المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: في ذكر الأماكن المباركة بمكة المشرفة وحرمها وقربه التي يستحب زيارتها والصلاة والدعاء فيها رجاء بركتها - تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف

[ابن الضياء]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدّمَة الْمُؤلف

- ‌الْبَاب الأول تَارِيخ مَكَّة المشرفة وَمَا يتَعَلَّق بِالْكَعْبَةِ الشَّرِيفَة وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَغير ذَلِك على سَبِيل الِاخْتِصَار

- ‌فصل: ذكر مَا كَانَت الْكَعْبَة عَلَيْهِ فَوق المَاء قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض

- ‌فصل: ذكر بِنَاء الْمَلَائِكَة الْكَعْبَة قبل آدم ومبتدأ الطّواف

- ‌فصل: ذكر هبوط آدم عليه السلام إِلَى الأَرْض وبنائه الْكَعْبَة وحجه وطوافه بِالْبَيْتِ

- ‌فصل مَا جَاءَ فِي رفع الْبَيْت الْمَعْمُور من الْغَرق وَبِنَاء ولد آدم الْبَيْت بعده وَطواف سفينة نوح بِالْبَيْتِ، وَأثر الْكَعْبَة بَين نوح وَإِبْرَاهِيم وَاخْتِيَار إِبْرَاهِيم عليه السلام مَوضِع الْبَيْت

- ‌فصل مَا جَاءَ فِي إسكان إِبْرَاهِيم ابْنه إِسْمَاعِيل وَأمه فِي بَدْء أمره عِنْد الْبَيْت

- ‌فصل مَا جَاءَ فِي نزُول جرهم مَعَ أم إِسْمَاعِيل الْحرم

- ‌فصل مَا جَاءَ فِي بِنَاء إِبْرَاهِيم الْكَعْبَة

- ‌فصل مَا جَاءَ فِي حج إِبْرَاهِيم وطوافه وأذانه فِي الْحَج

- ‌فصل ذكر ولَايَة بني إِسْمَاعِيل الْكَعْبَة من بعده وَأمر جرهم

- ‌فصل ذكر ولَايَة خُزَاعَة الْكَعْبَة بعد جرهم وَأمر مَكَّة

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي عبَادَة بني إِسْمَاعِيل الْحِجَارَة وتغيير دين إِبْرَاهِيم

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي أول من نصب الْأَصْنَام فِي الْكَعْبَة والاستقسام بالأزلام

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي أول من نصب الْأَصْنَام وَمَا كَانَ من كسرهَا

- ‌فصل: مسيرَة تبع إِلَى مَكَّة

- ‌فصل: مُبْتَدأ حَدِيث الْفِيل

- ‌فصل ذكر الْفِيل حِين ساقته الْحَبَشَة

- ‌فصل: ذكر بِنَاء قُرَيْش الْكَعْبَة فِي الْجَاهِلِيَّة

- ‌فصل: ذكر الْوَقْت الَّذِي كَانُوا يفتحون فِيهِ الْكَعْبَة وَأول من خلع النَّعْل عِنْد دُخُولهَا

- ‌فصل: ذكر بِنَاء الزبير الْكَعْبَة وَمَا زَاد فِيهَا وَمَا نقص مِنْهَا الْحجَّاج

- ‌فصل: ذكر الْجب الَّذِي كَانَ فِي الْكَعْبَة وَمَالهَا الَّذِي كَانَ فِيهِ

- ‌فصل ذكر من كسا الْكَعْبَة فِي الْجَاهِلِيَّة

- ‌فصل ذكر من كساها فِي الْإِسْلَام وطيبها وخدمها

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي تَجْرِيد الْكَعْبَة

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي أَسمَاء الْكَعْبَة وَأَن لَا يبْنى بَيت يشرف عَلَيْهِ

- ‌فصل: ذكر أول من استصبح حول الْكَعْبَة وَفِي الْمَسْجِد الْحَرَام

- ‌فصل: ذكر ذرع الْكَعْبَة من دَاخل وخارج

- ‌فصل: ذكر مَا يَدُور بِالْحجرِ الْأسود من الْفضة

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي مقَام إِبْرَاهِيم عليه السلام

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي مَوضِع الْمقَام وَكَيف رده عمر إِلَى مَوْضِعه هَذَا

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي الذَّهَب الَّذِي على الْمقَام وَمن جعله عَلَيْهِ

- ‌فصل ذكر ذرع الْمقَام

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي إِخْرَاج جِبْرِيل زَمْزَم لأم إِسْمَاعِيل " ويروى لَهَا

- ‌فصل: مَا جَاءَ فِي حفر عبد الْمطلب بن هَاشم زَمْزَم

- ‌فصل: ذكر علاج زَمْزَم فِي الْإِسْلَام

- ‌فصل: ذكر فضل زَمْزَم وخواصها

- ‌فصل: ذكر ذرع بِئْر زَمْزَم

- ‌فصل: ذكر سِقَايَة الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رضي الله عنه

- ‌فصل: ذكر حد الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَا يتَعَلَّق بِالنَّوْمِ وَالْوُضُوء فِيهِ وَأول من أدَار الصُّفُوف حول الْكَعْبَة

- ‌فصل: ذكر مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَسْجِد الْحَرَام وسعته وعمارته إِلَى أَن صَار على مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآن

- ‌فصل: ذكر عمل عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان رضي الله عنهما

- ‌فصل: ذكر بُنيان ابْن الزبير وَعبد الْملك بن مَرْوَان

- ‌فصل: ذكر عمل الْوَلِيد بن عبد الْملك

- ‌فصل: عمل أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي جَعْفَر الْمَنْصُور

- ‌فصل: ذكر زِيَادَة الْمهْدي الأولى

- ‌فصل: ذكر زِيَادَة الْمهْدي الثَّانِيَة

- ‌فصل: ذكر ذرع الْمَسْجِد الْحَرَام

- ‌فصل: ذكر عدد أساطين الْمَسْجِد الْحَرَام الَّتِي بالرواقات غير الزيادتين وَغير الأساطين الَّتِي بِصَحْنِ الْمَسْجِد فِي الْمَسْجِد الْحَرَام الْآن غير الزيادتين وَغير أساطين المطاف الشريف

- ‌فصل: ذكر عدد أَبْوَاب الْمَسْجِد وأسمائها وصفتها

- ‌فصل: ذكر منارات الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَا وضع فِيهِ لمصْلحَة الْمَسْجِد الْحَرَام الْآن

- ‌فصل: وَمن ذَلِك المنابر الَّتِي يخْطب عَلَيْهَا

- ‌فصل: وَمن ذَلِك المقامات الَّتِي هِيَ الْآن بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام

- ‌فصل: ذكر درج الصَّفَا والمروة

- ‌فصل: ذكر آيَات الْبَيْت الْحَرَام زَاده الله تَشْرِيفًا وتعظيما

- ‌فصل: فِي ذكر الْأَمَاكِن الْمُبَارَكَة بِمَكَّة المشرفة وحرمها وقربه الَّتِي يسْتَحبّ زيارتها وَالصَّلَاة وَالدُّعَاء فِيهَا رَجَاء بركتها

- ‌فصل: ذكر السقايات بِمَكَّة المشرفة وحرمها

- ‌فصل: ذكر البرك بِمَكَّة وحرمها

- ‌فصل: ذكر الْآبَار بِمَكَّة وحرمها

- ‌فصل: ذكر عُيُون مَكَّة

- ‌فصل: ذكر الْمَطَاهِر الَّتِي تمكن بِمَكَّة المشرفة مطاهر

- ‌الْبَاب الثَّانِي تَارِيخ الْمَدِينَة وَمَا يتَعَلَّق بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ الشريف والحجرة المقدسة والمنبر الشريف وزيارة النَّبِي صلى الله عليه وسلم ومزارات الْمَدِينَة والجوار بهَا وآداب الرُّجُوع. وَفِيه عشرَة فُصُول

- ‌الْفَصْل الأول: فِي أول سَاكِني الْمَدِينَة وسكنى الْيَهُود الْحجاز ثمَّ نزُول الْأَوْس والخزرج بِالْمَدِينَةِ

- ‌ذكر أول من نزل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة

- ‌ذكر سُكْنى الْيَهُود الْحجاز بعد العماليق

- ‌ذكر نزُول الْأَوْس والخزرج الْمَدِينَة

- ‌ذكر من قتل الْيَهُود واستيلاء الْأَوْس والخزرج على الْمَدِينَة

- ‌الْفَصْل الثَّانِي: ذكر فتح الْمَدِينَة وهجرة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه إِلَيْهَا

- ‌ذكر مَا جَاءَ فِي فتحهَا

- ‌ذكر هِجْرَة النَّبِي إِلَى الْمَدِينَة صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة

- ‌الْفَصْل الثَّالِث: حُرْمَة الْمَدِينَة وغبارها وتمرها وحدود حرمهَا فِي مَا جَاءَ فِي حُرْمَة الْمَدِينَة وغبارها وتمرها ودعائه صلى الله عليه وسلم لَهُم بِالْبركَةِ وَمَا يؤول إِلَيْهِ أمرهَا وحدود حرمهَا:

- ‌ذكر حُرْمَة الْمَدِينَة المشرفة

- ‌مَا جَاءَ فِي غُبَار الْمَدِينَة الشَّرِيفَة

- ‌مَا جَاءَ فِي تمر الْمَدِينَة وثمارها ودعائه صلى الله عليه وسلم لَهَا بِالْبركَةِ

- ‌ذكر مَا يؤول إِلَيْهِ أَمر الْمَدِينَة الشَّرِيفَة

- ‌مَا جَاءَ فِي تَحْدِيد حُدُود حرم الْمَدِينَة الشَّرِيفَة

- ‌الْفَصْل الرَّابِع: ذكر أَوديَة الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وآبارها المنسوبة إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وعينها وَذكر جبل أحد وَالشُّهَدَاء عِنْده

- ‌ذكر وَادي العقيق وفضله

- ‌ذكر الْآبَار المنسوبة إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر عين النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌الْفَصْل الْخَامِس: ذكر جلاء بني النَّضِير من الْمَدِينَة وحفر الخَنْدَق وَقتل بني قُرَيْظَة بِالْمَدِينَةِ

- ‌ذكر جلاء بني النَّضِير من الْمَدِينَة

- ‌ذكر حفر الخَنْدَق

- ‌ذكر قتل بني قُرَيْظَة بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة

- ‌الْفَصْل السَّادِس

- ‌ذكر ابْتِدَاء بِنَاء مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر مَا جَاءَ فِي قبْلَة مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر حجر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر مصلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من اللَّيْل

- ‌ذكر قصَّة الْجذع

- ‌ذكر مِنْبَر النَّبِي صلى الله عليه وسلم وروضته الشَّرِيفَة

- ‌ذكر سد الْأَبْوَاب الشوارع فِي الْمَسْجِد

- ‌ذكر تجمير الْمَسْجِد الشريف وتخليقه

- ‌ذكر مَوضِع تأذين بِلَال رضي الله عنه

- ‌ذكر أهل الصّفة

- ‌ذكر زِيَادَة عمر بن الْخطاب فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر بطحاء مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر زِيَادَة عُثْمَان رضي الله عنه

- ‌ذكر زِيَادَة الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان

- ‌ذكر زِيَادَة الْمهْدي

- ‌ذكر بلاعات الْمَسْجِد وستائر صحنه والسقايات الَّتِي كَانَت فِيهِ

- ‌ذكر احتراق الْمَسْجِد الشريف

- ‌ذكر الخوخ والأبواب الَّتِي كَانَت فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر ذرع الْمَسْجِد الْيَوْم وَعدد أساطينه وطيقانه وَذكر حُدُود الْمَسْجِد الْقَدِيم

- ‌ذكر أسوار الْمَدِينَة الشَّرِيفَة

- ‌الْفَصْل السَّابِع

- ‌ذكر الْمَسَاجِد الْمَعْرُوفَة بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة

- ‌ذكر مَسَاجِد صلى فِيهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ المشرفة

- ‌ذكر الْمَسَاجِد الَّتِي صلى فِيهَا صلى الله عليه وسلم بَين مَكَّة وَالْمَدينَة

- ‌ذكر الْمَسَاجِد الْمَشْهُورَة الَّتِي صلى فِيهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الْغَزَوَات وَغَيرهَا

- ‌الْفَصْل الثَّامِن

- ‌أما ذكر وَفَاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر وَفَاة أبي بكر الصّديق رضي الله عنه

- ‌ذكر وَفَاة عمر رضي الله عنه

- ‌مَا جَاءَ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَبا بكر وَعمر رضي الله عنهما وَعِيسَى عليه السلام خلقُوا من طِينَة وَاحِدَة وَأَن كل مَخْلُوق يدْفن فِي تربته الَّتِي خلق مِنْهَا

- ‌مَا جَاءَ فِي صفة وضع الْقُبُور المقدسة وَصفَة الْحُجْرَة الشَّرِيفَة

- ‌الْفَصْل التَّاسِع

- ‌ذكر حكم زِيَارَة النَّبِي وفضلها صلى الله عليه وسلم وفضلها

- ‌وَأما كَيْفيَّة زيارته صلى الله عليه وسلم وزيارة ضجيعيه رضي الله عنهما

- ‌كَيْفيَّة السَّلَام عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم حَال الزِّيَارَة وَالسَّلَام على ضجيعيه رضي الله عنهما

الفصل: ‌فصل: في ذكر الأماكن المباركة بمكة المشرفة وحرمها وقربه التي يستحب زيارتها والصلاة والدعاء فيها رجاء بركتها

السوَاد فِي رَأسه، دون سائره وسائره أَبيض، قَالَ: وَكَانَ مِقْدَار طوله فِيمَا حررت مِقْدَار عظم الذِّرَاع، أَو كالذراع المقبوضة الْأَصَابِع، والسواد فِي وَجهه غير مَاض فِي سائره جَمِيعه. انْتهى. وَمَا ذكره الْعلوِي فِي صفة نوى الْحجر يُخَالف هَذَا. وَقيل فِي طوله أَكثر مِمَّا ذكره الْخُزَاعِيّ. وَمن آيَاته: حفظ الله لَهُ من الضّيَاع مُنْذُ أهبط إِلَى الأَرْض مَعَ مَا وَقع من الْأُمُور الْمُقْتَضِيَة لذهابه كالطوفان، وَدفن بني إياد، وكما وَقع من جرهم وَغَيرهم كَمَا قجمناه. وَمِنْهَا: أَنه لما حمل إِلَى هجر هلك تَحْتَهُ أَرْبَعُونَ جملا، فَلَمَّا أُعِيد حمل على قعُود أعجف فسمن كَمَا قدمْنَاهُ. وَقيل: هلك تَحْتَهُ ثَلَاثمِائَة بعير. وَقيل: خَمْسمِائَة. وَمِنْهَا: أَنه يطفو على المَاء إِذا وضع فِيهِ وَلَا يرسخ. وَمِنْهَا: أَنه لَا يسخن من النَّار، ذكر هَاتين الْآيَتَيْنِ ابْن أبي الدَّم فِي " الْفرق الإسلامية " فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ ابْن شَاكر الكتبي المؤرخ، وَنقل ذَلِك عَن بعض الْمُحدثين وَرَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهَذِه صفة الْمَسْجِد الْحَرَام والكعبة المشرفة زَادهَا الله تَعَالَى شرفاً وتعظيماً.

‌فصل: فِي ذكر الْأَمَاكِن الْمُبَارَكَة بِمَكَّة المشرفة وحرمها وقربه الَّتِي يسْتَحبّ زيارتها وَالصَّلَاة وَالدُّعَاء فِيهَا رَجَاء بركتها

وَهَذِه الْأَمَاكِن مَسَاجِد ودور وجبال ومقابر. والمساجد أَكثر من غَيرهَا إِلَّا أَن بعض الْمَسَاجِد اشْتهر باسم المولد، وَبَعضهَا باسم الدَّار، وَسَنذكر كلا مِنْهَا على حِدة، أما مَا اشْتهر باسم الْمَسْجِد فَمن ذَلِك: مَسْجِد بِقرب المجزرة الْكَبِيرَة من أَعْلَاهَا على يَمِين الهابط إِلَى مَكَّة ويسار الصاعد مِنْهَا يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صلى فِيهِ الْمغرب على مَا هُوَ مَكْتُوب فِي حجرين بِهَذَا الْمَسْجِد؛ أَحدهمَا بِخَط عبد الرَّحْمَن بن أبي حرمى وَفِيه: أَنه عمر فِي رَجَب سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة، وَفِي الآخر: أَنه عمر فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة. وَذكر الْأَزْرَقِيّ فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يسْتَحبّ فِيهَا الصَّلَاة بِمَكَّة مِنْهَا: مَسْجِد بِأَعْلَى مَكَّة عِنْد سوق الْغنم عِنْد قرن " مقلة " قَالَ: ويزعمون أَن عِنْده بَايع النَّبِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم النَّاس بِمَكَّة يَوْم الْفَتْح. انْتهى. وَزعم بعض أهل الْعَصْر أَن هَذَا الْمَسْجِد الَّذِي ذكره الْأَزْرَقِيّ هُوَ الَّذِي

ص: 179

ذَكرْنَاهُ، وَإِنَّمَا توهم هَذَا؛ لِأَن الْمَسْجِد الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ بلحف جبل وَعِنْده الْآن سوق الْغنم، وَقيل: لَيْسَ هَذَا التَّوَهُّم صَحِيحا؛ لِأَن الْجَبَل الَّذِي عِنْده هَذَا الْمَسْجِد هُوَ المشرف على الْمَرْوَة، وَيُسمى جبل الديلم كَمَا ذكره الْأَزْرَقِيّ، وَهُوَ فِي شقّ معلا مَكَّة الشَّامي، وَأما قرن مقلة الَّذِي ذكره الْأَزْرَقِيّ فقد ذكره فِي شقّ معلا مَكَّة الْيَمَانِيّ. وَالله أعلم. قَالَ الْأَزْرَقِيّ فِي تَعْرِيف قرن مقلة: هُوَ قرن قد بقيت مِنْهُ بَقِيَّة بِأَعْلَى مَكَّة قَالَ: " ومقلة " رجل كَانَ يسكنهُ فِي الْجَاهِلِيَّة. وَعَن ابْن جريج قَالَ: لما كَانَ يَوْم فتح مَكَّة جلس رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على قرن " مقلة " فَجَاءَهُ النَّاس يبايعونه بِأَعْلَى مَكَّة عِنْد سوق الْغنم. وَمن ذَلِك مَسْجِد فَوْقه بِأَعْلَى مَكَّة عِنْد الرَّدْم عِنْد بِئْر جُبَير بن مطعم يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صلى فِيهِ، وَهُوَ يعرف الْيَوْم بِمَسْجِد الرَّايَة كَمَا ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَقد بناه عبد الله بن عبيد الله بن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس رضي الله عنهم وعمره المعتصم بِاللَّه العباسي فِي شعْبَان سنة أَربع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة، وعمره فِي زَمَاننَا الْأَمِير قطلبك الحامي المنجلي عِمَارَته الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْآن فِي أَوَائِل سنة إِحْدَى وَثَمَانمِائَة. وَمن ذَلِك مَسْجِد بسوق اللَّيْل بِقرب مولد النَّبِي صلى الله عليه وسلم يُقَال لَهُ: المختبى، يزوره النَّاس كثيرا فِي صَبِيحَة الْيَوْم الثَّانِي عشر من شهر ربيع الأول من كل سنة، وَلم أر أحدا تعرض لذكره، وَلَا يعرف شَيْئا من أخباره وَمن ذَلِك مَسْجِد بِأَسْفَل مَكَّة ينْسب لأبي بكر الصّديق، وَيُقَال: إِنَّه من دَاره الَّتِي هَاجر مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة. وَمن ذَلِك مَسَاجِد خَارج مَكَّة من أَعْلَاهَا من ذَلِك مَسْجِد بِأَعْلَى مَكَّة يُقَال لَهُ:

ص: 180

مَسْجِد الْجِنّ. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه أهل مَكَّة مَسْجِد الحرس وعرفه الْأَزْرَقِيّ بِأَنَّهُ مُقَابل للحجون بِأَعْلَى مَكَّة وَأَنت مصعد على يَمِينك وَإِنَّمَا سمي مَسْجِد الحرس؛ لِأَن صَاحب الحرس كَانَ يطوف بِمَكَّة حَتَّى إِذا انْتهى إِلَيْهِ وقف عِنْده وَلم يجز حَتَّى يتوافى عِنْده عرفاؤه وحرسه يأتونه من شعب عَامر، وَإِذا توافوا عِنْده رَجَعَ منحدراً إِلَى مَكَّة قَالَ: وَهُوَ فِيمَا يُقَال لَهُ: مَوضِع الْخط الَّذِي خطّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لِابْنِ مَسْعُود لَيْلَة اسْتمع عَلَيْهِ الْجِنّ، قَالَ: وَهُوَ يُسمى مَسْجِد الْبيعَة. يُقَال: إِن الْجِنّ بَايعُوا النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِك الْموضع. وَمن ذَلِك مَسْجِد يُقَال لَهُ: مَسْجِد الشَّجَرَة بِأَعْلَى مَكَّة مُقَابل مَسْجِد الْجِنّ. يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَعَا شَجَرَة كَانَت فِي مَوْضِعه وَهُوَ فِي مَسْجِد الْجِنّ يسْأَلهَا عَن شَيْء فَأَقْبَلت تخط بأصولها وعروقها الأَرْض حَتَّى وقفت بَين يَدَيْهِ، فَسَأَلَهَا عَمَّا يُرِيد ثمَّ أمرهَا فَرَجَعت حَتَّى انْتَهَت إِلَى موضعهَا. وَمن ذَلِك الْمَسْجِد الَّذِي يُقَال لَهُ: مَسْجِد الْإِجَابَة على يسَار الذَّاهِب إِلَى منى فِي شعب بِقرب ثنية إذاخر، وَهُوَ مَسْجِد مَشْهُور عِنْد أهل مَكَّة. يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صلى فِيهِ وَهَذَا الْمَسْجِد الْآن منخرب جدا وجدرانه سَاقِطَة إِلَّا القبلى، وَفِيه حجر مَكْتُوب فِيهِ إِنَّه مَسْجِد الْإِجَابَة، وَإنَّهُ عمر فِي سنة عشْرين وَسَبْعمائة. وَمن ذَلِك الْمَسْجِد الَّذِي يُقَال لَهُ: مَسْجِد الْبيعَة. وَهِي الْبيعَة الَّتِي بَايع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِيهِ الْأَنْصَار بِحَضْرَة عَمه الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب على مَا ذكره أهل السّير وَهَذَا الْمَسْجِد بِقرب الْعقبَة الَّتِي هِيَ حد منى من جِهَة مَكَّة، وَهُوَ وَرَاء الْعقبَة بِيَسِير إِلَى مَكَّة فِي شعب على يسَار الذَّاهِب إِلَى منى، وَفِيه حجران مَكْتُوب فِي أَحدهمَا إِن الْمَنْصُور العباسي أَمر ببنيان هَذَا الْمَسْجِد مَسْجِد الْبيعَة الَّتِي كَانَت أول بيعَة بَايع بهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَفِي الآخر ذكر أَنه مَسْجِد الْبيعَة، وَأَنه بنى فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة، وعمره بعد ذَلِك الْمُسْتَنْصر العباسي فِي سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة، وَهُوَ الْآن منخرب جدا. وَمن ذَلِك مَسْجِد بمنى عِنْد الدَّار الْمَعْرُوفَة بدار النَّحْر بَين الْجَمْرَة الأولى وَالْوُسْطَى على يَمِين الصاعد إِلَى عَرَفَة، يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صلى فِيهِ الضُّحَى وَنحر هَدْيه على مَا هُوَ مَوْجُود فِي حجر فِيهِ مَكْتُوب ذَلِك، وَفِيه أَن الْملك قطب الدّين أَبَا بكر بن

ص: 181

الْملك الْمَنْصُور صَاحب الْيمن أَمر بعمارته فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة. وَمن ذَلِك الْمَسْجِد الَّذِي يُقَال لَهُ، مَسْجِد الْكَبْش بمنى على يسَار الصاعد إِلَى عَرَفَة " بلحف ثبير "، وَهُوَ مَشْهُور بمنى، والكبش الَّذِي نسب هَذَا الْمَسْجِد إِلَيْهِ هُوَ الْكَبْش الَّذِي فدي بِهِ إِسْمَاعِيل أَو إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَذكر الفاكهي خَبرا عَن عَليّ يَقْتَضِي أَن هَذَا الْكَبْش نحر بَين الْجَمْرَتَيْن بمنى، وَيُؤَيّد هَذَا مَا ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَن إِبْرَاهِيم نحر الْكَبْش فِي المنحر الَّذِي ينْحَر فِيهِ الْخُلَفَاء الْيَوْم. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَذَلِكَ فِي سفح الْجَبَل الْمُقَابل لَهُ يَعْنِي: الْمُقَابل لثبير وَأَشَارَ الْمُحب بذلك إِلَى الْموضع الَّذِي يُقَال لَهُ الْيَوْم دَار النَّحْر بمنى فَإِن أمامها ينْحَر هدى صَاحب الْيمن، وَهُوَ بِقرب الْمَسْجِد الَّذِي تقدم ذكره قبل هَذَا الْمَسْجِد. وَمن ذَلِك مَسْجِد الْخيف وَهُوَ مَسْجِد مَشْهُور عَظِيم الْفضل، تقدّمت فضائله فِي كتاب الْمَنَاسِك، وَتقدم تَعْرِيف مَوضِع مصلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَنه الْأَحْجَار الَّتِي بَين يَدي المنارة وَهَذَا الْموضع مَعْرُوف عِنْد النَّاس إِلَى الْآن. وَذكر الْأَزْرَقِيّ صفته وذرعه وَعدد أبوابه. والمنارة الَّتِي فِيهَا الْآن عمرها الْملك المظفر صَاحب الْيمن فِي سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة وفيهَا عمر مَا تشعث من مَسْجِد الْخيف، وَمِمَّنْ عمره وَالِد

ص: 182

الْخَلِيفَة العباسي النَّاصِر واسْمه مَكْتُوب على بَابه الْكَبِير، وعمره من قبل ذَلِك الْجواد وَزِير صَاحب الْموصل، وعمره فِي سنة عشْرين وَسَبْعمائة تَاجر دمشقي يُقَال لَهُ ابْن الْمرْجَانِي بأزيد من عشْرين ألف دِرْهَم وَعمر فِيهِ بعد ذَلِك مَوَاضِع وَهُوَ الْآن كثيرا تشعث. وَمن ذَلِك مَسْجِد عَن يَمِين الْموقف يعرف بِمَسْجِد إِبْرَاهِيم. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَلَيْسَ هُوَ بِمَسْجِد عَرَفَة الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الإِمَام بِعَرَفَة. وَمن ذَلِك مَسْجِد التَّنْعِيم حَيْثُ أَمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرَّحْمَن يعمر عَائِشَة مِنْهُ، وَتقدم بِعَرَفَة فِي الْبَاب الرَّابِع عشر. وَمن ذَلِك مَسْجِد بِذِي طوى نزل هُنَالك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حِين اعْتَمر وَحين حج تَحت سَمُرَة فِي مَوضِع الْمَسْجِد قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي " المثير ": وبنته زبيدة. وَمن ذَلِك مَسْجِد بأجياد، وَفِيه مَوضِع يُقَال لَهُ المتكئ يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم اتكئ هُنَاكَ ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ والأزرقي، وَقَالَ: سَمِعت جدي أَحْمد بن مُحَمَّد ويوسف بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم يسألان عَن المتكئ وَهل صَحَّ عِنْدهمَا أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم اتكئ فِيهِ؟ فرأيتهما ينكران ذَلِك، ويقولان: لم نسْمع بِهِ من ثَبت. قَالَ: قَالَ جدي: سَمِعت جمَاعَة من أهل الْعلم يَقُولُونَ: إِن أَمر المتكئ لَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْدهم، بل يضعفونه غير أَنهم يثبتون أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صلى بأجياد الصَّغِير لَا يثبت ذَلِك الْموضع وَلَا يُوقف عَلَيْهِ. قَالَ: وَلم أسمع أحدا من أهل مَكَّة يثبت أَمر المتكئ. وَمن ذَلِك مَسْجِد على جبل أبي قبيس يُقَال لَهُ: مَسْجِد إِبْرَاهِيم. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: سَمِعت يُوسُف بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم يسْأَل عَنهُ هَل هُوَ مَسْجِد إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن عليه السلام؟ فرأيته يُنكر ذَلِك وَيَقُول: إِنَّمَا قيل هَذَا حَدِيثا من الدَّهْر، وَلم أسمع أحدا من أهل الْعلم يُثبتهُ. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَسَأَلت جدي عَنهُ فَقَالَ لي: مَتى بنى هَذَا الْمَسْجِد؟ إِنَّمَا بنى حَدِيثا من الدَّهْر. وَلَقَد سَمِعت بعض أهل الْعلم من أهل مَكَّة يسْأَل عَنهُ

