الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «المزمل»
ومع روضة جديدة من رياض الذكر الحكيم مع سورة «المزمل» والتى نزلت بعد سورة «القلم» ، وهى مكية كلها فى قول الحسن وعكرمة وجابر، وأما ابن عباس وقتادة فيستثنيان آيتين منها وهما قوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)[المزمل].
كما يروى الإمام أحمد رحمه الله فى مسنده ما ذكره سعيد بن هشام من أسئلته لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث قال: «قلت: يا أم المؤمنين أنبئينى عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن فهممت أن أقوم ثم بدا لى قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: يا أم المؤمنين أنبئينى عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ألست تقرأ هذه السورة «يا أيها المزمل» ؟ قلت: بلى.
قالت: فإن الله افترض قيام الليل فى أول هذه السورة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله تحتها فى السماء اثنى عشر شهرا ثم أنزل الله التخفيف فى آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة.
فهممت أن أقوم ثم بدا لى وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا أم المؤمنين أنبئينى عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلى ثمانى ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ثم ينهض وما يسلم، ثم يقوم ليصلى التاسعة ثم يقعد فيذكر الله وحده ثم يدعوه، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم فتلك إحدى عشرة ركعة يا بنى، فلما أسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعد ما سلم فتلك تسع. يا بنى وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا أثقله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة، ولا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله فى ليلة حتى أصبح، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان» «1» . روى ذلك الإمام أحمد بتمامه، وقد أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه من حديث قتادة نحوه.
(1) تفسير ابن كثير 4/ 435، 436.
وعلى ذلك يكون بين نزول الآيات الأولى من السورة والآيات الأخيرة فيها عام.
ويؤيد ذلك أيضا ما ذكره ابن أبى حاتم حيث قال: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة، عن مسعر، عن سمّاك الحنفى سمعت ابن عباس يقول: أول ما نزل أول «المزمل» ، كانوا يقومون نحوا من قيامهم فى شهر رمضان، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة، وهكذا رواه ابن جرير وقال الثورى ومحمد بن بشر العبدي كلاهما عن مسعر، عن سماك، عن ابن عباس: كان بينهما سنة، كما روى ابن جرير عن أبى كريب، عن وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن قيس بن وهب عن أبى عبد الرحمن قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، حتى نزلت فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20]، قال: فاستراح الناس، وقال هذا أيضا الحسن البصرى والسدى «1» .
وفى أسباب نزول السورة الكريمة نجد رواية جابر والتى أوردها ابن كثير فى تفسيره وفيها يقول: اجتمعت قريش فى دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما يصد الناس عنه. فقالوا: كاهن، قالوا: ليس بكاهن، قالوا: مجنون، قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر، فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فتزمل فى ثيابه وتدثر فيها. فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «2» .
والمزمل هو المتغطى بثيابه كالمدثر، وهذا الوصف قد حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه السورة الكريمة فى أول لقاء جبريل عليه السلام برسول الله
صلى الله عليه وسلم فى غار حراء على التفصيل الذى جاء فى رواية الإمام البخارى رحمه الله، حيث عاد النبى صلى الله عليه وسلم إلى أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها يرجف فؤاده ويقول:«زملونى. زملونى» كما أن المزمل تتسع كذلك لتشمل معنى المتزمل للنبوة؛ أى المستمر المجد فى أمرها «3» .
وعلى الأمرين فإن السورة الكريمة تنزل؛ لتدعم الشخصية المحمدية فى مواجهة ما يحيط بالرسول الكريم من تحديات، فالأمر قد انتشر واشتهر وظهرت الأحقاد واشتدت الخصومات، وظهر الكيد والتدبير من المعاندين، ولا بدّ من تبصير النبى صلى الله عليه وسلم بطبيعة الأمر
(1) ابن كثير 4/ 436.
(2)
ابن كثير 4/ 434.
