الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «ص»
وبعد هذه الآيات الكريمة تنزل سورة «ص» لتستمر فى كشف مواقف الكافرين وتهديدهم، وبيان ما حدث لمن كان قبلهم. فهى سورة مكية فى قول الجميع، ونزلت بعد القمر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة «ص» بمكة «1» ، وأخرج ابن أبى شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذى وصححه والنسائى وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقى فى الدلائل عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقال: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إليه، فجاء النبى صلى الله عليه وسلم فدخل البيت، وبينهم وبين أبى طالب قدر مجلس رجل، فخشى أبو جهل أن يجلس إلى أبى طالب ويكون أرقى عليه فوثب، فجلس فى ذلك المجلس، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أى ابن أخى ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم. وتقول وتقول، قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«يا عم إنى أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدّى إليهم بها العجم الجزية» ، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة نعم وأبيك عشرا، قالوا: فما هى؟ قال: «لا إله إلا الله» ، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون- أجعل الآلهة إلها واحدا إنّ هذا لشىء عجاب- فنزل فيهم: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8)«1» .
فالسورة الكريمة تبرز جانبا من أسباب الكفر والعناد لدى الكفار وذلك لمعرفة حالتهم
(1) فتح القدير 4/ 418.
الضالة وتهديدهم ووعيدهم حتى يتمكن من تدبر حاله وخشى العاقبة من تدارك أمره والإذعان لما جاء فى القرآن ذى الذكر، فمن هذه الأسباب: الكبر والاستعلاء فى الأرض بغير الحق والذى يحول بين الإنسان وبين الاستجابة للحق والانقياد له. فالذين كفروا فى عزة وشقاق.
ومن هذه الأسباب: فساد تصور الكافرين عن الألوهية، وركونهم إلى تعدد الآلهة فكان تعجبهم من عقيدة التوحيد التى جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قولهم الذى ذكرته السورة الكريمة: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5).
ومن هذه الأسباب: فساد تصور الكافرين للنبوة فكان عجبهم أن يأتيهم منذر منهم، وكان قولهم الذى ذكرته هذه السورة الكريمة: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا.
فقد ربطوا النبوة فى أذهانهم بالمقاييس الجاهلية التى تقدر الإنسان بما لديه من مال وبما ينتمى إليه من عصبية، فالنبى فى نظرهم لا يخرج عن هذه المقاييس، وهذا جاء على لسان الوليد بن المغيرة حيث قال: أينزل على محمد وأترك؟ وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفى سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين «1». كما أنهم لم يتصوروا أن يكون الرسول رجلا بل ينبغى أن يكون ملكا. وهذا المعنى قد حكاه القرآن الكريم بعد ذلك فوجدناه فى مثل قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)[الأنعام] وفى قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (95)[الإسراء].
وفى بيان أسباب إعراض الكافرين وعنادهم نذكر من هذه الأسباب ما يقوم به السادة والكبراء من إضلال العامة وتوصيتهم بالاستمساك والصبر على باطلهم: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6). واعتبار السادة أن هذا شىء يراد يشعر بسبب له تأثيره فى الاستمساك بالكفر وهو نظرهم إلى النبى
صلى الله عليه وسلم على أنه يريد العلو عليهم وليصيروا أتباعا له، وهذا المعنى جاء على ألسنة كثير منهم من هذا ما قاله أبو سفيان فى فتح مكة عند ما وقف بمضيق الوادى لتمرّ به جنود الله، ومعه العباس عم النبى صلى الله عليه وسلم وبعد أن رأى جند الله قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، ثم
(1) الإسلام فى مواجهة التحديات د. محمد رأفت سعيد ص 120.
قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما، قال العباس:
قلت يا أبا سفيان: إنها النبوة، قال: فنعم إذا «1» .
فكلمة أبى سفيان تمثّل تصور المشركين لبعثة النبى صلى الله عليه وسلم، وأنه سينزع عنهم مكانتهم وسلطانهم وهيبتهم من القبائل، من أجل ذلك ناصبوه العداء، وتفننوا فى عدائه وكادوا له كيدا كبيرا.
ومما يدلّ على ذلك- أيضا- اجتماع وفد من المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا فيه للنبى صلى الله عليه وسلم: «يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلّمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثلما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسببت الآلهة، وسفّهت الأحلام، وفرقت الجماعة
…
فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيّا تراه قد غلب عليك- وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا- بذلنا لك أموالنا فى طلب الطب لك حتى نبرئك منه، فقال صلى الله عليه وسلم:«ما بى ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثنى إليكم رسولا، وأنزل علىّ كتابا، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردوا علىّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم» أو كما قال صلى الله عليه وسلم «2» .
فإذا كانت هذه من جملة أسباب عداء المشركين للنبى صلى الله عليه وسلم فإن السورة الكريمة تزجرهم وترد عليهم مزاعمهم وتتوعدهم وتعرفهم بحقيقة الأمر، ليصححوا تصوراتهم ويقلعوا عن غيهم وذلك بذكر ما يلى:
أولا: لا ينبغى أن يفتر هؤلاء بطول إمهال الله لهم، لأنهم لو ذاقوا العذاب لزال عنهم ما يجدون من كبر وعناد، قال تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8).
ثانيا: لا يملك هؤلاء من الأمر شىء فرحمة ربّك العزيز الوهاب يخص بها من
(1) جند الله فى معارك رمضان د. محمد رأفت سعيد 35، 36.
(2)
الإسلام فى مواجهة المخدرات د. محمد رأفت سعيد 30.
يشاء، فهل يملك هؤلاء رحمة ربك ليمنعوا أحدا نعمة الله عز وجل، قال تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ.
وكما جاء فى قوله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32].
ثالثا: هل لهؤلاء ملك السموات والأرض وما بينهما، إن ادّعوا ذلك فليصعدوا إلى السموات وليمنعوا الملائكة من إنزال الوحى على محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10).
رابعا: توعدهم الله بالهزيمة فيما ادّعوا من ناحية وفى مواجهتهم للنبى صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من ناحية أخرى، قال تعالى: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11).
خامسا: العبرة التاريخية فى عقاب من كان على شاكلتهم فى الكفر والعناد والكبر؛ قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ (13) الْأَحْزابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14).
ومع ذكر استهزائهم بالعذاب، واستعجالهم له يقول الله تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17).
ويذكّر الله سبحانه رسوله بما كان من أمر مجموعة من رسل الله السابقين مع بعض المواقف التى حدثت معهم وكيف كان تصرفهم وفى هذا تصبير من ناحية ودليل على صدق نبوته ورسالته؛ لأنه لا يعلم هذه الأخبار بصدقها وتفاصيلها أحد فيهم، وأن الله يهب من يشاء من خلقه ما يشاء من ملك وحكمة، فهو سبحانه الوهاب فهذا داود يقول الله فى شأنه: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20). ثم تذكر الآيات حادثة مع نبى الله داود لا يعلمها إلا الله قال تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ
نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24).
لقد تابعت السورة الكريمة ما حدث مع داود عليه السلام بعد استغفاره لربه وركوعه وإنابته قال تعالى: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26).
وفى هذا البيان القرآنى الكريم عن طريق القصة تؤكد المبادئ الآتية:
- إن من ولى من أمور الناس شيئا فعليه أن يحكم بين الناس بالحق.
- ومن كان الحق رائده فلن يتبع الهوى. فاتباع الهوى فيه الضلالة عن سبيل الله، ونتيجة هذه الضلالة أن ينسى الإنسان يوم الحساب حتى يقع فى العذاب الشديد.
- والذى يتبع الهوى لا ينظر إلى الأشياء نظرة صحيحة ولا يتبع فى نظرته اليقين، فالسماء والأرض فيهما من آيات الحق ما يجعل المؤمنين فى قوة إيمان والتزام بصالح الأعمال، وأما الذين كفروا فلا ينتفعون بهذه الآيات، ويتبعون الظنّ الذى يحرمهم من الانتفاع بالآيات. وإذا كان هذا شأن الإنسان مع الآيات الكونية فإنه كذلك مع آيات الكتاب العزيز فإن ثمرات الكتاب العزيز تجنى بالتدبر، قال تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29).
وبعد أن تعطى الآيات ما يجتنى من القصة السابقة تستأنف عطاء جديدا يمنحه الله لداود عليه السلام قال تعالى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40).
وتقديم النموذجين الكريمين للناس فى هذه الفترة المكية تهيئة صالحة لما سيقبلون عليه من استقرار الدولة المسلمة التى يقضى فيها بين الناس بالحق، وبيان كذلك للناس أن من عباد الله من أوتى الملك الذى لم يصل إليه واحد ممن يمنعه ماله وجاهه من الإذعان والامتثال لأمر الله ورسوله، والإنسان يبتلى بألوان من البلاء بالشر والخير، ولكن عاقبة المؤمنين دائما أن يتذكروا، وأن ينيبوا إلى ربهم، وأن يستغفروا ليجدوا مغفرة الله وإكرامه لهم.
ثم تقدم السورة الكريمة نموذجا آخر من صفوة الناس يبتلى، وكيف يكون حاله فى الابتلاء وكيف تكون عاقبته، قال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) فأيوب عليه السلام يبتلى بهذا الابتلاء الشديد فى بدنه، ويلجأ إلى الله ويدعوه رغبا ورهبا، فيكشف الله ما به من ضر ويؤتيه أهله ومثلهم معهم. وتقص الآيات تفصيلات حدثت مع هذا الابتلاء فى كيفية الضرب بالرجل على الأرض ليغتسل وليشرب فيبرأ بإذن الله، وكيف يضرب بالضغث ولا يحنث. وفى هذا تأكيد على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم أحد بهذه التفاصيل إلا الله الذى أنزل الكتاب وما عند أهل الكتاب يكتمونه، وليسوا معه فى مكة المكرمة مع ما حرفوه وبدّلوه وشوّهوا أحداث هؤلاء الصفوة.