ص: 183

أهل الْمَسْجِد مَسْجِد إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن فينكر ذَلِك، وَيَقُول: هَل هُوَ مَسْجِد إِبْرَاهِيم القبيسي إِنْسَان كَانَ فِي جبل أبي قبيس يسْأَل عِنْده. انْتهى. وَمن ذَلِك مَسْجِد بِقرب مَسْجِد الْخيف من جَانِبه يعرف بِمَسْجِد المرسلات، فِيهِ نزل على النَّبِي صلى الله عليه وسلم سُورَة المرسلات، وَفِيه غَار وَهُوَ مَشْهُور الْيَوْم بمنى خلف مَسْجِد الْخيف، أَسْفَل الْجَبَل مِمَّا يَلِي الْيمن، كَذَلِك يأثره الْخلف عَن السّلف. وَقد تقدم ذكره فِي الْكتاب الْمَشْهُور. وَمن ذَلِك مَسْجِد الْجِعِرَّانَة أحرم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من هُنَالك. وَتقدم ذكره فِي الْبَاب الرَّابِع عشر من الْمَنَاسِك. وَمن ذَلِك مَسْجِد يُقَال لَهُ: مَسْجِد الْفَتْح بِقرب الجموم من وَادي مر يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صلى فِيهِ، وعمّر هَذَا الْمَسْجِد أَبُو نمى صَاحب مَكَّة على مَا ذكر، ثمَّ السَّيِّد حناش بن رَاجِح، وبيضه فِي عصرنا وَرفع أبوابه السَّيِّد الشريف حسن بن عجلَان صَاحب مَكَّة، وَذكر الْأَزْرَقِيّ فِي تَارِيخه مَسَاجِد أخر غير مَعْرُوفَة الْآن فاختصرناها. لَهُ المتكئ يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم اتكئ هُنَاكَ ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ والأزرقي، وَقَالَ: سَمِعت جدي أَحْمد بن مُحَمَّد ويوسف بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم يسألان عَن المتكئ وَهل صَحَّ عِنْدهمَا أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم اتكئ فِيهِ؟ فرأيتهما ينكران ذَلِك، ويقولان: لم نسْمع بِهِ من ثَبت. قَالَ: قَالَ جدي: سَمِعت جمَاعَة من أهل الْعلم يَقُولُونَ: إِن أَمر المتكئ لَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْدهم، بل يضعفونه غير أَنهم يثبتون أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صلى بأجياد الصَّغِير لَا يثبت ذَلِك الْموضع وَلَا يُوقف عَلَيْهِ. قَالَ: وَلم أسمع أحدا من أهل مَكَّة يثبت أَمر المتكئ. وَمن ذَلِك مَسْجِد على جبل أبي قبيس يُقَال لَهُ: مَسْجِد إِبْرَاهِيم. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: سَمِعت يُوسُف بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم يسْأَل عَنهُ هَل هُوَ مَسْجِد إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن عليه السلام؟ فرأيته يُنكر ذَلِك وَيَقُول: إِنَّمَا قيل هَذَا حَدِيثا من الدَّهْر، وَلم أسمع أحدا من أهل الْعلم يُثبتهُ. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَسَأَلت جدي عَنهُ فَقَالَ لي: مَتى بنى هَذَا الْمَسْجِد؟ إِنَّمَا بنى حَدِيثا من الدَّهْر. وَلَقَد سَمِعت بعض أهل الْعلم من أهل مَكَّة يسْأَل عَنهُ أهل الْمَسْجِد مَسْجِد إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن فينكر ذَلِك، وَيَقُول: هَل هُوَ مَسْجِد إِبْرَاهِيم القبيسي إِنْسَان كَانَ فِي جبل أبي قبيس يسْأَل عِنْده. انْتهى. وَمن ذَلِك مَسْجِد بِقرب مَسْجِد الْخيف من جَانِبه يعرف بِمَسْجِد المرسلات، فِيهِ نزل على النَّبِي صلى الله عليه وسلم سُورَة المرسلات، وَفِيه غَار وَهُوَ مَشْهُور الْيَوْم بمنى خلف مَسْجِد الْخيف، أَسْفَل الْجَبَل مِمَّا يَلِي الْيمن، كَذَلِك يأثره الْخلف عَن السّلف. وَقد تقدم ذكره فِي الْكتاب الْمَشْهُور. وَمن ذَلِك مَسْجِد الْجِعِرَّانَة أحرم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من هُنَالك. وَتقدم ذكره فِي الْبَاب الرَّابِع عشر من الْمَنَاسِك. وَمن ذَلِك مَسْجِد يُقَال لَهُ: مَسْجِد الْفَتْح بِقرب الجموم من وَادي مر يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صلى فِيهِ، وعمّر هَذَا الْمَسْجِد أَبُو نمى صَاحب مَكَّة على مَا ذكر، ثمَّ السَّيِّد حناش بن رَاجِح، وبيضه فِي عصرنا وَرفع أبوابه السَّيِّد الشريف حسن بن عجلَان صَاحب مَكَّة، وَذكر الْأَزْرَقِيّ فِي تَارِيخه مَسَاجِد أخر غير مَعْرُوفَة الْآن فاختصرناها. وَأما الْمَوَاضِع الْمُبَارَكَة بِمَكَّة الْمَعْرُوفَة بالمواليد: فَاعْلَم أَن هَذِه الْمَوَاضِع مَسَاجِد لَكِنَّهَا مَشْهُورَة عِنْد النَّاس باسم المواليد فأفردت عَن الْمَسَاجِد بِالذكر لهَذَا الْمَعْنى، وَمِنْهَا: الْموضع الَّذِي يُقَال لَهُ: مولد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عِنْد أهل مَكَّة مَشْهُور فِي الْموضع الْمَعْرُوف بسوق اللَّيْل. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: الْبَيْت الَّذِي ولد فِيهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هُوَ فِي دَار مُحَمَّد بن يُوسُف، كَانَ عقيل بن أبي طَالب أَخذه حِين هَاجر النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَفِيه فِي غَيره يَقُول النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَام حجَّة الْوَدَاع " وَهل ترك لنا عقيل من ظلّ؟ " فَلم يزل بِيَدِهِ وبيد وَلَده حَتَّى بَاعه وَلَده من

ص: 184

مُحَمَّد بن يُوسُف أَخ الْحجَّاج فَأدْخلهُ فِي دَاره الَّتِي يُقَال لَهَا الْبَيْضَاء ثمَّ تعرف بدار ابْن يُوسُف، فَلم يزل ذَلِك الْبَيْت فِي الدَّار حَتَّى حجت الخيزران أم الخليفتين مُوسَى الْهَادِي وَهَارُون الرشيد فَجَعَلته مَسْجِدا تصلي فِيهِ وأخرجته من الدَّار، وأشرعته فِي الزقاق الَّذِي على أصل تِلْكَ الدَّار يُقَال لَهُ: زقاق المولد. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: سَمِعت جدي ويوسف بن مُحَمَّد يثبتان أَمر المولد وَأَنه ذَلِك الْبَيْت لَا اخْتِلَاف فِيهِ عِنْد أهل مَكَّة، وَعَن سُلَيْمَان بن أبي مرحب مولى بني جشم قَالَ: حَدثنِي نَاس كَانُوا يسكنون ذَلِك الْبَيْت قبل أَن تنزعه الخيزران من الدَّار ثمَّ انتقلوا عَنهُ حِين جعل مَسْجِدا، قَالُوا: لَا وَالله مَا أَصَابَنَا فِيهِ جَائِحَة وَلَا حَاجَة فأخرجنا مِنْهُ فَاشْتَدَّ الزَّمَان علينا. رَوَاهُ الْأَزْرَقِيّ. وَمَوْضِع سقطه صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَسْجِد مَعْرُوف حَتَّى الْآن، وَهُوَ مَوضِع مثل التَّنور الصَّغِير. قَالَ السُّهيْلي: ولد بِالشعبِ وَقيل: بِالدَّار الَّتِي عِنْد الصَّفَا، وَكَانَت بعد لمُحَمد بن يُوسُف أَخ الْحجَّاج ثمَّ بنتهَا زبيدة مَسْجِدا حِين حجت. انْتهى. وَهَذَا غَرِيب وَأغْرب من هَذَا مَا قيل: إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم ولد بالردم. وَقيل: بعسفان. ذكر هذَيْن الْقَوْلَيْنِ مغلطاي فِي سيرته. وَالْمرَاد بالردم: دور بني جمح بِمَكَّة على مَا ذكر الْبكْرِيّ، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الرَّدْم الَّذِي بِأَعْلَى مَكَّة؛ لِأَن ذَلِك لم يكن إِلَّا فِي خلَافَة عمر رضي الله عنه، وَالْمَعْرُوف من مَوضِع مولده صلى الله عليه وسلم مَا سبق. وَمِمَّنْ عمّر هَذَا الْبَيْت الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَولا النَّاصِر العباسي سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة، ثمَّ المظفر صَاحب الْيمن فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة، ثمَّ حفيده الْملك الْمُجَاهِد عَليّ بن الْمُؤَيد سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة وَبعد ذَلِك غير مرّة. وَمِنْهَا: الْموضع الَّذِي يُقَال لَهُ: مولد عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه وَهَذَا الْموضع مَشْهُور عِنْد النَّاس بِقرب مولد النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِأَعْلَى الشّعب الَّذِي فِيهِ المولد وَلم يذكرهُ الْأَزْرَقِيّ، وَذكره ابْن جُبَير. وعَلى بَابه حجر مَكْتُوب فِيهِ هَذَا مولد أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب، وَفِيه ربى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَفِي الْحجر مَكْتُوب إِن النَّاصِر العباسي أَمر بِعَمَلِهِ فِي سنة ثَمَان وسِتمِائَة. وَقيل: ولد عَليّ بن أبي طَالب فِي جَوف الْكَعْبَة. وَهَذَا ضَعِيف عِنْد الْعلمَاء

ص: 185

كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي " تَهْذِيب الْأَسْمَاء ". وَالْمَعْرُوف مَا قدمْنَاهُ. وَفِي هَذَا الْبَيْت مَوضِع مثل التَّنور يُقَال: إِنَّه مسْقط رَأس عَليّ بن أبي طَالب. قَالَ سعد الدّين الإسفرائيني فِي كتاب " زبدة الْأَعْمَال ": وَفِي جِدَاره فِي الزاوية حجر مركب يُقَال: كَانَ هَذَا الْحجر يكلم النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَمِنْهَا: الْموضع الَّذِي يُقَال لَهُ: مَوضِع حَمْزَة بن عبد الْمطلب عَم النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِأَسْفَل مَكَّة بِقرب بَاب الماجن عِنْد عين باذان. وَمِنْهَا: الْموضع الَّذِي يُقَال لَهُ: مولد عمر بن الْخطاب رضي الله عنه فِي الْجَبَل الَّذِي تسميه أهل مَكَّة النوبى بِأَسْفَل مَكَّة. وَمِنْهَا: الْموضع الَّذِي يُقَال لَهُ: مولد جَعْفَر بن أبي طَالب فِي الدَّار الْمَعْرُوفَة بدار أبي سعيد عِنْد دَار العجلة، وعَلى بَابه حجر مَكْتُوب فِيهِ: هَذَا مولد جَعْفَر الصَّادِق ودخله النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَفِيه أَن بعض المجاورين عمره فِي صفر سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة. وَأما الدّور الْمُبَارَكَة بِمَكَّة: فَاعْلَم أَن بِمَكَّة دوراً مباركة مَعْرُوفَة عِنْد النَّاس غالبها مَسَاجِد، وَلكنهَا اشتهرت بالدور عِنْد أهل مَكَّة فَلذَلِك أفردناها بِالذكر عَن الْمَسَاجِد. مِنْهَا: دَار أم الْمُؤمنِينَ خَدِيجَة رضي الله عنها بالزقاق الْمَعْرُوف بزقاق الْحجر، وَيُقَال لَهُ قَدِيما: زقاق العطارين كَمَا ذكره الْأَزْرَقِيّ. وَيُقَال لهَذِهِ الدَّار: مولد فَاطِمَة رضي الله عنها لِأَن فِيهَا ولدت. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: كَانَ يسكنهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَخَدِيجَة، وفيهَا ابْنَتي بخديجة، وَولدت فِيهَا أَوْلَادهَا جَمِيعًا، وفيهَا توفيت، فَلم يزل النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيهَا سَاكِنا حَتَّى خرج إِلَى الْمَدِينَة مُهَاجرا، فَأَخذهَا عقيل بن أبي طَالب، واشتراها مِنْهُ مُعَاوِيَة وَهُوَ خَليفَة فَجَعلهَا مَسْجِدا يصلى فِيهِ وبناها بناءها هَذَا، وَفتح مُعَاوِيَة فِيهَا بَابا من دَار أبي سُفْيَان بن حَرْب وَهُوَ قَائِم إِلَى الْيَوْم وَهِي الدَّار الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:" من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن ". قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَفِي بَيت خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا

ص: 186

هَذَا صفيحة من حجر مَبْنِيّ عَلَيْهَا فِي الْجدر جدر الْبَيْت الَّذِي يسكنهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد اتخذ قُدَّام الصفيحة مَسْجِدا، وَهَذِه الصفيحة مُسْتَقلَّة فِي الْجدر من الأَرْض قدر مَا يجلس تحتهَا الرجل، وذرعها ذِرَاع فِي ذِرَاع وشبر. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: سَأَلت جدي ويوسف بن مُحَمَّد وَغَيرهمَا من أهل الْعلم من أهل مَكَّة عَن هَذِه الصفيحة وَلم جعلت هُنَاكَ، وَقلت لَهُم: إِنِّي أسمع النَّاس يَقُولُونَ: إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يجلس تَحت تِلْكَ الصفيحة فيستدرى بهَا من الرَّمْي بِالْحِجَارَةِ إِذا جَاءَهُ من دَار أبي لَهب وَدَار عدي بن أبي الْحَمْرَاء الثَّقَفِيّ، فأنكروا ذَلِك وَقَالُوا: لم نسْمع بِهَذَا من ثَبت، وَلَقَد سمعنَا من يذكرهَا من أهل الْعلم فَأصْبح مَا انْتهى إِلَيْنَا من خبر ذَلِك أَن أهل مَكَّة كَانُوا يتخذون فِي بُيُوتهم صَفَائِح من حِجَارَة تكون شبه الرفاف، يوضع عَلَيْهَا الْمَتَاع وَالشَّيْء من الصبى والداجن يكون فِي الْبَيْت، فَقل بَيت يَخْلُو من تِلْكَ الرفاف. انْتهى. وغالب هَذِه الدَّار الْآن على صفة الْمَسْجِد وفيهَا قبَّة يُقَال لَهَا: قبَّة الْوَحْي. قَالَ سعد الدّين الإسفرائيني وَفِي هَذِه الْقبَّة حُفْرَة عِنْد الْبَاب يَقُول: كَانَ يجلس النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيهَا وَقت نزُول الْوَحْي جِبْرِيل عليه السلام يجلس فِي محراب الْقبَّة. انْتهى. وَإِلَى جنبها مَوضِع يزوره النَّاس مَعهَا يسمونه المختبئ، ويتصل بِهَذِهِ الْقبَّة أَيْضا الْموضع الَّذِي ولدت فِيهِ فَاطِمَة رضي الله عنها. قَالَ سعد الدّين الإسفرائيني: وَفِي بَيت من بيُوت هَذِه الدَّار حُفْرَة مثل التَّنور يَقُولُونَ: إِنَّهَا مسْقط رَأس فَاطِمَة رضي الله عنها قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: هَذِه الدَّار أفضل الْأَمَاكِن بعد الْمَسْجِد الْحَرَام. وَمِمَّنْ عمرها النَّاصِر العباسي، وَعمر مِنْهَا شَيْء فِي دولة الْملك الْأَشْرَف شعْبَان صَاحب مصر، وَفِي أول دولة الْملك النَّاصِر فرج صَاحب مصر، وَمِمَّا عمر فِي دولته قبَّة الْوَحْي بعد سُقُوطهَا، وَيذكر أَن الْقبَّة الَّتِي كَانَت قبل هَذِه الْقبَّة من عمَارَة الْملك المظفر صَاحب الْيمن، وَفِي الرواق الْمُقدم من هَذِه الدَّار مَكْتُوب: إِن المقتدر العباسي أَمر بِعَمَلِهِ، وَإِلَى جَانب هَذِه الدَّار حوش كَبِير عمره النَّاصِر العباسي، وَوَقفه على مصَالح دَار خَدِيجَة رضي الله عنها على مَا هُوَ مَوْجُود فِي حجر مَكْتُوب فِيهِ ذَلِك على بَاب الحوش، وَفِيه أَيْضا إِن هَذَا الْموضع مربد فَاطِمَة رضي الله عنها. وَمِنْهَا: دَار أبي بكر الصّديق بزقاق الْحجر وَيُقَال لَهُ: زقاق الْمرْفق أَيْضا، وَهَذِه الدَّار مَعْرُوفَة مَشْهُورَة، وعَلى

ص: 187

بَابهَا حجر مَكْتُوب فِيهِ: إِنَّهَا دَار أبي بكر الصّديق رضي الله عنه وَإِنَّهَا عمرت بِأَمْر الْأَمِير الْكَبِير نور الدّين عمر بن عَليّ بن رَسُول الْملك المَسْعُودِيّ فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة، ويقابل هَذِه الدَّار حجر فِي جِدَار يُقَال: إِنَّه الَّذِي كلم النَّبِي صلى الله عليه وسلم على مَا ذكره ابْن رشيد بِضَم الرَّاء فِي رحلته نقلا عَن الْعلم أَحْمد بن أبي بكر بن خَلِيل الْعَسْقَلَانِي، عَن عَمه سُلَيْمَان بن خَلِيل، عَن ابْن أبي الصَّيف عَن الميانشي عَن كل من لقِيه بِمَكَّة، وَذكر ذَلِك ابْن جُبَير وَالنَّاس يتبركون بمسح هَذَا الْحجر إِلَى الْآن. وَذكر سعد الدّين الإسفرائيني فِي كتاب " زبدة الْأَعْمَال ": أَن أهل مَكَّة يَمْشُونَ فِي المواليد من دَار خَدِيجَة إِلَى مَسْجِد يَقُولُونَ: إِنَّه كَانَ دكان أبي بكر الصّديق رضي الله عنه كَانَ يَبِيع فِيهِ الْخَزّ، وَأسلم فِيهِ على يَد عُثْمَان بن عَفَّان وَطَلْحَة بن الزبير وَغَيرهم من الصَّحَابَة قَالَ وَفِي جِدَار هَذَا الدّكان أثر مرفق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يرْوى: أَنه جَاءَ دكان أبي بكر ذَات يَوْم واتكئ على هَذَا الْجِدَار ونادى بِأبي بكر مرَّتَيْنِ. قَالَ: وَفِي هَذَا الزقاق حجر مركب على جِدَار يزوره النَّاس وَيَقُولُونَ: هَذَا الْحجر سلم على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليَالِي بعث. انْتهى. وروى التِّرْمِذِيّ وَمُسلم أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنِّي لأعرف حجرا بِمَكَّة كَانَ يسلم عَليّ قبل أَن ينزل على ". قَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف: وَفِي بعض المسندات زِيَادَة أَن هَذَا الْحجر الَّذِي كَانَ يسلم عَلَيْهِ هُوَ الْحجر الْأسود. قَالَ: وَهَذَا التَّسْلِيم الْأَظْهر فِيهِ أَن يكون حَقِيقَة، وَأَن يكون الله أنطقه إنطاقاً كَمَا خلق الحنين فِي الْجذع، وَلَيْسَ من شَرط الْكَلَام الَّذِي هُوَ حرف وَصَوت الْحَيَاة وَالْعلم والإرادة؛ لِأَنَّهُ صَوت كَسَائِر الْأَصْوَات، وَالصَّوْت عرض فِي قَول الْأَكْثَرين، وَلم يُخَالف فِيهِ إِلَّا النظام فَإِنَّهُ زعم أَنه جسم وَجعله الْأَشْعَرِيّ اصطكاكاً فِي الْجَوَاهِر بَعْضهَا لبَعض فَهُوَ عِنْده من الأكوان وَقَالَ أَبُو بكر بن الطّيب: لَيْسَ الصَّوْت نفس الاصطكاك وَلكنه معنى زَائِد عَلَيْهِ. قَالَ السُّهيْلي: وَلَو قَدرنَا الْكَلَام صفة قَائِمَة بِنَفس الْحجر، وَالصَّوْت عبارَة عَنهُ، لم يكن بُد من اشْتِرَاط الْحَيَاة وَالْعلم مَعَ الْكَلَام، وَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ، أَكَانَ كلَاما مَقْرُونا بحياة وَعلم، فَيكون الْحجر بِهِ مُؤمنا، أم كَانَ صَوتا

ص: 188

مُجَردا غير مقرون بحياة؟ وَفِي كلا الْوَجْهَيْنِ هُوَ علم من أَعْلَام النُّبُوَّة. وَأما حنين الْجذع فقد سمي حنيناً، وَحَقِيقَة الحنين تَقْتَضِي شَرط الْحَيَاة، وَيحْتَمل تَسْلِيم الْحِجَارَة أَن يكون مُضَافا فِي الْحَقِيقَة إِلَى مَلَائِكَة يسكنون تِلْكَ الْأَمَاكِن ويعمرونها فَيكون مجَازًا من بَاب قَوْله:" واسأل الْقرْيَة ". وَالْأول أظهر. انْتهى كَلَامه. الزقاق حجر مركب على جِدَار يزوره النَّاس وَيَقُولُونَ: هَذَا الْحجر سلم على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليَالِي بعث. انْتهى. وروى التِّرْمِذِيّ وَمُسلم أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنِّي لأعرف حجرا بِمَكَّة كَانَ يسلم عَليّ قبل أَن ينزل على ". قَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف: وَفِي بعض المسندات زِيَادَة أَن هَذَا الْحجر الَّذِي كَانَ يسلم عَلَيْهِ هُوَ الْحجر الْأسود. قَالَ: وَهَذَا التَّسْلِيم الْأَظْهر فِيهِ أَن يكون حَقِيقَة، وَأَن يكون الله أنطقه إنطاقاً كَمَا خلق الحنين فِي الْجذع، وَلَيْسَ من شَرط الْكَلَام الَّذِي هُوَ حرف وَصَوت الْحَيَاة وَالْعلم والإرادة؛ لِأَنَّهُ صَوت كَسَائِر الْأَصْوَات، وَالصَّوْت عرض فِي قَول الْأَكْثَرين، وَلم يُخَالف فِيهِ إِلَّا النظام فَإِنَّهُ زعم أَنه جسم وَجعله الْأَشْعَرِيّ اصطكاكاً فِي الْجَوَاهِر بَعْضهَا لبَعض فَهُوَ عِنْده من الأكوان وَقَالَ أَبُو بكر بن الطّيب: لَيْسَ الصَّوْت نفس الاصطكاك وَلكنه معنى زَائِد عَلَيْهِ. قَالَ السُّهيْلي: وَلَو قَدرنَا الْكَلَام صفة قَائِمَة بِنَفس الْحجر، وَالصَّوْت عبارَة عَنهُ، لم يكن بُد من اشْتِرَاط الْحَيَاة وَالْعلم مَعَ الْكَلَام، وَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ، أَكَانَ كلَاما مَقْرُونا بحياة وَعلم، فَيكون الْحجر بِهِ مُؤمنا، أم كَانَ صَوتا مُجَردا غير مقرون بحياة؟ وَفِي كلا الْوَجْهَيْنِ هُوَ علم من أَعْلَام النُّبُوَّة. وَأما حنين الْجذع فقد سمي حنيناً، وَحَقِيقَة الحنين تَقْتَضِي شَرط الْحَيَاة، وَيحْتَمل تَسْلِيم الْحِجَارَة أَن يكون مُضَافا فِي الْحَقِيقَة إِلَى مَلَائِكَة يسكنون تِلْكَ الْأَمَاكِن ويعمرونها فَيكون مجَازًا من بَاب قَوْله:" واسأل الْقرْيَة ". وَالْأول أظهر. انْتهى كَلَامه. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه فِي ذكر تَسْلِيم الْحجر وَالشَّجر عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عَن جَابر بن سَمُرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي لأعرف حجرا بِمَكَّة كَانَ يسلم عليّ قبل أَن أبْعث، وَإِنِّي لأعرفه الْآن ". أخرجه مُسلم وَأَبُو حَاتِم، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَقَالَ:" كَانَ يسلم عليّ ليَالِي بعثت ". وَقَالَ: حسن غَرِيب. وَقَالَ عِيَاض: قيل: إِنَّه الْحجر الْأسود. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَالظَّاهِر أَنه غَيره، فَإِن شَأْن الْحجر الْأسود عَظِيم، وَلَو كَانَ إِيَّاه لذكر وَلما أنكرهُ، قَالَ: وَالْيَوْم بِمَكَّة حجر عِنْد أبنية تعرف بدكان أبي بكر، أخبرنَا شَيخنَا أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن خَلِيل أَن أكَابِر أَشْيَاخ أهل مَكَّة أخبروا أَنه الْحجر الَّذِي كَانَ يسلم عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم. انْتهى كَلَام الطَّبَرِيّ. وَقَالَ الْمرْجَانِي فِي " بهجة النُّفُوس ": قيل: هُوَ الْحجر الْأسود. وَقيل: الْحجر المستطيل بِبَاب دَار أبي سُفْيَان بزقاق الْحجر. قَالَ: وَهَذَا الْحجر على الدَّار بَاقٍ إِلَى الْيَوْم. انْتهى. وَهُوَ كَذَلِك بَاقٍ إِلَى الْآن. وَمِنْهَا: دَار الأرقم بن أبي الأرقم المَخْزُومِي الْمَعْرُوفَة بدار الخيزران الَّتِي عِنْد الصَّفَا، وَالْمَقْصُود من زيارتها مَسْجِد مَشْهُور فِيهَا. ذكره الْأَزْرَقِيّ وَذكر أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ مختفياً فِيهِ، وَأَن فِيهِ أسلم عمر بن الْخطاب. وَقَالَ غَيره: كَانَ صلى الله عليه وسلم مستتراً فِيهِ فِي بَدْء الْإِسْلَام، وَكَانَ بِهِ اجْتِمَاع من أسلم من الصَّحَابَة، وَبِه أسلم عمر بن الْخطاب وَحَمْزَة وَغَيرهمَا، وَمِنْه ظهر الْإِسْلَام وَله أَيْضا فضل كثير، قَالَ " الأرقم " الْمرْجَانِي: وأرقم بن أبي الأرقم اشْترى الْمهْدي دَاره بسبعة عشر ألف دِرْهَم، ووهبها للخيزران أم الخليفتين الْهَادِي والرشيد.

ص: 189

قَالَ سعد الدّين الإسفرائيني: وَالْمَسْجِد الَّذِي فِي هَذِه الدَّار بنته جَارِيَة الْمهْدي، وَمِمَّنْ عمر هَذَا الْمَسْجِد الْوَزير الْجواد ثمَّ الْمُسْتَنْصر العباسي، وَعمر فِي آخر الْقرن الثَّامِن بعض المجاورات. وَمِنْهَا: دَار الْعَبَّاس رضي الله عنه عَم النَّبِي صلى الله عليه وسلم الَّتِي بالمسعى الْمُعظم، وَهِي الْآن رِبَاط يسكنهُ الْفُقَرَاء. وَمن الدّور الْمُبَارَكَة بِمَكَّة رِبَاط الْمُوفق بِأَسْفَل مَكَّة. وَتقدم فِي كتاب الْمَنَاسِك فِي ذكر الْأَمَاكِن المستجاب فِيهَا الدُّعَاء أَنه يُسْتَجَاب فِيهِ الدُّعَاء. وَمِنْهَا: معبد الْجُنَيْد بلحف الْجَبَل الَّذِي يُقَال لَهُ: الْأَحْمَر أحد أخشبي مَكَّة، وَهُوَ مَشْهُور عِنْد النَّاس. وَقَالَ سعد الدّين الإسفرائيني: إِنَّه معبد الْجُنَيْد ومعبد إِبْرَاهِيم بن أدهم. وَأما الْجبَال الْمُبَارَكَة بِمَكَّة وحرمها: فَمِنْهَا: الْجَبَل الْمَعْرُوف بِأبي قبيس، وَهُوَ الْجَبَل المشرف على الصَّفَا وَهُوَ أحد أخشبي مَكَّة، وَالْآخر الْأَحْمَر، وَإِنَّمَا سمي أَبَا قبيس لثَلَاثَة أوجه؛ أَحدهمَا: أَنه سمي بِرَجُل من إياد يُقَال لَهُ: أَبُو قبيس بنى فِيهِ فَلَمَّا صعد الْبناء فِيهِ سمي جبل أبي قبيس كَذَا ذكر الْأَزْرَقِيّ، وَقيل: إِن هَذَا الْجَبَل من مذْحج ذكره ابْن الْجَوْزِيّ. وَالثَّانِي: أَن الْحجر الْأسود استودع فِيهِ عَام الطوفان، فَلَمَّا بنى الْخَلِيل الْكَعْبَة نَادَى أَبُو قبيس: الرُّكْن منى بمَكَان كَذَا وَكَذَا كَمَا قدمْنَاهُ. وَالثَّالِث: سمي بقبيس ابْن سالح رجل من جرهم كَانَ قد وشى بَين عَمْرو بن مضاض وَبَين ابْنة عَمه ميّة، فنذرت أَن لَا تكَلمه وَكَانَ شَدِيد الكلف بهَا، فحلق ليقْتلن قبيساً فهرب مِنْهُ فِي الْجَبَل الْمَعْرُوف بِهِ وَانْقطع خَبره، فإمَّا مَاتَ فِيهِ وَإِمَّا تردى مِنْهُ، وَهُوَ خبر طَوِيل ذكره ابْن هِشَام فِي عبر السِّيرَة. وَصحح النَّوَوِيّ فِي " التَّهْذِيب " الْوَجْه الأول، وَقَالَ: إِن الْوَجْه الثَّانِي ضَعِيف أَو غلط. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: الأول أشهر عِنْد أهل مَكَّة وَكَانَ يُسمى فِي الْجَاهِلِيَّة الْأمين؛ للمعنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْوَجْه الثَّانِي وَهَذَا مِمَّا يقويه ويرجحه على الْوَجْهَيْنِ الْأَخيرينِ.

ص: 190

وَالله أعلم. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: أول جبل وَضعه الله على الأَرْض حِين مادت أَبُو قبيس ثمَّ حدثت مِنْهُ الْجبَال ذكره الْأَزْرَقِيّ والواحدي، وقبر آدم فِيهِ على مَا قَالَ وهب بن مُنَبّه فِي غَار يُقَال لَهُ: غَار الْكَنْز وَهُوَ غير مَعْرُوف الْآن. وَقيل: إِن قَبره بِمَسْجِد الْخيف بعد أَن صلى عَلَيْهِ جِبْرِيل عِنْد بَاب الْكَعْبَة حَكَاهُ الفاكهي عَن عُرْوَة بن الزبير، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي " درياق الْقُلُوب " وَقَالَ " دَفَنته الْمَلَائِكَة بِهِ. وَقيل: عِنْد مَسْجِد الْخيف ذكره الذَّهَبِيّ، وَفِي منسك الْفَارِسِي. وَقيل: عِنْد مَنَارَة مَسْجده، وَقيل: قَبره فِي الْهِنْد فِي الْموضع الَّذِي أهبط إِلَيْهِ من الْجنَّة وَصَححهُ الْحَافِظ ابْن كثير. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: إِن قبر آدم وَإِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب ويوسف فِي بَيت الْمُقَدّس. وَقد تقدّمت هَذِه الْأَقْوَال مَعَ زِيَادَة فَوَائِد فِي أَوَائِل هَذَا الْبَاب. وَفِي أبي قبيس على مَا قيل: قبر شِيث بن آدم وَأمه حَوَّاء كَذَا ذكر الذَّهَبِيّ فِي جُزْء أَلفه فِي تَارِيخ مُدَّة آدم وبنيه؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَدفن شِيث مَعَ أَبَوَيْهِ فِي غَار أبي قبيس. وَتقدم فِي بَاب الْفَضَائِل وَغَيره حَدِيث الْكتاب الْمَوْجُود فِي الرُّكْن وَفِيه: أَن مَكَّة لَا تَزُول حَتَّى يَزُول أخشباها. وَتقدم فِي أول الْبَاب أَن إِبْرَاهِيم عليه السلام أذّن فِي النَّاس بِالْحَجِّ على أبي قبيس على أحد الْأَقْوَال. وَقَالَ ابْن النقاش فِي: فهم الْمَنَاسِك ": من صعد فِي كل جُمُعَة إِلَى أبي قبيس رأى الْحرم مثل الطير يزهر، وَإِن صعد إِلَى ثَوْر أَو حراء أَو ثبير كَانَ أثبت لنظره ومشاهدته، وخصوصاً ليَالِي رَجَب وَشَعْبَان ورمضان وليالي الأعياد. وجبال مَكَّة تسمى جبال فاران كَذَا وجد فِي الْفَصْل الْعشْرين من السّفر الْخَامِس عَن مُوسَى عليه السلام أَن الرب جَاءَ من طور سيناء وأشرق من ساعين واستعلن من جبال فاران فمجئ الله من طور سيناء هُوَ إنزاله التَّوْرَاة على مُوسَى، وإشراقه من " ساعين " إنزاله الْإِنْجِيل على عِيسَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ يسكن فِي " ساعين " أَرض الْخَلِيل فِي قَرْيَة ناصرة، واستعلانه من جبال فاران إنزاله الْقُرْآن على مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وفاران هِيَ جبال مَكَّة فِي قَول الْجَمِيع.

ص: 191

قَالَ عُلَمَاء التَّارِيخ: جَمِيع مَا عرف فِي الأَرْض من الْجبَال مائَة وَثَمَانِية وَتسْعُونَ جبلا، من أعجبها سرنديب، وَهُوَ أقرب ذرا الأَرْض إِلَى السَّمَاء. وَقيل: صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس أقرب ذرا الأَرْض من السَّمَاء بِثمَانِيَة عشر ميلًا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ. وَطول جبل سرنديب مِائَتَان ونيف وَسِتُّونَ ميلًا، فِيهِ أثر قدم آدم وَعَلِيهِ شبه الْبَرْق، لَا يذهب شتاء وَلَا صيفاً، وَحَوله الْيَاقُوت وَفِي واديه الماس، وَفِيه الْعود والفلفل ودابة الْمسك وهر الزباد، ووادي سرنديب مُتَّصِل إِلَى قرب سيلان. وجبل الرَّدْم الَّذِي فِيهِ السد طوله سَبْعمِائة فَرسَخ، وَيَنْتَهِي إِلَى الْبَحْر المظلم. وجبل قَاف من زمردة خضراء مُحِيط بالسموات وَالْأَرْض، وَمِنْه اخضرت السَّمَاء، دائر بِالْأَرْضِ من وَرَاء الْبَحْر الْمُحِيط وَالسَّمَاء عَلَيْهِ مقببة، وَمَا أصَاب النَّاس من زمرد كَانَ مِمَّا تساقط من ذَلِك الْجَبَل. وَقَالَ وهب: أشرف ذُو القرنين على جبل فَرَأى تَحْتَهُ جبالاً صغَارًا فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْت؟ قَالَ: أَنا قَاف. قَالَ: فَمَا هَذِه الْجبَال حولك؟ قَالَ: هِيَ عروقي وَمَا من مَدِينَة إِلَّا وفيهَا عرق من عروقي، فَإِذا أَرَادَ الله أَن يزلزل مَدِينَة أَمرنِي فحركت عرقي ذَلِك فتزلزل تِلْكَ الأَرْض. فَقَالَ: يَا قَاف أَخْبرنِي بِشَيْء من عَظمَة الله تَعَالَى. قَالَ: إِن شَأْن رَبنَا لعَظيم، وَإِن ورائي أَيْضا مسيرَة خَمْسمِائَة عَام فِي خَمْسمِائَة عَام من جبال ثلج، يحطم بَعْضهَا بَعْضًا لَوْلَا هِيَ لاحترقت من حر جَهَنَّم. قَالَ الْمرْجَانِي: وَاسم جبل قَاف عيلهون قَالَ: وَلأَجل هَذَا الِاسْم منع اسْتِعْمَال تِلْكَ الحفيظة حَكَاهُ الْمَازرِيّ، قَالَ: ووراء قَاف أَرض بَيْضَاء كافورية مثل الدُّنْيَا سبع مَرَّات، وَمن خلفهَا السَّبْعَة الأبحر: أَولهَا: يبطس، الثَّانِي: قيس، الثَّالِث: الْأَصَم، الرَّابِع: المظلم، الْخَامِس: مايس، السَّادِس: السَّاكِن، السَّابِع: الباكي وَهِي مُحِيطَة بَعْضهَا بِبَعْض حَكَاهُ الْكسَائي. قَالَ وهب: خلقهَا الله فِي الْيَوْم الثَّالِث. وَعَن أنس رضي الله عنه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لما تجلى الله لجبل طور سيناء تشظى مِنْهُ شظايا، فَنزلت بِمَكَّة ثَلَاثَة؛ حراء وقديد وثور، وبالمدينة أحد وعير وورقان ". وَعنهُ أَيْضا قَالَ: " صَار لِعَظَمَة الله سِتَّة أجبل، فَوَقَعت ثَلَاثَة بِالْمَدِينَةِ: أحد وورقان ورضوى، وَوَقعت ثَلَاثَة بِمَكَّة ثَوْر وثبير وحراء ". وَقيل: نزلت بِمَكَّة أَرْبَعَة حراء وثبير وثور وقديد. انْتهى.

ص: 192

قَالَ الْمرْجَانِي: وَلم نعلم أَن بحرم مَكَّة جبلا يُقَال لَهُ: قديداً، إِنَّمَا قديد بَينهَا وَبَينه مِقْدَار أَرْبَعَة أَيَّام أَو خَمْسَة. وَالطور اسْم الْجَبَل الَّذِي كلم الله عَلَيْهِ مُوسَى، وَهُوَ أحد جبال الْجنَّة، وَعَن عَمْرو بن عَوْف قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: " أَرْبَعَة جبال من جبال، أَو أَرْبَعَة أَنهَار من أَنهَار الْجنَّة، وَأَرْبَعَة ملاحم من ملاحم الْجنَّة ". قيل: فَمَا الأجبل؟ قَالَ: " أحد جبل يحبنا ونحبه، وَالطور من جبال الْجنَّة، ولبنان من جبال الْجنَّة وخصيب من جبال الْجنَّة وَهُوَ بِالرَّوْحَاءِ والأنهار: النّيل والفرات وسيحان وجيحان، والملاحم: بدر وَأحد وَالْخَنْدَق وخيبر ". قَالَ: التوربشتى شَارِح المصابيح وَفِي قَوْله صلى الله عليه وسلم: " أَرْبَعَة أَنهَار من أَنهَار الْجنَّة ". الحَدِيث وَجْهَان؛ أَحدهمَا: أَن نقُول: إِنَّمَا جعل الْأَنْهَار الْأَرْبَعَة من أَنهَار الْجنَّة؛ لما فِيهَا من السلاسلة والعذوبة والهضم وتضمنها الْبركَة الإلهية وتشرفها بورود الْأَنْبِيَاء إِلَيْهَا وشربهم مِنْهَا، وَذَلِكَ مثل قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي عَجْوَة الْمَدِينَة:" إِنَّهَا من ثمار الْجنَّة ". وَالْآخر أَن نقُول: يحْتَمل أَنه سمى الْأَنْهَار الَّتِي هِيَ أصُول أَنهَار الْجنَّة بِتِلْكَ الْأَسَامِي؛ ليعلم أَنَّهَا فِي الْجنَّة بِمَثَابَة الْأَنْهَار الْأَرْبَعَة فِي الدُّنْيَا، أَو لِأَنَّهَا مسميات بِتِلْكَ المسميات فَوَقع الِاشْتِرَاك فِيهَا. انْتهى. وَالطور هُوَ الَّذِي أقسم الله تَعَالَى بِهِ بقوله:" وَالطور وَكتاب مسطور ". لفضله على الْجبَال إِذْ روى أَن الله أوحى إِلَى الْجبَال أَنِّي مهبط على أحدكُم أَمْرِي يُرِيد رِسَالَة مُوسَى فتطاولت كلهَا إِلَّا الطّور فَإِنَّهُ استكان لأمر الله وَقَالَ: حسبي الله. فأهبط الله الْأَمر عَلَيْهِ ذكره ابْن عَطِيَّة. وَرُوِيَ أَن

ص: 193

الله تَعَالَى أوحى إِلَى الْجبَال أَن السَّفِينَة أَي سفينة نوح ترسو على وَاحِد مِنْهَا فتطاولت، وَبَقِي الجودي لم يَتَطَاوَل تواضعاً لله تَعَالَى فاستوت السَّفِينَة عَلَيْهِ وَبقيت عَلَيْهِ أعواده. وَقَالَ مُجَاهِد: تشامخت الْجبَال وتطاولت لِئَلَّا ينالها الْغَرق، فعلا المَاء فَوْقهَا خَمْسَة عشر ذِرَاعا، وتواضع الجودي فَلم يغرق ورست السَّفِينَة عَلَيْهِ. وَيُقَال: إِن الجودي من جبال الْجنَّة فَلهَذَا اسْتَوَت عَلَيْهِ. وَيُقَال أكْرم الله ثَلَاثَة جبال بِثَلَاثَة نفر: الجودي بِنوح، وطور سيناء بمُوسَى، وحراء بِمُحَمد صلى الله عليه وسلم ذكره الْقُرْطُبِيّ. وَقَالَ: لما تواضع الجودي وخضع عز، وَلما ارْتَفع غَيره واستعلا ذل، وَهَذِه سنة الله فِي خلقه يرفع من يخشع وَيَضَع من ترفع. وَلَقَد أحسن الْقَائِل: وَإِذا تذللت الرّقاب تخضعاً

منا إِلَيْك فعزها فِي ذلها وَمن ذَلِك قصَّة " الْقَصْوَاء " نَاقَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَت لَا تسبق فسبقها قعُود لأعرابي يَوْمًا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" إِن حَقًا على الله أَن لَا يرفع شَيْئا فِي الدُّنْيَا إِلَّا وَضعه ". انْتهى. وبحرم مَكَّة اثْنَا عشر ألف جبل ذكره الْأَزْرَقِيّ فِي الْجبَال، وَفِي أبي قبيس انْشَقَّ الْقَمَر للنَّبِي صلى الله عليه وسلم كَمَا ذكره الْحَافِظ قطب الدّين الْحلَبِي؛ لِأَنَّهُ قَالَ: كَانَ يرى نصفه على قعيقعان وَنصفه الآخر على أبي قبيس. وَذكر القطب أَن أَبَا نعيم الْحَافِظ روى بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس أَن ذَلِك يَعْنِي انْشِقَاق الْقَمَر لَيْلَة أَربع عشرَة فانشق الْقَمَر نِصْفَيْنِ نصفا على الصَّفَا وَنصفا على الْمَرْوَة. انْتهى. والصفا مَحْسُوب من أبي قبيس على مَا ذكره الْعلمَاء فَلَا يضاد مَا ذكره القطب من أَن نصف الْقَمَر على أبي قبيس. وَذكر الْقُرْطُبِيّ فِي ذَلِك خَبرا وَقَالَ: اجْتمع الْمُشْركُونَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: إِن كنت صَادِقا فاشقق لنا الْقَمَر فرْقَتَيْن؛ نصف على أبي قبيس وَنصف على قعيقعان. فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: " إِن فعلت تؤمنون بِي ". قَالُوا: نعم. وَكَانَت تِلْكَ لَيْلَة بدر فَسَأَلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ربه أَن يُعْطِيهِ مَا قَالُوا: فانشق الْقَمَر فرْقَتَيْن وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُنَادي الْمُشْركين: " يَا فلَان يَا فلَان، اشْهَدُوا ". وَأما كَون الانشقاق وَقع فِي أبي قبيس فِي الْموضع الَّذِي يَقُوله النَّاس

ص: 194

الْيَوْم فَلم أر مَا يدل على ذَلِك، وَقد اخْتلفت الْأَحَادِيث فِي مَوضِع انْشِقَاق الْقَمَر، فَفِي مُسْند عبد حميد وَالتِّرْمِذِيّ عَن أنس أَنه وَقع بِمَكَّة. وَفِي صَحِيح مُسلم حَدِيث ابْن مَسْعُود أَنه وَقع بمنى. وَفِي تَفْسِير ابْن عَطِيَّة: قَالَ ابْن مَسْعُود: رَأَيْته انْشَقَّ فَذهب فرقة وَرَاء جبل حراء. وَقد تقدم فِي الْأَمَاكِن المستجاب فِيهَا الدُّعَاء أَن الدُّعَاء يُسْتَجَاب فِي أبي قبيس، وَمن عجائبه مَا ذكر الْقزْوِينِي فِي كِتَابه " عجائب الْمَخْلُوقَات ": من أَنه يزْعم النَّاس أَن من أكل عَلَيْهِ الرَّأْس المشوي يَأْمَن أوجاع الرَّأْس، قَالَ: وَكثير من النَّاس يفعل ذَلِك. انْتهى. قَالَ قوام الدّين فِي " التَّبْيِين " شرح الأخسبكتي فِي بَاب حُرُوف الْمعَانِي: لما ذكر عَن الشَّافِعِي رضي الله عنه أَن الْوَاو للتَّرْتِيب، وَقَالَ: قد أنكر عَلَيْهِ أَصْحَابه فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَول لم يقل بِهِ أحد لمُخَالفَته لموضوع اللُّغَة، ثمَّ قَالَ قوام الدّين: وَالْعجب من الْغَزالِيّ حَيْثُ قرع صِفَات الْحسن الْبَصْرِيّ وَطعن على مَالك وشنع على أبي حنيفَة فِي آخر منخوله فَقَالَ: وَأما أَبُو حنيفَة فَلم يكن مُجْتَهدا، لِأَنَّهُ لَا يعرف اللُّغَة وَعَلِيهِ يدل قَوْله: لَو رَمَاه بأبو قبيس. ثمَّ غفل عَن سَهْو إِمَامه وَلَقَد صدقُوا فِي قَوْلهم: حبك للشَّيْء يعمى ويصم. وَالْجَوَاب عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا: إِنَّا نقُول: لَا نسلم أَن أَبَا حنيفَة تكلم بِهَذِهِ الْكَلِمَة أصلا وَمَا ذَاك إِلَّا افتراء عَلَيْهِ، فَأَي مَسْأَلَة تعلّقت بهَا وَأي كتاب من كتب أَصْحَابه حواها، وَأي دَلِيل دلّ عَلَيْهَا، وَالله وَالله إِن بعض الظَّن إِثْم. وَالثَّانِي: فَرضنَا أَنه تكلم بِمثل هَذِه الْكَلِمَة لَكِن لَا نسلم أَنه أَخطَأ؛ لِأَنَّهُ يجوز بطرِيق الْحِكَايَة مثل هَذَا لقَوْله: وجدنَا فِي كتاب بني تَمِيم

أَحَق الْخَيل بالركض المعار

ص: 195

بِرَفْع الْقَاف وَالرَّاء. وكقولهم: قَرَأت " سُورَة أنزلناها ". بِضَم سُورَة. وَقَوْلهمْ: بدأت بِالْحَمْد لله. بِضَم الدَّال، وَلَا تنكر الْحِكَايَة، وَهُوَ أَن ينْقل القَوْل على مَا كَانَ إِلَّا من لَا يمس بِعلم الْإِعْرَاب أَو من لَهُ مس من الْجُنُون، وَالْجُنُون فنون. وَالثَّالِث: فَرضنَا أَنه أَخطَأ كَمَا زعم هَذَا الْقَائِل، لَكِن لَا نسلم أَن الشَّخْص لَا يكون مُجْتَهدا إِذا أَخطَأ فِي شَيْء؛ لِأَن القَوْل بِإِصَابَة كل مُجْتَهد لَيْسَ بِمذهب الْمُسلمين، بل الْمُجْتَهد يجوز لَهُ الْخَطَأ وَالصَّوَاب؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمعصوم، ثمَّ نقُول: هلا أورد الْغَزالِيّ فِي كِتَابه مَا أَخذ أهل اللُّغَة على إِمَامه فِي أَشْيَاء من الْغَلَط.! الأول: قَوْله فِي " أَحْكَام الْقُرْآن ": " ذَلِك أدنى أَن لَا تعولُوا ". أَي: لَا تكْثر عيالكم، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا تميلوا، وَالثَّانِي: قَوْله فِي كِتَابه هَذَا: إِن الْوَاو للتَّرْتِيب، وَإِنَّمَا هِيَ لمُطلق الْجمع. وَالثَّالِث: قَوْله فِي كِتَابه: مَاء مالح، وَإِنَّمَا هُوَ مَاء ملح؛ لقَوْله تَعَالَى:" ملح أجاج ". وَالرَّابِع قَوْله: إِذا أشلى كَلْبه يُرِيد بِهِ أغراه وَإِنَّمَا يُقَال: أشلاه إِذا استدعاه. وَالْخَامِس: الْغرم الْهَلَاك، وَإِنَّمَا الْغرم اللُّزُوم إِلَى غير ذَلِك. ثمَّ الْغَزالِيّ شنع فِي كِتَابه " المنخول " فِي أَشْيَاء من غير حجَّة على دَعْوَاهُ وَلَا دَلِيل على مَا خيل لَهُ، وَالله إِنَّا كُنَّا نعتقده غَايَة الإعتقاد لأجل مَا جمع فِي " إحيائه " من كَلِمَات الْمَشَايِخ بِالنّظرِ إِلَى الظَّاهِر، ثمَّ لما رَأينَا طعنه على الْكِبَار بِلَا إِقَامَة برهَان حصل بِنَا مِنْهُ مَا حصل، وَلَقَد صدقُوا فِي قَوْلهم: تسمع بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ. اللَّهُمَّ ارزقنا الصدْق وَالْوَفَاء وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلاً للَّذين آمنُوا وهيئ لنا من أمرنَا رشدا. انْتهى كَلَام قوام الدّين وَهَذَا لَفظه. وَمِنْهَا: جبل حراء بِأَعْلَى مَكَّة وَهُوَ مَمْدُود، وَمِنْهُم من يذهب فِيهِ إِلَى التَّذْكِير فيصرفه، وَمِنْهُم من يذهب فِيهِ إِلَى التَّأْنِيث فيمنعه الصّرْف. وَهَذَا الْجَبَل من مَكَّة على ثَلَاثَة أَمْيَال كَمَا ذكره صَاحب الْمطَالع وَغَيره، وَهُوَ مُقَابل لثبير والوادي بَينهمَا، وهما على يسَار السالك إِلَى منى، وحراء قبلي ثبير مِمَّا يَلِي شمال الشَّمْس، وَأما ثَوْر فَمن جِهَة

ص: 196

الْجنُوب من على يَمِين الشَّمْس، و " يُسَمِّي هَذَا الْجَبَل بَعضهم جبل النُّور "، ولعمري إِنَّه كَذَلِك لِكَثْرَة مجاورة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وتعبده فِيهِ، وَمَا خصّه الله فِيهِ من الْكَرَامَة بالرسالة إِلَيْهِ ونزول الْوَحْي فِيهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي غَار فِي أَعْلَاهُ مَشْهُور يأثره الْخلف عَن السّلف رحمهم الله ويقصدونه بالزيارة، وَأما مَا ذكر الْأَزْرَقِيّ فِي تَارِيخه فِي ذكر الْجبَال: من أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَتَى هَذَا الْجَبَل واختبئ فِيهِ من الْمُشْركين فِي غَار فِي رَأسه مشرف مِمَّا يَلِي الْقبْلَة. فَقَالَ بعض من عاصرناه: إِن هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوف، وَالْمَعْرُوف أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يختبئ من الْمُشْركين إِلَّا فِي غَار ثَوْر بِأَسْفَل مَكَّة. انْتهى. وَيُؤَيّد مَا ذكره الْأَزْرَقِيّ مَا قَالَه القَاضِي عِيَاض ثمَّ الشهيلي فِي " الرَّوْض الْأنف "، أَن قُريْشًا حِين طلبُوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ على ثبير فَقَالَ لَهُ ثبير وَهُوَ على ظَهره: اهبط عني يَا رَسُول الله، فَإِنِّي أَخَاف أَن تقتل على ظَهْري فيعذبني الله، فناداه حراء إليّ يَا رَسُول الله. فَيحْتَمل أَن يكون النَّبِي صلى الله عليه وسلم اختبئ فِيهِ من الْمُشْركين فِي وَاقعَة ثمَّ اختفى فِي ثَوْر فِي وَاقعَة أُخْرَى وَهِي خبر الْهِجْرَة. وَقَالَ السُّهيْلي فِي حَدِيث الْهِجْرَة: وأحسب فِي الحَدِيث أَن ثوراً ناداه أَيْضا لما قَالَ لَهُ ثبير: اهبط عني. وَهَذَا الْغَار الَّذِي فِي الْجَبَل مَشْهُور بِالْخَيرِ وَالْبركَة؛ لحَدِيث بَدْء الْوَحْي الثَّابِت فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأورد ابْن أبي جَمْرَة سؤالاً وَهُوَ: أَنه لم اخْتصَّ صلى الله عليه وسلم بِغَار حراء فَكَانَ يَخْلُو فِيهِ ويتحنث دون غَيره من الْمَوَاضِع وَلم يُبدلهُ فِي طول تحنثه؟ وَأجَاب عَن ذَلِك بِأَن هَذَا الْغَار لَهُ فضل زَائِد على غَيره من قبل أَن يكون فِيهِ منزوياً مجموعاً لتحنثه وَهُوَ يبصر بَيت ربه وَالنَّظَر إِلَى الْبَيْت عبَادَة، فَكَانَ لَهُ اجْتِمَاع ثَلَاث عبادات وَهِي الْخلْوَة والتحنث وَالنَّظَر إِلَى الْبَيْت، وَجمع هَذِه الثَّلَاث أولى من الِاقْتِصَار على بَعْضهَا دون بعض، وَغَيره من الْأَمَاكِن لَيْسَ فِيهِ ذَلِك الْمَعْنى، فَجمع لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي المبادي كل حسن بَادِي. انْتهى. وَعَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: جَاءَت خَدِيجَة إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم بحيس وَهُوَ بحراء فَجَاءَهُ جِبْرِيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّد هَذِه خَدِيجَة قد جاءتك تحمل حَيْسًا مَعهَا وَالله يَأْمُرك أَن تقرئها السَّلَام وتبشرها بِبَيْت فِي الْجنَّة من قصب لَا صخب فِيهِ وَلَا نصب، فَلَمَّا أَن رقت

ص: 197

خَدِيجَة قَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم: " يَا خَدِيجَة إِن جِبْرِيل جَاءَنِي وَالله يُقْرِئك السَّلَام، ويبشرك بِبَيْت فِي الْجنَّة من قصب لَا صخب فِيهِ وَلَا نصب ". فَقَالَت خَدِيجَة: الله السَّلَام وَمن الله السَّلَام وعَلى جِبْرِيل السَّلَام. رَوَاهُ الْأَزْرَقِيّ. وَذكر الْمرْجَانِي فِي " بهجة النُّفُوس " عَجِيبَة قَالَ: خرجت فِي بعض الْأَيَّام إِلَى زِيَارَة حراء وَكَانَ يَوْم السبت الثَّانِي من جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة، وَكَانَ يَوْم غيم فَلَمَّا كَانَ بعد الظّهْر سَمِعت لبَعض تِلْكَ الحجار فِيهِ أصواتاً عَجِيبَة فَرفعت حجرين مِنْهَا فِي كل كف حجر، فَكنت أجد رعدة الْحجر فِي يَدي وَهُوَ يَصِيح، ثمَّ إِنِّي رفعت يَدي فصاحت كل وَاحِدَة من أصابعي أَيْضا وَكَانَ مَحل الصياح قامة من الأَرْض فَمَا كَانَ على سمتها صَاح وَمَا كَانَ أرفع من ذَلِك أَو أَخفض لم يتَكَلَّم فَعلمت أَن ذَلِك تَسْبِيح فدعوت الله تَعَالَى بِمَا تيَسّر فَلَمَّا طلعت الشَّمْس سكت فقست الشَّمْس فَوجدت ظلّ كل شَيْء مثله وَمثل ربعه فقدرته بعد ذَلِك بالإسطرلان فَكَانَت تِلْكَ هِيَ السَّاعَة الْعَاشِرَة وَكَانَ صَوت الْحجر يسمع من مدى مائَة خطْوَة قَالَ: فَذكرت مَا رَأَيْته لوالدي رحمه الله فَقَالَ: وَأَنا جرى لي بحراء شبه ذَلِك وَذَلِكَ أَنا كُنَّا جمَاعَة بائتين بِهِ وَكَانَت لَيْلَة غيم فَقُمْت فِي أثْنَاء اللَّيْل وَإِذا بإبريق للْفُقَرَاء وَشبه النَّار خَارج مِنْهُ وَقد أَضَاء الْمَكَان من ذَلِك قَالَ: فأيقظت الْجَمَاعَة وَكنت أفتح كفي فَيبقى على رَأس كل إِصْبَع شعلة نَار مثل الشمع قَالَ: فَوضعت عمامتي على عكاز ورفعته فَأشْعلَ كالشعل فَذَكرنَا ذَلِك لبَعض الصَّالِحين فَقَالَ: مرت بكم سَحَابَة السّكُون. قَالَ الْمرْجَانِي: والصفتان وَاحِدَة إِلَّا أَنِّي رَأَيْت ذَلِك نَهَارا فَكَانَ ضوءاً وهم رَأَوْهُ لَيْلًا فَكَانَ نورا قَالَ: ثمَّ إِنِّي صعدت الْجَبَل أَيْضا يَوْم السبت الثَّامِن عشر من شَوَّال سنة أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة وَكَانَ معي جمَاعَة مِنْهُم " بِهِ " فاتفق لي مثل ذَلِك وَرَآهُ الْجَمَاعَة. قَالَ الْمرْجَانِي: وحَدثني وَالِدي عَن بعض من أدْركهُ من كبراء وقته أَنه كَانَ يصعد مَعَه إِلَى حراء فِي كل عَام مرّة فيلتقط ذَلِك الشَّخْص من بعض الْحِجَارَة قَالَ: فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقَالَ: أخرج مِنْهَا نفقتي " بِهِ " الْعَام ذَهَبا إبريزاً. انْتهى كَلَام الْمرْجَانِي وَله شعر أنْشدهُ فِي فَضَائِل حراء وَمَا اخْتصَّ بِهِ من الكرامات وَهُوَ: تَأمل حراء فِي جمال محياه

فكم من أنَاس فِي حلا حسنه تاهوا

ص: 198

فمما حوى من هجا لعلياه زيراً

يفرج عَنهُ الْهم فِي حَال مرقاه بِهِ خلْوَة الْهَادِي الشَّفِيع مُحَمَّد

وَفِيه لَهُ غَار لَهُ كَانَ يرقاه وقبلته للقدس كَانَت بغاره

وَفِيه أَتَاهُ الْوَحْي فِي حَال مبداه وَفِيه تجلى الرّوح بالموقف الَّذِي

بِهِ الله فِي وَقت البداءه سواهُ وَتَحْت تخوم الأَرْض فِي السَّبع أَصله

وَمن بعد هَذَا اهتز بالسفل أَعْلَاهُ وَلما تجلى الله قدس ذكره

لطور تشظى فَهُوَ إِحْدَى شظاياه وَمِنْهَا ثيبر ثمَّ ثَوْر بِمَكَّة

كَذَا قد أَتَى فِي نقل تَارِيخ مبداه وَفِي طيبَة أَيْضا ثَلَاثًا نعدها

فعيراً وورقاناً وأحداً روينَاهُ وَيقبل فِيهِ سَاعَة الظّهْر من دَعَا

بِهِ وينادي من دَعَانَا أجبناه وَفِي أحد الْأَقْوَال فِي عقبت حرا

أَتَى ثمَّ قابيل لهابيل غشاه وَمِمَّا حوى سرا حوته صخوره

من التبر إكسيراً يُقَام سمعنها سَمِعت بِهِ تسبيحها غير مرّة

وأسمعته جمعا فَقَالُوا سمعناه بِهِ مَرْكَز النُّور الإلهي مثبتاً

فَللَّه مَا أحلى مقَاما بأعلاه قيل: كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيهِ إِلَى الْقُدس وَقيل: إِنَّمَا كَانَ يُصَلِّي ذَلِك الْوَقْت إِلَى الْكَعْبَة ثمَّ انْتقل إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ بعد ذَلِك تحول إِلَى الْكَعْبَة قَالُوا: وَفِي حراء رأى النَّبِي صلى الله عليه وسلم جِبْرِيل فِي الْخلقَة الأولى لَهُ سِتّمائَة جنَاح قد سد الْأُفق. وَمِنْهَا جبل ثَوْر بِأَسْفَل مَكَّة وَسَماهُ البكرى أَبَا ثَوْر وَالْمَعْرُوف فِيهِ ثَوْر كَمَا ذكره الْأَزْرَقِيّ والمحب الطَّبَرِيّ وَهُوَ من مَكَّة على ثَلَاثَة أَمْيَال كَمَا ذكره ابْن الْحَاج وَابْن جُبَير وَقَالَ الْبكْرِيّ: إِنَّه على ميلين من مَكَّة وَإِن ارتفاعه نَحْو ميل. قَالَ الْمرْجَانِي: وسمى الْجَبَل ثوراً وَإِنَّمَا اسْمه الْمحل سمي بثور بن مَنَاة بن طائخة؛ لِأَنَّهُ كَانَ ينزله. وَصَحَّ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَبا بكر الصّديق اختليا فِيهِ فِي غَار بِهِ وَهُوَ مَشْهُور يأثره الْخلف عَن السّلف، وَهُوَ الَّذِي ذكره الله سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآن فِي قَوْله: ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار " وَفِي حَدِيث الْهِجْرَة أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَبا بكر لَحقا بِغَار فِي جبل ثَوْر بِأَسْفَل مَكَّة فدخلاه وَأمر أَبُو بكر رضي الله عنه ابْنه عبد الله أَن يتسمع لَهما مَا يَقُول

ص: 199

النَّاس فيهمَا نَهَاره ثمَّ يأتيهما إِذا أَمْسَى بِمَا يكون فِي ذَلِك الْيَوْم من الْخَبَر وَأمر عَامر ابْن فهَيْرَة مَوْلَاهُ أَن يرْعَى غنمه نَهَاره ثمَّ يريحها عَلَيْهِمَا إِذا أَمْسَى فِي الْغَار وَكَانَت أَسمَاء بنت أبي بكر تأتيهما من الطَّعَام بِمَا يصلبهما فَأَقَامَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْغَار ثَلَاثًا وَمَعَهُ أَبُو بكر وَجعلت قُرَيْش فِيهِ حِين فقدوه مائَة نَاقَة لمن رده عَلَيْهِم وَكَانَ عبد الله بن أبي بكر يكون فِي قُرَيْش وَمَعَهُمْ يتسمع مَا يَقُولُونَ فِي شَأْن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأبي بكر ثمَّ يأتيهما إِذا أَمْسَى ويخبرهما الْخَبَر وَكَانَ عَامر ابْن فهَيْرَة مولى أبي بكر يرْعَى فِي رعيان أهل مَكَّة فَإِذا أَمْسَى أراح عَلَيْهِمَا غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا فَإِذا غَدا عبد الله بن أبي بكر من عِنْدهمَا إِلَى مَكَّة اتبع عَامر ابْن فهَيْرَة أَثَره بالغنم حَتَّى يعمى عَلَيْهِم حَتَّى إِذا مَضَت الثَّلَاث وَسكن عَنْهُم النَّاس أتاهما صَاحبهمَا الَّذِي استأجراه بعيرهما وأتتهما أَسمَاء بنت أبي بكر بسفرتهما وارتجلا الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِي رِوَايَة: لما دخلا غَار ثَوْر أَمر الله العنكبوت فَنسجَتْ على بَابه والراءة فَنَبَتَتْ وحمامتين وَحْشِيَّتَيْنِ فغشيتا على بَابه فأقاما فِي الْغَار بضعَة عشر يَوْمًا ثمَّ خرج مِنْهُ لَيْلَة الِاثْنَيْنِ لأَرْبَع لَيَال خلون من شهر ربيع الأول على نَاقَته الجذعاء. قَالَت أَسمَاء: فَمَكثْنَا ثَلَاثًا لَا نَدْرِي أَيْن وَجه النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَتَّى أنْشد رجل من الْجِنّ من أَسْفَل مَكَّة أبياتاً من الشّعْر وَأَن النَّاس يتبعونه يسمعُونَ صَوته وَمَا يرونه حَتَّى خرج من أَعلَى مَكَّة. ويروى أَن أَبَا بكر لما خرج مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مُتَوَجها إِلَى الْغَار جعل يمشي طوراً أَمَامه وطوراً خَلفه وطوراً عَن يَمِينه وطوراً عَن شِمَاله قَالَ: " مَا هَذَا يَا أَبَا بكر؟ " قَالَ: يَا رَسُول الله بِأبي أَنْت وَأمي أذكر الرصد فَأحب أَن أكون أمامك وأتخوف الطّلب فَأحب أَن أكون خَلفك وأحفظ الطَّرِيق يَمِينا وَشمَالًا فَقَالَ: " لَا بَأْس عَلَيْك يَا أَبَا بكر إِن الله مَعنا " قَالَ: وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم غير مخصر الْقدَم يطَأ بِجَمِيعِ قدمه الأَرْض وَكَانَ حافياً فحفى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَحمل رَسُول الله أَبُو بكر على كَاهِله حَتَّى انْتهى إِلَى الْغَار فَلَمَّا وَضعه ذهب النَّبِي صلى الله عليه وسلم ليدْخل فَقَالَ أَبُو بكر: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَا تدخل حَتَّى أَدخل فأسبره قبلك فَدخل رضي الله عنه فَجعل يلْتَمس بِيَدِهِ فِي ظلمَة اللَّيْل الْغَار مَخَافَة أَن يكون فِيهِ شَيْء يُؤْذِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا لم ير شَيْئا دخل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَكَانَا فِيهِ، فَلَمَّا

ص: 200

اسْتَقر بعض الْإِسْفَار رأى أَبُو بكر خرقاً فِي الْغَار فألقمه قدمه حَتَّى الصَّباح مَخَافَة أَن يخرج مِنْهُ هَامة أَو مَا يُؤْذِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. وَعَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ أَبُو بكر رضي الله عنه مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْغَار فعطش أَبُو بكر عطشاً شَدِيدا فَشكى إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذَلِك فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: " اذْهَبْ إِلَى صدر الْغَار فَاشْرَبْ ": فَانْطَلَقت إِلَى صدر الْغَار فَشَرِبت مَاء أحلى من الْعَسَل وأبيض من اللَّبن وأزكى رَائِحَة من الْمسك ثمَّ عدت إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: شربت؟ فَقلت: شربت يَا رَسُول الله فَقَالَ: " أَلا أُبَشِّرك؟ " فَقلت: بلَى فدَاك أبي وَأمي يَا رَسُول الله قَالَ صلى الله عليه وسلم: " إِن الله أَمر الْملك الْمُوكل بأنهار الْجنان أَن أخرق نَهرا من جنَّة الفردوس إِلَى صدر الْغَار ليشْرب أَبُو بكر " قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه: ولى عِنْد الله هَذِه الْمنزلَة؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " نعم وَأفضل وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبيا لَا يدْخل الْجنَّة مبغضك وَلَو كَانَ لَهُ عمل سبعين نَبيا ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَالتِّرْمِذِيّ عَن أبي بكر رضي الله عنه قَالَ: نظرت إِلَى أَقْدَام الْمُشْركين وَنحن فِي الْغَار وَهُوَ على رؤوسنا فَقلت: يَا رَسُول الله لَو أَن أحدهم نظر إِلَى قدمه أبصرنا تَحت قَدَمَيْهِ فَقَالَ: " يَا أَبَا بكر مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما " وَعَن طَلْحَة الْبَصْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: " لَبِثت مَعَ صَاحِبي يَعْنِي أَبَا بكر رضي الله عنه فِي الْغَار بضعَة عشر يَوْمًا

ص: 201

وَمَا لنا طَعَام إِلَّا ثَمَر البرير " قَالَ أَبُو دَاوُد: البرير الْأَرَاك. وَقد ثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ أَنَّهُمَا مكثا فِي الْغَار ثَلَاثًا وَهَذَا القَوْل هُوَ الرَّاجِح لإِجْمَاع أهل التَّارِيخ عَلَيْهِ وَيحْتَمل أَن يكون كلا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحا وَوجه الْجمع أَنَّهُمَا مكثا فِي الْغَار ثَلَاثًا وَيكون معنى الحَدِيث: مكثت مَعَ صَاحِبي مختفيين من الْمُشْركين فِي الطَّرِيق والغار بضعَة عشر يَوْمًا ويروى أَن الله تَعَالَى أَمر شَجَرَة لَيْلَة الْغَار فثبتت فِي وَجه النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَسترته وَأمر الله تَعَالَى حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَوَقَعَتَا بِفَم الْغَار وَأَقْبل فتيَان قُرَيْش من كل بطن رجل بِعِصِيِّهِمْ " وهراوتهم " وَسُيُوفهمْ حَتَّى إِذا كَانُوا من النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِقدر أَرْبَعِينَ ذِرَاعا تعجل رجل مِنْهُم لينْظر فِي الْغَار فَرَأى الحمامتين بِفَم الْغَار فَرجع إِلَى أَصْحَابه فَقَالُوا لَهُ: لم تنظر فِي الْغَار؟ فَقَالَ: رَأَيْت حَمَامَتَيْنِ بِفَم الْغَار فَعلمت أَنه لَيْسَ فِيهِ أحد فَسمع النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ فَعلم أَن الله تَعَالَى قد دَرْء عَنهُ بهما فَدَعَا لَهما وسمت عَلَيْهِمَا وَفرض أجزاءهما وانحدرا فِي الْحرم رَوَاهُ أَبُو مُصعب الْمَكِّيّ. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: اسْتَأْجر الْمُشْركُونَ رجلا يُقَال لَهُ: كرز بن عَلْقَمَة الْخُزَاعِيّ فقفا لَهُم الْأَثر حَتَّى أَتَى بهم إِلَى ثَوْر وَهُوَ بِأَسْفَل مَكَّة فَقَالَ: انْتهى إِلَى هَاهُنَا أَثَره فَمَا أَدْرِي أَخذ يَمِينا أم شمالاً أم صعد الْجَبَل

ص: 202

فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى فَم الْغَار قَالَ قَائِل مِنْهُم: ادخُلُوا الْغَار فَقَالَ أُميَّة بن خلف: مَا أربكم إِلَى الْغَار إِن عَلَيْهِ لعنكبوتاً كَانَ قبل مِيلَاد مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ثمَّ جَاءَ فَبَال فِي صدر الْغَار حَتَّى سَالَ بَوْله بَين يَدي النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأبي بكر، فَنهى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن قتل العنكبوت وَقَالَ:" إِنَّهَا لخيل من جنود الله تَعَالَى " رَوَاهُ عبد الْملك بن مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي فِي كتاب " شرف الْمُصْطَفى ". وَعَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ قَالَ: لما دخل النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْغَار دَعَا شَجَرَة كَانَت على بَاب الْغَار فَقَالَ لَهَا: ائْتِنِي فَأَقْبَلت حَتَّى وقفت على بَاب الْغَار قَالَ: وَكَانَ الَّذِي بَال مُسْتَقْبل الْغَار عَطِيَّة بن أبي معيط. وَفِي كتاب " الدَّلَائِل " للسيرقسطي: لما دخل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْغَار أنبت الله تَعَالَى على بَابه وَهِي شَجَرَة مَعْرُوفَة قَالَ أَبُو حنيفَة: هِيَ من أغلاف الشَّجَرَة وَتَكون مثل قامة الْإِنْسَان وَلها زهر أَبيض يحشى مِنْهُ المخاد وَقيل: هِيَ شَجَرَة أم غيلَان وَفِي مُسْند الْبَزَّار أَن الله تَعَالَى أرسل حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَوَقَعَتَا على وَجه الْغَار وَأَن نسل حمام الْحرم من نسل تِلْكَ الحمامتين. ذكره السُّهيْلي. وَفِي حَدِيث الْهِجْرَة وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " يَا أَبَا بكر مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما ". فَوَائِد مِنْهَا: بَيَان فضل أبي بكر الصّديق حَيْثُ قرنه النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِنَفسِهِ وَقَالَ: " مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما " مَعْنَاهُ ثالثهما بِالْحِفْظِ والعصمة والنصر والمعونة والتسدسد وَهُوَ دَاخل فِي قَوْله تَعَالَى: " إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون " وَقيل: هُوَ معنى قَوْله: " إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا " وَمِنْهَا عظم قدر النَّبِي صلى الله عليه وسلم وارتفاع شَأْنه وَتَعَالَى رتبته ومكانه عَن التأثر بنوائب الدُّنْيَا والتغير بمصائبها ومتاعبها حَيْثُ اهتم أَبُو بكر بوصولهم إِلَى بَاب الْغَار متبعين لأثرهما وَخَافَ من اطلاعهم عَلَيْهِمَا وَلم يهتم وَلم يبال بأمرهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَثَبت جأش أبي بكر وأزال روعه وطمأن نَفسه على أَن الْمُفَسّرين ذكرُوا أَن كَثْرَة خوف أبي بكر رضي الله عنه إِنَّمَا كَانَت لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا لنَفسِهِ، ويروى أَنه قَالَ لما خَافَ الطّلب: يَا رَسُول الله إِن قتلت فَأَنا رجل وَاحِد وَإِن أصبت

ص: 203

هَلَكت الْأمة وَفِيه بَيَان عظم توكل النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَتَّى فِي هَذَا الْمقَام. قَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه فَضِيلَة لأبي بكر وَهِي أجل مناقبه من أوجه أَحدهَا: هَذَا اللَّفْظ الْمُعْطى تكريمه وتعظيمه. وَثَانِيها: بذل نَفسه ومفارقته أَهله وَمَاله ورياسته فِي طَاعَة الله وَرَسُوله وملازمة النَّبِي صلى الله عليه وسلم ومعاداة النَّاس فِيهِ. وَثَالِثهَا: جعل نَفسه وقاية عَنهُ انْتهى كَلَامه قيل: وَرَابِعهَا تَخْصِيص الله تَعَالَى إِيَّاه فِي أَمر نبيه صلى الله عليه وسلم باستصحابه دون غَيره من سَائِر النَّاس وَمن فَوَائِد الحَدِيث بَيَان كَرَاهَة الْمكْث بَين الْكفَّار والفجار والفساق الَّذين لَا يتدينون بِالْحَقِّ وَلَا يُمكن حملهمْ عَلَيْهِ وَمِنْهَا جَوَاز التحصن بالقلاع عِنْد الْخَوْف من الْعَدو وَمِنْهَا: أَن تعهد الْأَسْبَاب فِي الحاجيات لَا يقْدَح فِي التَّوَكُّل والاعتماد على الله تَعَالَى وَمِنْهَا: أَنه يجوز الْأَخْذ بالحزم وَإِظْهَار ظن السوء المتوقع من الْعَدو، وَلَيْسَ ذَلِك من الظَّن الْمنْهِي عَنهُ لِأَن أَبَا بكر رضي الله عنه قَالَ: لَأَبْصَرنَا تَحت قَدَمَيْهِ وَلم يُنكر عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَمِنْهَا أَنه يجوز المسافرة بالرفيق الْوَاحِد عِنْد الْحَاجة بِلَا كَرَاهَة وَإِن ورد خير الرفقاء أَرْبَعَة فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لم يستصحب سوى أبي بكر وَمِنْهَا أَنه يجوز لأحد الْفَرِيقَيْنِ أَن يظْهر لصَاحبه خَوفه مِمَّا يخَاف مِنْهُ ليخفف عَن نَفسه ببث الشكوى وليكون صَاحبه وَاقِفًا على الْحَال مستعداً لما عساه أَن يعرض. وَمِنْهَا: أَنه يَنْبَغِي للمشكو إِلَيْهِ أَن يسكن جأش الشاكي ويعده الْجَمِيل من الله تَعَالَى ويحثه على حسن الظَّن بِهِ وَمِنْهَا: اسْتِعْمَال الْأَدَب فِي المخاطبات بِذكر الْإِنْسَان بكنيته وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يتَضَمَّن الْإِكْرَام لقَوْله صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا بكر. وَمِنْهَا: جَوَاز التكنية بِأبي فلَان وَإِن لم يكن للمكنى ابْن مُسَمّى بذلك إِذْ لم يكن لأبي بكر ابْن يُسمى بكرا. وَعَن غَالب بن عبد الله عَن أَبِيه عَن جده أَنه قَالَ: شهِدت مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لحسان بن ثَابت: " قلت فِي أبي بكر شَيْئا قل: حَتَّى أسمع " قَالَ: قلت: وَثَانِي اثْنَيْنِ فِي الْغَار المنيف وَقد

طَاف الْعَدو بِهِ إِذْ صاعد الجبلا وَكَانَ حب رَسُول الله قد علمُوا

من الْخَلَائق لم يعدل بِهِ بَدَلا فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَفِي الحَدِيث: بَيَان فضل جبل ثَوْر بِمَا خصّه الله بِهَذِهِ المزية الْكَرِيمَة والمنقبة الْعَظِيمَة من بَين سَائِر الأطواد والأعلام حَيْثُ جعله متحصن خير الْأَنَام وقلعة رَسُول الله وحبيبه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَفِيه: بَين فَضِيلَة هَذَا الْغَار الشريف على سَائِر المغائر حَيْثُ كَانَ صدفاً لأشرف الْجَوَاهِر، وكهفاً لكهف الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وكنفاً لكنف الْخَلَائق من الْأَوَّلين والآخرين وَأنْشد للرافعي: فَخص بِذكر الله خير مغار

وَلَا تتغافل عَن هجوم مغار وَكن حذرا من غيرَة الله واستقم

لَدَيْهِ لِئَلَّا تبتلى بصغار

ص: 204

وَقلت فِي " تَخْلِيص الزبدة فِي تخميس الْبردَة " عِنْد قَوْله: وَمَا حوى الْغَار من خير وَمن كرم. . الأبيات: فَهُوَ الَّذِي رِيقه يشفي من السقم

بتفله حلت الْآبَار فِي الطّعْم فاعجب لتغريد كالدر مُنْتَظم

وَمَا حوى الْغَار من جود وَمن كرم وكل طرف من الْكفَّار عَنهُ عمى

لما رَأَوْا غَار ثَوْر كلهم عميا

وَصَارَ بدر الدجى باللطف مختفيا وَقَالَ يَا صَاح لَا تحزن فَلَنْ يريَا

فالصدق فِي الْغَار وَالصديق لم يريَا وهم يَقُولُونَ مَا بِالْغَارِ من أَدَم

باض الْحمام بِهِ والعشب قد لمندلا

وَالْعَنْكَبُوت أجادت نسجها حللا وشجرة الرَّاء رمت فِي قلبهم عللا

ظنُّوا الْحمام وظنوا العنكبوت على خير الْبَريَّة لم تنسج وَلم يحم

فكم أسود بِنَار الْحَرْب عارفة

وَفِي مثاقفة بل فِي مسابقة وَفِي الدروع مَعَ التجفاف خائفة

وقاية الله أغنت عَن مضاعفة من الدروع وَعَن عَال من الأطم

قَالَ الْمرْجَانِي فِي " بهجة النُّفُوس ": وَذكر بعض الحمالين أَنه عرف رجلا كَانَ لَهُ جمَاعَة بَنِينَ وأموال كَثِيرَة وَأَنه أُصِيب فِي ذَلِك كُله فَلم يحزن على شَيْء من ذَلِك لقُوَّة صبره، قَالَ: فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقَالَ: إِنَّه روى أَن من دخل غَار ثَوْر الَّذِي آوى إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بكر رضي الله عنه وَسَأَلَ الله تَعَالَى أَن يذهب عَنهُ الْحزن لم يحزن على شَيْء من مصائب الدُّنْيَا وَقد فعلت ذَلِك فَمَا ترى مِنْهُ. قَالَ الْمرْجَانِي: والخاصة فِي ذَلِك من قَوْله تَعَالَى: " ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا ". قَالَ: وَرَأَيْت بِهَذَا الْجَبَل حَيَوَانا يُسمى الْحُلْقُوم لَهُ ألف كرَاع فِي مِائَتي رجل، ورأيته أَيْضا بِأَرْض الطَّائِف ونخله بالقدس من أَرض فلسطين. انْتهى. وَالنَّاس يدْخلُونَ غَار جبل ثَوْر من بَابه الضّيق وَمن بَابه المتسع وَبَعض النَّاس يتَجَنَّب دُخُوله من بَابه الضّيق وَيَقُولُونَ: من لم يدْخل مِنْهُ لَيْسَ لِأَبِيهِ. وَقد وسع الْبَاب الضّيق فِي زَمَاننَا لِأَن بعض النَّاس انحبس فِيهِ لما ولج فَلم يقدر أَن يخرج وَلَا يدْخل وَمكث على ذَلِك قَرِيبا من لَيْلَة فراح عَلَيْهِ المجاورون ووسعوا لَهُ وَقَطعُوا عَنهُ الْحجر

ص: 205