المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل ذكر ولاية خزاعة الكعبة بعد جرهم وأمر مكة - تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف

[ابن الضياء]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدّمَة الْمُؤلف

- ‌الْبَاب الأول تَارِيخ مَكَّة المشرفة وَمَا يتَعَلَّق بِالْكَعْبَةِ الشَّرِيفَة وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَغير ذَلِك على سَبِيل الِاخْتِصَار

- ‌فصل: ذكر مَا كَانَت الْكَعْبَة عَلَيْهِ فَوق المَاء قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض

- ‌فصل: ذكر بِنَاء الْمَلَائِكَة الْكَعْبَة قبل آدم ومبتدأ الطّواف

- ‌فصل: ذكر هبوط آدم عليه السلام إِلَى الأَرْض وبنائه الْكَعْبَة وحجه وطوافه بِالْبَيْتِ

- ‌فصل مَا جَاءَ فِي رفع الْبَيْت الْمَعْمُور من الْغَرق وَبِنَاء ولد آدم الْبَيْت بعده وَطواف سفينة نوح بِالْبَيْتِ، وَأثر الْكَعْبَة بَين نوح وَإِبْرَاهِيم وَاخْتِيَار إِبْرَاهِيم عليه السلام مَوضِع الْبَيْت

- ‌فصل مَا جَاءَ فِي إسكان إِبْرَاهِيم ابْنه إِسْمَاعِيل وَأمه فِي بَدْء أمره عِنْد الْبَيْت

- ‌فصل مَا جَاءَ فِي نزُول جرهم مَعَ أم إِسْمَاعِيل الْحرم

- ‌فصل مَا جَاءَ فِي بِنَاء إِبْرَاهِيم الْكَعْبَة

- ‌فصل مَا جَاءَ فِي حج إِبْرَاهِيم وطوافه وأذانه فِي الْحَج

- ‌فصل ذكر ولَايَة بني إِسْمَاعِيل الْكَعْبَة من بعده وَأمر جرهم

- ‌فصل ذكر ولَايَة خُزَاعَة الْكَعْبَة بعد جرهم وَأمر مَكَّة

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي عبَادَة بني إِسْمَاعِيل الْحِجَارَة وتغيير دين إِبْرَاهِيم

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي أول من نصب الْأَصْنَام فِي الْكَعْبَة والاستقسام بالأزلام

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي أول من نصب الْأَصْنَام وَمَا كَانَ من كسرهَا

- ‌فصل: مسيرَة تبع إِلَى مَكَّة

- ‌فصل: مُبْتَدأ حَدِيث الْفِيل

- ‌فصل ذكر الْفِيل حِين ساقته الْحَبَشَة

- ‌فصل: ذكر بِنَاء قُرَيْش الْكَعْبَة فِي الْجَاهِلِيَّة

- ‌فصل: ذكر الْوَقْت الَّذِي كَانُوا يفتحون فِيهِ الْكَعْبَة وَأول من خلع النَّعْل عِنْد دُخُولهَا

- ‌فصل: ذكر بِنَاء الزبير الْكَعْبَة وَمَا زَاد فِيهَا وَمَا نقص مِنْهَا الْحجَّاج

- ‌فصل: ذكر الْجب الَّذِي كَانَ فِي الْكَعْبَة وَمَالهَا الَّذِي كَانَ فِيهِ

- ‌فصل ذكر من كسا الْكَعْبَة فِي الْجَاهِلِيَّة

- ‌فصل ذكر من كساها فِي الْإِسْلَام وطيبها وخدمها

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي تَجْرِيد الْكَعْبَة

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي أَسمَاء الْكَعْبَة وَأَن لَا يبْنى بَيت يشرف عَلَيْهِ

- ‌فصل: ذكر أول من استصبح حول الْكَعْبَة وَفِي الْمَسْجِد الْحَرَام

- ‌فصل: ذكر ذرع الْكَعْبَة من دَاخل وخارج

- ‌فصل: ذكر مَا يَدُور بِالْحجرِ الْأسود من الْفضة

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي مقَام إِبْرَاهِيم عليه السلام

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي مَوضِع الْمقَام وَكَيف رده عمر إِلَى مَوْضِعه هَذَا

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي الذَّهَب الَّذِي على الْمقَام وَمن جعله عَلَيْهِ

- ‌فصل ذكر ذرع الْمقَام

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي إِخْرَاج جِبْرِيل زَمْزَم لأم إِسْمَاعِيل " ويروى لَهَا

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي حفر عبد الْمطلب بن هَاشم زَمْزَم

- ‌فصل: ذكر علاج زَمْزَم فِي الْإِسْلَام

- ‌فصل: ذكر فضل زَمْزَم وخواصها

- ‌فصل: ذكر ذرع بِئْر زَمْزَم

- ‌فصل: ذكر سِقَايَة الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رضي الله عنه

- ‌فصل: ذكر حد الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَا يتَعَلَّق بِالنَّوْمِ وَالْوُضُوء فِيهِ وَأول من أدَار الصُّفُوف حول الْكَعْبَة

- ‌فصل: ذكر مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَسْجِد الْحَرَام وسعته وعمارته إِلَى أَن صَار على مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآن

- ‌فصل: ذكر عمل عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان رضي الله عنهما

- ‌فصل: ذكر بُنيان ابْن الزبير وَعبد الْملك بن مَرْوَان

- ‌فصل: ذكر عمل الْوَلِيد بن عبد الْملك

- ‌فصل: عمل أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي جَعْفَر الْمَنْصُور

- ‌فصل: ذكر زِيَادَة الْمهْدي الأولى

- ‌فصل: ذكر زِيَادَة الْمهْدي الثَّانِيَة

- ‌فصل: ذكر ذرع الْمَسْجِد الْحَرَام

- ‌فصل: ذكر عدد أساطين الْمَسْجِد الْحَرَام الَّتِي بالرواقات غير الزيادتين وَغير الأساطين الَّتِي بِصَحْنِ الْمَسْجِد فِي الْمَسْجِد الْحَرَام الْآن غير الزيادتين وَغير أساطين المطاف الشريف

- ‌فصل: ذكر عدد أَبْوَاب الْمَسْجِد وأسمائها وصفتها

- ‌فصل: ذكر منارات الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَا وضع فِيهِ لمصْلحَة الْمَسْجِد الْحَرَام الْآن

- ‌فصل: وَمن ذَلِك المنابر الَّتِي يخْطب عَلَيْهَا

- ‌فصل: وَمن ذَلِك المقامات الَّتِي هِيَ الْآن بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام

- ‌فصل: ذكر درج الصَّفَا والمروة

- ‌فصل: ذكر آيَات الْبَيْت الْحَرَام زَاده الله تَشْرِيفًا وتعظيما

- ‌فصل: فِي ذكر الْأَمَاكِن الْمُبَارَكَة بِمَكَّة المشرفة وحرمها وقربه الَّتِي يسْتَحبّ زيارتها وَالصَّلَاة وَالدُّعَاء فِيهَا رَجَاء بركتها

- ‌فصل: ذكر السقايات بِمَكَّة المشرفة وحرمها

- ‌فصل: ذكر البرك بِمَكَّة وحرمها

- ‌فصل: ذكر الْآبَار بِمَكَّة وحرمها

- ‌فصل: ذكر عُيُون مَكَّة

- ‌فصل: ذكر الْمَطَاهِر الَّتِي تمكن بِمَكَّة المشرفة مطاهر

- ‌الْبَاب الثَّانِي تَارِيخ الْمَدِينَة وَمَا يتَعَلَّق بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ الشريف والحجرة المقدسة والمنبر الشريف وزيارة النَّبِي صلى الله عليه وسلم ومزارات الْمَدِينَة والجوار بهَا وآداب الرُّجُوع. وَفِيه عشرَة فُصُول

- ‌الْفَصْل الأول: فِي أول سَاكِني الْمَدِينَة وسكنى الْيَهُود الْحجاز ثمَّ نزُول الْأَوْس والخزرج بِالْمَدِينَةِ

- ‌ذكر أول من نزل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة

- ‌ذكر سُكْنى الْيَهُود الْحجاز بعد العماليق

- ‌ذكر نزُول الْأَوْس والخزرج الْمَدِينَة

- ‌ذكر من قتل الْيَهُود واستيلاء الْأَوْس والخزرج على الْمَدِينَة

- ‌الْفَصْل الثَّانِي: ذكر فتح الْمَدِينَة وهجرة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه إِلَيْهَا

- ‌ذكر مَا جَاءَ فِي فتحهَا

- ‌ذكر هِجْرَة النَّبِي إِلَى الْمَدِينَة صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة

- ‌الْفَصْل الثَّالِث: حُرْمَة الْمَدِينَة وغبارها وتمرها وحدود حرمهَا فِي مَا جَاءَ فِي حُرْمَة الْمَدِينَة وغبارها وتمرها ودعائه صلى الله عليه وسلم لَهُم بِالْبركَةِ وَمَا يؤول إِلَيْهِ أمرهَا وحدود حرمهَا:

- ‌ذكر حُرْمَة الْمَدِينَة المشرفة

- ‌مَا جَاءَ فِي غُبَار الْمَدِينَة الشَّرِيفَة

- ‌مَا جَاءَ فِي تمر الْمَدِينَة وثمارها ودعائه صلى الله عليه وسلم لَهَا بِالْبركَةِ

