الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «العصر»
فهى مكية إلا ما قال قتادة من أنها مدنية وروى عن ابن عباس كذلك يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3).
فالقسم هنا فى السورة الكريمة بالعصر وهو اسم للزمن كله أو جزء منه «1» فقيل:
هو الدهر كله أقسم الله عز وجل به لما فيه من العجائب، ولما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من دلالة على عظيم قدرة الخالق سبحانه، فأمة تذهب وأمة تأتى، وقدر ينفذ وآية تظهر وهو هو لا يتغير ليل يعقبه نهار، ونهار يعقبه ليل، فهو فى نفسه عجب كما يقول الشيخ الشنقيطى- رحمه الله: فهو فى نفسه آية سواء فى ماضيه لا يعلم متى كان، أو فى حاضره لا يعلم كيف ينقضى، أو فى مستقبله. وكما قيل:
وأرى الزمان سفينة تجرى بنا
…
نحو المنون ولا نرى حركاته
وقيل فى معنى العصر- أيضا- الليل والنهار، وقيل: هو صلاة العصر لكونها الوسطى، وقيل: عصر النبى صلى الله عليه وسلم أو زمن أمته، وقيل: عمر الإنسان ومدة حياته لأنها كل الكسب والخسران، وعلى كل حال فالقسم ينبه الإنسان إلى قيمة الزمن وقيمة العمر الذى يقضيه الإنسان فى هذه الحياة وأنه أغلى ما يملك وأنه محل لسعادته أو لخسرانه وتبين السورة الكريمة سبيل الفلاح والنجاة من الخسران للإنسان فى هذا الزمان والذى يتمثل فى الإيمان والعمل الصالح والتواصى بالحق والتواصى بالصبر.
وبعد تناولنا لسورة العصر التى يقسم فيها الحق تبارك وتعالى بالعصر ويأتى جواب القسم فى السورة الكريمة فى قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) والخسر قيل هو الغبن، وقال الأخفش: هلكة. وقال الفراء: عقوبة «2» ومنه قوله تعالى:
وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9)[الطلاق]. وقيل: لفى شر، وقيل: لفى نقص، والمعانى المذكورة متقاربة والإطلاق يعم، والأسلوب يشعر أن الإنسان مستغرق فى
(1) أضواء البيان 9/ 492.
(2)
القرطبى 2/ 180.
الخسران وهو محيط به من كل جهة، حتى يشعر الإنسان بخطورة ما هو فيه، ويتنبه إلى سبيل الخروج منه، والذى سيذكر بعد هذا التأكيد والقسم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) فمفهوم المستثنى هنا يشتمل أربعة أمور: الأول: عدم الإيمان وهو الكفر، والثانى عدم العمل الصالح وهو العمل الفاسد:
والثالث: عدم التواصى بالحق وهو انعدام التواصى كلية أو التواصى بالباطل، والرابع:
عدم التواصى بالصبر، وهو إما انعدام التواصى كلية أو الهلع والجزع «1» فيكون الخسران متحققا للإنسان- إذن- بسبب الكفر، وترك العمل، والتلهى بالباطل، وترك الحق، وفى الهلع والفزع وكلها أمراض خطيرة ينبه إليها الإنسان فى وقت التنزيل المبكر ليعان على الخروج منها واستمر التنزيل المبارك بعد ذلك ينبه إلى خسارة من يقع فيها أو يقيم عليها، فمن هذا قوله تعالى فى الخسران بسبب الخسر: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65)[الزمر] وقوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ [الأنعام: 31].
ومنه قوله تعالى فى خسران الإنسان بسبب ترك العمل: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الأعراف] لأن الموازين هى معايير الأعمال فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)[الزلزلة].
وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119)[النساء] لأنه يطيع أمره ويصير من حزبه: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)[المجادلة] خسروا بطاعتهم للشيطان وعصيانهم لله سبحانه.
ومن قوله تعالى فى الخسران بترك التواصى بالحق: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)[آل عمران] فإن الإسلام هو الحق وليس بعد الحق إلا الضلال.
ومن قوله تعالى فى الخسران بترك التواصى بالصبر والوقوع فى الهلع والفزع:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى
(1) أضواء البيان 9/ 495.
وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11)[الحج].
ونزول سورة العصر مع تزايد عدد الجماعة المسلمة فى مكة المكرمة ليرسى دعائم هذه الجماعة على الأسس القويمة من الإيمان الذى هو صلاح الجنان بسلامة الاعتقاد وصلاح اللسان النطق بكلمة التوحيد والطيب من الأقوال، وصلاح للجوارح لسعيها الموافق لما وقر فى القلب ونطق به اللسان فالإيمان اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالجوارح. كما تؤسس الجماعة على العمل الصالح الذى يدخل فى هذا الإيمان وبه يزيد وينقص. وهذا التأسيس على الإيمان يجعل العمل الصالح ابتغاء مرضاة الله، ويجعله موافقا لما يتنزل من وحى الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون مقبولا عند الله. ثم تؤسس الجماعة هذه بعد ذلك على التواصى بالحق، والتواصى بالصبر، وإن كان هذا التواصى يدخل فى عموم الأعمال الصالحة إلا أنه لأهميته فى الجماعة المسلمة يخص بعد العموم ولأن هذه الجماعة فى حاجة إلى التواصى بهذا الحق ليزيد تمسكها به وسط المحن والتحديات ولتستمر النفوس المؤمنة على ثباتها فلا تجزع ولا تيأس إذا اشتدت الخطوب فالتواصى أن يوصى بعضهم بعضا بالحق والحق كلمة جامعة لكل ما كان ضد الباطل؛ ولذلك يعد هذا التواصى أساسا للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى لا بدّ منه لتهيئة المناخ السليم للجماعة المسلمة «1» .
وقيل: الحق: هو القرآن لشموله على كل أمر ونهى وكل خير قال تعالى:
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء: 105] وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)[الزمر].
وقد جاءت آيات فى كتاب الله تعالى تدل على أن الوصية بالحق تشمل الشريعة كلها، أصولها وفروعها، ماضيها وحاضرها من ذلك ما أوحى الله به إلى الأنبياء عموما، من نوح وإبراهيم ومن بعدهم فى قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13].
وإقامة الدين القيام به جميعا، وكانت هذه وصية الرسل لأممهم ومن بعدهم،
(1) انظر: أضواء البيان 9/ 503 - 505.
فإبراهيم عليه السلام يقول الله تعالى فيه: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)[البقرة] ويعقوب يقول الله تعالى فيه: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)[البقر].
فالتواصى بأصل الإيمان وعموم الشريعة وكذلك بالعبادة قال تعالى عن نبى الله عيسى عليه السلام: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي [مريم]
وفى الوصية بالوالدين وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)[لقمان].
وفى الأبناء قال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] وهكذا تأتى سورة العصر لترسى هذه الدعائم الجامعة للجماعة المسلمة، والتى تنقذ الإنسان من الخسران، ويرتبط ذلك بالتنبيه على أهمية عمر الإنسان الذى يحياه فى خسر أو فى صلاح وفلاح.