الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعريف بالوحى
إن كلمة الوحى تطلق فى اللغة ويراد بها مجموعة من المعانى نجملها فيما يلى:
الوحى يطلق على الإعلام فى خفاء وفى سرعة، فأما أصل الخفاء والسر فيمثل له بتسمية الإلهام وحيا، ومنه قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [الأنعام: 121]. أى يوسوسون فى صدورهم، وهذه الوسوسة من الشيطان تعرف؛ لأن حديث الشيطان وأمره فى الصدر قد كشفه القرآن الكريم وبينه، وحذرنا منه، وأعاننا عليه، فأما الكشف والتحذير فمثاله قوله تعالى. يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)[البقرة]. فأى حديث فى النفس يأمر بالسوء، أو يأمر بالفحشاء، أو يشكك فى عقيدة، أو يحدثك عن الله بغير ما جاء فى كتابه الكريم وسنة رسوله فإنما هو حديث الشيطان ووحيه ووسوسته، وأما الإعانة عليه فأرشدنا القرآن إلى الاستعاذة بالله عند ما ينزغ الشيطان: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200]«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، أو «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم» . وأرشدنا إلى أن الشيطان خناس فلا يمكث فى مكان يذكر فيه اسم الله، ولا يقوى على الاستمرار فى صدر تقى يعمر بذكر الله. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)[الأعراف]، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)[الناس]، ولا يخفى ما فى وسوسة الشيطان بهذا المعنى من خفاء وسرعة تدخل على الغافلين وتدفعهم إلى السوء إن استجابوا لوسوسته ولم يدفعوها باللجوء إلى الله وذكره.
وأصل السرعة فى كلمة الوحى لغويا كذلك جعل تسمية الخط وحيا لسرعة حركة اليدين لكاتبه، ووحى الحاجب واللحظ سرعة إشارتهما، ومنه «الوحا» أى السرعة.
ومن المعانى اللغوية كذلك للوحى: الإلهام الفطرى، والإلهام الغريزى الذى يتضمن معنى التسخير.
ومثال الإلهام الفطرى قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ
فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)[القصص] فهذه المعانى العظيمة التى تجمع أمرين، ونهيين، وبشارتين تمت لأم موسى فى موقف مخيف عصيب عن طريق الوحى، بمعنى إلقاء هذه المعانى فى قلبها، وتبعها حركة وسلوك وعمل يبين كيف أن هذا الإلقاء فى القلب، والإلهام له قوة الأمر الصادر المباشر والمواجه بالمعاينة لأم موسى، فبمقتضى هذا الإلهام كان ربط الله على قلبها؛ حتى لا يعصف به الخوف من فرعون وعمله فى قتل الأطفال، وابنها طفل منهم؛ فلم يظهر عليها ما ينبه إلى وجود طفل تخفيه، وبهذا الإلهام أرضعته كما ترضع الأم طفلها؛ إبقاء على حياته، وهذا أقصى ما تستطيعه أم موسى. وبهذا الوحى تؤمر بما يستوقفنا للتدبر واستخراج العظة والاعتبار. فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، كنا نتوقع أن يكون الخطاب: إن خفت عليه فابذلى أقصى جهدك فى إخفائه، ولكن الإلهام كان إلى غير ذلك: فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ.
وكان موقف القرآن الكريم- هنا- يعلمنا أن الإنسان فى مواجهته للأمور- مهما كانت شدتها- عليه أن يبذل أقصى ما يستطيعه، مستعينا ومتوكلا فى بذله هذا على ربه، دون كسل أو خمول، وأما ما لا يستطيعه بعد ذلك فإن توكله هذا سيحول مصدر الخطر إلى مصدر أمان، كما حول الله البحر الهائج المخيف الذى تملأ أمواجه القلوب رعبا إلى حصن دافئ، ومكان أمين للطفل موسى. فتصنع له الصندوق بمقتضى هذا الإلهام، وتلقيه فى اليم، وتأمر أخته بأن تقص أثره لتجد أن الصندوق تحمله الأمواج إلى مصدر الخطر نفسه؛ إلى البيت الذى صدر فيه الأمر بقتل الأطفال، وموسى طفل، إذن يعلو صوت فرعون:«اقتلوه» ، ولكن يلقى الله محبة موسى فى قلب زوج فرعون فتصدر أمرا آخر: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ [القصص: 9] وينتصر أمر الزوجة، ويبقى موسى، ولكن كيف يتحقق الإلهام الآخر لأم موسى بالبشرى فى رد موسى إلى أمه؟
تعرض المراضع على موسى فيعرض عنهن، ويشار على بيت فرعون بأنه بقيت امرأة لم تأت بعد وهى أمه، وجىء بها، وعرض عليها الطفل، وأقبل على ثديها. فقيل لها:
امكثى فى البيت لترضعيه، فأبت لأنها مطمئنة إلى ما ألهمت به إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ، وتعللت بشغل بيتها، فأخذت طفلها معها وعادت إلى بيتها وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)[طه]، ويظل حتى يصير من المرسلين.
فهذه المعانى تحققت عن طريق هذا المعنى من الوحى.
وأما مثال الإلهام الغريزى الذى يحمل معنى التخيير ففي قوله تعالى: وَأَوْحى
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)[النحل].
ومن المعانى اللغوية كذلك الإشارة، وذكر هذا فى قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)[مريم] هذا وقد يطلق لفظ الوحى ويقصد به الموحى به.
وأما معنى الوحى اصطلاحا فهو: إعلام الله تعالى لنبى من أنبيائه بحكم شرعى ونحوه؛ فالموحى هو الله سبحانه، والموحى إليه نبى من أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، والموحى به حكم شرعى من أمر أو نهى ونحو هذا مما يوحى به الله تعالى من أنباء من سبق وما حدث لهم، وما سيأتى، وما يبنى عقيدة التوحيد خالصة نقية، وما يؤسس الخلق الكريم ويغرى بالتحلى به، وما ينفر من رذائل الأخلاق، وما يقيم مجتمعا فاضلا على حسن العبادة لله وحسن التعامل فيما بينهم.
ومن فضل الله على خلقه أن اصطفى منهم من يقوم بتبليغ وحيه إليهم حتى يسيروا فى حياتهم على هدى، وحتى لا يضلوا: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33)[آل عمران].
ويوحى الله إلى خلقه ما يسعدهم فى جميع فتراتهم الزمنية، وما يناسب بيئاتهم المكانية، حتى كان وحيه إلى خاتمهم صلى الله عليه وسلم يحمل من خصائص الاستمرار ما يجعله معطاء لكل الأجيال إلى قيام الساعة.
ويذكرنا الله سبحانه بهذه المنة على خلقه جميعا فى خطابه لرسوله صلى الله عليه وسلم فى قوله الكريم: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)[النساء].
فهؤلاء ممن اصطفى الله، وذكر الله تعالى أسماءهم، وقص علينا من أخبارهم، وما أوحى به إليهم، وكيف كان حال أقوامهم معهم، لنفيد من هذه التجارب باعتبارنا الأمة الأخيرة فى حياة الأمم. وهذه المجموعة من صفوة البشر ليسوا وحدهم، بل هناك آخرون قاموا بهذه المهمة، وأوحى الله إليهم ولم يقصصهم علينا ربنا.
وما قصّه علينا فيه الجمع المفيد لكل طبائع البشر وكيف كان حالهم مع الوحى؛ فمنهم من استجاب ونجا، ومنهم من فتن بماله، ومنهم من فتن بجاهه، ومنهم من فتن
بما أوتى من بنين وذرية، ومنهم من فتن بشهواته المتعددة، وكانت عاقبتهم هلاكا وخسرانا.
والأمة الخاتمة تقرأ كل هذا فى صفحة السابقين فيما أوحى به إلى النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)[آل عمران].
ولكن كيف كلم الله هؤلاء وهم صفوة البشر؟.
لقد ذكر القرآن الكريم لنا ثلاثا من الصور التى يكلم الله بها من شاء من البشر فقال تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)[الشورى].
فالصورة الأولى: من تكليم الله لمن شاء من البشر تكون بإلقاء المعنى الذى يريده الله فى نفس من شاء، وهذا معنى الإلهام، أو الإلقاء فى الرّوع، أو النفث فى الرّوع.
الصورة الثانية: أن يكلم الله نبيا من أنبيائه من وراء حجاب، كما كلم الله موسى عليه السلام وناداه، وسمع موسى نداءه دون أن يراه؛ لأن الرؤية لا يطيقها البشر، ومن حكمة الله ولطفه بخلقه أنهم لا يرونه فى هذه الدنيا، وإلا لأمسكهم الخوف فلا يتحركون لعمل أو أكل أو غير ذلك من مقتضيات البشرية، ويكفى أن يرى الخلق مظاهر القدرة وآيات الإبداع والنظام فى مخلوقاته، فله فى كل شىء آية تدل على أنه القادر، وفى أنفسنا وما بث فى أرضنا من دابة، وما خلق فى السموات آيات تنطق بالحق: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191)[آل عمران].
على أن المؤمنين سيمتعون إن شاء الله برؤية ربهم فى الآخرة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23)[القيامة].
ولذلك لما طلب موسى عليه السلام فى تكليم الله له أن يرى ربه وقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143]. وأراه آية العجز البشرى فى هذا الجانب وأنه لا يقوى على ذلك، فقال جل شأنه لموسى عليه السلام: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [الأعراف: 143].
فالجبل لم يقو على تجلى الله سبحانه له وجعله دكا، ورؤية موسى عليه السلام لتجلى
الله للجبل جعلته يخر صعقا، فكيف لو كان التجلى مباشرا؟
وأما الصورة الثالثة: فى تكليم الله لمن شاء من خلقه فتكون فى إرسال ملك الوحى إلى نبى من أنبياء الله، ليلقى إليه ما كلف بتبليغه، وهذا الملك هو الناموس أى صاحب السر، والذى وصف بالقوة والأمانة، وهما صفتان ضروريتان للاطمئنان على مسيرة الوحى إلى أنبياء الله ورسله، فقد وصف جبريل عليه السلام بقول الله سبحانه فيه:
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5)[النجم]، ووصفه بقوله الكريم: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)[التكوير]، كما وصف بقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)[الشعراء]. وملك الوحى قد يراه النبى فى صورته التى خلق عليها، وقد يأتيه فى صورة رجل يكلمه، وفى هذه الحالة يراه الحاضرون ويسمعون قوله، وقد ينزل خفية فلا يراه الحاضرون، ولكن يشاهدون آثار الوحى على النبى صلى الله عليه وسلم وقت نزوله.
هذه صور الوحى الثلاث التى ذكرت فى قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)[الشورى] فماذا تحقق لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها؟ وما مراتب الوحى معه؟