- ‌ذكر مَا يؤول إِلَيْهِ أَمر الْمَدِينَة الشَّرِيفَة

- ‌مَا جَاءَ فِي تَحْدِيد حُدُود حرم الْمَدِينَة الشَّرِيفَة

- ‌الْفَصْل الرَّابِع: ذكر أَوديَة الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وآبارها المنسوبة إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وعينها وَذكر جبل أحد وَالشُّهَدَاء عِنْده

- ‌ذكر وَادي العقيق وفضله

- ‌ذكر الْآبَار المنسوبة إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر عين النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌الْفَصْل الْخَامِس: ذكر جلاء بني النَّضِير من الْمَدِينَة وحفر الخَنْدَق وَقتل بني قُرَيْظَة بِالْمَدِينَةِ

- ‌ذكر جلاء بني النَّضِير من الْمَدِينَة

- ‌ذكر حفر الخَنْدَق

- ‌ذكر قتل بني قُرَيْظَة بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة

- ‌الْفَصْل السَّادِس

- ‌ذكر ابْتِدَاء بِنَاء مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر مَا جَاءَ فِي قبْلَة مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر حجر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر مصلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من اللَّيْل

- ‌ذكر قصَّة الْجذع

- ‌ذكر مِنْبَر النَّبِي صلى الله عليه وسلم وروضته الشَّرِيفَة

- ‌ذكر سد الْأَبْوَاب الشوارع فِي الْمَسْجِد

- ‌ذكر تجمير الْمَسْجِد الشريف وتخليقه

- ‌ذكر مَوضِع تأذين بِلَال رضي الله عنه

- ‌ذكر أهل الصّفة

- ‌ذكر زِيَادَة عمر بن الْخطاب فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر بطحاء مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر زِيَادَة عُثْمَان رضي الله عنه

- ‌ذكر زِيَادَة الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان

- ‌ذكر زِيَادَة الْمهْدي

- ‌ذكر بلاعات الْمَسْجِد وستائر صحنه والسقايات الَّتِي كَانَت فِيهِ

- ‌ذكر احتراق الْمَسْجِد الشريف

- ‌ذكر الخوخ والأبواب الَّتِي كَانَت فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر ذرع الْمَسْجِد الْيَوْم وَعدد أساطينه وطيقانه وَذكر حُدُود الْمَسْجِد الْقَدِيم

- ‌ذكر أسوار الْمَدِينَة الشَّرِيفَة

- ‌الْفَصْل السَّابِع

- ‌ذكر الْمَسَاجِد الْمَعْرُوفَة بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة

- ‌ذكر مَسَاجِد صلى فِيهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ المشرفة

- ‌ذكر الْمَسَاجِد الَّتِي صلى فِيهَا صلى الله عليه وسلم بَين مَكَّة وَالْمَدينَة

- ‌ذكر الْمَسَاجِد الْمَشْهُورَة الَّتِي صلى فِيهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الْغَزَوَات وَغَيرهَا

- ‌الْفَصْل الثَّامِن

- ‌أما ذكر وَفَاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر وَفَاة أبي بكر الصّديق رضي الله عنه

- ‌ذكر وَفَاة عمر رضي الله عنه

- ‌مَا جَاءَ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَبا بكر وَعمر رضي الله عنهما وَعِيسَى عليه السلام خلقُوا من طِينَة وَاحِدَة وَأَن كل مَخْلُوق يدْفن فِي تربته الَّتِي خلق مِنْهَا

- ‌مَا جَاءَ فِي صفة وضع الْقُبُور المقدسة وَصفَة الْحُجْرَة الشَّرِيفَة

- ‌الْفَصْل التَّاسِع

- ‌ذكر حكم زِيَارَة النَّبِي وفضلها صلى الله عليه وسلم وفضلها

- ‌وَأما كَيْفيَّة زيارته صلى الله عليه وسلم وزيارة ضجيعيه رضي الله عنهما

- ‌كَيْفيَّة السَّلَام عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم حَال الزِّيَارَة وَالسَّلَام على ضجيعيه رضي الله عنهما

الفصل: ‌فصل ذكر ولاية خزاعة الكعبة بعد جرهم وأمر مكة

من الْكَعْبَة ونصبا على الصَّفَا والمروة؛ ليعتبر بهما من رآهما وليزدجر النَّاس عَن مثل مَا ارتكبا، فَلم يزل أَمرهمَا يدرس ويتقادم حَتَّى صَارا صنمين يعبدان حَتَّى كَانَ يَوْم الْفَتْح فكسرا، وَكَانَت مَكَّة لَا يقر فِيهَا ظَالِم وَلَا بَاغ وَلَا فَاجر إِلَّا نفى مِنْهَا، وَكَانَ نزلها بِعَهْد العماليق وجرهم جبابرة، فَكل من أَرَادَ الْبَيْت بِسوء أهلكه الله، فَكَانَت تسمى بذلك الباسة وبكة.

‌فصل ذكر ولَايَة خُزَاعَة الْكَعْبَة بعد جرهم وَأمر مَكَّة

عَن أبي صَالح قَالَ: لما طَالَتْ ولَايَة جرهم استحلوا من الْحرم أموراً عظاماً، ونالوا مَا لم يَكُونُوا ينالون، وأكلوا مَال الْكَعْبَة الَّذِي يهدي إِلَيْهَا سرا وَعَلَانِيَة، وَكلما عدا سَفِيه مِنْهُم على مُنكر وجد من أَشْرَافهم من يمنعهُ وَيدْفَع عَنهُ، وظلموا من دَخلهَا من غير أَهلهَا حَتَّى دخل إساف بنائلة الْكَعْبَة ففجر بهَا، أَو قبّلها فمسخا حجرين، فرق أَمرهم فَمِنْهَا وضعُوا وَتَنَازَعُوا أَمرهم بَينهم وَاخْتلفُوا وَكَانُوا قبل ذَلِك من أعز حَيّ فِي الْعَرَب وَأَكْثَرهم رجَالًا وأموالاً وسلاحاً، فَلَمَّا رأى ذَلِك مضاض بن عَمْرو قَامَ فيهم خَطِيبًا ثمَّ ذكر مقَالَته لَهُم الَّتِي ذَكرنَاهَا آنِفا، وَمَا قَالَ لَهُ مخدع فِي الْجَواب، فَعِنْدَ ذَلِك عمد مضاض بن عَمْرو إِلَى غزالين كَانَا فِي الْكَعْبَة من ذهب وأسياف قلعية فَدَفعهَا فِي مَوضِع بِئْر زَمْزَم، وَكَانَ مَاء زَمْزَم قد نضب وَذهب لما أحدثت جرهم فِي الْحرم مَا أحدثت حَتَّى عَفا مَكَان الْبِئْر ودرس، فَقَامَ مضاض بن عَمْرو وَبَعض وَلَده فِي لَيْلَة مظْلمَة فحفر فِي مَوضِع زَمْزَم وأعمق ثمَّ دفن فِيهَا الأسياف والغزالين، فَبَيْنَمَا هم على ذَلِك إِذْ كَانَ من أهل مأرب مَا كَانَ، وَذَلِكَ أَلْقَت طريفة الكاهنة إِلَى زَوجهَا عَمْرو بن عَامر، الَّذِي يُقَال لَهُ: مزيقياء بن مَاء السَّمَاء وَهُوَ عَمْرو بن عَامر بن حَارِثَة بن ثَعْلَبَة بن امْرِئ الْقَيْس أَنَّهَا قد رَأَتْ فِي كهانتها أَن سد مأرب

ص: 53

سيخرب وَأَنه سَيَأْتِي سيل العرم فيخرب الجنتين، فَبَاعَ عَمْرو بن عَامر أَمْوَاله وَسَار هُوَ وَقَومه من بلد إِلَى بلد لَا يطئون بَلَدا إِلَّا غلبوا عَلَيْهِ وقهروا أَهله حَتَّى يخرجُوا مِنْهُ، وَلذَلِك حَدِيث طَوِيل مَذْكُور فِي مَحَله، فَلَمَّا قاربوا مَكَّة سَارُوا وَمَعَهُمْ طريفة الكاهنة، فَقَالَت لَهُم: سِيرُوا فَلَنْ تجتمعوا أَنْتُم وَمن خَلفْتُمْ أبدا ثمَّ قَالَت لَهُم: وَحقّ مَا أَقُول مَا عَلمنِي مَا أَقُول إِلَّا الْحَكِيم الْمُحكم رب جَمِيع الْإِنْس من عرب وَمن عجم. قَالُوا لَهَا: مَا شَأْنك يَا طريفة؟ قَالَت: خُذُوا الْبَعِير الشدقم فخضبوه بِالدَّمِ بلون أَرض جرهم جيران بَيته الْمحرم، فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى مَكَّة وَأَهْلهَا جرهم قد قهروا النَّاس وحازوا ولَايَة الْبَيْت على بني إِسْمَاعِيل وَغَيرهم، أرسل إِلَيْهِم ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَامر يَقُول: إِنَّا قد خرجنَا من بِلَادنَا فَلم ننزل بَلَدا إِلَّا فسح أَهلهَا لنا وَمن خَرجُوا عَنَّا فنقيم مَعَهم حَتَّى نرسل روادنا فيرتادوا لنا بَلَدا تحملنا فأفسحوا لنا فِي بِلَادكُمْ حَتَّى نُقِيم قدر مَا نستريح وَنُرْسِل روادنا إِلَى الشَّام وَإِلَى الْمشرق فَحَيْثُمَا بلغنَا أَنه أمثل لحقنا بِهِ، وَأَرْجُو أَن يكون مقامنا مَعكُمْ يَسِيرا، فَأَبت جرهم ذَلِك واستكبروا فِي أنفسهم وَقَالُوا: لَا وَالله مَا نحب أَن ينزلُوا مَعنا فيضيقوا علنا مراحلنا ومواردنا فارحلوا عَنَّا حَيْثُ جئْتُمْ فَلَا حَاجَة لنا بجواركم، فَأرْسل إِلَيْهِم ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَامر أَنه لَا بُد لي من الْمقَام بِهَذَا الْبَلَد حولا حَتَّى ترجع إليّ رُسُلِي الَّتِي أرْسلت، فَإِن تركتموني طَوْعًا نزلت وحمدتكم وآسيتكم فِي الرعى وَالْمَاء، وَإِن أَبَيْتُم أَقمت على كرهكم ثمَّ لم ترعوا معي إِلَّا فضلا فَإِن قاتلتموني قاتلتكم ثمَّ إِن ظَهرت عَلَيْكُم سبيت النِّسَاء وَقتلت الرِّجَال وَلم أترك مِنْكُم أحدا ينزل الْحرم أبدا، فَأَبت جرهم أَن تتركه طَوْعًا وَبعثت لقتاله فَاقْتَتلُوا ثَلَاثَة أَيَّام، فانهزمت جرهم فَلم ينفلت مِنْهُم إِلَّا الشريد، وَكَانَ مضاض بن عَمْرو قد اعتزل جرهم وَلم يُعِنْهُمْ فِي ذَلِك وَقَالَ: قد كنت أحذركم من هَذَا ثمَّ رَحل هُوَ وَولده وَأهل بَيته حَتَّى نزلُوا قنونى

ص: 54

وحلى وَمَا حول ذَلِك وفنيت جرهم أفناهم السَّيْف فِي تِلْكَ الْحَرْب، وشرد بَقِيَّة جرهم وَسَارُوا بهم فِي الْبِلَاد وسلط عَلَيْهِم الذَّر والرعاف، وَهلك بَقِيَّتهمْ بأضم حَتَّى كَانَ آخِرهم موتا امْرَأَة رئيت تَطوف بِالْبَيْتِ بعد خُرُوجهمْ مِنْهَا بِزَمَان فعجبوا من طولهَا وَعظم خلقتها حَتَّى قَالَ لَهَا قَائِل: أجنية أم إنسية؟ فَقَالَت: بل إنسية من جرهم، وأنشدت رجزاً فِي معنى حَدِيثهمْ، واستكبرت بَعِيرًا من رجلَيْنِ من جُهَيْنَة فاحتملاها على الْبَعِير إِلَى أَرض خَيْبَر فَلَمَّا أنزلاها بالمنزل الَّذِي سمت لَهما سألاها عَن المَاء فَأَشَارَتْ لَهما إِلَى مَوضِع المَاء فوليا عَنْهَا وَإِذا الذَّر قد تعلق بهَا حَتَّى بلغ خاشيمها وَهِي تنادي بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور حَتَّى دخل الذَّر حلقها وَسَقَطت لوجهها وَذهب الجهينيان إِلَى المَاء فاستوطناه، فَمن هُنَالك صَار موقع جُهَيْنَة بالحجاز وَقرب الْمَدِينَة وَإِنَّمَا هم من قضاعة، وقضاعة من ريف الْعرَاق وَأقَام ثَعْلَبَة بِمَكَّة وَمَا حولهَا فِي قومه وعساكره حولاه فَأَصَابَتْهُمْ الْحمى، وَكَانُوا بِبَلَد لَا يَدْرُونَ فِيهِ بالحمى فدعوا طريفة فشكوا إِلَيْهَا الَّذِي أَصَابَهُم، فَقَالَت لَهُم: قد أصابني الَّذِي تشكون وَهُوَ مفرّق مَا بَيْننَا قَالُوا: فَمَاذَا تأمرين؟ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم ذَا هم بعيد وَحمل شَدِيد ومزاد جَدِيد فليلحق بقصر عمان المشيد فَكَانَ أَزْد عمان، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم ذَا جلد وَقصر وصبر على أزمات الدَّهْر فَعَلَيهِ بالأراك من بطن مر فَكَانَت خُزَاعَة، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم يُرِيد الراسيات فِي الوحل المطعمات فِي الْمحل فليلحق بِيَثْرِب ذَات النّخل، فَكَانَت الْأَوْس والخزرج، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم يُرِيد الْخمر والخمير وَالْملك والمعامير ويلبس الديباج وَالْحَرِير فليلحق

ص: 55

ببصرى وعوير وهما من أَرض الشَّام فَكَانَ الَّذِي سكنهما آل جَفْنَة من غَسَّان، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم يُرِيد الثِّيَاب الرقَاق وَالْخَيْل الْعتاق وكنوز الأوراق وَالدَّم المهراق فليلحق بالعراق فَكَانَ الَّذِي سكنها " آل خُزَيْمَة الأبرس " حَتَّى جَاءَهُم روادهم، فافترقوا من مَكَّة فرْقَتَيْن فرقة تَوَجَّهت إِلَى عمان وَهُوَ أَزْد عمان، وَسَار ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَامر نَحْو الشَّام فَنزلت الْأَوْس والخزرج ابْنا حَارِثَة بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَامر وهم الْأَنْصَار بِالْمَدِينَةِ، وَمَضَت غَسَّان فنزلوا الشَّام، فانحازت خُزَاعَة إِلَى مَكَّة فَأَقَامَ بهَا ربيعَة بن حَارِثَة بن عمر بن عَامر وَهُوَ لحي فولي أَمر مَكَّة وحجابة الْكَعْبَة، فَلَمَّا أخررت خُزَاعَة أَمر مَكَّة وصاروا أَهلهَا، جَاءَهُم بَنو إِسْمَاعِيل وَقد كَانُوا اعتزلوا حَرْب جرهم وخزاعة فَسَأَلُوهُمْ السُّكْنَى مَعَهم وحولهم فأذنوا لَهُم، فَلَمَّا رأى ذَلِك مضاض بن عَمْرو بن الْحَارِث وَقد كَانَ أَصَابَهُ من الصبابة إِلَى مَكَّة مَا أحزنه، أرسل إِلَى خُزَاعَة يستأذنهم فِي الدُّخُول عَلَيْهِم وَالنُّزُول مَعَهم بِمَكَّة فِي جوارهم، ومتّ إِلَيْهِم بِرَأْيهِ وتوريعه قومه عَن الْقِتَال وَسُوء السِّيرَة فِي الْحرم واعتزاله الْحَرْب، فَأَبت خُزَاعَة أَن يقربوهم ونفتهم عَن الْحرم كُله، وَلم يتركوهم ينزلون مَعَهم، فَقَالَ عَمْرو بن لحي وَهُوَ ربيعَة بن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر لِقَوْمِهِ: من وجد مِنْكُم جرهميّاً وَقد قَارب الْحرم فدمه هدر، فنزعت إبل لمضاض بن عَمْرو بن الْحَارِث بن مضاض بن عَمْرو الجرهمي من قنوني تُرِيدُ مَكَّة فَخرج فِي طلبَهَا حَتَّى وجد أَثَرهَا قد رحلت مَكَّة، فَمضى على الْجبَال من نَحْو أجياد حَتَّى ظهر على أبي قبيس يبصر الْإِبِل فِي بطن وَادي مَكَّة، فأبصر الْإِبِل تنحر وتؤكل لَا سَبِيل لَهُ إِلَيْهَا يخَاف إِن هَبَط الْوَادي أَن يقتل فولى منصرفاً إِلَى أَهله وَأَنْشَأَ يَقُول: اد جَدِيد فليلحق بقصر عمان المشيد فَكَانَ أَزْد عمان، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم ذَا جلد وَقصر وصبر على أزمات الدَّهْر فَعَلَيهِ بالأراك من بطن مر فَكَانَت خُزَاعَة، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم يُرِيد الراسيات فِي الوحل المطعمات فِي الْمحل فليلحق بِيَثْرِب ذَات النّخل، فَكَانَت الْأَوْس والخزرج، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم يُرِيد الْخمر والخمير وَالْملك والمعامير ويلبس الديباج وَالْحَرِير فليلحق ببصرى وعوير وهما من أَرض الشَّام فَكَانَ الَّذِي سكنهما آل جَفْنَة من غَسَّان، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم يُرِيد الثِّيَاب الرقَاق وَالْخَيْل الْعتاق وكنوز الأوراق وَالدَّم المهراق فليلحق بالعراق فَكَانَ الَّذِي سكنها " آل خُزَيْمَة الأبرس " حَتَّى جَاءَهُم روادهم، فافترقوا من مَكَّة فرْقَتَيْن فرقة تَوَجَّهت إِلَى عمان وَهُوَ أَزْد عمان، وَسَار ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَامر نَحْو الشَّام فَنزلت الْأَوْس والخزرج ابْنا حَارِثَة بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَامر وهم الْأَنْصَار بِالْمَدِينَةِ، وَمَضَت غَسَّان فنزلوا الشَّام، فانحازت خُزَاعَة إِلَى مَكَّة فَأَقَامَ بهَا ربيعَة بن حَارِثَة بن عمر بن عَامر وَهُوَ لحي فولي أَمر مَكَّة وحجابة الْكَعْبَة، فَلَمَّا أخررت خُزَاعَة أَمر مَكَّة وصاروا أَهلهَا، جَاءَهُم بَنو إِسْمَاعِيل وَقد كَانُوا اعتزلوا حَرْب جرهم وخزاعة فَسَأَلُوهُمْ السُّكْنَى مَعَهم وحولهم فأذنوا لَهُم، فَلَمَّا رأى ذَلِك مضاض بن عَمْرو بن الْحَارِث وَقد كَانَ أَصَابَهُ من الصبابة إِلَى مَكَّة مَا أحزنه، أرسل إِلَى خُزَاعَة يستأذنهم فِي الدُّخُول عَلَيْهِم وَالنُّزُول مَعَهم بِمَكَّة فِي جوارهم، ومتّ إِلَيْهِم بِرَأْيهِ وتوريعه قومه عَن الْقِتَال وَسُوء السِّيرَة فِي الْحرم واعتزاله الْحَرْب، فَأَبت خُزَاعَة أَن يقربوهم ونفتهم عَن الْحرم كُله، وَلم يتركوهم ينزلون مَعَهم، فَقَالَ عَمْرو بن لحي وَهُوَ ربيعَة بن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر لِقَوْمِهِ: من وجد مِنْكُم جرهميّاً وَقد قَارب الْحرم فدمه هدر، فنزعت إبل لمضاض بن عَمْرو بن الْحَارِث بن مضاض بن عَمْرو الجرهمي من قنوني تُرِيدُ مَكَّة فَخرج فِي طلبَهَا حَتَّى وجد أَثَرهَا قد رحلت مَكَّة، فَمضى على الْجبَال من نَحْو أجياد حَتَّى ظهر على أبي قبيس يبصر الْإِبِل فِي بطن وَادي مَكَّة، فأبصر الْإِبِل تنحر وتؤكل لَا سَبِيل لَهُ إِلَيْهَا يخَاف إِن هَبَط الْوَادي أَن يقتل فولى منصرفاً إِلَى أَهله وَأَنْشَأَ يَقُول: كَأَن لم يكن بَين الْحجُون إِلَى الصَّفَا

أنيس وَلم يسمر بِمَكَّة سامر الأبيات وَانْطَلق مضاض بن عَمْرو نَحْو الْيمن إِلَى أَهله وَهُوَ يتذاكرون مَا حَال بَينهم

ص: 56

وَبَين مَكَّة، وَمَا فارقوا من أمنها وملكها فَحَزِنُوا على ذَلِك حزنا شَدِيدا فبكوا على مَكَّة، وَجعلُوا يَقُولُونَ الْأَشْعَار فِي مَكَّة، واختصت خُزَاعَة بحجابة الْكَعْبَة وَولَايَة أَمر مَكَّة وَفِيهِمْ بَنو إِسْمَاعِيل عليه السلام بِمَكَّة وحولها، لَا ينازعهم أحد مِنْهُم فِي شَيْء من ذَلِك وَلَا يطلبونه، فَتزَوج لحي وَهُوَ ربيعَة بن حَارِثَة بهبرة بنت عَامر بن عَمْرو بن الْحَارِث بن مضاض بن عَمْرو الجرهمي ملك جرهم فَولدت لَهُ عمرا وَهُوَ عَمْرو بن لحي وَبلغ بِمَكَّة وَفِي الْعَرَب من الشّرف مَا لَا يبلغهُ عَرَبِيّ قبله وَلَا بعده فِي الْجَاهِلِيَّة، وَهُوَ الَّذِي قسم بَين الْعَرَب فِي حطمة حطموها عشرَة آلَاف نَاقَة، وَقد كَانَ فَقَأَ عين عشْرين فحلاً، وَكَانَ الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا ملك ألف نَاقَة فَقَأَ عين فَحل إبِله، وَكَانَ أول من أطْعم الْحَاج بِمَكَّة سدائف الْإِبِل ولحمانه على الثَّرِيد وَعم فِي تِلْكَ السّنة جَمِيع حَاج العري بِثَلَاثَة أَثوَاب من برود الْيمن، وَكَانَ قد ذهب شرفه فِي الْعَرَب كل مَذْهَب، وَكَانَ قَوْله فيهم دينا منيفاً لَا يُخَالف، وَهُوَ الَّذِي بَحر الْبحيرَة ووصّل الوصيلة وَحمى الحام وسيّب السائبة وَنصب الْأَصْنَام حول الْكَعْبَة، وَجَاء بهبل من هيت من أَرض الجزيرة فنصبه فِي بطن الْكَعْبَة فَكَانَت قُرَيْش تستقسم عِنْده بالأزلام، وَهُوَ أول من غير الحنيفية دين إِبْرَاهِيم عليه السلام، فَكَانَ عَمْرو بن لحي يَلِي الْبَيْت وَولده من بعده خَمْسمِائَة سنة حَتَّى كَانَ آخِرهم " خَلِيل بن حبشية " بن سلول بن كَعْب بن عَمْرو فَتزَوج إِلَيْهِ قصي ابْنَته حبى ابْنة خَلِيل، وَكَانُوا هم حجابه وخزانه والقوام بِهِ وولاة الحكم بِمَكَّة، وَهُوَ عَامر لم يجر فِيهِ خراب وَلم يبن خُزَاعَة فِيهِ شَيْئا بعد جرهم وَلم يسرق مِنْهُ شَيْء علمناه وَلَا سمعنَا بِهِ، وترافدوا على تَعْظِيمه والذب عَنهُ.

ص: 57

فصل مَا جَاءَ فِي ولَايَة قصي بن كلاب الْبَيْت الْحَرَام وَأمر مَكَّة بعد خُزَاعَة: عَن ابْن جريج وَابْن إِسْحَاق قَالَا: إِقَامَة خُزَاعَة على مَا كَانَت عَلَيْهِ من ولَايَة الْبَيْت وَالْحكم بِمَكَّة ثَلَاثمِائَة سنة، وَكَانَ بعض التبابعة قد سَار إِلَيْهِ وَأَرَادَ هَدمه وتخريبه فَقَامَتْ دونه خُزَاعَة فقاتلت عَلَيْهِ أَشد الْقِتَال حَتَّى رَجَعَ ثمَّ جَاءَ آخر فكذاك، وَأما تبع الثَّالِث الَّذِي نحر لَهُ وكساه وَجعل لَهُ علفاً، وَأقَام عِنْده أَيَّامًا ينْحَر كل يَوْم مائَة بَدَنَة لَا يرزؤه هُوَ وَلَا أحدا من عسكره شَيْء مِنْهَا، يردهَا النَّاس فِي اللخاخ والشعاب فَيَأْخُذُونَ مِنْهَا حوائجهم ثمَّ يَقع الطير عَلَيْهَا فيأكل ثمَّ يتناهبها السبَاع إِذا أمست لَا يرد عَنْهَا إِنْسَان وَلَا طَائِر وَلَا سبع ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْيمن إِنَّمَا كَانَ فِي عهد قُرَيْش فَمَكثت خُزَاعَة على مَا هِيَ عَلَيْهِ وقريش إِذْ ذَاك فِي بني كنَانَة مُتَفَرِّقَة، وَقد قدم فِي بعض الزَّمَان حَاج قضاعة فيهم ربيعَة بن حزَام بن ضبة بن عبد كثير بن عذرة بن سعد بن زيد، وَقد هلك كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب وَترك زهرَة وقصيا ابْني كلاب مَعَ فَاطِمَة بنت عَمْرو بن سعد بن شنل وزهرة أكبرهما فَتزَوج ربيعَة بن حزَام أمهما، وزهرة رجل بَالغ وقصي فطيم أَو فِي سنّ الفطيم، فاحتملها ربيعَة إِلَى بِلَاده من أَرض عدن من أَشْرَاف الشَّام فاحتملت مَعهَا قصيّا لصغره وتخلف زهرَة فِي قومه، فَولدت فَاطِمَة بنت عَمْرو لِرَبِيعَة رزاح بن ربيعَة فَكَانَ أَخا قصي بن كلاب لأمه، ولربيعة بن حزَام من امْرَأَة أُخْرَى ثَلَاثَة نفر حن ومحمودة وجلهمة بَنو ربيعَة، فَبينا قصي بن كلاب فِي أَرض قضاعة لَا ينتمي إِلَّا إِلَى ربيعَة بن حزَام إِذْ كَانَ بَينه وَبَين رجل من قضاعة شَيْء وقصي قد بلغ فَقَالَ لَهُ الْقُضَاعِي: أَلا تلْحق بنسبك وقومك فَإنَّك لست منا. فَرجع قصيّ إِلَى أمه وَقد وجد فِي نَفسه مِمَّا قَالَ لَهَا الْقُضَاعِي فَسَأَلَهَا عَمَّا قَالَ لَهُ فَقَالَت: أَنْت وَالله يَا بني خير مِنْهُ

ص: 58

وَأكْرم أَنْت ابْن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب وقومك عِنْد الْبَيْت الْحَرَام وَمَا حوله. فأجمع قصي على الْخُرُوج إِلَى قومه واللحاق بهم وَكره الغربة فِي أَرض قضاعة فَقَالَت لَهُ أمه: يَا بني لَا تعجل بِالْخرُوجِ حَتَّى يدْخل عَلَيْك الشَّهْر الْحَرَام فَتخرج فِي حَاج الْعَرَب فَإِنِّي أخْشَى عَلَيْك. فَأَقَامَ قصي حَتَّى دخل الشَّهْر الْحَرَام وَخرج فِي حَاج قضاعة حَتَّى قدم مَكَّة فَلَمَّا فرغ من الْحَج وَأقَام بهَا، وَكَانَ قصي رجلا جليداً حازماً بارعاً فَخَطب إِلَى خَلِيل بن حبشية الْخُزَاعِيّ ابْنَته حبى ابْنة خَلِيل، فَعرف خَلِيل النّسَب فَرغب فِي الرجل فَزَوجهُ خَلِيل، وَكَانَ خَلِيل يَوْمئِذٍ يَلِي الْكَعْبَة وَأمر مَكَّة، فَأَقَامَ قصي مَعَه حَتَّى ولدت حبى لقصي عبد الدَّار وَهُوَ أكبر وَلَده وَعبد منَاف وَعبد الْعُزَّى وَعبد بن قصي. فَكَانَ خَلِيل بِفَتْح الْبَيْت، فَإِذا اعتل أعْطى ابْنَته حبى الْمِفْتَاح ففتحته فَإِذا اعتلت أَعْطَتْ الْمِفْتَاح زَوجهَا قصياً أَو بعض وَلَدهَا ففتحه، وَكَانَ قصي يعْمل فِي حيازته إِلَيْهِ وَقطع ذكر خُزَاعَة عَنهُ، فَلَمَّا حضرت خَلِيلًا الْوَفَاة نظر إِلَى قصي وَإِلَى مَا انْتَشَر لَهُ من الْوَلَد من ابْنَته فَرَأى أَن يَجْعَلهَا فِي ولد ابْنَته، فدعى قصيّاً فَجعل لَهُ ولَايَة الْبَيْت وَأسلم إِلَيْهِ الْمِفْتَاح وَكَانَ يكون عِنْد حبى، فَلَمَّا هلك خَلِيل أَبَت خُزَاعَة أَن تَدعه وَذَاكَ وَأخذُوا الْمِفْتَاح من حبى، وَيذكر أَيْضا أَن أَبَا غبشان من خُزَاعَة، واسْمه سليم، وَكَانَت لَهُ ولَايَة الْكَعْبَة بَاعَ مَفَاتِيح الْكَعْبَة من قصي بزق خمر فَقيل:" أخسر من صَفْقَة أبي غبشان " ذكره المَسْعُودِيّ والأصبهاني فِي الْأَمْثَال. فَعِنْدَ ذَلِك هَاجَتْ الْحَرْب بَينه وَبَين خُزَاعَة، فَمشى قصي إِلَى رجال من قومه قُرَيْش وَبني كنَانَة ودعاهم إِلَى أَن يقومُوا مَعَه فِي ذَلِك وَأَن ينصروه ويعضدوه فَأَجَابُوهُ إِلَى نَصره، وَأرْسل قصي إِلَى أَخِيه لأمه رزاح بن ربيعَة وَهُوَ بِبِلَاد قومه من قضاعة يَدعُوهُ إِلَى نَصره ويعلمه مَا حَالَتْ خُزَاعَة بَينه وَبَينه من ولَايَة الْبَيْت، ويسأله الْخُرُوج إِلَيْهِ من إِجَابَة قومه، فَقَامَ رزاح فِي قومه فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك وَخرج رزاح بن ربيعَة وَمَعَهُ إخْوَته من أَبِيه فِيمَن تَبِعَهُمْ من قضاعة فِي حَاج الْعَرَب مُجْتَمعين بالنصر قصي وَالْقِيَام مَعَه، وفلما اجْتمع النَّاس بِمَكَّة خَرجُوا إِلَى الْحَج فوقفوا بِعَرَفَة ونزلوا منى، وقصي مجمع على مَا أجمع عَلَيْهِ من قِتَالهمْ بِمن مَعَه من قُرَيْش وَبني كنَانَة وَمن قدم عَلَيْهِ مَعَ أَخِيه رزاح من قضاعة، فَلَمَّا كَانَ آخر أَيَّام منى أرْسلت قضاعة إِلَى خُزَاعَة يَسْأَلُونَهُمْ أَن يسلمُوا إِلَى قصي مَا جعل لَهُ خَلِيل، وعظموا عَلَيْهِم الْقِتَال فِي الْحرم وحذروهم الظُّلم وَالْبَغي بِمَكَّة وذكروهم مَا كَانَت فِيهِ جرهم وَمَا صَارَت إِلَيْهِ حِين ألحدوا فِيهِ الظُّلم، فَأَبت خُزَاعَة أَن تسلم ذَلِك فَاقْتَتلُوا بمنقضى مأزمي منى فَسمى

ص: 59

ذَلِك الْمَكَان المفجر؛ لما فجر فِيهِ وَسَفك من الدَّم وانتهك من حرمته، فَاقْتَتلُوا قتالاً شَدِيدا حَتَّى كثرت الْقَتْلَى فِي الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا وفشت فيهم الْجِرَاحَات، وحاج الْعَرَب جَمِيعًا من مُضر واليمن مستنكفون ينظرُونَ إِلَى قِتَالهمْ ثمَّ تداعوا إِلَى الصُّلْح وَدخلت قبائل الْعَرَب بَينهم وعظموا على الْفَرِيقَيْنِ سفك الدِّمَاء والفجور فِي الْحرم فَاصْطَلَحُوا على ن يحكموا بَينهم رجلا من الْعَرَب فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ، فحكموا يعمر بن عون بن كَعْب بن عَامر بن اللَّيْث ين بكر بن عبد منَاف بن كنَانَة وَكَانَ رجلا شريفاً فَقَالَ لَهُم: مَوْعدكُمْ لنا الْكَعْبَة غَدا فَاجْتمع النَّاس وعدوا الْقَتْلَى فَكَانَت فِي خُزَاعَة أَكثر مِنْهَا فِي قُرَيْش وقضاعة وكنانة، وَلَيْسَ كل بني كنَانَة قَاتل مَعَ قصي خُزَاعَة إِنَّمَا كَانَت مَعَ قُرَيْش من بني كنَانَة فلال يسير واعتزلت عَنْهَا بكر بن عبد مَنَاة قاطبة، فَلَمَّا اجْتمع النَّاس بِفنَاء الْكَعْبَة قَامَ يعمر بن عون فَقَالَ: أَلا إِنِّي قد شدخت مَا كَانَ بَيْنكُم من دم تَحت قدميّ هَاتين فَلَا تباحد لأحد على أحد فِي دم وَإِنِّي حكمت لقصي بحجابة الْكَعْبَة وَولَايَة أَمر مَكَّة دون خُزَاعَة كَمَا جعل لَهُ خَلِيل وَأَن يخلي بَينه وَبَين ذَلِك، وَأَن لَا تخرج خُزَاعَة من مساكنها بِمَكَّة فَسُمي يعمر ذَلِك الْيَوْم " الشّدّاخ " فَسلمت خُزَاعَة لقصي وافترق النَّاس. ميعاً وفشت فيهم الْجِرَاحَات، وحاج الْعَرَب جَمِيعًا من مُضر واليمن مستنكفون ينظرُونَ إِلَى قِتَالهمْ ثمَّ تداعوا إِلَى الصُّلْح وَدخلت قبائل الْعَرَب بَينهم وعظموا على الْفَرِيقَيْنِ سفك الدِّمَاء والفجور فِي الْحرم فَاصْطَلَحُوا على ن يحكموا بَينهم رجلا من الْعَرَب فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ، فحكموا يعمر بن عون بن كَعْب بن عَامر بن اللَّيْث ين بكر بن عبد منَاف بن كنَانَة وَكَانَ رجلا شريفاً فَقَالَ لَهُم: مَوْعدكُمْ لنا الْكَعْبَة غَدا فَاجْتمع النَّاس وعدوا الْقَتْلَى فَكَانَت فِي خُزَاعَة أَكثر مِنْهَا فِي قُرَيْش وقضاعة وكنانة، وَلَيْسَ كل بني كنَانَة قَاتل مَعَ قصي خُزَاعَة إِنَّمَا كَانَت مَعَ قُرَيْش من بني كنَانَة فلال يسير واعتزلت عَنْهَا بكر بن عبد مَنَاة قاطبة، فَلَمَّا اجْتمع النَّاس بِفنَاء الْكَعْبَة قَامَ يعمر بن عون فَقَالَ: أَلا إِنِّي قد شدخت مَا كَانَ بَيْنكُم من دم تَحت قدميّ هَاتين فَلَا تباحد لأحد على أحد فِي دم وَإِنِّي حكمت لقصي بحجابة الْكَعْبَة وَولَايَة أَمر مَكَّة دون خُزَاعَة كَمَا جعل لَهُ خَلِيل وَأَن يخلي بَينه وَبَين ذَلِك، وَأَن لَا تخرج خُزَاعَة من مساكنها بِمَكَّة فَسُمي يعمر ذَلِك الْيَوْم " الشّدّاخ " فَسلمت خُزَاعَة لقصي وافترق النَّاس. قَالَ السُّهيْلي: وَكَانَ الأَصْل فِي انْتِقَال ولَايَة الْبَيْت من ولَايَة مُضر إِلَى خُزَاعَة أَن الْحرم حِين ضَاقَ عَن ولد نزار وَبعث فِيهِ إياداً، أخرجتهم بَنو مُضر بن نزار وجلوهم عَن مَكَّة، تعجدوا فِي اللَّيْل إِلَى الرُّكْن الْأسود فاقتلعوه وَاحْتَمَلُوهُ على بعير فورخ الْبَعِير بِهِ وَسقط إِلَى الأَرْض وجعلوه على آخر فورخ أَيْضا وعَلى الثَّالِث فَفعل مثل ذَلِك دفنوه وذهبوا فَلَمَّا أصبح أهل مَكَّة وَلم يروه وَقَعُوا فِي كرب عَظِيم، وَكَانَت امْرَأَة من خُزَاعَة قد بصرت بِهِ حِين دفن وأعلمت قَومهَا بذلك فَحِينَئِذٍ أخذت على خُزَاعَة

ص: 60

على وُلَاة الْكَعْبَة الْبَيْت أَن ينحلوا لَهُم عَن ولَايَته ويدلوهم على الْحجر فَفَعَلُوا ذَلِك، فَمن هُنَالك صَارَت ولَايَة الْبَيْت لخزاعة إِلَى أَن صيرها أَبُو غبشان إِلَى عبد منَاف هَذَا قَول الزبير. فولى قصي بن كلاب حجابة الْكَعْبَة وَأمر مَكَّة وَجمع قومه من قُرَيْش من مَنَازِلهمْ إِلَى مَكَّة يستعز بهم وتملك على قومه، وخزاعة مُقِيمَة بِمَكَّة على رباعهم ومساكنهم وَلم يتحركوا وَلم يخرجُوا مِنْهَا، فَلم يزَالُوا على ذَلِك حَتَّى الْآن، وَكَانَ قصي أول رجل من بني كنَانَة أضَاف ملكا وأطاع لَهُ بِهِ قومه، فَكَانَت إِلَيْهِ الحجابة والرفادة والسقاية والندوة واللواء والقيادة، وَلما جمع قُرَيْش قصياً بِمَكَّة سمي مجمعا، فحاز قصي شرف مَكَّة وابتنى دَار الندوة، وفيهَا كَانَت قُرَيْش تقضي أمورها وَلم يكن يدخلهَا من قُرَيْش من غير ولد قصي إِلَّا ابْن أَرْبَعِينَ سنة للمشورة وَكَانَ يدخلهَا ولد قصي كلهم أَجْمَعُونَ وخلفاؤهم فَلَمَّا كبر قصي وَكَانَ عبد الدَّار أكبر وَلَده وبكره وَكَانَ عبد منَاف قد شرف فِي زمَان أَبِيه وَذهب شرفه على كل مَذْهَب وَعبد الدَّار وَعبد الْعُزَّى وَعبد بَنو قصي بهَا لم يبلغُوا وَلَا أحد من قَومهمْ من قُرَيْش مَا بلغ عبد منَاف من الذّكر والشرف والعز، وَكَانَ قصي وحبى بنت خَلِيل يُحِبَّانِ عبد الدَّار ويرقان عَلَيْهِ؛ لما يريان من شرف عبد منَاف عَلَيْهِ وَهُوَ أصفر مِنْهُ. فَقَالَت لَهُ حبي: لَا وَالله لَا أرْضى حَتَّى يخص عبد الدَّار بِشَيْء يلْحقهُ بأَخيه. فَقَالَ قصي: وَالله لألحقنه بِهِ ولأحبونه بِذرْوَةِ الشّرف حَتَّى لَا يدْخل أحد من قُرَيْش وَلَا غَيرهَا الْكَعْبَة إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يعصون لَهُ أمرا وَلَا يعقدون لِوَاء إِلَّا عِنْده، فأجمع قصي على أَن يقسم أُمُور مَكَّة السِّتَّة الَّتِي فِيهَا الذّكر والشرف والعز بَين ابنيه، فَأعْطى عبد الدَّار السدَانَة وَهِي الحجابة وَدَار الندوة واللواء، وَأعْطى عبد منَاف السِّقَايَة والرفاة والقيادة فَأَما السدَانَة وَهِي الحجابة أَي: خدمَة الْبَيْت وَتَوَلَّى أمره وَفتح بَابه وإغلاقه، فيروى إِنَّهَا كَانَت قبل قُرَيْش لطسم قَبيلَة من عَاد فاستخفوا بِحقِّهِ وَاسْتَحَلُّوا حرمته

ص: 61

فأهلكهم الله، ثمَّ وليته بعدهمْ جرهم فاستخفوا بِحقِّهِ وَاسْتَحَلُّوا حرمته فأهلكهم الله، ثمَّ وليته خُزَاعَة ثمَّ بعد خُزَاعَة ولي قصي بن كلاب حجابة الْكَعْبَة وَأمر مَكَّة ثمَّ أعْطى وَلَده عبد الدَّار السدَانَة وَدَار الندوة واللواء، وَأعْطى عبد منَاف السِّقَايَة والرفادة والقيادة فَلَمَّا هلك قصي أقيم أمره فِي قومه بعد وَفَاته على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاته، وَولى عبد الدَّار حجابة الْبَيْت وَولَايَة دَار الندوة واللواء فَلم يزل عَلَيْهِ حَتَّى هلك، وَجعل عبد الدَّار الحجابة بعده إِلَى ابْنه عُثْمَان بن عبد الدَّار، وَجعل دَار الندوة إِلَى ابْنه عبد منَاف بن عبد الدَّار، أما الندوة فَلم تزل بَنو عبد منَاف بن عبد الدَّار يلون الندوة دون ولد عبد الدَّار، فَكَانَت قُرَيْش إِذا أَرَادَت أَن تشَاور فِي أَمر فتحهَا لَهُم عَامر بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار وَبَعض وَلَده أَو ولد أَخِيه، وَكَانَت الْجَارِيَة إِذا حَاضَت أدخلت دَار الندوة ثمَّ شقّ عَلَيْهَا بعض ولد عبد منَاف بن عبد الدَّار درعها، ثمَّ درعها إِيَّاه وانقلب بهَا أهلوها فحجبوها، فَكَانَ عَامر بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار يُسمى محيضاً، وَإِنَّمَا سميت دَار الندوة لِاجْتِمَاع الندى فِيهَا يندونها أَي: يَجْلِسُونَ فِيهَا لإبرام أُمُورهم وتشاورهم. وَأما السدَانَة: فَلم تزل بَنو عُثْمَان بن عبد الدَّار يلون الحجابة دون ولد عبد الدَّار، ثمَّ وَليهَا عبد الْعُزَّى بن عُثْمَان بن عبد الدَّار، ثمَّ وَليهَا وَلَده أَبُو طَلْحَة عبد الله بن عبد الْعُزَّى بن عُثْمَان بن عبد الدَّار، ثمَّ وَليهَا وَلَده طَلْحَة من بعده حَتَّى كَانَ فتح مَكَّة فقبضها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أَيْديهم، وَفتح الْكَعْبَة ودخلها ثمَّ خرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من الْكَعْبَة مُشْتَمِلًا على الْمِفْتَاح، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رضي الله عنه: بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله أعطنا الحجابة مَعَ السِّقَايَة فَأنْزل الله عز وجل: " إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا ". قَالَ عمر بن الْخطاب: فَمَا سَمعتهَا من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قبل تِلْكَ السَّاعَة فَتَلَاهَا ثمَّ دَعَا عُثْمَان بن طَلْحَة فَدفع إِلَيْهِ الْمِفْتَاح وَقَالَ: غيبوه ثمَّ قَالَ: خذوها يَا بني طَلْحَة بأمانة الله سُبْحَانَهُ فاعملوا بِالْمَعْرُوفِ خالدة تالدة لَا يَنْزِعهَا مِنْكُم إِلَّا ظَالِم،

ص: 62

فَخرج عُثْمَان بن أبي طَلْحَة، إِلَى هجرته مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأقَام ابْن عَمه شيبَة بن عُثْمَان بن أبي طَلْحَة فَلم يزل يحجب هُوَ وَولده وَولد أَخِيه وهب بن عُثْمَان حَتَّى قدم ولد عُثْمَان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة وَولده شَافِع بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة من الْمَدِينَة وَكَانُوا بهَا دهراً طَويلا فَلَمَّا قدمُوا حجبوا بني عمهم فولد أبي طَلْحَة جَمِيعًا يحجبون. ويروى عَن عُثْمَان بن أبي طَلْحَة أَنه قَالَ: كُنَّا نفتح الْكَعْبَة يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس فجَاء رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا يُرِيد أَن يدْخل مَعَ النَّاس فتكلمت بِشَيْء فحلم عني ثمَّ قَالَ: " يَا عُثْمَان لَعَلَّك سترى الْمِفْتَاح يَوْمًا سَهْما ضَعْهُ حَيْثُ شِئْت " فَقلت: لقد هَلَكت قُرَيْش يَوْمئِذٍ وذلت. فَقَالَ: " بل عزت ". وَدخل الْكَعْبَة وَوَقعت كَلمته مني موقعاً ظَنَنْت أَن الْأَمر سيصر إِلَى مَا قَالَ. فَأَرَدْت الْإِسْلَام فأخافوني بزبر ديني زبراً شَدِيدا فَلَمَّا دخل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَكَّة عَام الغصبة غير الله قلبِي ودخله الْإِسْلَام، وَلم يقدر لي أَن آتيه حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ قدر لي الْخُرُوج إِلَيْهِ فأدلجت فَلَقِيت خَالِد بن الْوَلِيد فاصطحبنا فلقينا عَمْرو بن الْعَاصِ فاصطحبنا فقدمنا الْمَدِينَة، فَبَايَعته وأقمت مَعَه حَتَّى خرجت مَعَه فِي غَزْوَة الْفَتْح فَلَمَّا دخل مَكَّة قَالَ:" يَا عُثْمَان ائْتِ بالمفتاح ". فَأَتَيْته بِهِ فَأَخذه مني ثمَّ دَفعه إليّ فَقَالَ: " خذوها يَا بني طَلْحَة خالدة تالدة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا يَنْزِعهَا مِنْكُم إِلَّا ظَالِم ". وَفِي ذَلِك أنزل الله: " إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا ". وَفِي الصَّحِيح، أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:" كل مأثرة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة فَهِيَ تَحت قدمي هَاتين إِلَّا سِقَايَة الْحَاج وسدانة الْبَيْت ".

ص: 63

وَعَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه لما فتح الْكَعْبَة أَخذ من بني شيبَة مِفْتَاح الْكَعْبَة حَتَّى أشفقوا أَن يَنْزعهُ مِنْهُم ثمَّ قَالَ: " يَا بني شيبَة هاكم الْمِفْتَاح وكلوا بِالْمَعْرُوفِ ". رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور. وَقَالَ الْعلمَاء: إِن هَذِه ولَايَة من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلَا يجوز لأحد أَن يَنْزِعهَا مِنْهُم. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: لَا يبعد أَن يُقَال هَذَا إِذا حَافظُوا على حرمته ولازموا الْأَدَب فِي خدمته، أما إِذا لم يحفظوا حرمته فَلَا يبعد أَن يَجْعَل عَلَيْهِم وَمَعَهُمْ مشرف يمنعهُم من هتك حرمته، قَالَ: وَرُبمَا تعلق الْجَاهِل المعكوس الْفَهم بقوله صلى الله عليه وسلم: " كلوا بِالْمَعْرُوفِ " فاستباح أَخذ الْأُجْرَة على دُخُول الْبَيْت، وَلَا خلاف بَين الْأمة فِي تَحْرِيم ذَلِك وَأَنه من أشنع الْبدع وأقبح الْفَوَاحِش، قَالَ: وَهَذِه اللَّفْظَة وَإِن صحت فيستدل بهَا على إِقَامَة الْحُرْمَة؛ لِأَن أَخذ الْأُجْرَة لَيْسَ من الْمَعْرُوف وَإِنَّمَا الْإِشَارَة وَالله أعلم إِلَى أَن مَا يتَصَدَّق بِهِ من الْبر والصلة على وَجه التبرر فَلهم أَخذه وَذَلِكَ أكل بِالْمَعْرُوفِ لَا محَالة، وَإِلَى مَا يأخذونه من بَيت المَال على مَا يتولونه من خدمته وَالْقِيَام بمصالحه فَلَا يحل لَهُم إِلَّا قدر مَا يستحقونه. وَالله أعلم. وَأما اللِّوَاء: فَكَانَ فِي أَيدي بني عبد الدَّار كلهم يَلِيهِ مِنْهُم ذَوا السن والشرف فِي الْجَاهِلِيَّة، حَتَّى كَانَ يَوْم أحد فَقتل عَلَيْهِ من قتل مِنْهُم. وَأما الرفادة: فَخرج كَانَت قُرَيْش تخرجه من أموالها فِي كل موسم فتدفعه إِلَى قصي يصنع بِهِ طَعَاما للْحَاج يَأْكُلهُ من لم يكن مَعَه سَعَة وَلَا زَاد، وَكَانَ قصي ينْحَر على كل طَرِيق من طرق مَكَّة جزوراً وينحر بِمَكَّة جزراً كَثِيرَة وَيطْعم النَّاس، وَكَانَ يحمل راجل الْحَاج ويكسو عاريهم، فَلَمَّا هلك قصي أقيم أمره فِي قومه بعد وَفَاته على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاته وَلم تزل لعبد منَاف بن قصي يقوم بهَا حَتَّى توفّي فولي بعده هَاشم بن عبد منَاف فَكَانَ يطعم النَّاس فِي كل موسم مِمَّا يجْتَمع

ص: 64

عِنْده من ترافد قُرَيْش، كَانَ يَشْتَرِي بِمَا يجْتَمع عِنْده دَقِيقًا وَيَأْخُذ من كل ذَبِيحَة من بَدَنَة وبقرة أَو شَاة فَخذهَا فَيجمع ذَلِك كُله ثمَّ يخرد بِهِ الدَّقِيق ويطعمه الْحَاج، فَلم يزل على ذَلِك من أمره حَتَّى أصَاب النَّاس فِي سنة جَدب شَدِيد، فَخرج هَاشم بن عبد منَاف إِلَى الشَّام فَاشْترى بِمَا اجْتمع عِنْده من مَاله دَقِيقًا وكعكاً فَقدم بِهِ مَكَّة فِي الْمَوْسِم فهشم ذَلِك الكعك وَنحر الْجَزُور وطبخها وَجعله ثريداً وَأطْعم النَّاس، وَكَانُوا فِي مجاعَة شَدِيدَة حَتَّى أشبعهم، فَسُمي بذلك هاشماً وَكَانَ اسْمه عمرا، فَلم يزل هَاشم على ذَلِك حَتَّى توفّي، فَكَانَ عبد الْمطلب يفعل ذَلِك فَلَمَّا توفّي عبد الْمطلب قَامَ بذلك أَبُو طَالب فِي كل موسم حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَام وَهُوَ على ذَلِك، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد أرسل بِمَال يعْمل بِهِ الطَّعَام مَعَ أبي بكر رضي الله عنه حِين حج أَبُو بكر بِالنَّاسِ سنة تسع ثمَّ عمل فِي حجَّة النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حجَّة الْوَدَاع ثمَّ أَقَامَهُ أَبُو بكر رضي الله عنه فِي خِلَافَته ثمَّ عمر فِي خِلَافَته ثمَّ الْخُلَفَاء، وهلم جرا. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَهُوَ طَعَام الْمَوْسِم الَّذِي يطعمهُ الْخُلَفَاء الْيَوْم فِي أَيَّام النَّحْر بمنى حَتَّى تَنْقَضِي أَيَّام الْمَوْسِم، وَكَانَ مُعَاوِيَة رضي الله عنه اشْترى دَارا بِمَكَّة وسماها دَار المراحل وَجعل فِيهَا قدوراً وَكَانَت الْجَزُور وَالْغنم تذبح وتطبخ فِيهَا وَتطعم الْحَاج أَيَّام الْمَوْسِم ثمَّ يفعل ذَلِك فِي شهر رَمَضَان. وَكَانَت الْجَزُور وَالْغنم تذبح وتطبخ فِيهَا وَتطعم الْحَاج أَيَّام الْمَوْسِم، ثمَّ يفعل ذَلِك فِي شهر رَمَضَان. ويروى أَن أول من أطْعم الْحَاج " الفالوزج " بِمَكَّة عبد الله بن جدعَان. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَفد عبد الله بن جدعَان على كسْرَى فَأكل عِنْده الفالوزج فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالُوا: لباب الْبر يلت مَعَ الْعَسَل. فَقَالَ: أبيعوني غُلَاما يصنعه. فَأتوهُ بِغُلَام فابتعاه فَقدم بِهِ مَكَّة فَأمره فصنعه للْحَاج، وَوضع الموائد من الأبطح إِلَى بَاب الْمَسْجِد ثمَّ نَادَى مناديه أَلا من أَرَادَ " الفالوزج " فليحضر فَحَضَرَ النَّاس، وَأَنه مَا زَالَ

ص: 65

طَعَام فِي الْجَاهِلِيَّة. وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عَائِشَة رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَت لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إِن ابْن جدعَان كَانَ يطعم النَّاس ويقري الضَّيْف فَهَل يَنْفَعهُ ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة؟ فَقَالَ: " لَا إِنَّه لم يقل يَوْمًا: رب اغْفِر لي خطيئتي يَوْم الدّين ". وَابْن جدعَان هُوَ ابْن عَم عَائِشَة رضي الله عنها. وَفِي غَرِيب الحَدِيث لِابْنِ قُتَيْبَة: أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كنت أستظل بِظِل جَفْنَة عبد الله بن جدعَان فِي الهاجرة ". قَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَت جفنته يَأْكُل مِنْهَا الرَّاكِب على الْبَعِير وَسقط فِيهَا صبي فَمَاتَ. قَالَ السُّهيْلي: وَكَانَ ابْن جدعَان فِي بَدْء أمره صعلوكاً ترب الْيَدَيْنِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِك شريراً فاتكاً لَا يزَال يجني الْجِنَايَات فتغفل عَنهُ أَبوهُ وَقَومه حَتَّى أبغضته عشيرته، ونفاه أَبوهُ وَحلف أَن لَا يؤويه أبدا لما أثقله بِهِ من الْغرم وَحمله من الدِّيات، فَخرج فِي شعاب مَكَّة حائراً ثائراً يتَمَنَّى الْمَوْت أَن ينزل بِهِ، فَرَأى شقاً فِي جبل فَظن فِيهِ حَيَّة فتعرض للشق يَرْجُو أَن يكون فِيهِ مَا يقْتله فيستريح فَلم ير شَيْئا فَدخل فِيهِ، فَإِذا فِيهِ ثعبان عَظِيم لَهُ عينان يتقدان كالسراجين، فَحمل عَلَيْهِ الثعبان فأفرج بِهِ فانساب عَنهُ مستديراً بدارة عِنْدهَا بَيت فخطى خطْوَة أُخْرَى فصفر بِهِ الثعبان وَأَقْبل إِلَيْهِ كالسهم فأفرج لَهُ فانساب عَنهُ، فَوَقع فِي نَفسه أَنه مَصْنُوع من ذهب ومسكه بِيَدِهِ فَإِذا هُوَ مَصْنُوع من ذهب وَعَيناهُ ياقوتتان، فَكَسرهُ وَأخذ عَيْنَيْهِ وَدخل الْبَيْت فَإِذا جثث على سرر طوال لم ير مثلهم طولا وعظماً وَعند رؤوسهم لوح من فضَّة فِيهِ تاريخهم، وَإِذا هم رجال من مُلُوك جرهم وَآخرهمْ موتا الْحَارِث بن مضاض، وَإِذا عَلَيْهِم ثِيَاب لَا يمس مِنْهَا شَيْء إِلَّا انتثر

ص: 66

كالهباء من طول الزَّمن وَإِذا فِي وسط الْبَيْت كوم عَظِيم من الْيَاقُوت واللؤلؤ وَالذَّهَب وَالْفِضَّة والزبرجد فَأخذ مِنْهُ مَا أَخذ ثمَّ علم على الشق عَلامَة وأغلق بَابه بِالْحِجَارَةِ، وَأرْسل إِلَى أَبِيه بِالْمَالِ الَّذِي خرج بِهِ يسترضيه ويستعطفه وَوصل عشيرته كلهم فسادهم، وَجعل ينْفق من ذَلِك الْكَنْز وَيطْعم النَّاس وَيفْعل بِالْمَعْرُوفِ وَصَارَ هَذَا الْكَنْز مَعْرُوفا بكنز ابْن جدعَان وَهُوَ مِمَّن حرم الْخمر فِي الْجَاهِلِيَّة بعد أَن كَانَ مغرى بهَا وَذَلِكَ أَنه سكر فَتَنَاول الْقَمَر ليأخذه فَأخْبر بذلك حِين صَحا فَحلف لَا يشْربهَا أبدا، وَلما كبر وهرم أَرَادَ بَنو تَمِيم أَن يمنعوه من تبذير مَاله ولاموه فِي الْعَطاء فَكَانَ يَدعُوهُ الرجل فَإِذا دنا مِنْهُ لطمه لطمة خَفِيفَة ثمَّ قَالَ لَهُ: قُم فَأَنْشد لطمتك واطلب دِيَتهَا، فَإِذا فعل ذَلِك أعطَاهُ بَنو تَمِيم من مَال ابْن جدعَان حَتَّى يرضى. انْتهى كَلَام السُّهيْلي. وَأما " السِّقَايَة ": فَلم تزل بيد عبد منَاف فَكَانَ يسْقِي النَّاس المَاء من بِئْر خم على الْإِبِل فِي المزاود والقرب، ثمَّ يسْكب ذَلِك المَاء فِي حِيَاض من آدم بِفنَاء الْكَعْبَة فَيردهُ الْحَاج حَتَّى يتفرقوا فَكَانَ يستعذب ذَلِك المَاء. قَالَ السُّهيْلي: ذكرُوا أَن قصياً كَانَ يسقى الحجيج فِي حِيَاض من آدم، وَكَانَ ينْقل المَاء إِلَيْهَا من آبار خَارِجَة من مَكَّة مِنْهَا " بِئْر مَيْمُون الْحَضْرَمِيّ "، وَكَانَ ينْبذ لَهُم الزَّبِيب، ثمَّ احتفر لَهُم قصي " العجول " فِي دَار أم هَانِئ بنت أبي طَالب بالحزورة وَهِي أول سِقَايَة احتفرت بِمَكَّة، وَكَانَت الْعَرَب إِذا قدمت مَكَّة يردونها فيستقون مِنْهَا ويتزاحمون عَلَيْهَا، وَكَانَت قُرَيْش قبل حفر زَمْزَم قد احتفرت آباراً، وحفر قصيّ أَيْضا بِئْرا عِنْد الرَّدْم الْأَعْلَى ثمَّ حفر هَاشم بن عبد منَاف بِئْرا وَقَالَ حِين حفرهَا: لأجعلنها للنَّاس بلاغاً. وحفرها قصى أَيْضا

ص: 67

سجلة، وَقيل: بل حفرهَا هَاشم وَهِي الْبِئْر الَّتِي يُقَال لَهَا: بِئْر جُبَير بن مطعم فَكَانَت سجلة لهاشم بن عبد منَاف فَلم تزل لوَلَده حَتَّى وَهبهَا أَسد بن هَاشم لمطعم بن عدي حِين حفر عبد الْمطلب زَمْزَم واستغنوا عَنْهَا، وَيُقَال: وَهبهَا لَهُ عبد الْمطلب حِين حفر زَمْزَم وَاسْتغْنى عَنْهَا، وَسَأَلَهُ الْمطعم بن عدي أَن يضع حوضاً من أَدَم إِلَى جنب زَمْزَم السُّفْلى؛ ليسقى فِيهِ من مَاء بئره فَأذن لَهُ فِي ذَلِك فَكَانَ يفعل، فَلم يزل هَاشم بن عبد منَاف يسْقِي الْحَاج حَتَّى توفّي فَقَامَ بِأَمْر السِّقَايَة من بعده عبد الْمطلب بن هَاشم فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى حفر زَمْزَم فأغنت عَن آبار مَكَّة فَكَانَ مِنْهَا مشرب الْحَاج، قَالَ: وَكَانَت لعبد الْمطلب إبل كَثِيرَة إِذا كَانَ يَوْم الْمَوْسِم جمعهَا ثمَّ سقى لَبنهَا بالعسل فِي حَوْض من أَدَم عِنْد زَمْزَم، وَيَشْتَرِي الزَّبِيب فينبذه بِمَاء زَمْزَم ويسقيه الْحَاج؛ ليكسر غلظ مَاء زَمْزَم وَكَانَت إِذْ ذَاك غَلِيظَة جدا، وَكَانَ النَّاس إِذْ ذَاك لَهُم فِي بُيُوتهم أسقفة فِيهَا المَاء من هَذِه الْآبَار ثمَّ ينبذون فِيهَا القبضات من الزَّبِيب وَالتَّمْر؛ لتكسر عَنْهُم مَاء آبار مَكَّة، وَكَانَ المَاء العذب بِمَكَّة عَزِيزًا لَا يُوجد إِلَّا لإِنْسَان يستعذب لَهُ من بِئْر مَيْمُون خَارج مَكَّة، فَلبث عبد الْمطلب يسْقِي النَّاس حَتَّى توفّي، فَقَامَ بِأَمْر السِّقَايَة بعده الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رضي الله عنه فَلم تزل فِي يَده، وَكَانَ للْعَبَّاس كرم بِالطَّائِف وَكَانَ يحمل زبيبه إِلَيْهَا وَكَانَ يداين أهل الطَّائِف وَيَقْتَضِي مِنْهُم الزَّبِيب فينبذ ذَلِك كُله ويسقيه الْحَاج أَيَّام الْمَوْسِم، فَدخل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَكَّة يَوْم الْفَتْح فَقبض السِّقَايَة من الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب والحجابة من عُثْمَان بن طَلْحَة، فَقَالَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رضي الله عنه فَبسط يَده وَقَالَ: يَا رَسُول الله بِأبي أَنْت وَأمي اجْمَعْ لي الحجابة والسقاية فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: " أُعْطِيكُم مَا تزرءون فِيهِ وَلَا تزرءون مِنْهُ ". فَقَامَ بَين عضادتي بَاب الْكَعْبَة فَقَالَ: أَلا إِن كل دم أَو مَال أَو مأثرة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة فَهِيَ تَحت قدمي هَاتين إِلَّا سِقَايَة الْحَاج وسدانة الْكَعْبَة، فَإِنِّي قد أمضيتهما لأهلهما على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة. فقبضها الْعَبَّاس فَكَانَت فِي يَده حَتَّى توفّي فوليها بعده عبد الله بن عَبَّاس فَكَانَ يفعل فِيهَا

ص: 68