وتستمر السورة الكريمة فى تقديم هذه النماذج المشرقة، ليقتدى بها فإن مواقفهم قابلة للتكرار، والتحلى بما كانوا عليه من صفات يحقق ما وصلوا إليه من نتائج، وما منحهم الله من عطايا.
يقول الله تعالى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48).
وفى الوقت الذى يضع التنزيل المبارك أمام الناس هذه النماذج الكاملة يبشر من اقتدى بهم، واتصف بصفاتهم، ويذكر ما أعد الله لهم من نعيم معنوى وحسى من تفتيح الأبواب والاتكاء والفاكهة الكثيرة والشراب الطهور والحور العين، قال تعالى:
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54).
ومع تقديمها للنماذج الكاملة من صفوة خلق الله، ليقتدى بهم فيما كانوا عليه من كريم الخصال وحميد الصفات، وحثّ الناس على اتباع سبيلهم، وبيان ما أعدّ من نعيم لمن سار على ذلك. تذكر الآيات بعد هذا البيان ما ينتظر الطغاة الذين انحرفوا عن هذا السبيل، وأصروا على الكفر واستكبروا استكبارا، وكيف يكون حالهم فى جهنم من خزى وعذاب، فبئس المسكن والمستقر وكيف يذوقون الماء الحار الذى يقطع أمعاءهم، وما يشبه ذلك من أنواع وأصناف، وكيف لا يرحّب بهم ويلعن بعضهم بعضا، ويلقى بعضهم على بعض سبب الوصول إلى هذا المصير.
وتذكر الآيات الكريمة مشهدا ينبه الساخرين من المؤمنين وأنهم مخطئون فى سخريتهم، قال تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56)
هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ
(64)
.
وبعد هذا الإنذار وقبله التبشير يؤمر النبى صلى الله عليه وسلم بتقرير مهمته وما جاء به من عند ربه من التوحيد والتذكير بالله سبحانه وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وما يقبلون عليه من مصير إذا أعرضوا عنه، ويقدم لهم أدلة صدقه فى إخباره عن أشياء لا سبيل إلى العلم بها إلا عن طريق الوحى، قال تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70).
ومن أخبار هذا الغيب ما يتعلق بخلق آدم عليه السلام من طين وكيف سواه الله، ونفخ فيه من روحه وأمر ملائكته بالسجود له، وكيف سجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس
استكبر وكان من الكافرين.
وذكر ما حدث من إبليس تنبيه للناس وتذكير لهم بحقائق لها صلة بكفر الكافرين، واستكبارهم وعنادهم، وتبصير لهم كذلك بسبب من أسباب الكفر والعناد، وما يحاوله الشيطان مع الإنسان بمحاولة إقحامه فى عقبة الكفر. وهذا ما وقع فيها الكافرون فلما أمروا باتباع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)[الزخرف] ونظروا كذلك إلى من آمن من المستضعفين نظرة احتقار، وأن الكافرين خير منهم. ثم تذكر الآيات الكريمة حرص الشيطان وإصراره على إغواء بنى آدم.
والعاقل مع وضوح هذه الحقائق يحسن السير ويتجنب المخاطر. قال تعالى: قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83).
ومع بيان جهد الشيطان ومحاولته فى إغواء بنى آدم وتحذير الناس من هذه العداوة يأتى الوعيد للشيطان ولمن تبعه قال تعالى: قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (84).
وبعد هذا التبشير والإنذار وبيان مصدر من مصادر العداوة للإنسان، وكيف يكون حرص الشيطان على الإغواء يأتى التأكيد على حرص النبى صلى الله عليه وسلم على تذكير العالمين دون أجر، وأنه يسلك فى هذا سبيل الفطرة دون تكلف فى أمره كله فلا تكلف فى أى مظهر من مظاهر الاعتقاد أو الأخلاق أو السلوك أو المعاملات. وأن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق الذى سيدرك الناس أجمعون أنه الحق الآتى الذى لا ريب فيه. قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88).
فالرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلف ولا يتخرص ما لم يؤمر به، روى مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: من سئل عما لم يعلم فليقل لا أعلم ولا يتكلف، فإن قوله لا أعلم علم، وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86).
وروى الدارقطنى من حديث نافع عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره. فسار ليلا فمروا على رجل جالس عند مقراة له فقال له عمر: يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة فى مقراتك؟ فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: «يا صاحب المقراة لا تخبره هذا متكلف لها ما حملت فى بطونها ولنا ما بقى شراب وطهور» . ولقد تعلم عمر من هذا الموقف فحدث معه موقف آخر يدل على استيعابه لهذه الفطرة، ففي الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج فى ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا.