمل هو فتح وهران المذكور، فوضع قصيدة (غريبة الشكل. أجرت جواريها بريح البلاغة في بحر البسيط) سماها (الحلل السندسية في شأن وهران والجزيرة الأندلسية) ثم وضع على هذه القصيدة شرحا تبسط فيه وأظهر مواهبه ومحفوظاته التاريخية، وقد كتب هذا الشرح (وهو واحد من ثلاثة شروح، كلها من عمله) في مرسى تطوان وبعث به إلى السلطان سليمان ودعا له باسترداد سبتة وبريرا وثغر ابن عكاشة من أيدي الإسبان أيضا، كما استرد مسلمو الجزائر وهران منهم، وسمى أبو راس هذا الشرح (روضة السلوان المؤلفة بمرسى تيطوان). وهكذا كتب أبو راس، سواء في القصيدة أو في الشرح، عن الأندلس فذكرها بلدا بلدا وتناول علماءها وتاريخها وقبائلها وما جرى فيها من حوادث وخطوب (1)، كما ضمن الشرح حديثا طويلا عن قبائل المغرب الأوسط وأنسابها، وقد ترجم هذا العمل إلى الفرنسية السيد فور بيقي (2)، ولأبي راس كتب أخرى يمكن أن تدخل في التاريخ العام مثل (الإصابة فيمن غزا المغرب من الصحابة).
أما التاريخ المحلي فلدينا منه عدة مؤلفات بعضها صغير الحجم وبعضها كبير. سنذكر هنا ما عثرنا عليه من الجميع لأن غرضنا هو تاريخ الثقافة وليس اختيار الجيد منها، ومن أوائل ذلك هو التاريخ المعروف باسم (كتاب العدواني)، والمؤلف غير معروف باسمه الكامل، فهو عند الناسخين والرواة الشيخ محمد بن محمد بن عمر القسنطيني العدواني السلمي (السالمي)، وقد كتب العدواني، على ما يبدو، كتابا ضخما حشاه بأخبار الحروب التي جرت بين طرود وجيرانهم ولا سيما قبيلة عدوان، والحياة
(1) نسخة باريس رقم 4619، انظر أيضا (دليل مؤرخ المغرب)، 428.
(2)
الجزائر، 1903.
الاجتماعية والدينية في القرنين التاسع والعاشر، وفي الكتاب قسم كبير مما ليس بتاريخ ولكنه أساطير وخرافات شعبية، وقد تصرفت الأيدي في هذا الكتاب فاختصره المختصرون ورووه بالمشافهة إلى أن ضاع الأصل ولم يبق منه إلا المختصرات والمرويات الشفوية، ومن النسخ المختصرة التي وصلت إلينا نسخة إبراهيم بن محمد التاغزوتي (نسبة إلى تاغزوت، بوادي سوف
أيضا)، وأول من اطلع عليه من الأوروبيين، فيما يظهر الباحث الفرنسي بيرو
بروجر سنة 1850 حين حصل منه على نسخة من أحد شيوخ كوينين، بوادي سوف. ثم ترجم فيرو الفرنسي (كتاب العدواني) إلى الفرنسية من نسخة أخرى حصل عليها من السيد علي باي بن فرحات قائد تقرت وسوف عندئذ، ونشر ذلك سنة 1868 في مجلة (روكاي) القسنطينية، وتوجد عدة نسخ مخطوطة من كتاب العدواني بالعربية أيضا (1).
وبناء على السيد فيرو الذي درس وترجم (كتاب العدواني) فإنه كتاب
يتناول تاريخ سوف وصحراء قسنطينة وغرب تونس وطرابلس، وقد قال عنه إن العدواني كتبه بأسلوب خيالي وبسيط يكاد يكون شعبيا، وهو يؤرخ ويذكر التقاليد الشعبية للسكان والحوادث التي كان شاهد عيان عليها، أو التي جمعها من أفواه الناس، وتدل طريقته وتفاصيله على أنه كان معاصرا لما كان
يرويه، وكان موضوعه الرئيسي هو دخول قبيلة طرود إلى إفريقية ووصولها إلى سوف وحروبها مع السكان الآخرين. ويرى السيد علي الشابي أن كتاب
العدواني هام أيضا لأنه يؤرخ لحروب الشابية بعد سقوط دولتهم في القيروان
(1) اطلعنا منه على نسخة عند الشيخ محمد الطاهر التليلي بقمار، وهي في مجلد، ونسخة أخرى في معرض المخطوطات الذي أقامته المكتبة الوطنية بالجزائر على ملك السيد ابن حبيب بن علي (من وهران) وقد صورت المكتبة هذه النسخة الجيدة على الميكروفيلم واحتفظت بها برقم 32، كما توجد نسخة أخرى مخطوطة من كتاب العدواني في المكتبة الوطنية، وذكر باصي أنه اطلع على نسخة منه في تماسين، انظر ريني باصي (المخطوطات العربية ..)، الجزائر 1885. وقد حققنا كتاب العدواني على عدة نسخ، ونشرناه سنة 1996، وصدر عن دار الغرب الإسلامي، بيروت.
سنة 965، وهو يذكر أن العدواني قد غطى أيضا حروب عبد الصمد الشابي وابنه علي، وقد توفي الأول سنة 1025 والثاني سنة 1041 (1).
ولكننا نستبعد أن يكون العدواني قد عاش إلى هذا التاريخ، ويمكن مقارنة ما رواه من وقائع بما رواه أيضا ابن خلدون والقيرواني عن نفس الموضوع، وبالإضافة إلى ذلك تحدث العدواني عن دور النساء في الحروب، وعن مكانة الدين لدى أهل القرنين المذكورين، وقد ذكر أن المرابطين كانوا يفرون من القبائل الصحراوية لعنادها، وفي (كتاب العدواني) أيضا وصف لأصول أسماء الأماكن التي تحدث عنها وبعض المعلومات عن دخول الأتراك إلى الجزائر وتونس وتصرفاتهم (2)، وقد اعتبره فيرو من أهم الوثائق الأهلية النادرة في العهد العثماني، أما الشيخ محمد الطاهر التليلي فقد قال عن (كتاب العدواني) بأنه (أشبه بقصة عامية من قاص بين جماعة أميين بلغة دارجة محلية، لا تتعدى سرد الغرائب والنوادر وحكايات أصحاب البوادي ومجالسهم العامة، فلا يعول على أكثر ما فيه .. إلا مع عاضد من غيره)(3).
وتدخل قصيدة الأكحل (الأخضر) ابن خلوف التاريخية عن واقعة (مازغران) في باب التاريخ المحلي أيضا. وهي قصيدة ضعيفة النسج رديئة وتكاد تشبه النثر المسجوع، وهي في نفس الوقت غامضة المعاني، بالنسبة إلينا اليوم، والمهم أن المرء يقرأ فيها أخبارا هامة عن وهران ومدينة الجزائر
وسلطان الترك، وبني ميزاب، وعبد الرحمن الثعالبي، وهي في حوالي ثماني
ورقات، تتناول العلاقات الإسلامية الإسبانية في القرن العاشر (4).
والظاهر أن أبا علي إبراهيم المريني (البجائي؟) قد ألف عمله (عنوان
(1) انظر علي الشابي (المجلة التاريخية المغربية) 1979، 80.
(2)
فيرو (روكاي)، 1868، 175 صفحة، وأضاف له فيرو ملحقا عن الزيبان وورقلة وما حولهما.
(3)
من نسخة مخطوطة من كتاب العدواني أعطاها لي الشيخ التليلي مشكورا.
(4)
نسختان منها في المكتبة الوطنية - الجزائر، 1635، 1636. انظر عن ابن خلوف فصل الشعر من هذا الجزء، فقرة الشعر الشعبي.
الأخبار فيما مر على بجاية) في القرن العاشر أيضا، وما تزال معلوماتنا عن المؤلف وعن الكتاب غير دقيقة، ولكن ما ذكره عنه السيد فيرو يدل على أنه كتاب هام تناول فيه المريني تاريخ بجاية في العهد الإسلامي والإسباني، واستيلاء العثمانيين عليها في عهد صالح رايس باشا سنة 962 ووصف لأحوالها الاجتماعية والسياسية، وكذلك أحوال قسنطينة وما حولها. وقد حصل منه السيد فيرو على نسخة من أحد علماء بني يعلى، ويدل العنوان الذي ذكره للكتاب أنه غير كامل لأن من عادة المسلمين تسجيع العناوين، وهذا غير مسجع، وقد عالج فيه المريني أيضا ما ارتكبه الإسبان من الفظائع ضد المعالم والآثار الإسلامية ببجاية، وقال فيرو ان المعلومات التي في هذا الكتاب تصحح المعلومات التي أوردها عن بجاية أمثال مارمول وليون الإفريقي (حسن الوزان)(1).
ومن المؤلفين الذين ما يزالون مجهولين، بركات الشريف الذي كتب عملا هاما في تاريخ الجزائر، ولا سيما تاريخ العثمانيين فيها، ولا ندري الآن حتى عنوانه بالضبط. والغالب أن يكون بركات الشريف قد عاش خلال القرن الحادي عشر لأن ابن أبي دينار مؤلف (المؤنس) قد نقل عنه، بينما انتهى ابن أبي دينار من كتابه سنة 1092. وفي كل مرة ينقل منه يقول عنه (رحمة الله عليه) وهي عبارة توحي بأن بركات الشريف قد
توفي. ومما نقل عنه ابن أبي دينار غزوة أبي فارس عبد العزيز الحفصي مدينة فاس، وتولى عروج بربروس على الجزائر وهزيمة شارل الخامس
أمام الجزائر، ووفاة السلطان الحسن الحفصي، وغير ذلك من الأخبار (2). ومن هنا يتبين خطأ السيد فيرو عندما قال إن الورقة التي
وجد فيها أخبارا عن أحوال الجزائر في القرن الثاني عشر هي من تأليف
ضائع لبركات الشريف (3). والظاهر أن بير بروجر قد تبعه في
(1) فيرو (المجلة الإفريقية)، 1868، 245. انظر أيضا فقرة المكتبات من فصل المؤسسات الثقافية في الجزء الأول.
(2)
ابن أبي دينار (المؤنس) ط. تونس، 145، 151، 158.
(3)
فيرو (المجلة الإفريقية)، 1866، 180.
ذلك (1). ومهما كان الأمر فإن بركات الشريف قد كتب أيضا عن ثورة قسنطينة سنة 971، وسنة 975، وعن ثورة ابن الصخري سنة 1047، وأرخ لباشوات الجزائر إلى وقته هو، وقد كان مواليا للعثمانيين حتى اعتبره أحمد
الأنبيري (مؤرخ عروج والولاة الأتراك الذين خلفوه على حكم الجزائر)(2)، وقال بير بروجر انه قد يكون هو الذي ترجم غزوات عروج وخير الدين من التركية إلى العربية. ولكن هذا خطأ أيضا لأننا عرفنا أن الذي أمر بترجمة الغزوات إلى العربية هو الشاعر المفتي ابن علي في القرن الثاني عشر. ومهما كان الأمر فإن تأليف بركات الشريف يعتبر هاما في هذا الميدان لأن ما اطلعنا عليه منه يدل على عنايته بدقائق الأمور واتباعه طريقة السنوات، وتسجيل مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها الجزائر.
وقد حظيت ثورة ابن الصخري بتأليف في شكل (مذكرات) كتبها الشيخ عيسى الثعالبي الذي كان، كما قلنا، مناصرا للأتراك ضد الثوار. وكان الثعالبي قد بعث بهذه المذكرات إلى أستاذه بعنابة (أو قسنطينة) عندما كان هو في نقاوس. وكان أستاذه هو علي بن محمد ساسي البوني. ومما ذكره في المذكرات معركة كجال الشهيرة التي كانت بين العرب والترك، كما ذكر تجمع الثوار عند أبواب قسنطينة، ووصف خسائر العرب والترك. ومما يؤسف له أن هذه المذكرات في حكم الضائعة الآن (3).
وفي أوائل القرن الحادي عشر بدأ أحمد المقري يكتب تاريخ تلمسان،
وهو في المغرب الأقصى، ثم توقف عن ذلك لأسباب لم يفصلها، ولعلها هي الحوادث التي جرت بالمغرب وأجبرته على الهجرة إلى المشرق باسم الحج، كما أشرنا. وقد سمي المقري هذا الكتاب (أنواء نيسان في أنباء تلمسان). وأخبر هو عن ذلك في كتابه (نفح الطيب)، بأنه كتب بعضه عندما كان بالمغرب ثم حالت بينه وبين إتمامه عوائق (حالت بيني وبين ذلك العزم
(1) نفس المصدر، 352.
(2)
(علاج السفينة في بحر قسنطينة) مخطوط خاص.
(3)
اطلع على بعضها فايسات وترجم منها إلى الفرنسية، انظر (روكاي)، 1867، 339.
الأقدار) (1). ولو أتيح لهذا الكتاب أن يتم لجاء هاما في بابه وموسوعة تشبه موسرعته عن الأندلس. ولكن هذا العمل قد ضاع كما ضاع عمله الذي سماه (عرف النشق في أخبار دمشق) الذي يبدو أنه خصصه لتاريخ دمشق وأهلها.
ومن الحوادث الهامة التي ألف فيها الجزائريون فتح وهران الأول سنة 1119. فبالإضافة إلى القصائد الكثيرة التي أشرنا إليها في الأدب السياسي وغيره، ألف محمد بن ميمون كتابه (التحفة المرضية في الدولة البكداشية) الذي تحدث فيه، بأسلوب أدبي، عن سيرة محمد بكداش باشا ودولته والفتح والجيش ونحو ذلك مما يتصل بهذا الحادث الكبير. ولا نود أن نطيل في وصف هذا العمل لأننا ذكرناه في باب الأدب أيضا. وتدل عناوين المقامات على نوعية العمل الذي عالجه ابن ميمون: فالمقامة الأولى عنوانها (في نبذة من أخلاقه المرضية، ومما أشار به عليه بعض السادات الصوفية) والمقامة الثانية عنوانها (في كونه سانجاق دار، بلغة المجاهدين الأخيار). والثالثة (في توليته عنى تقسيم خبز العسكر، وكيف نزع الظالم حين طغى وتجبر). والرابعة (على أنه يتصدى ملكا للإيراد والإصدار، فزحلق نفسه إلى تفتردار)، والخامسة (في تغريبه من الجزائر، وعودته إليها بقدرة الحكيم القادر). وهكذا إلى نهاية الست عشرة مقامة. فهو إذن عمل أدبي من ناحية وتاريخي
من ناحية أخرى (2).
وقد أوحى النصر في وهران إلى مفتي تلمسان عندئذ، الشيخ محمد بن أحمد الحلفاوي برجز طويل وهام احتوى على 72 بيتا ومقسم إلى خمسة فصول، الأول، في ذكر دولة محمد بكداش، والثاني في وصف تجهيزه الجيش وتاريخ الهجوم وقائد الحملة ونحو ذلك، والثالث في محاصرة القلاع والحصون ووصف ذلك، والرابع في ما آل إليه أمر المسلمين والإسبان، والخامس والأخير في الثناء على الله والصلاة على النبي والرضى عن صحابته
(1)(نفح الطيب) 9/ 342.
(2)
ذكر ديفوكس في (التشريفات)، 12 أن الفونس روسو الفرنسي قد ترجم (التحفة المرضية) إلى الفرنسية. والمعروف أن محمد بن عبد الكريم قد حققها ونشرها سنة 1972.
وتسمية الناظم. وكان الحلفاوي هو الذي طلب من عبد الرحمن الجامعي شرح الأرجوزة. وقد انتقد الجامعي شيخه الحلفاوي في أنه لم يضع فصلا عن السلطان العثماني الذي تم الفتح في عهده أيضا (1). ولذلك قام الجامعي بوضع أبيات من عنده في هذا المعنى وشرحها أيضا، وأشاد الجامعي بآل عثمان وفضلهم على الإسلام، كما انتقد الجامعي شيخه (الذي كان قد توفي عند كتابة الشرح) بأنه اعتنى كثيرا بالمحسنات البديعية، مما أدى به إلى ارتكاب محظورات شعرية (2).
ولم يكن الحلفاوي وابن ميمون فقط هما اللذان ألفا في حادث وهران الأول، ولكن ذلك هو ما وصل إلينا. ويشير الجامعي إلى أن أحمد الفيلالي التلمساني قد دون أيضا تاريخا حول هذا الحادث. فهو يقول إنه استفاد من تاريخ الفيلالي عند شرح أرجوزة الحلفاوي، مضيفا بأنه لم يحضر (أي الجامعي) المعارك بنفسه ولكنه سجل ما رواه من أفواه المجاهدين وقال بالخصوص أن الفلالي قد (اعتنى بتدوين هذا الفتح الكريم وجمع من سيرة المجاهدين بين نثير ونظيم). وربما استعان بالشعر الملحون الذي قيل في هذا الحادث، كما نقل عن الشعر الموزون. ونحن نفهم من هذا أن أحمد الفيلالي قد ألف في تاريخ فتح وهران وأنه اعتمد في تأليفه على السماع والمشاهدة وعلى ما جمعه من شعر موزون وملحون في هذه المناسبة (3).
ولكن فرحة الانتصار بهذا الفتح لم تدم طويلا. فقد قتل الباشا بكداش سنة 1122، وتطورت الأمور في اتجاه آخر، وكان من نتيجتها أن عاد
(1) وهو أحمد الثالث، 1115 - 1143.
(2)
الجامعي (شرح أرجوزة الحلفاوي) مخطوطات باريس 5113. في هذا الشرح أخبار
عن الشعراء الجزائريين أيضا أمثال ابن علي والقوجيلي وابن راشد وابن محلي ومحمد بن يوسف الجزائري وابن ساسي البوني وابن ميمون الخ. والمعروف أن
الجامعي لم يحضر حوادث الفتح وإنما جاء بعدها بقليل.
(3)
الجامعي (شرح أرجوزة الحلفاوي) مخطوط باريس، وقد لاحظ الجامعي أن الفيلالي كان يستطرد في تأليفه وأن كلامه فيه لحن واختلال.
الإسبان إلى احتلال وهران سنة 1145. وكان بعض المسلمين يتعاونون مع الإسبان المحتلين. وفي هذا الموضوع الف عبد القادر المشرفي رسالته المسماة (بهجة الناظر في أخبار الداخلين تحت ولاية الإسبانيين بوهران كبني عامر)(1). وكان المشرفي من كبار علماء وقته وهو أستاذ أبي راس وغيره. وقد استعرض المشرفي تاريخ الوجود الإسباني في وهران وعلاقة الجزائريين
المجاورين به وذكر أهم الحوادث التي عرفتها وهران تحت الحكم الإسباني، وفي هذه الرسالة أخبار قصيرة عن علماء الوقت أيضا ورجال الدولة. وقد انتهى منها سنة 1178. وهي باختصار، تشنيع على من كان يتعاون من المسلمين مع المحتلين الإسبان ومع أهل الذمة كاليهود. وهي رسالة قد هيأت النفوس لفتح وهران الثاني.
وقبل أن نتحدث عن فتح وهران الثاني وما تركه من مؤلفات تاريخية نذكر أن حملة إسبانيا على الجزائر سنة 1189 (1775) قد دونها بعض الكتاب أيضا في عدة أعمال هامة. من ذلك الرسالة التي كتبها أحمد العنتري القسنطيني عن حملة أوريلي. وكان العنتري شاهد عيان لأنه رافق الجيش الذي جاء على رأسه صالح باي من قسنطينة لمساعدة الجيش الرئيسي في مرسى الجزائر. وقد روى ما شاهد بالتفصيل، وهو كموظف في إدارة إقليم قسنطينة ومن التجار الكبار في مدينة عنابة ووكلاء الباي لدى الأوروبيين فيها، كان يعرف الكثير عن الجيشين وعن الظروف التي أحاطت بالحادث. ولم يحاول أن يذكر خسائر المسلمين في هذه الواقعة. وقد تحدث عن عدد أسطول الإسبان الذي بلغ 480 سفينة عند وادي الحراش ووصف معسكرهم ومعسكر المسلمين، كما وصف مواقع كل جيش: فصالح باي كان عند قنطرة الحراش، وخوجة الخيل كان في باب الواد، وخليفة باي الغرب الجزائري كان في عين الربط، والخزناجي عند وادي الخميس (الحميز)، ووصف كذلك حضور الأهالي للجهاد وقد تدفقوا من كل حدب وصوب، ومن كل
(1) نشر هذه الرسالة محمد بن عبد الكريم (بدون تاريخ)، وكانت قد ترجمت إلى الفرنسية. انظر (المجلة الإفريقية)1924.
الطبقات الاجتماعية أيضا، بمن في ذلك العلماء والطلبة الذين جاء بهم صالح باي من قسنطينة. وكانت مشاركة الطلبة والعلماء تتمثل في الدعاء إلى الله بالنصر والنجدة وقراءة البخاري. وأعطى العنتري أهمية خاصة لدور
صالح باي. فهو الذي اقترح تعديل خطة الجيش وطريقة الهجوم حتى حصل النصر. وأضاف بعض الوصف للمعارك التي كانت دواليك، ولم يهمل دور الطبيعة في الموضوع فوجدناه يتحدث عن البرق والرعد وقوة العاصفة التي جعلت الإسبان ينسحبون، وجاء بشيء من الخيال في ذلك أيضا حتى أن بعضهم قد رأى ليلة العاصفة محاربين على خيول بيضاء يحاربون الإسبان، وعندما سأله قال له إنه علي بن أبي طالب (1). ومما يذكر أن العنتري ذكر أن اليهود أيضا قد انتقموا من الإسبان خلال هذه الواقعة. وفي هذه الرسالة أخبار عن الداي محمد باشا.
وبناء على العنتري فإن خسائر الإسبان كانت كبيرة. فقد جاء أحد التجار الفرنسيين من تونس إلى الجزائر وأخبر الباشا، بعد أن سمح له بالمقابلة، إن حالة الإسبان عند الانسحاب، حسبما حكوا له، سيئة وأنهم خسروا 3.000 (ثلاثة آلاف) قتيل وأربعة آلاف جريح، ومن موتاهم قائدان كبيران. وذكر له أيضا أن الناجين منهم لا يستطيعون الظهور أمام ملكهم أو أمام الأوروبيين عموما، لأنهم تخلوا عن مواقعهم وأسلحتهم (2). والملاحظ أن العنتري قد كتب الرسالة بعد ثلاث سنوات من الحملة.
وإذا كان أحمد العنتري قد كتب عن حملة أوريلي باعتباره مرافقا لصالح باي، فإن محمد بن عبد الرحمن الجيلالي بن رقية التلمساني قد كتب
(1) حول هذه الخرافة انظر أيضا قصة المرابط أحمد الزواوي الذي قيل إنه أرسل فرسه الرقطاء تحارب مع المسلمين ثم عادت إليه، انظر الفصل السادس من الجزء الأول.
(2)
ترجمها فيرو عن العربية ولم يذكر نصها العربي، ونشرت في (المجلة الإفريقية) 1865، 180 - 192. وفي (روكاي) أيضا، 1865، 47 - 63، ثلاث عشرة صفحة، وأحمد العنتري هو قريب (أو والد) محمد صالح العنتري الذي كتب تاريخ قسنطينة في العهد الفرنسي.
عن نفس الموضوع بأمر من الباي محمد بن عثمان. وعنوان رسالة ابن رقية هو (الزهرة النيرة فيما جرى في الجزائر حين أغارت عليها جنود الكفرة). وقد كتبها بعد الحادثة بوقت، أي سنة 1194. ويبدو أن رسالة ابن رقية أكثر أهمية من رسالة العنتري، لأنه ضمنها عدة وقائع هامة وأخبارا أخرى عن باشوات الجزائر ونشاطهم أيضا. وهي تنتهي بالواقعة التاسعة. ولعل ابن رقية قد بدأ رسالته سنة الحملة وهي 1189، وانتهى منها سنة 1194 كما ذكرنا. وقد نشرت هذه الرسالة بالعربية، كما ترجمت إلى الفرنسية (1).
وتتمة لهذه النقطة نلاحظ أن مصطفى بن حسن خوجة الذي كان إماما بجامع خضر باشا بمدينة الجزائر وضع رسالة بالتركية في ثلاث عشرة ورقة حول علاقات الجزائر بإسبانيا، ولا سيما حملة أوريلي. وقد وضع لرسالته مقدمة بالعربية جاء فيها (
…
أما بعد فإني أردت أن أألف تاريخا أبين (فيه) مصالحة الجزائر مع إسبانيول بعد ما استولى على الجزائر ثلاث مرات،
واحدة منها في البر واثنين منها في البحر وهزمهم الله بأنواع التهزيمات). وقد سمى مصطفى خوجة عمله (رسالة مضحكات وعجائبات)(2). وهو نفسه مؤلف كتاب (التبر المسبوك في جهاد غزاة الجزائر والملوك) بالتركية أيضا. وكان مصطفى خوجة قد جاء إلى الجزائر سنة 1168 وعين إماما في جامع خضر باشا. وبعد ثماني عشرة سنة عين (علام دار) أو حامل الراية ثم (خوجة التذاكر) أو كاتب التذكرات. وقد شارك في الحرب الجزائرية الإسبانية بنفسه وقال إنه رمى عدة قنابل بالمدفع. وسبق أن تحدثنا عن كتابة (التبر المسبوك)، الذي هو أيضا في الحرب المذكورة، في الجزء الأول (3).
(1) اطلعنا على مخطوطة منها ضمن مكتبة محمد بن أبي شنب في المكتبة الوطنية بالجزائر، وهي في حوالي خمسين ورقة، ونشرها بالفرنسية السيد روسو، سنة 1841 بالجزائر، وهي في مدح الترك، ثم نشرها بالعربية ابن بابا عمر.
(2)
مخطوط بمكتبة توبكابي (إسطانبول رقم 1412. E.H، ومن نسخ الحاج محمد الطاهر سنة 1200 م.
(3)
انظر عنه أيضا دراية تيريز شلابوا في (مجلة فوليو أوريانتاليا) البولندية، 1976، 1977.
ولكن فتح وهران الثاني والأخير هو الذي حظي بعدة مؤلفات. ومعظم هذه المؤلفات كتبها أنصار الباي محمد الكبير الذي تم على عهده وعلى يديه هذا الفتح. فالمؤلفات إذن كانت تاريخا للحادث الكبير ولكنها أيضا كانت تاريخا لسيرة الباي وأعماله ومكانته بين الناس. وسنرى أن بعض هذه المؤلفات تتناول نشاط الباي في نواحي أخرى أيضا غير وهران. وقد كان للباي محمد الكبير إحساس كبير بالتاريخ لم يكن لغيره. فقد شجع الأدباء والكتاب على مدحه وقربهم إليه لكي يخلدوا اسمه في أشعارهم ومؤلفاتهم. كما شجع بعضهم على كتابة تاريخ ما يقوم به من أعمال وتدوين الأحداث التي كان يشترك فيها أو لها علاقة بمجده. من ذلك عمل ابن رقية المشار إليه. ومنه أيضا أنه كلف، أثناء محاصرة الإسبان بوهران، كاتبه الخاص محمد المصطفى بن عبد الله المعروف بابن زرفة أن يقيد الحوادث المتعلقة بالجهاد وما يصل إلى الطلبة المشاركين في الحصار من أطعمة وغيرها (1). وهو الذي أشار أيضا على أبي راس بشرح قصيدته السينية في الفتح، وعلى كاتبه الآخر ابن سحنون بوضع تأليف في الموضوع نفسه، وهكذا.
وبعد أن أكمل ابن زرفة عمله المذكور سماه (الرحلة القمرية في السيرة المحمدية)(2). والواقع أن الكتاب ليس رحلة، كما يوحي عنوانه، وإنما هو في سيرة الباي محمد الكبير وجهاده. فقد بدأ في تقييده كما ذكرنا أثناء الحصار ثم توقف عن ذلك لأسباب لا نعرفها ولكنه ظل يجمع الأخبار والرسائل وغيرها، وكان له سبيل للوصول إلى الوثائق الرسمية أيضا باعتباره
(1)(الثغر الجماني) مخطوط باريس.
(2)
لخصها هوداس في (مجموعة الأبحاث الشرقية) التي قدمت إلى مؤتمر المستشرقين الرابع عشر الذي انعقد بمدينة الجزائر سنة 1905، وقد اطلع هوداس منها على نسختين واحدة في 186 ورقة وهي بتاريخ 1207، والأخرى في 155 ورقة، وهي بتاريخ 1296. وقد أعطاني الأستاذ علي أمقران السحنوني مشكورا نسخة من هذه الرحلة مضروبة على الآلة الراقنة.
أحد الكتاب في إدارة الباي. ولا شك أنه أضاف إلى مصادره الشفوية والمكتوبة تجربته هو الخاصة. ولم يقسمه إلى فصول أو أبواب لأنه في الواقع كان يسجل الحوادث في شكل يوميات أو مذكرات، وإنما اختار لعمله ترتيبا آخر وهو الحوادث مرتبة أيضا على الشهور. فقد ابتدأ من الحصار خلال شهر صفر سنة 1205، وانتهى بالاستيلاء على وهران من قبل المسلمين في 27 فبراير 1792. وقد اختار لكتابته أسلوب السجع، كما أنه استعمل النثر العادي. وجاء في الكتاب أيضا باستطرادات وحشو مما أثقل النص. ولكن ابن زرفة كان على اطلاع واسع ويتمتع بحافظة قوية، فكتابه إذن ليس مجرد سرد لحياة الباي وحركة الفتح.
فقد بدأ العمل بغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ليظهر تطابق ما قام به الباي مع سيرة الرسول، وأورد الأحاديث النبوية الدالة على الجهاد ونصرة الإسلام، وجاء ببعض الرسائل التي بعث بها الباي وأوامره، بالإضافة إلى بيان أسباب الحملة على وهران، ومدح الباي بما يناسب مقامه عنده، وأخذ عن ابن خلدون معظم الأخبار المتعلقة بمدينة وهران، ومن هذه المقدمة العامة التي تدل على حفظه واطلاعه انتقل إلى موضوعه الرئيسي مبتدئا بشهر صفر سنة 1205، وهو يمثل بداية الحملة، والملاحظ أن ابن زرفة، الذي كان يرافق جيش الطلبة وليس الجيش العام، قد ركز في كتابه على دور الطلبة ومشاكلهم
ومطالبهم وحتى نزاعاتهم، وكان ذلك على حساب الحوادث العسكرية التي دارت بين الجيش الإسلامي والجيش الإسباني، وقد ختم كتابه بقصيدة في الفتح ومدح الباي.
ويعتبر أحمد بن سحنون من أبرز من خلد فتح وهران الثاني ومناقب الباي محمد الكبير. فأثناء الفتح نظم ابن سحنون أرجوزة أشاد فيها بالباي وبالفتح على يديه، بدأها بقوله:
حمدا لمن أزر نصر الدين
…
ودان ناصريه أسنى الدين وفتح الأظار بالجهاد
…
حتى غدت لينة المهاد
وكان يقوم بشرح القصيدة أثناء عمليات الفتح أيضا إلى أن انتهى منها بانتهاء الجهاد واسترداد وهران، فهو يقول عن نفسه انه تبين أن القصيدة في حاجة إلى شرح يبين ألفاظها ويحل غوامضها، وأن (لسان النظم محصور، وأن مؤداه لا بد فيه من قصور، والنثر أشد منه بيانا، إذ به يصير الخبر عيانا، وبتذليل النظم به تزداد عبارته تبينا، فعزمت على أن أشرح تلك القصيدة
الخ.) (1).
وقد سمى ابن سحنون شرحه الأدبي - التاريخي (الثغر الجماني في ابتسام الثغر الوهراني)، والعنوان على هذا النحو يوحي بأن المقصود هو الفتح وأن سيرة الباي تأتي عرضا، ولكن أحد المعاصرين لابن سحنون اقترح عليه تسميته (الدر والعسجد في مناقب الباي محمد). والتسمية الثانية أدل إذا عرفنا أن ابن سحنون قد خص هذا الباي بمعظم الكتاب وأنه قد مجده وتناول جوانب حياته المختلفة. غير أن اختيار ابن سحنون نفسه للعنوان الأول يدل على أنه كان يولي اهتماما أكبر من سيرة الباي، ولم يقسم الكتاب إلى فصول أيضا وإنما سار فيه على وحدة البيت من الأرجوزة، فهو يشرح كل بيت بما يناسب من البديع ثم يحل الألفاظ ويشرح المعاني، وقد استطرد في الكتاب فذكر الولاة الذين لم يوفقوا في الفتح قبل الباي محمد الكبير، واستفظع ما ارتكبه الإسبان ضد المسلمين ومقدساتهم، وجاء بالأحاديث الدالة على فضل الجهاد، كما ذكر أخبار الشعراء الذين مدحوا الباي وعلاقاته العامة، ولا غرابة في ذلك فقد قال عن عمله (قصدت بذلك تخليد مآثره، (يعني الباي محمد) وتدوين بعض محامده ومفاخره). وابن سحنون يستعمل السجع أحيانا في شرحه ولكنه سجع خفيف لا يثقل المعنى ولا يفسده، وكانت له صلة بالجهاد في المنطقة منذ أجداده، فقد أخبر أن عمه قد حضر فتح وهران الأول.
وكان ابن سحنون يؤمن بقيمة التدوين التاريخي، فقد نقل عن ابن
(1) مقدمة (الثغر الجماني)، مخطوط باريس.
خلدون عتابه لأهل المغرب على أنهم قد أهملوا رواية أخبارهم وأنسابهم، وهو يقول إن (آفة الحفظ عدم التقييد) ونقل عن الفرس أنهم كانوا يكتبون سير ملوكهم ويتدارسونها، وهذا رأي هام إذا لاحظنا أن تدوين التاريخ في الجزائر العثمانية كان قليلا جدا، والغريب أن ابن سحنون كان ما يزال صغير السن عند كتابة القصيدة والشرح الذي أتمه سنة 1207، وقد عرفنا أن مكانته الأدبية قد نالت تقدير علماء مدينة الجزائر الذين لاحظوا في تقريظهم لكتابه (الأزهار الشقيقة) أنه كان ما يزال غض العود، والواقع أن في (الثغر الجماني) أخبارا هامة ليس فقط عن فتح وهران والباي وحاشيته ومناصريه ولكن عن حياة الشاعر الأديب نفسه وعن المؤلفات الأخرى التي تتعلق بالغرب الجزائري وأخبار العلماء والمتصوفة في المنطقة، بالإضافة إلى أخبار أخرى لا تتعلق بالجزائر كحديثه عن الثورة الفرنسية ومقتل لويس السادس عشر (1).
وقد قام أبو راس بعمل شبيه بما قام به ابن سحنون. فقد كتب أيضا قصيدة في فتح وهران ثم شرحها بطلب من الباي نفسه، وسمي القصيدة (نفيسة الجمان في فتح ثغر وهران)، أما شرحه لها فقد سماه (عجائب الأسفار ولطائف الأخبار)، فالشرح إذن أعم من القصيدة. وتفاصيل ذلك أن أبا راس كان عائدا من الحج سنة 1205 فسمع وهو بجزيرة جربة عن الجهاد في وهران فأسرع بالعودة عبر تونس وقسنطينة لكي يشارك فيه، وعند وصوله كتب قصيدة سينية، لأن الأمراء والأدباء يحبون قافية السين على حد قوله، أشاد فيها بالباي وبالجهاد والنصر وقدمها لولي نعمته، الباي محمد الكبير،
(1) اطلعنا منه على نسختين مخطوطتين، واحدة في باريس رقم 5114، والأخرى في القاهرة، التيمورية، رقم 2186 تاريخ، وبين النسختين نقص وزيادة لأن المؤلف قد نقح عمله، وقد نشره المهدي البوعبدلي، سنة 1973 اعتمادا على نسخة أخرى، فاستفدنا من المقدمة التي كتبها له، ولابن سحنون كتاب سماه (عقود المحاسن) يبدو أنه ديوان أدب، وقد قال عنه ان الظروف لم تسمح بتقديمه إلى الباي، وهذا الكتاب الآن في حكم المفقود.
ويبدو أن الباي قد لاحظ أن القصيدة مكسورة الوزن ركيكة العبارة وأن أبا راس يجيد النثر أكثر مما يجيد الشعر فأشار عليه بوضع شرح للقصيدة يحل ألفاظها ويقرب معانيها، فقام أبو راس بذلك وانتهى من عمله سنة 1206 أي خلال سنة واحدة تقريبا.
قسم أبو راس شرحه على القصيدة إلى جزئين، تناول في الأول قيمة التاريخ وتدوينه ومدونيه من المسلمين والفرس والروم وبني إسرائيل والبربر،
وذكر الدافع إلى تأليف الشرح وكيف نظم القصيدة وتسمية الشرح بـ (عجائب الأسفار ولطائف الأخبار)، وتعرض في الجزء الأول أيضا إلى إنشاء وهران والدول التي تداولت عليها وما دهاها من (الأمور العظام الطوام، والنوائب العظام ومدة الكفر وأهل الإسلام)(1)، والواقع أن أبا راس قد أظهر في هذا الجزء قدرته على الحفظ والسرد، فقد تكلم عن حدود المغرب القديمة وعن البحر الأبيض، ومصر وبرقة وفزان، وعلاقة بني إسرائيل بالروم، وأنساب
الأولين، ثم انتقل إلى بايات الغرب الجزائري، وكفاحهم ضد الإسبان، وهو يشيد بالعثمانيين، وخصوصا خير الدين وخلفه، وينقل عن كتب القدماء مثل ابن خلكان والتنسي، ويتحدث عن قبائل المغرب وسكان الأندلس، ونحو ذلك من الأخبار العامة، ولكنها متصلة بما كان يكتب عنه.
أما الجزء الثاني من (عجائب الأسفار)، فهو يكاد يكون خاصا بفتح وهران وسيرة الباي، ولكنه مع ذلك لم يسلم من الأخبار العامة والاستطراد، فقد قال عن هذا الجزء انه يشتمل (على الفتح العظيم والفخر الجسيم، ومدح من .. فتحها (يعني وهران) الباي سيدي محمد بن عثمان). غير أنه تناول فيه أيضا أخبار بلاد السودان وعادات الطوارق والصحراء والتجارة بين المنطقتين، وتحدث عن ملوك الثعالبة، وتاريخ تلمسان، وكان قد أورد في هذا الجزء أيضا بعض أخباره الخاصة في الحج، ولذلك يعتبر هذا الجزء هاما في دراسة حياة أبي راس نفسه.
(1) ورقة 80 من الجزء الأول، مخطوط الجزائر.
وأسلوب أبي راس على العموم بسيط ويكاد يشبه العامي أحيانا، فهو يأتي بالنقود الكثيرة عن غيره، وأحيانا يسجع، ولكن شتان بين سجعه وسجع ابن سحنون، وإذا كان هذا يعتمد على ذوقه فإن أبا راس كان يعتمد على حفظه. فكتابه هام من جهة أنه يؤرخ للقبائل التي سكنت المنطقة، ويذكر أنسابها ويسند أخباره فلا يذكرها جزافا، بالإضافة إلى تناوله تاريخ علاقات المسلمين بغيرهم في حوض البحر الأبيض، ولا سيما الأندلس، وأبو راس يقف موققا مؤيدا ملتزما مع الباي ومع العثمانيين عامة، وكان في ذلك وفيا للنعمة، لأنه عاش في أكنافهم، ولولا رعايتهم له لوجد نفسه مهاجرا أو ضائعا كما هاجر وضاع غيره من علماء بلاده، ومع ذلك لم يسلم من العناء في أخريات أيامه (1).
ولدينا على الأقل ثلاثة تآليف أخرى تناولت هذه الفترة وأشادت بالباي محمد الكبير، وهي (رحلة الباي محمد الكبير) لأحمد بن هطال، أحد كتاب الباي المذكور، و (أنيس الغريب والمسافر في طرائف الحكايات والنوادر)(2) لمسلم بن عبد القادر، و (الاكتفاء في حكم جوائز الأمراء والخلفاء) لمحمد المصطفى بن زرفة، أما الأول فقد تناول فيه ابن هطال غزوة الباي محمد الكبير للأغواط وعين ماضي وشلالة وغيرها من بلدات النواحي الغربية وتغلبه هناك على أتباع الطريقة التجانية الناشئة، وكان الباي يريد من غزوته إظهار عضلاته وقوته وتوسع إدارته وأوامره، وقد نجح في ذلك.
ولم يكن (أنيس الغريب والمسافر) لمسلم بن عبد القادر إلا رسالة في الحوادث التي مرت بها الناحية الغربية منذ حوالي سنة 1192 إلى حوالي سنة
(1) اطلعنا على نسخة المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2003، وقد ترجم الكتاب إلى الفرنسية السيد أرنو (المجلة الإفريقية). انظر دراستنا عن أبي راس (مؤرخ جزائري معاصر للجبرتي: أبو راس الناصر) في (مجلة تاريخ وحضارة المغرب) عدد 12 - 1974، نشرت الدراسة أيضا في وقائع ندوة الجبرتي، القاهرة 1976، وهي أيضا منشورة في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر).
(2)
المكتبة الوطنية - الجزائر، رقم 2317.
1247، والظاهر أنه ألفه بعد دخول الفرنسيين، ولذلك ألقي فيه مسؤولية التدهور والهزيمة التي حلت بالجزائر على الأتراك، وعلى كل حال فإنه لا يبلغ فيه مبلغ أعمال ابن زرفة ولا ابن سحنون ولا أبي راس، وكان مسلم بن عبد القادر من كتاب الباي حسن، وكان شاهد عيان على ما حدث في الغرب الجزائري في الفترة المذكورة، كما كان صاحب نشاط أدبي ملحوظ في الناحية، متأثرا في الظاهر بسيرة الباي محمد الكبير فقد جمع حوله نخبة من أدباء وكتاب الناحية وجعلهم، بحكم مقامه السياسي، يخدمونه وينوهون به
ويشرحون إنتاجه ويتقربون إليه، ومن هؤلاء أبو راس ومحمود بن الطاهر بن
حوا، والظاهر أن مسلم بن عبد القادر قد خطط لكتابة تاريخ هام للدولة الإسلامية، إذ قسم عمله إلى أبواب وخاتمة، وبدأه ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصلت أبوابه اثني عشر بابا، أما الخاتمة فقد خصصها لتاريخ بايات الغرب الجزائري منذ حوالي سنة 1192. غير أن الباحثين لم يعثروا حتى الآن إلا على الخاتمة التي انتهى منها صاحبها سنة 1230، وقد سار في تأليفه على الطريقة التقليدية الموسوعية فذكر فيه الحكم والأمثال والمناقب والقصص إلى جانب التاريخ (1)، وإذا حكمنا من الخاتمة المطبوعة فإنه كان لا يمل من الاستطراد إذ يذكر فيها، بالإضافة إلى حكم البايات، (فوائد) عامة كقدوم الجراد، والمجاعة ونزول الثلج والثورات ونحو ذلك.
وأما (الاكتفاء) لابن زرفة فهو عمل هام ولكنه لا يدخل في باب التاريخ كثيرا، لأن موضوعه الأساسي تاريخ القضاء الإسلامي ومواقف الحكام والعلماء من الشعوب والقبائل المغلوبة وأراضيها وممتلكاتها، وقد كان الباي محمد الكبير في أوليات حكمه عندما أشار سنة 1199 على ابن زرفة بجمع هذا التأليف، وكان الباي، الذي كان يخطط لمشاريعه الكبيرة
(1) نشر الخاتمة المرحوم رابح بونار، الجزائر 1974. وجعل له مقدمة شرح فيها ظروف تأليف الكتاب وحياة المؤلف، ولكن هذا العمل ما يزال في حاجة إلى دراسة أشمل وكذلك البحث عن أصوله، وقد توفي مسلم بن عبد القادر بعين تموشنت سنة 1248 هـ.
وخصوصا غزو وهران وغزو الصحراء، في حاجة إلى وثائق تاريخية وشرعية
تسانده عندما يواجه المتعاملين مع الإسبان أو المتمردين عن دفع الضرائب، وتعود أهمية هذا الكتاب أيضا إلى أنه يؤرخ للباي وعائلته قبل فتح وهران وشهرة الباي، كما أنه مهم لاحتوائه على أخبار تتعلق بحياة مؤلفه التي ما تزال مجهولة، فقد دخل خدمة محمد الكردي (محمد الكبير فيما بعد) منذ كان خليفة للباي الحاج خليل، ورافقه في حملته على تلمسان عندما ثار فيها الدرقاويون، وأصبح هو القاضي بعد تولي محمد الكردي وظيفة الباي، وقد أشاد بتاريخ الباي وحملاته الداخلية وحصاره لوهران وتجديده لمستغانم ومعسكر، ورافقه أيضا عندما ذهب إلى مدينة الجزائر لرد غارة إسبانية عليها سنة 1783، أما كتابه (الاكتفاء) فهو في الحقيقة رد على العلماء الذين تحركوا، بعد نجاح الباي، للحد من نشاطه وتدخلاته، فكان ابن زرفة هو لسان الباي لإسكاتهم بنقول وآراء جاء بها من كتب الأقدمين تساند ما كان الباي قد اتخذه أو يزمع عليه ضد الثائرين والمتمردين وغيرهم من المخالفين لسلطته، ولذلك تعرضنا إلى محتواه في فصل العلوم الشرعية (1).
وهناك عملان آخران جديران بالذكر هنا، رغم أنهما لا يتعلقان بفتح وهران ولا بسيرة أحد البايات وهما (تقييد ابن المفتي) و (القول البسيط في أخبار تمنطيط). فقد كتب ابن المفتي عمله الصغير والهام لا في شكل تراجم لعلماء وباشوات مدينة الجزائر ولكن في شكل ملاحظات ونقد لأوضاع العلماء وعلاقتهم بالولاة وحياتهم الخاصة والعامة ووظائفهم، كما أبدى ملاحظات هامة عن الباشوات والحياة السياسية والاقتصادية قلما توجد في غير كتابه، وسنفصل القول عن (تقييد ابن المفتي) في ترجمتنا له بعد قليل. أما (القول البسيط) فمؤلفه هو الطيب بن الحاج عبد الرحيم التمنطيطي المعروف بابن بابا حيدة، وهو خاص بتاريخ توات (تمنطيط)، وقد قسم المؤلف عمله إلى مقدمة وفصول، فجعل الفصل الأول في أول من نزل توات
(1) أخذنا معلوماتنا عن هذا الكتاب من الخلاصة التي كتبها عنه إيرنست ميرسييه في (روكاي) 1898، 312 - 340.
وبنى بها القصور، والفصل الثاني في اندراس أولاد يحيى وقدوم الشريف بن الزبير، والفصل الثالث في ذكر أولاد علي بن موسى، والفصل الرابع في ذكر
علماء توات، والفصل الأخير هو الرئيسي والطويل في التأليف، وهو ينتهي بخاتمة عما يطلب من أهل البيت، ونحن لا نعرف عن مؤلف (القول البسيط) إلا أنه من أهل القرن الثاني عشر (1)، وكان التواتيون قد اهتموا بتاريخ بلادهم فكتبوا في مناقب أهلها وتواريخها وتجارتها وحياتها العلمية (2).
ونود أن نختم الحديث عن التواريخ العامة والمحلية بكلمة عن التأليف في الأنساب، ويبدو أنه منذ ابن خلدون لم يهتم الكتاب الجزائريون بالأنساب اهتماما كافيا، ويذكر أبو حامد المشرفي أن محمد بن أحمد المغراوي له كتاب سماه (تمييز الأنساب)(3)، ولكننا لم نطلع على هذا الكتاب ولم يفصل المشرفي الحديث عنه وإنما نقل عنه نسب محمد بن علي أبهلول المجاجي الذي توفي سنة 1008. وقد أخذ المشرفي أيضا عن كتابين آخرين في الأنساب، ولكنه لم يذكر مؤلفيهما. الأول هو (سمط اللآل في معرفة الآل)(4)، والثاني هو (كمال البغية)، وقد نقل عنهما أيضا أخبار محمد بن علي آبهلول المجاجي، وألف في نفس الموضوع عبد القادر الراشدي القسنطيني، فقد نسب إليه عمل عن أصول القبائل والعائلات الكبيرة في قسنطينة ونواحيها، ولكننا لا نعرف الآن العنوان بالعربية، ومما تحدث عنه
الراشدي أصل عائلة الفكون التي أرجعها إلى (فكونة) بالأوراس وليس إلى
بني تميم كما تدعى عائلة الفكون (5).
(1) مخطوطة باريس، رقم 6399 مجموع، وهو في عشرين ورقة.
(2)
انظر أطروحة فرج محمود فرج عن توات في القرنين 18 و 19 (مخطوطة) قسم التاريخ - جامعة الجزائر، وهي الآن مطبوعة.
(3)
المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة) مخطوط.
(4)
ينسب إلى الشيخ محمد قويسم التونسي المتوفى سنة 1114 كتاب بعنوان (سمط اللآل في التعريف بالرجال). والغالب على الظن أن الكتاب الأول لمؤلف آخر من أهل الجزائر.
(5)
أشار إلى ذلك فايسات الفرنسي في (روكاي)، 1868، 260، وقد اطلع على عمل الراشدي مخطوطا.