(3)
التسهيل لعلوم التنزيل 4/ 294.
من كل جوانبه فالمسئولية كبيرة والمهمة خطيرة، والتحديات كبيرة ومستمرة، ولا بدّ من تدعيم المؤمنين ليصمدوا وليثبتوا وليكونوا فوق الأحداث وأكبر من التحديات، وسبل التدعيم فى هذه المرحلة المبكرة كما يلى: قيام الليل فهو مدعم للنفس ويقويها، وتوجيه هذا الأمر إلى النبى صلى الله عليه وسلم فيه معنى آخر فى البناء النفسى وهو جانب الأسوة فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يضع أمامهم ما يؤمر به، وهم يقتدون به، وبهذا شهد القرآن الكريم لهم، وبدأ قيام الليل بصورة تلائم شدة الموقف، وتمنح النفس قوة تتجاوز بها المخاطر، وتشد بها العزائم فتهون المحن، وتذلل الصعاب، فقيام الليل المأمور به أول الأمر يشمل نصف الليل، أو أقل من النصف بقليل أى نحو الثلث، أو يزيد على النصف فيكون نحو الثلثين.
وقبل أن نذكر بقية المدعمات نذكر أن قيام الليل سيجمع عددا من هذه المدعمات الطيبة؛ ولذلك فقيام الليل مع مضمون هذا القيام يكون هذه الشخصية القوية التى تقترب من ربها، وتنجو من آثار سيئاتها، وتطرد الأسقام عن البدن. فالقوة- إذن- فى قيام الليل قوة مادية وقوة معنوية. فعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة لكم إلى ربكم ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد» ، رواه الطبرانى فى الكبير ورواه السدى فى الدعوات من الجزء الأول منه «1» .
قيام الليل جامع لعناصر أخرى من هذه المدعمات منها: ترتيل القرآن الكريم، والترتيل هو التمهل والمد وإشباع الحركات وبيان الحروف، وذلك يعين على التفكر فى معانى القرآن الكريم «2» . فإذا أضفنا الترتيل إلى قيام الليل، فإن أوقات الليل كما تشهد لها الآيات: وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)[المزمل]؛ لخلو الذهن من المشاغل والبعد عن مزعجات الأصوات والحركة، فالليل مقترن بالسكون والبعد عن الشواغل من بشر أو أعمال.
وأما صلة الترتيل بهذه الهيئة وتدعيم النفس فقوية وواضحة؛ فإن الترتيل سيجعل المرتل دائم الاستيعاب لمعانى القرآن الكريم، وما أنزل من توجيهات، فيتفاعل معها وتهديه للتى هى أقوم فى كل شىء.
وذكر هذا فى بدايات التنزيل مع الأمر الأول فى قوله تعالى: اقْرَأْ [العلق: 1]
(1) الترتيب 1/ 545، 546.
(2)
التسهيل لعلوم التنزيل 4/ 296.
تربية عملية وتوجيه للنبى صلى الله عليه وسلم ولأمته أن تكون صلتهم بما نزل إليهم مستمرة فبهذا الذكر حياتهم، وعطاء القرآن الكريم لهم عطاء متجدد ومستمر فعليهم أن يتعاهدوه بالترتيل والتدبر لينتفعوا به، ولتقوى به نفوسهم.
ومن المدعمات كذلك وضوح الرؤية أمام الإنسان ليقدر الأمور على حقيقتها وليهيئ نفسه على حجمها، ولا يفاجأ بما لم يحسب له حسابا: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) وقيل فى هذا الوصف خمسة أقوال: أحدها: أنه يسمى ثقيلا لما كان النبى صلى الله عليه وسلم يلقاه من الشدة عند نزول الوحى عليه، حتى أن جبينه ليتفصد عرقا فى اليوم الشديد البرد، وقد كان يثقل جسمه- عليه الصلاة والسلام بذلك حتى إذا أوحى إليه وهو على ناقته بركت به، وأوحى إليه وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فكادت أن ترض فخذ زيد. الثانى: أنه ثقيل على الكفار بإعجازه ووعيده. الثالث: أنه ثقيل فى الميزان. الرابع: أنه كلام له وزن ورجحان. الخامس: أنه ثقيل لما تضمن من التكاليف والأوامر والنواهى، وهذا الوجه الأخير اختيار ابن عطية «1» .
ومن دعائم بناء النفس المسلمة وضع الأمور فى مواضعها فالنهار مجال للتصرف فى الأشغال، والليل للسكن والعبادة الصافية.
ومن المدعمات ذكر الله سبحانه، فبه تطمئن القلوب، وتقوى العزائم، ويتجدد الأمل، وفيه التبتل وهو الانقطاع إلى الله، والإنابة إليه أى تخليص القلب من التعلق بالخلائق رغبة ورهبة وعملا.
وفيها التوكل على الله وتفويض الأمر كله إليه؛ فهو الحافظ والمدبر للأمور كلها: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9).
ومنها الصبر على أذى الأعداء فى أقوالهم وأفعالهم، فلا تتأثر النفس بقول العدو ولا ينبغى أن يؤثر فيها.
ومنها الهجر الجميل للعدو، حيث اقتضت المصلحة الهجر الذى لا أذية فيه بل يعاملهم بالهجر والإعراض عن أقوالهم التى تؤذيه، ويستمر فى دعوتهم وجدالهم بالتى هى أحسن.
(1) التسهيل لعلوم التنزيل 4/ 296، 297.
ومنها اليقين فى وعد الله ووعيده فيما يراه المؤمنون من أحوال المسلمين وغيرهم فى القبض والبسط فى الرزق فإنما هو بتقدير الله وتيسيره فكثرة النعم مع الكفر لا تعنى الإهمال، وقلة النعم مع الإيمان لا تعنى الغضب من الله: ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13).
وعلى ذلك فإن الجزاء ليس فى الدنيا وحدها بل الآخرة هى دار الجزاء وتكرار ذكرها حتى لا تنسى يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا (14).
وهذا الأمر من الجزاء الدنيوى والجزاء الأخروى ينبغى أن يكون واضحا لدى الناس جميعا والصورة التاريخية ينبغى أن يقرأها المعاندون؛ لأن التجارب التاريخية مكررة، وما حدث للأولين يحدث للآخرين، فالله أرسل إليكم رسولا يشهد عليكم فاقرءوا ما حدث للرسل وأقوامهم، فقد أرسل الله رسوله إلى فرعون فعصى فرعون الرسول فأخذ فى الدنيا مع عذاب الآخرة: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (19).
ومنها: تقدير مسئولية الإنسان عن اختياره ومشيئته فإن الله تعالى أقدر العباد على أفعالهم ومكنهم منها «1» فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (19).
ومنها: اليقين فى وعد الله لعباده المؤمنين من البشرى على أعمالهم الطيبة، فقد شهد الله لرسوله وللمؤمنين معه بامتثال ما أمروا به من قيام الليل على مشقته، ووجود الأعذار معهم وخفف عنهم، وفى هذا توجيه بتقدير العاملين ومكافأتهم حتى يزدادوا نشاطا: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ.
وفى هذا تبشير للمؤمنين فى تلك الفترة أن العاقبة لهم، وأن النصر حليفهم، وأنهم سيمنحون الحياة المستقرة، منهم من يضرب فى الأرض يبتغى من فضل الله، ومنهم من يخرج مقاتلا فى سبيل الله، فمع وجود هذه الأعذار خذوا من الأعمال ما
(1) تفسير الكريم الرحمن 7/ 503.
تطيقون: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20).
هذه مجموعة المدعمات التى جاءت فى سورة المزمل تثبيتا لفؤاد النبى صلى الله عليه وسلم، وتدعيما له ولمن معه فى مواجهة التحديات.