الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المأزر واعتلقوا الْحذاء وخلصوا الغدران، وَسمعت الرفاق الْمُقبلَة إِلَى الْمَدِينَة فِي ذَلِك الْيَوْم صائحاً يَصِيح فِي السَّحَاب: أَتَاك الْغَوْث أَبَا حَفْص أَتَاك الْغَوْث أَبَا حَفْص، كل ذَلِك ببركة المبتعث بالرحمتين الدَّاعِي إِلَى الحياتين الْمَوْعُود بهما على يَدَيْهِ فِي الدَّاريْنِ. انْتهى كَلَام السُّهيْلي. وَقَالَ فِي تفجير زَمْزَم جِبْرِيل بالعقب دون أَن يفجرها بِالْيَدِ أَو غَيرهَا: إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا لعقبه وراثة وَهُوَ مُحَمَّد وَأمته كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَجعلهَا كلمة بَاقِيَة فِي عقبه ". أَي: فِي أمة مُحَمَّد. انْتهى.
فصل: مَا جَاءَ فِي حفر عبد الْمطلب بن هَاشم زَمْزَم
عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: أول مَا ذكر من أَمر عبد الْمطلب بن هَاشم جد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن قُريْشًا خرجت فارة من أَصْحَاب الْفِيل وَهُوَ غُلَام شَاب، فَقَالَ: وَالله لَا أخرج من حرم الله أَبْتَغِي الْعِزّ فِي غَيره فَجَلَسَ عِنْد الْبَيْت، وأجلت عَنهُ قُرَيْش فَلم يزل ثَابتا فِي الْحرم حَتَّى أهلك الله الْفِيل وَأَصْحَابه، وَرجعت قُرَيْش وَقد عظم فِيهَا بصبره وتعظيمه محارم الله تَعَالَى، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ذَلِك وَقد ولد لَهُ أكبر بنيه وَهُوَ الْحَارِث بن عبد الْمطلب فَأدْرك، فَأتى عبد الْمطلب فِي الْمَنَام فَقَالَ لَهُ: احْفِرْ زَمْزَم خبئة الشَّيْخ الْأَعْظَم فَاسْتَيْقَظَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَين لي. فَأتي فِي الْمَنَام مرّة أُخْرَى فَقيل لَهُ: لحفرتكم بَين الفرث وَالدَّم فِي مَبْحَث الْغُرَاب فِي قَرْيَة النَّمْل مُسْتَقْبلَة الأنصاب الْحمر. فَقَامَ عبد الْمطلب فَمشى حَتَّى جلس فِي الْمَسْجِد الْحَرَام ينْتَظر مَا سمي لَهُ من الْآيَات، فنحرت بقرة بالحزورة، فجزرت تِلْكَ الْبَقَرَة فِي مَكَانهَا حَتَّى احْتمل لَحمهَا، فَأقبل غراب يهوي حَتَّى وَقع فِي الفرث فبحث عِنْد قَرْيَة النَّمْل، فَقَامَ عبد الْمطلب فحفر هُنَالك فَجَاءَتْهُ قُرَيْش فَقَالَت لعبد الْمطلب: مَا هَذَا الصنع؟ إِنَّا لم نَكُنْ نريك بِالْجَهْلِ لم تحفر فِي مَسْجِدنَا؟ فَقَالَ عبد الْمطلب: إِنِّي لحافر هَذِه الْبِئْر وَمُجاهد من صدني عَنْهَا. فَطَفِقَ هُوَ وَابْنه الْحَارِث يحفران وَلَيْسَ لَهُ ولد يَوْمئِذٍ غَيره، فسفه عَلَيْهِمَا نَاس من قُرَيْش فنازعوهما وقاتلوهما، وتناهى عَنهُ
نَاس من قُرَيْش لما يعلمُونَ من علو نسبه وَصدقه واجتهاده فِي دينهم، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَذَى نذر إِن وفى لَهُ عشرَة من الْوَلَد أَن ينْحَر أحدهم، ثمَّ حفر حَتَّى أدْرك سيوفاً دفنت فِي زَمْزَم حِين دفنت، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْش أَنه قد أدْرك السيوف قَالُوا: يَا عبد الْمطلب أجزنا مِمَّا وجدت. فَقَالَ عبد الْمطلب: هَذِه السيوف لبيت الله الْحَرَام. فحفر ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى انبط المَاء فِي الْقَرار ثمَّ بحرها حَتَّى لَا ينزف ثمَّ بنى عَلَيْهَا حوضاً، فَطَفِقَ هُوَ وَابْنه ينزعان فيملآن ذَلِك الْحَوْض فيشرب مِنْهُ الْحَاج، فيكسره نَاس من حسدة قُرَيْش بِاللَّيْلِ فَيُصْلِحهُ عبد الْمطلب حِين يصبح، فَلَمَّا أَكْثرُوا فَسَاده دَعَا عبد الْمطلب ربه فأري فِي الْمَنَام فَقيل لَهُ: قل اللَّهُمَّ لَا أحلهَا لمغتسل، وَلَكِن هِيَ للشارب حل وبل ثمَّ كفيتهم، فَقَامَ عبد الْمطلب، فَنَادَى بِالَّذِي أرِي ثمَّ انْصَرف، فَلم يكن يفْسد حَوْضه ذَلِك عَلَيْهِ أحد من قُرَيْش إِلَّا رمي فِي جسده بداء حَتَّى تركُوا حَوْضه، ثمَّ تزوج عبد الْمطلب النِّسَاء فَولدت لَهُ عشرَة رَهْط، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي كنت نذرت لَك نحر أحدهم، وَإِنِّي أَقرع بَينهم فأصب بذلك من شِئْت فأقرع بَينهم فطارت الْقرعَة على عبد الله بن عبد الْمطلب وَكَانَ أحب وَلَده إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ عبد الله أحب إِلَيْك أم مائَة من الْإِبِل، ثمَّ أَقرع بَينه وَبَين الْمِائَة الْإِبِل فَكَانَت الْقرعَة على الْمِائَة من الْإِبِل فنحرها عبد الْمطلب. وَعَن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ: قَالَ عبد الْمطلب: إِنِّي لنائم فِي الْحجر أَتَانِي آتٍ فَقَالَ: احْفِرْ طيبَة. قَالَ: قلت: وَمَا طيبَة؟ قَالَ: ثمَّ ذهب عني فَرَجَعت إِلَى مضجعي فَنمت فِيهِ فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ برة. قَالَ: قلت: وَمَا برة؟ ثمَّ ذهب عني فَلَمَّا كَانَ من الْغَد رجعت إِلَى مضجعي فَنمت فِيهِ فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ زَمْزَم. قَالَ: قلت: وَمَا زَمْزَم؟ قَالَ: لَا تنزف وَلَا تذم تَسْقِي الحجيج الْأَعْظَم، وَهِي بَين الفرث وَالدَّم عِنْد نقرة الْغُرَاب الأعصم عِنْد قَرْيَة النَّمْل. قَالَ: فَلَمَّا أبان لَهُ شَأْنهَا وَدلّ على موضعهَا وَعرف أَنه قد صدق، غَدا بمعوله وَمَعَهُ ابْنه الْحَارِث بن عبد الْمطلب لَيْسَ لَهُ يَوْمئِذٍ غَيره، فحفر فَلَمَّا بدا لعبد الْمطلب الطي كبّر، فَعرفت قُرَيْش أَنه قد أدْرك حَاجته، فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: يَا عبد الْمطلب إِنَّهَا بِئْر إِسْمَاعِيل وَإِن لنا فِيهَا حَقًا، فأشركنا مَعَك فِيهَا. فَقَالَ عبد الْمطلب: مَا أَنا بفاعل إِن هَذَا إِلَّا خصصت بِهِ دونكم وأعطيته من بَيْنكُم. قَالُوا: فأنصفنا فَإنَّا غير تاركيك حَتَّى نحاكمك. قَالَ: فاجعلوا بيني وَبَيْنكُم من شِئْتُم أحاكمكم إِلَيْهِ. قَالُوا: كاهنة بني سعد بن هذيم. قَالَ:
نعم، وَكَانَت بأشراف الشَّام فَركب عبد الْمطلب وَمَعَهُ نفر من بني عبد منَاف وَركب من كل قَبيلَة من قُرَيْش نفر، قَالَ: وَالْأَرْض إِذْ ذَاك مفاوز فَخَرجُوا حَتَّى إِذا كَانُوا بِبَعْض المفاوز بَين الْحجاز وَالشَّام فنى مَاء عبد الْمطلب وَأَصْحَابه فظمئوا حَتَّى أيقنوا بالهلكة، واستسقوا من مَعَهم من قبائل قُرَيْش فَأَبَوا عَلَيْهِم وَقَالُوا: إِنَّا فِي مفازة تخشى فِيهَا على أَنْفُسنَا مثل مَا أَصَابَكُم، فَلَمَّا رأى عبد الْمطلب مَا صنع الْقَوْم وَمَا يتخوف على نَفسه وَأَصْحَابه قَالَ: مَاذَا ترَوْنَ؟ قَالُوا: مَا رَأينَا إِلَّا تبع لرأيك فمرنا بِمَا شِئْت. قَالَ: فَإِنِّي أرى أَن يحْفر كل رجل مِنْكُم لنَفسِهِ لما بكم الْآن من الْقُوَّة، فَكلما مَاتَ رجل دَفعه أَصْحَابه فِي حفرته، ثمَّ واروه حَتَّى يكون آخِره رجلا فضيعة رجل وَاحِد أيسر من ضَيْعَة ركب جَمِيعًا. قَالُوا: نعم مَا أمرت بِهِ. فَقَامَ كل رجل مِنْهُم يحْفر حفرته ثمَّ قعدوا ينتظرون الْمَوْت عطشاً، ثمَّ إِن عبد الْمطلب قَالَ لأَصْحَابه: إِن إلقاءنا بِأَيْدِينَا هلك للْمَوْت لعجز أَلا نضرب فِي الأَرْض، فَعَسَى الله أَن يرزقنا مَاء بِبَعْض الْبِلَاد فارتحلوا، فارتحلوا حَتَّى إِذا فرغوا وَمن مَعَهم من قُرَيْش ينظرُونَ إِلَيْهِم وَمَا هم فاعلون، تقدم عبد الْمطلب إِلَى رَاحِلَته فركبها فَلَمَّا انبعثت انفجرت تَحت خفها عين مَاء عذب فَكبر عبد الْمطلب وكبّر أَصْحَابه، ثمَّ نزل فَشرب وَشَرِبُوا وأسقوا حَتَّى ملأوا أسقيتهم ثمَّ دعى الْقَبَائِل الَّتِي مَعَه من قُرَيْش، فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَى المَاء فقد سقانا الله تَعَالَى فَاشْرَبُوا وأسقوا. فَشَرِبُوا وَسقوا فَقَالَت الْقَبَائِل الَّتِي نازعته: قد وَالله قضى الله تَعَالَى لَك علينا يَا عبد الْمطلب، وَالله لَا نخاصمك فِي زَمْزَم أبدا، الَّذِي سقاك هَذَا المَاء بِهَذِهِ الفلاة هُوَ الَّذِي سقاك زَمْزَم، فَارْجِع إِلَى سقايتك راشداً. فَرجع وَرَجَعُوا مَعَه وَلم يمضوا إِلَى الكاهنة وخلوا بَينه وَبَين زَمْزَم. ابه فِي حفرته، ثمَّ واروه حَتَّى يكون آخِره رجلا فضيعة رجل وَاحِد أيسر من ضَيْعَة ركب جَمِيعًا. قَالُوا: نعم مَا أمرت بِهِ. فَقَامَ كل رجل مِنْهُم يحْفر حفرته ثمَّ قعدوا ينتظرون الْمَوْت عطشاً، ثمَّ إِن عبد الْمطلب قَالَ لأَصْحَابه: إِن إلقاءنا بِأَيْدِينَا هلك للْمَوْت لعجز أَلا نضرب فِي الأَرْض، فَعَسَى الله أَن يرزقنا مَاء بِبَعْض الْبِلَاد فارتحلوا، فارتحلوا حَتَّى إِذا فرغوا وَمن مَعَهم من قُرَيْش ينظرُونَ إِلَيْهِم وَمَا هم فاعلون، تقدم عبد الْمطلب إِلَى رَاحِلَته فركبها فَلَمَّا انبعثت انفجرت تَحت خفها عين مَاء عذب فَكبر عبد الْمطلب وكبّر أَصْحَابه، ثمَّ نزل فَشرب وَشَرِبُوا وأسقوا حَتَّى ملأوا أسقيتهم ثمَّ دعى الْقَبَائِل الَّتِي مَعَه من قُرَيْش، فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَى المَاء فقد سقانا الله تَعَالَى فَاشْرَبُوا وأسقوا. فَشَرِبُوا وَسقوا فَقَالَت الْقَبَائِل الَّتِي نازعته: قد وَالله قضى الله تَعَالَى لَك علينا يَا عبد الْمطلب، وَالله لَا نخاصمك فِي زَمْزَم أبدا، الَّذِي سقاك هَذَا المَاء بِهَذِهِ الفلاة هُوَ الَّذِي سقاك زَمْزَم، فَارْجِع إِلَى سقايتك راشداً. فَرجع وَرَجَعُوا مَعَه وَلم يمضوا إِلَى الكاهنة وخلوا بَينه وَبَين زَمْزَم. قَالَ ابْن إِسْحَاق: هَذَا الَّذِي بَلغنِي من حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب فِي زَمْزَم، وَقد سَمِعت من يحدث عَن عبد الْمطلب أَنه قيل لَهُ حِين أَمر بِحَفر زَمْزَم:
ادْع بِالْمَاءِ الروي غير الكدر
…
لتسقي حجيج الله فِي كل مبر لَيْسَ يخَاف عَنهُ شَيْء مَا عمر فَخرج عبد الْمطلب حِين قيل لَهُ ذَلِك إِلَى قُرَيْش، فَقَالَ: اعلموا أَنِّي قد أمرت أَن أحفر زَمْزَم. قَالُوا: فَهَل بَين لَك أَيْن هِيَ؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: فَارْجِع إِلَى مضجعك الَّذِي رَأَيْت فِيهِ مَا رَأَيْت، فَإِن يَك حَقًا من الله يبين لَك، وَإِن يكن من الشَّيْطَان فَلَنْ يعود إِلَيْك. فَرجع عبد الْمطلب إِلَى مضجعه فَنَامَ فِيهِ فَأتي، فَقيل لَهُ: احْفِرْ زَمْزَم إِنَّك إِن حفرتها لن تندم، وَهِي تراث من أَبِيك الْأَعْظَم، لَا تنزف أبدا وَلَا تذم، تَسْقِي الحجيج الْأَعْظَم مثل نعام جافل لم يقسم ينذر ناذر لمنعم، تكون مِيرَاثا وعقداً مُحكم، لَيست كبعض مَا قد تعلم، وَهِي بَين الفرث وَالدَّم. قَالَ ابْن هِشَام: هَذَا الْكَلَام وَالَّذِي قبله فِي حَدِيث عَليّ فِي حَدِيث حفر زَمْزَم عِنْد سجع وَلَيْسَ بِشعر. قَالَ ابْن إِسْحَاق: فزعموا أَنه حِين قيل لَهُ ذَلِك قَالَ: وَأَيْنَ هِيَ؟ قيل لَهُ: عِنْد قَرْيَة النَّمْل حَيْثُ ينقر الْغُرَاب غَدا. فغدا عبد الْمطلب وَمَعَهُ ابْنه الْحَارِث فَوجدَ قَرْيَة النَّمْل وَوجد الْغُرَاب ينقر عِنْدهَا بَين الوثنين إساف ونائلة اللَّذين كَانَت قُرَيْش تذبح عِنْدهمَا، فجَاء بِالْمِعْوَلِ فحفر فَلَمَّا تَمَادى بِهِ الْحفر، فَوجدَ فِيهَا غزالين من ذهب وهما الغزالان اللَّذَان دفنتهما جرهم فِيهَا حِين خرجت من مَكَّة، وَوجد فِيهَا اسيافاً قلعية وأدراعاً، فَقَالَت لَهُ قُرَيْش: يَا عبد الْمطلب فِي هَذَا شرك وَحقّ. قَالَ: لَا، وَلَكِن هلموا إِلَى أَمر ينصف بيني وَبَيْنكُم. فَضرب عَلَيْهَا بِالْقداحِ قَالُوا: وَكَيف نصْنَع؟ قَالَ:
أجعَل للكعبة قدحين ولي قدحين، وَلكم قدحين فَمن خرج قدحاه على شَيْء كَانَ لَهُ، وَمن تخلف قدحاه فَلَا شَيْء لَهُ. قَالُوا: أنصفت. فَجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين لعبد الْمطلب، وقدحين أبيضين لقريش، ثمَّ أعْطوا القداح الَّذِي يضْرب بهَا عِنْد هُبل، وَقَامَ عبد الْمطلب يَدْعُو الله عز وجل وَضرب صَاحب القداح فَخرج الأصفران على الغزالين، وَخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد الْمطلب، وتخلف قدحا قُرَيْش، فَضرب عبد الْمطلب الأسياف بَابا للكعبة، وَضرب فِي الْبَاب الغزالين فَكَانَت أول حلية حليته الْكَعْبَة. قَالَ السُّهيْلي: دلّ على زَمْزَم بعلامات ثَلَاث: بنقرة الْغُرَاب الأعصم، وَأَنَّهَا بَين الفرث وَالدَّم، عِنْد قَرْيَة النَّمْل، ويروى أَنه لما قَامَ ليحفرها رأى مَا رسم لَهُ من قَرْيَة النَّمْل ونقرة الْغُرَاب وَلم ير الفرث وَالدَّم، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك ندّت بقرة لجازرها فَلم يُدْرِكهَا حَتَّى دخلت الْمَسْجِد الْحَرَام ونحرها فِي الْموضع الَّذِي رسم لعبد الْمطلب فَسَالَ هُنَاكَ الفرث وَالدَّم، فحفر عبد الْمطلب حَيْثُ رسم لَهُ، وَلم تخص هَذِه العلامات الثَّلَاث بِأَن تكون دَلِيلا عَلَيْهَا إِلَّا لحكمة إلهية، وَفَائِدَة مشاكلة فِي علم التَّعْبِير والتوسم الصَّادِق يَعْنِي زَمْزَم وماءها. أما الفرث وَالدَّم: فَإِن ماءها طَعَام طعم وشفاء سقم وَهِي لما شربت لَهُ، وَقد تقوّت من مَائِهَا أَبُو ذَر ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْلَة فسمن حَتَّى تكثرت عكنه، فَهِيَ إِذا كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي اللَّبن:" إِذا شرب أحدكُم اللَّبن فَلْيقل: اللَّهُمَّ بَارك لنا فِيهِ وزدنا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْء يسد مسد الطَّعَام وَالشرَاب إِلَّا اللَّبن ". وَقَالَ تَعَالَى فِي اللَّبن: " من بَين فرث
وَدم لَبَنًا خَالِصا سائغاً للشاربين ". فظهرت هَذِه السقيا الْمُبَارَكَة بَين الفرث وَالدَّم وَكَانَت تِلْكَ من دلائلها المشاكلة لمعناها. وَأما قَوْله: الْغُرَاب الأعصم: قَالَ القتبي: الأعصم من الْغرْبَان الَّذِي فِي جناحيه بَيَاض. وَاعْترض على أبي عبيد لقَوْله فِي شرح الحَدِيث: الأعصم الَّذِي فِي يَدَيْهِ بَيَاض. وَقَالَ: كَيفَ يكون للغراب يدان؟ وَأجَاب عَنهُ السُّهيْلي وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَادَ أَبُو عبيد أَن هَذَا الْوَصْف لذوات الْأَرْبَع وَلذَلِك قَالَ: إِن هَذَا الْوَصْف فِي الْغرْبَان عَزِيز، وَكَأَنَّهُ ذهب إِلَى الَّذِي أَرَادَ ابْن قُتَيْبَة من بَيَاض الجناحين وَلَوْلَا ذَلِك لقَالَ: إِنَّه فِي الْغرْبَان محَال لَا يتَصَوَّر. قَالَ السُّهيْلي: وَفِي مُسْند ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أبي أُمَامَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا يُغني عَن قَوْلهمَا وَفِيه الشِّفَاء، وَذَلِكَ أَنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: " الْمَرْأَة الصَّالِحَة فِي النِّسَاء كالغراب الأعصم ". قيل: يَا رَسُول الله وَمَا الْغُرَاب الأعصم؟ قَالَ: الَّذِي إِحْدَى رجلَيْهِ بَيْضَاء ". قَالَ السُّهيْلي: فالغراب فِي التَّأْوِيل فَاسق وَهُوَ أسود، فدلت نقرته عِنْد الْكَعْبَة على نقرة الْأسود الحبشي بمعوله فِي أساس الْكَعْبَة يَهْدِمهَا فِي آخر الزَّمَان فَكَانَ نقر الْغُرَاب فِي ذَلِك الْمَكَان يُؤذن بِمَا يَفْعَله الْفَاسِق الْأسود فِي آخر الزَّمَان بقبلة الرَّحْمَن وسقيا أهل الْإِيمَان، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يرفع الْقُرْآن وتحيا عبَادَة الْأَوْثَان، وَفِي الصَّحِيح: فِي صفة الَّذِي يخرب الْكَعْبَة أَنه أفحج. وَهَذَا ينظر إِلَى كَون الْغُرَاب أعصم إِذا تفحج تبَاعد فِي الرجلَيْن، كَمَا أَن العصم اخْتِلَاف فيهمَا وَالِاخْتِلَاف تبَاعد، وَقد عرف بِذِي السويقتين كَمَا نعت الْغُرَاب بِصفة فِي سَاقيه فَتَأَمّله، فَهَذَا من خَفِي علم التَّعْبِير؛ لِأَنَّهَا كَانَت رُؤْيا وَإِن شِئْت كَانَت من بَاب الزّجر والتوسم الصَّادِق وَالِاعْتِبَار والفكر فِي معالم حِكْمَة الله، فَهَذَا سعيد بن الْمسيب حِين حدث بِحَدِيث الْبِئْر فِي الْبُسْتَان، وَأَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قعد على قفها، ودلى رجلَيْهِ فِيهَا، ثمَّ جَاءَ أَبُو بكر فَفعل مثل ذَلِك، ثمَّ جَاءَ عمر فَفعل مثل ذَلِك ثمَّ جَاءَ عُثْمَان فانتبذ مِنْهُم نَاحيَة وَقعد حجرَة قَالَ سعيد بن الْمسيب: فأولت ذَلِك قُبُورهم اجْتمعت قُبُور الثَّلَاثَة وَانْفَرَدَ قبر عُثْمَان، وَالله تَعَالَى يَقُول:" إِن فِي ذَلِك لآيَات للمتوسمين ". فَهَذَا من التوسم والفراسة الصادقة. وَأما قَرْيَة النَّمْل: فَفِيهَا من المشاكلة والمناسبة أَيْضا أَن زَمْزَم هِيَ عين مَكَّة الَّتِي
يردهَا الحجيج والعمار من كل جَانب فيحملون إِلَيْهَا الْبر وَالشعِير وَغير ذَلِك، وَهِي لَا تحرث وَلَا تزرع؛ لقَوْل إِبْرَاهِيم:" إِنِّي أسكنت من ذريتي بواد غير ذِي زرع ". إِلَى قَوْله: " وارزقهم من الثمرات ". وقرية النَّمْل كَذَلِك لِأَن النَّمْل لَا يحرث وَلَا يبذر وتجلب الْحُبُوب إِلَى قريتها من كل جَانب، وَفِي مَكَّة قَالَ تَعَالَى:" قَرْيَة كَانَت آمِنَة مطمئنة يَأْتِيهَا رزقها رغداً من كل مَكَان ". مَعَ أَن لفظ قَرْيَة مَأْخُوذ من قَرَيْتُ المَاء فِي الْحَوْض إِذا جمعته. والرؤيا تعبر على اللَّفْظ تَارَة وعَلى الْمَعْنى أُخْرَى، فقد اجْتمع اللَّفْظ وَالْمعْنَى فِي هَذَا التَّأْوِيل، وَقيل: لعبد الْمطلب فِي صفة زَمْزَم: لَا تنزف أبدا وَلَا تذم. وَهَذَا برهَان عَظِيم لِأَنَّهَا لم تنزف من ذَلِك الْوَقْت إِلَى يَوْمنَا قطّ، وَقد وَقع فِيهَا حبشِي فَنُزِحَتْ من أَجله فوجدوا ماءها يثور من ثَلَاث أعين أقواها وأكثرها مَاء عين من نَاحيَة الْحجر الْأسود، روى هَذَا الحَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ. وَقَوله: وَلَا تذم أَي لَا تعاب وَلَا تلفى مذمومة من قَوْلك: أذممته إِذا وجدته مذموماً. وَقيل: لَا يُوجد مَاؤُهَا قَلِيلا من قَوْلهم: بِئْر ذمَّة إِذا كَانَت قَليلَة المَاء. وَمِنْه حَدِيث الْبَراء فأتينا على بِئْر ذمَّة فنزلنا فِيهَا أَي قَليلَة المَاء كَذَا قَالَه ابْن الْأَثِير. وَضعف السُّهيْلي الْوَجْه الأول وَقَالَ: قَوْله: وَلَا تذم فِيهِ نظر وَلَيْسَ هُوَ على مَا يَبْدُو من ظَاهر اللَّفْظ من أَنَّهَا لَا يذمها أحد، فَلَو كَانَ من الذَّم لَكَانَ مَاؤُهَا أعذب الْمِيَاه ولتضلع مِنْهَا كل من يشربه، وَقد تقدم فِي الحَدِيث أَنه لَا يتضلع مِنْهَا الْمُنَافِق فماؤها إِذا مَذْمُوم عِنْدهم، وَقد كَانَ خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي أَمِير الْعرَاق يذمها ويسميها أم جعلان، واحتفر بِئْرا خَارج مَكَّة باسم الْوَلِيد بن عبد الْملك، وَجعل يفضلها على زَمْزَم وَيحمل النَّاس على التَّبَرُّك بهَا دون زَمْزَم، جَرَاءَة مِنْهُ على الله تَعَالَى وَقلة حَيَاء مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يفصح ويعلن بلعن عَليّ رضي الله عنه على الْمِنْبَر. قَالَ السُّهيْلي: وَإِنَّمَا ذكرنَا هَذَا ليعلم أَنَّهَا قد ذمت قَالَ: فَقَوله إِذا: لَا تذم من قَوْلهم بِئْر ذمَّة أَي قَليلَة المَاء، فَهُوَ من أذممت الْبِئْر إِذا وَجدتهَا ذمَّة كَقَوْلِك: أكذبت الرجل إِذا وجدته كَاذِبًا، قَالَ تَعَالَى: