المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة «الأعراف» نزلت بعد سورة «ص» فهى مكية إلا الآيات الآتية: - تاريخ نزول القرآن

[محمد رأفت سعيد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التعريف بالوحى

- ‌صور الوحى وما تحقق منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌رؤية النبى صلى الله عليه وسلم للملك

- ‌صورة مجىء ملك الوحى فى هيئة رجل

- ‌النفث فى الرّوع

- ‌كيفية إتيان الوحى إلى النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌صلصلة الجرس:

- ‌ما فرض من الله تعالى ليلة المعراج

- ‌تنزلات القرآن الكريم

- ‌الحكمة من هذه التنزلات

- ‌حاجة الأمة للنزول المفرق

- ‌نقل الناس من الضلال إلى الهدى

- ‌أول ما نزل من القرآن

- ‌ترتيب الآيات القرآنية

- ‌دليل هذا الإجماع (وجمع المصحف)

- ‌ترتيب السور القرآنية

- ‌ليلة نزول القرآن الكريم

- ‌تفصيل ما تضمنته سورة العلق

- ‌سورة «القلم»

- ‌سورة «المزمل»

- ‌سورة «المدثر»

- ‌سورة «الفاتحة»

- ‌سورة «المسد»

- ‌سورة «التكوير»

- ‌سورة «الأعلى»

- ‌سورة «الليل»

- ‌سورة «الفجر»

- ‌سورة «الضحى»

- ‌سورة «الشرح»

- ‌سورة «العصر»

- ‌سورة «العاديات»

- ‌سورة «الكوثر»

- ‌سورة «التكاثر»

- ‌سورة «الماعون»

- ‌سورة «الكافرون»

- ‌سورة «الفيل»

- ‌سورة «الفلق» و «الناس»

- ‌سورة «الإخلاص»

- ‌سورة «النجم»

- ‌سورة «عبس»

- ‌سورة «القدر»

- ‌سورة «الشمس»

- ‌سورة «البروج»

- ‌سورة «التين»

- ‌سورة «قريش»

- ‌سورة «القارعة»

- ‌سورة «القيامة»

- ‌سورة «الهمزة»

- ‌سورة «المرسلات»

- ‌سورة «ق»

- ‌سورة «البلد»

- ‌سورة «الطارق»

- ‌سورة «القمر»

- ‌سورة «ص»

- ‌سورة «الأعراف»

- ‌سورة «الجن»

- ‌سورة «يس»

- ‌سورة «الفرقان»

- ‌سورة «فاطر»

- ‌سورة «مريم»

- ‌سورة «طه»

- ‌سورة «الواقعة»

- ‌سورة «الشعراء»

- ‌سورة «النمل»

الفصل: ‌ ‌سورة «الأعراف» نزلت بعد سورة «ص» فهى مكية إلا الآيات الآتية:

‌سورة «الأعراف»

نزلت بعد سورة «ص» فهى مكية إلا الآيات الآتية: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ

وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ

(170)

.

قال ابن عباس: سورة الأعراف نزلت بمكة «1» وأخرج ابن مردويه عن عبد الله ابن الزبير مثله. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال: آية من الأعراف مدنية وهى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ

إلى آخر الآية، وسائرها مكية، وأما القرطبى والشوكانى فقد ذكرا ما جاء عن كونها مكية إلا الآيات الثمانى التى ذكرناها «2» .

وهى آيات تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل اليهود الذين هم جيرانه- ولم يكن ذلك إلا فى المدينة المنورة- سؤال تقرير وتوبيخ عن أخبار أسلافهم، وما مسخ الله منهم قردة وخنازير. وكان هذا من دلائل صدق النبى صلى الله عليه وسلم إذا أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم، وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه. فقال الله عز وجل

(1) أخرجه ابن الضريس والنحاس فى ناسخه وابن حزم وابن مردويه والبيهقى فى الدلائل من طرق عن ابن عباس فتح القدير 2/ 187.

(2)

القرطبى 7/ 160.

ص: 267

لنبيه صلى الله عليه وسلم: سلهم يا محمد عن القرية، أما عذّبتهم بذنوبهم؛ وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة واختلف فى تعيين هذه القرية فقال ابن عباس وعكرمة والسّدّى: هى أيلة، وعن ابن عباس- أيضا- أنها مدين بين أيلة والطور. وأما الزهرى فيرى أنها طبريّة.

وأما قتادة وزيد بن أسلم فيذكرون أنها ساحل من سواحل الشام بين مدين وعينون يقال لها: مقتاة. وكان اليهود يكتمون هذه القصة لما فيها من السبة عليهم «1» .

وسورة الأعراف أول سورة طويلة تنزل بمكة، فقد بلغت آياتها مائتين وست آيات بالآيات المدنية الثمانى. وقرأ النبى صلى الله عليه وسلم بهذه السورة على طولها فى صلاة المغرب. فقد روى النسائى عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ فى صلاة المغرب سورة الأعراف، فرّقها فى ركعتين «2» .

وعلى ذلك فإن سورة الأعراف تفصّل للناس من المعانى ما يدعم القضايا التى أثيرت فى السور السابقة، ومن هذه القضايا ما يتصل بالكتاب العزيز، ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أنزل إليه الكتاب، واستقبله بشوق وهمة وأنذر به الناس وبشرّ، والناس نحوه على قسمين: قسم مستجيب مؤمن، وقسم معرض معاند. وتبين السورة أمرا جديرا بالعناية نحو الكتاب والذى أنزل إليه وهو أمر الاتباع لما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم فالعلم وحده لا يكفى وإنما يجمع بين العلم والعمل. وأن عدم الاتباع والوقوع فى الكفر يؤدى إلى التهلكة، ولهم فى القرى السابقة عبرة فقد جاءهم العذاب بغتة ليلا أو نهارا قال تعالى:

المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5).

ومن القضايا الأساسية فى السورة الكريمة ما يتصل بالسؤال الذى سيوجّه إلى الجميع: إلى المرسلين، والذين أرسل إليهم وإخبارهم بما عملوا، فالله أحصى ما صنعوا وما يغيب عنه سبحانه شىء: ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7)[المؤمنون] قال تعالى:

فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7).

وما يسجّل على الإنسان أو له فإنما يسجّل بدقة بالغة، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً

(1) القرطبى 7/ 304، 305.

(2)

القرطبى 7/ 160، وفتح القدير 2/ 187.

ص: 268

يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)[الزلزلة] فالوزن يومئذ القسط والذى يثقل ميزانه بصالح عمله وحسن اتباعه فهو من المفلحين، والذى خفّت موازينه بالسيئات فقد خسر نفسه قال تعالى فى هذه السورة: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9).

وتأتى السورة الكريمة لتذكر الناس بتمكين الله لهم فى الأرض، وتهيئة أسباب المعايش لهم فيها، ولتذكرهم بنعمة الخلق والتصوير والتكريم بأمر الملائكة بالسجود لآدم قال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) ومع ذكر هذا التكريم تنبيه لبنى آدم، ليدركوا عداوة الشيطان لهم، وليقفوا على سوء منطقه وكبره وجزائه وإمهاله قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15).

تضع السورة الكريمة أمام بنى آدم توعّد الشيطان لبنى آدم وحيله معهم من كل طريق لإغوائهم: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18).

وكانت التجربة الأولى لبنى آدم فى أن ينهى آدم عليه السلام عن الاقتراب من الشجرة مع وجوده فى نعيم يغنيه عنها، ولكنّ الشيطان العدو المبين يسلك سبيله فى الوسوسة لآدم وزوجته، وتكون المعصية، ويظهر أثر المعصية على آدم وزوجته ولكن يتوبان إلى الله ويتوب الله عليهما، قال تعالى: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23).

ص: 269

واستمرت العداوة واستمر الكيد من الشيطان لبنى آدم وأهبط آدم وزوجته إلى الأرض يمارسان الحياة فيها وليكون الموت فيها، ومنها يكون الخروج وخير حال لبنى آدم أن تستر الثياب أجسادهم، وأن يتجملوا بها ظاهرا، وأن يلبسوا ثياب التقوى ليتجملوا بها خلقا وسلوكا وأعمالا.

وإذا كان الشيطان قد فتن آدم وزوجته لينزع عنهما لباسهما بالمعصية فينبغى ألا يقع بنو آدم تحت تأثير الشيطان نفسه وإغوائه فالسورة الكريمة تربط للناس الحاضر بالماضى ليأخذوا العبرة وليكونوا على حذر قال تعالى: قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وفى هذا بيان لعمل الشيطان ولطبيعته وصلته ببنى آدم حتى يأخذوا حذرهم منه.

وتصحح السورة الكريمة مفاهيم خاطئة لدى الناس من التقليد للآباء فى الفواحش وتبرير هذا التقليد بأن الله أمر بهذا، كما تصحح جهلا وقع الناس فيه وتوجه إلى الصواب فى الأمر قال تعالى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.

وتنبه السورة الكريمة الناس إلى البعث وأنهم سيعودون إلى الحياة مرة أخرى للحساب ولكن فريقا هدى وفريقا ضل الطريق قال تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30).

وتهيئ السورة النفوس لكى تتحلى بالمظهر الطيب عند لقاء الجماعة المؤمنة فى بيوت أذن الله أن ترفع، وأن تتحلى كذلك بالتوازن فى حياتها المادية والروحية والعقلية، فعند ما تنمى أبدانها بالطعام والشراب ينبغى ألا يكون ذلك على حساب الروح أو العقل فلا إسراف فى مأكل أو مشرب، فالإسلام جاء ليحقق التوازن فى كل شىء، ويجعل

ص: 270

أتباعه يتمتعون بما أحل الله من الطيبات والزينة، ويحصنون أنفسهم من الموبقات التى حرمها الله سبحانه قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33).

كما تذكر السورة الكريمة أن للأمم آجالا كآجال الأفراد، وأن هذه الأمم يمنّ الله عليها ببعثة الرسل يتلون عليهم آيات ربهم، والعاقبة لمن استجاب واتقى وأصلح، وأما الذين كذبوا واستكبروا فمصيرهم إلى النار.

وبعد هذا البيان فمن أظلم ممّن كذّب بآيات الله إنهم ظلموا أنفسهم ومهدوا لها بظلمهم السبيل إلى النار.

قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41).

ومن المعانى التى تضمنتها سورة الأعراف بيان منهج المؤمنين الذين يعملون الصالحات فى يسر العمل، وأخذ ما يستطيعون، وكيف يصيرون إلى الجنة بصدور لا غل فيها ونعيم تطيب به نفوسهم، واعتراف بفضل الله عليهم وهدايتهم، وتوفيقهم فى اتباع

ص: 271

الرسل واستقامتهم على صالح الأعمال، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43).

وتعرض سورة الأعراف مشهدا لفريقين من الناس فى الآخرة: فريق الجنة، وفريق النار، وما يكون بين الفريقين من كلام، كما تعرض لفريق ثالث بين الفريقين: ويمثل هذا الفريق رجالا على الأعرف أى ما يكن من سور أو حجاب يقال له: الأعراف لا من الجنة ولا من النار بل بينهما، ومن يكن عليه ير حال الفريقين الآخرين.

فأما أصحاب الجنة فينادون أصحاب النار بأنهم وجدوا ما وعدهم ربهم حقا.

وأما أصحاب النار فكانوا فى شك من وعد الله فكفروا فى الدنيا، أما الآن فإنهم يقولون: نعم. ولكن لا ينفعهم إيمانهم فى هذا الموقف، وقد ظلموا وصدوا عن السبيل وأرادوها عوجا وكفروا بالآخرة.

وأصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة والنار بسيماهم، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم- وهم- إلى الآن- لم يدخلوا الجنة ولكنهم يطمعون فى دخولها، ولم يجعل الله الطمع فى قلوبهم إلا لما يريد بهم من كرامته. وإذا وجّهت أبصارهم تلقاء أصحاب النار رأوا منظرا شنيعا، ودعوا ربّهم ألا يكونوا مع هؤلاء الظالمين.

ويجد أصحاب الأعراف عند رؤيتهم النار وأهلها رجالا يعرفونهم وكانوا فى الدنيا أصحاب أموال وأولاد وجاه؟ فيقولون لهم: ما أغنى عنكم ما كنتم تحتمون به وتفاخرون به من عصبية وجاه، لقد ذهب كل هذا ولم يغن عنكم شيئا. ثم أشاروا لهم إلى أناس من أهل الجنة كانوا فى الدنيا فقراء ضعفاء يستهزئ بهم أهل النار فيقولون لهم: أهؤلاء الذين احتقرتموهم وأقسمتم أنهم لا ينالهم الله برحمة. لقد قيل لهؤلاء الضعفاء- إكراما لهم: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. لقد كان هذا واقعا من المشركين مع المؤمنين، وقد مر بنا فى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35)[المطففين].

وأما موقف أصحاب النار فإنه موقف خزى نفسى، وعذاب أليم فهم ينادون على

ص: 272

أصحاب الجنة سائلين ماء أو شيئا مما رزقهم الله، ولكنّ الله حرّم هذا على الكافرين اللاهين اللاعبين الذين جحدوا ونسوا لقاء يومهم هذا فظلموا وطغوا. قال تعالى فى بيان هذا المشهد من سورة الأعراف: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51).

وتقدم السورة الكريمة ما يفيد أن أهل النار لم ينتفعوا بالكتاب الذى جاءهم مفصلا فهل إعراض هؤلاء عن الكتاب يرجع إلى انتظارهم لتحقق ما جاء فيه، إنه عند وقوع ما أخبروا به لن ينفعهم وقوفهم على هذا الحق يوم القيامة، ولن يجدوا شفعاء، ولن يردّوا إلى الحياة مرة أخرى، بل تكون عاقبتهم الخسران المبين قال جل شأنه: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53).

وبعد هذا يأتى التوجيه الكريم فى السورة الكريمة إلي المعرفة الصحيحة بالرب المعبود وحده لا شريك له، فهو الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام فلما قضاهما وأودع فيهما من أمره ما أودع استوى تبارك وتعالى على العرض العظيم استواء يليق بجلاله وعظمته وسلطانه. ومن آياته فى هذا الخلق الليل والنهار فيغشى الليل المظلم النهار المضىء، فيظلم ما على وجه الأرض، ويسكن الآدميون، وتأوى المخلوقات إلى مساكنها، ويستريحون من النصب والكد والكدح فى النهار. وكلما جاء الليل ذهب النهار، وكلما جاء النهار ذهب الليل، وهكذا ومن آياته المرتبطة بالليل والنهار: الشمس

ص: 273

والقمر والنجوم وما جعل فيها من آيات ومنافع، وما جعل فيها من إحكام ونظام وإتقان يدل على حكمته وقدرته ورحمته بخلقه. فله سبحانه الخلق وهذا يتضمن أحكامه الكونية، وله الأمر وهذا يتضمن أحكامه الشرعية، وله أحكام الجزاء والتى ذكرت من قبل الله رب العالمين، قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ

فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ

(54)

.

وفى السورة توجيه إلى المعرفة الصحيحة بالرب المعبود سبحانه ولمّا ذكر من عظمته وجلاله ما يدل ذوى الألباب على أنه وحده المعبود المقصود فى الحوائج كلها أمر بما يترتب على ذلك من دعائه وحده، والاستجابة لأمره ونهيه وعدم الإفساد فى الأرض بالمعاصى بعد إصلاحها بالطاعات، ودعائه سبحانه خوفا وطمعا فهو الذى يحقق الرجاء ويدفع الضر، وهو الذى يرسل الرياح المبشرات بالغيث الذى ترتاح له القلوب، وهو الذى سخر هذه الرياح لتلقّح السحب ولتسوقها إلى أرض لا غنى لها عن الماء لتحيا ويخرج الله به من كل الثمرات. والذى أحيا الأرض بعد موتها هو الذى سيحيى الإنسان بعد موته.

وإذا كانت الأمّة كالأفراد صلاحا وفسادا، فإن القرى التى تضم الأفراد والجماعات كذلك قد تكون بلدا طيبا يخرج نباته بإذن ربه، فليست الأسباب وحدها هى التى تخرج، وإنما تخرج بإذن ربها فينعم أهل البلد الطيب بثمراته، وأما الذى خبث من الأرض فلا يخرج إلا نباتا لا نفع فيه ولا بركة، كذلك حال القلوب وأصحابها مع وحى الله وآياته منهم: من يكون كالأرض الطيبة التى تستقبل الماء فتنتفع به وتخرج بإذن ربها للناس من كل زوج بهيج، ومنها: الأرض التى لا تنتفع بالماء ولا تخرج زرعا. قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58).

وبعد هذا العرض الجامع للقضايا الأساسية فى حياة الدعوة ونقل الناس من

ص: 274

الظلمات إلى النور ومن الضلال إلى الهدى يأتى التعليم القرآنىّ بالقصة المفصّلة التى تعرض ما حدث مع رسل الله السابقين وأممهم.

فهذا نبى الله نوح أرسله الله إلى قومه فأمرهم بعبادة الله وحده، وكانوا يعبدون الأوثان وخوّفهم من عذاب الله إن لم يطيعوه، وتصدّى له الملأ من قومه وهم الرؤساء الأغنياء المتبوعون، ولم يكتفوا بالكفر والإعراض بل قدحوا فيه واتهموه بالضلال المبين، وتلطف نوح فى ردّه عليهم فليس به ضلالة ولكنه رسول من رب العالمين يبلّغ وينصح ويعلم ما لا يعلمون، ولا مجال لعجبهم أن يخصّ بهذا الخير رجل منهم هو نوح عليه السلام لكنهم كذبوه، وكانت العاقبة أن أنجاه الله ومعه المؤمنون فى الفلك وأغرق المكذبين قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64).

وهذا نبى الله هود أرسله الله إلى عاد فقال لهم ما قال نوح من قبل: أن اعبدوا الله وحده، وأن اتقوا سخطه وعذابه، وتصدى له الملأ كذلك واتهموه بالسفاهة ورموه بالكذب، وخاطبهم برفق كذلك وأنه ليس به سفاهة ولكنه رسول من رب العالمين يبلغهم رسالة ربه وهو لهم ناصح أمين، وما لهم أن يعجبوا من أن يكون الرسول واحدا منهم وزاد هود فى نصحه ما يذكّرهم بما حدث لقوم نوح قبلهم، وأن الله زادهم بسطة فى الخلق ولكنهم عجبوا من التوحيد بعد التعدد وتعجلوا العذاب، فوقع عليهم وأنجاه الله والذين آمنوا معه. قال تعالى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها

ص: 275

أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72).

وهذا نبى الله صالح أرسله الله إلى ثمود فدعاهم إلى التوحيد، وقال لهم ما قاله نوح وما قاله هو: اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وجاءهم بآية خارقة ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فكان للناقة شرب ولهم شرب يوم معلوم، فكان عندهم بئر كبيرة يتناوبونها هم والناقة وهى المعروفة ببئر الناقة، فللناقة يوم تشربها، ويشربون اللبن من ضرعها، ولهم يوم يردونها، وتصدر الناقة عنهم. وقال لهم نبيهم صالح عليه السلام ذروها تأكل فى أرض الله فلا عليكم من مئونتها شىء، ولا تمسوها بسوء، وذكّرهم بنعم الله عليهم حيث مكّن لهم فى الأرض، ويسّر لهم الأسباب التى توصلهم إلى ما يريدون فاتخذوا القصور ونحتوا الجبال بيوتا، وجاءوا بعد عاد وعرفوا ما حدث لهم ونهاهم عن الفساد. فتصدى له كذلك الملأ الذين استكبروا، وحاول الملأ أن يشككوا المستضعفين ويتنوهم عن الإيمان بنبى الله صالح عليه السلام وعقروا الناقة ولم يستجيبوا لأمر ربهم وتعجّلوا العذاب فأبادهم الله وقطع دابرهم، قال تعالى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79).

وقد حذر الرسول الناس من سلوك سبيل هؤلاء، فأخرج أحمد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبرانى فى الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وصححه، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر قام فخطب فقال: «يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات. فإن قوم صالح سألوا نبيّهم أن يبعث إليهم آية فبعث الله لهم الناقة، فكانت ترد من هذا الفجّ فتشرب ماءهم يوم وردها، ويحتلبون من لبنها

ص: 276

مثل الذى كانوا يأخذون من مائها يوم غبّها، وتصدر من هذا الفجّ فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام، وكان وعدا من الله غير مكذوب، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا كان فى حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله»، فقيل: يا رسول الله من هو؟ فقال:

«أبو رغال؛ فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» قال ابن كثير: هذا الحديث على شرط مسلم وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث أبى الطفيل مرفوعا مثله.

وأخرج أحمد من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا أن تكونوا باكين. فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم» . وأصل الحديث فى الصحيحين من غير وجه، وفى لفظ لأحمد من هذا الحديث قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود.

وتناولت سورة الأعراف كذلك لوطا مع قومه الذين وقعوا فى الفاحشة التى ما سبقوا إليها، وهى: إتيان أدبار الرجال لقضاء الشهوة دون أن يمنعهم حياء وكانوا كالبهائم التى ينزو بعضها على بعض لما يتقاضاها من الشهوة، ويتجاوزون فى فعلهم هذا الزوجات من النساء اللاتى هن محل لقضاء الشهوة. ولما فسدت حالهم فى هذه العلاقات الآثمة فسدت نظرتهم إلى الأمور، والحكم على الناس فقالوا: أخرجوا آل لوط وأتباعه من قريتكم؛ لأنهم يتطهرون عن الإتيان فى هذا المأتى قال قتادة: عابوهم والله بغير عيب. وأصبح فى نظرهم الطهر عيبا يستوجب العقوبة. فأنجى الله لوطا وأهله إلا امرأته كانت من الباقين فى عذاب الله. قال تعالى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84).

وجاء بعد ذكر لوط عليه السلام وقومه ذكر شعيب وإرساله إلى مدين، وأمره لهم بعبادة الله سبحانه وحده وحثّه لهم على الاستقامة فى البيع والشراء بإتمام الكيل والميزان، وألّا

ص: 277

ينقصوا الناس أشياءهم، وألا يفسدوا فى الأرض، وألا يصدوا الناس عن الحق والهدى، وألا يبغوها عوجا، وأن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن ينتفعوا بعاقبة المفسدين.

وتناولت السورة شعيبا عليه السلام وإرساله إلى مدين وأمره لهم بعبادة الله سبحانه وحده والإصلاح الاقتصادى، وعدم الإفساد فى الأرض، وعدم الصدّ عن الحق وتذكّر نعم الله عليهم والانتفاع بما وقع لغيرهم قال تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93).

ولقد قدّمت سورة الأعراف نماذج متعددة من سلوك الناس مع رسل الله فى شركهم واستهانتهم بالحق وسخريتهم وفساد تصوراتهم وكبرهم وتكذيبهم، ووقوعهم فى الفاحشة، وسوء معاملاتهم الاقتصادية، وصدّهم عن سبيل الهدى، وإرادتهم للفساد فى الأرض وعدم انتفاعهم بما حدث لغيرهم، وكل هذا يمثل دروسا نافعة للناس؛ كى يفيدوا من أحداث السابقين والسعيد من وعظ بغيره. ولذلك كان التعقيب القرآنى بعد ذكر هذا القصص الحق: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95).

وإذا كان العقلاء هم الذين ينتفعون بما يحدث لغيرهم على مرّ الأيام والليالى فإن

ص: 278

الغافلين عن سنة الله فى خلقه لا يفيدون من حالات البأساء والضراء والتقلب فى الغنى والصحة بعد العذاب، ويعدّون هذا من قبيل العادات حتى يفاجئهم العذاب.

وتذكر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك سبيل الفتح والبركات لأهل القرى فى الإيمان والتقوى، وسبيل العذاب فى التكذيب والذنوب وعدم الوفاء، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ

أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ

(102)

.

وبعد هذا البيان الشافى والمبيّن لسنة الله فى خلقه عبر التاريخ يأتى التفصيل فى سورة الأعراف لما حدث من فرعون الذى يمثل قمة الطغيان البشرى، وكيف واجهه موسى عليه السلام بالآيات والبراهين؛ ليرجع عن طغيانه وإفساده، ولكنه كذّب وأبى فأغرقه الله وأذاقه وآله العذاب الأليم، وتعرض الآيات الكريمة تفصيلا للمواقف التى حدثت مع نبى الله موسى ومن آمن معه من فرعون وملئه، قال تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122).

ص: 279

ولو كان فرعون على بصيرة لأذعن من رؤيته لموقف سحرته، وأن ما جاء به موسى ليس من قبيل سحرهم، ولكنه لم يفد من هذا، وادعى لنفسه السلطة على عقول الناس وقلوبهم فلا ينبغى أن يرى أحد إلا ما يراه فرعون، قال جل شأنه: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126).

ثم تذكر الآيات تسلط فرعون على قومه فى عقولهم وقلوبهم، وموقف السحرة بعد إيمانهم بآيات ربهم، واستعلائهم على عذاب فرعون وطلبهم من ربهم رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك إغراء الملأ من قوم فرعون له بموسى ومن آمن معه لإيقاع المزيد من الأذى بهم، واستجابة فرعون لهذا، وموقفه من ضعاف القوم من الأبناء والنساء ويأمر موسى قومه بالاستعانة بالله والصبر والأمل فى العاقبة الطيبة. وتصريح قوم موسى بوقوع الأذى بهم من قبل أن يأتيهم ومن بعد إيمانهم به وتعقيب موسى عليه السلام بالرجاء فى استخلافهم فى الأرض، وإهلاك عدوّهم فماذا سيعمل هؤلاء بعد هذه المنّة. وأما آل فرعون فقد أخذهم الله بالقحط فلم يتعظوا، وإذا جاءهم الخصب والغنى لم يشكروا، وإذا جاءهم الجدب تشاءموا بموسى ومن آمن معه، وكان بعد ذلك إصرارهم على الكفر، وأنهم مهما جاءهم موسى بآية فلن يؤمنوا فأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وكان منهم الاستكبار والإجرام، فلما وقع عليهم العذاب بالإضافة إلى ما سبق من الآيات، وقيل فى العذاب: إنه الطاعون طلبوا من موسى أن يدعو ربّه إن كشف عنهم العذاب أن يؤمنوا فلما كشف عنهم العذاب إلى أجل نقضوا عهدهم، وأصروا على كفرهم، فأغرقهم الله فى البحر بتكذيبهم، وأورث المستضعفين مشارق الأرض ومغاربها.

وفى هذا العرض لما حدث لموسى وقومه وفرعون وقومه بيان للناس؛ حتى يفيدوا من تجارب السابقين وفى الوقت نفسه بيان لطبيعة بنى إسرائيل ليتهيأ المؤمنون فى معاملتهم بعد تأسيس الدولة بالمدينة المنورة فسيجدون اليهود- هناك- قال تعالى:

وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا

ص: 280

إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137).

وبعد هذا الإنعام من الله تعالى على بنى إسرائيل وعبورهم البحر يأتون على قوم يقيمون على عبادة الأصنام فيقولون لموسى عليه السلام: اجعل لنا صنما نعبده كما لهم آلهة، وهذا يدل على جهلهم وعدم استيعابهم لدعوة موسى عليه السلام فذكّرهم موسى عليه السلام بنعمة الله عليهم، وضلال أهل الوثنية، وأن المعبود بحق هو الله وحده، وتذكر الآيات ما كان من تهيؤ موسى لميقات ربّه، واستخلافه لهارون فى قومه ووصيته له بالإصلاح والتحذير من سبيل المفسدين. وهذه الأمور من الغيب الماضى الذى لا يعلمه إلا الله، وهو دليل على أن هذا القرآن كلام الله. وتقصّ الآيات ما كان من مطلب موسى عليه السلام بعد أن كلّمه ربّه فى النظر إليه سبحانه، وكان بيان الحكمة من

عدم تحقيق هذه الرؤية لموسى عليه السلام فى الدنيا بتجلى الله سبحانه للجبل، وهو أشدّ خلقا من الإنسان فلم يقو الجبل على ذلك، فكيف يطيق الإنسان فى الدنيا النظر إلى خالقه سبحانه. قال تعالى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ

ص: 281

فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143).

ويأتى بعد ذلك ذكر اصطفاء الله سبحانه لموسى عليه السلام برسالاته وبكلامه وتوجيه موسى إلى أخذ ما أوتى والشكر لله عليه: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) فالذى أوتى موسى نعمة كبرى تستوجب الشكر ففيها الإنقاذ لقومه مما حلّ بهم من فرعون وملئه، وفيه الشفاء مما أصاب عقولهم ونفوسهم من الضلال فى العقيدة حيث تشوّفوا إلى عبادة غير الله، وحيث استبدت بهم الجوانب المادية وملكت نفوسهم فجعلوها محورهم الذى عليه يدورون.

وتبين الآيات الكريمة فى سياقها التعليمى للأمة الخاتمة أن الانتفاع بما أوتى موسى لن يكون إلا بأخذه بقوة وهمة ونشاط وأخذ أحسن ما يسمع قال تعالى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145).

وتبين الآيات الكريمة فى توجيهاتها الحكيمة الصوارف للناس عن الانتفاع بالآيات، ومن أخطرها الكبر فى الأرض بغير الحق مما يدفع المتكبرين إلى عدم الإذعان لوحى الله، والميل والاختيار لطريق الغىّ فى الوقت الذى يرون فيه الطريقين، وهؤلاء الذين لم ينتفعوا بالآيات لتكذيبهم بها وغفلتهم عنها، وعما تضمّنته من الوعد والوعيد فى لقاء الآخرة خسروا أعمالهم وسيجدون جزاء موقفهم هذا، قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا

ص: 282

يَعْمَلُونَ (147) وفى بيان ما ضلّ فيه بنو إسرائيل من أمر العقيدة تذكر الآيات الكريمة صنيع قوم موسى للعجل من حليّهم دون أن يعملوا عقولهم فى حالهم، وكيف أنقذهم الله بالتوحيد الذى جاء به موسى، ولما وقعوا فى الضلال استدركوا فلولا رحمة الله ومغفرته لكانوا من الخاسرين، قال جل شأنه: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149).

ورجع موسى عليه السلام ليجد هذه الحالة المؤسفة فى قومه فيذمهم بغضب على ما صنعوا، وأخذ برأس أخيه ولكنّ أخاه عبر عن موقفه مع القوم بأنهم استضعفوه وكادوا يقتلونه. ومعنى ذلك أنه قاومهم ولم يحدث منه إقرار لهم على صنيعهم فليس من هؤلاء الظالمين، فدعا موسى لنفسه ولأخيه بالمغفرة والرحمة. وأما الذين اتخذوا العجل فسينالهم الغضب من ربهم والذلة. وأما الذين عملوا السيئات ثم استدركوا أنفسهم بالتوبة وصدق الإيمان فإن الله غفور رحيم.

وذكر هذه الأحداث بهذه السورة المكية تهيئ النفوس لمعرفة طبيعة قوم سيكون لهم خطر شديد، وبيان حقيقة نفوسهم تجعل المؤمنين على بصيرة من أمرهم، وهذا التجاور الذى سيتحقق فى المدينة بعد الهجرة ينبغى أن يحسب حسابه، ليجنب الله عباده المؤمنين كيد اليهود، وليدرك من شاء من اليهود حقيقة الوحى المنزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم والذى يذكر ما حدث لهم مع نبى الله موسى عليه السلام ولا يعلم ذلك إلا أحبارهم على ما فى أيديهم من بقايا التوراة التى عبثوا بها وغيروها وبدّلوها، ومن هذه التفصيلات كذلك أن موسى عليه السلام لما سكت عنه الغضب أخذ الألواح بما فيها من هدى ورحمة، واختار سبعين رجلا لميقات ربه، فلما أخذتهم الرجفة كان تذكر موسى عليه السلام لأفعال السفهاء من قومه قال: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ.

قال تعالى فى بيان ذلك من سورة الأعرف: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ

ص: 283

الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ

فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ

(156)

.

ومع ذكر هذه العبرة التاريخية للأمة الخاتمة فى دعاء موسى عليه السلام من أن عذاب الله يصيب به من يشاء، وأن رحمته سبحانه وسعت كلّ شىء، وأنه سيكتبها لأهل التقوى والزكاة وأهل الإيمان بآياته. يأتى الوصل اللطيف والذى يوجه للناس جميعا، ومنهم هؤلاء اليهود فالدعوة عامة وذكرهم قد تحقق قبل الهجرة فقد نزل قدر عظيم من القرآن الكريم، فليهيئوا أنفسهم لاستقبال الرسالة الخاتمة، فإن رحمة الله التى وسعت كل شىء، والتى ذكرت بعد دعاء موسى عليه السلام ستكتب لهؤلاء المتقين ومن أبرز علاماتهم كذلك: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) وفى هذا توجيه لليهود وللنصارى كذلك: وبيان لهم وللناس أجمعين أن الرسول الكريم جاءهم برسالته العظيمة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويحرم الخبائث، ويحقق للإنسان كرامته ويضع عنه الأغلال التى كبّل بها. وأن الواجب على من أراد الفلاح أن يؤمن به، وأن يقف بجانبه مؤيدا ونصيرا وأن يتبع النور الذى أنزل معه.

وهذا الحال للناس جميعا فرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين من المشركين واليهود والنصارى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

ص: 284

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) فالله سبحانه له ملك السماوات والأرض وهو المعبود بحق وهو يحيى ويميت ومنّ على خلقه السابقين والحاضرين برسله وخاتمهم النبى الأمىّ الذى جاء مصدّقا بكلمات ربه فليس أمام من يريد الهدى من العالمين إلا أتباعه صلى الله عليه وسلم.

وتذكر الآيات المنزلة بعد ذلك ما كان من شأن قوم موسى من وجود أمة يهدون بالحق، وما كان من فضل الله عليهم بموسى وسقيهم بالماء وتظليلهم بالغمام، وإنزال المنّ والسلوى وطيبات الرزق، وتوجيه القول لهم بسكنى هذه القرية، وماذا يصنعون لتحقيق المغفرة، لكن بدّل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فكان العذاب قال تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162).

وأما قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ فقد نزلت بالمدينة على نحو ما فصّلنا فى بداية السورة الكريمة وفيها ذكر صنيع اليهود فى التحايل وصولا إلى ما يريدون: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وفيها ذكر موقفهم من المواعظ وقسوة قلوبهم ونسيانهم، مما جعلهم أهلا للعقوبة الشديدة والمسخ وتسليط غيرهم عليهم وتقطيعهم فى الأرض، قال تعالى: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ

ص: 285

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170).

وتستمر الآيات الكريمة من سورة الأعراف فى بيان ما حدث مع قوم موسى لكشف ما كانوا عليه من ناحية، ولبيان أن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين، وأن مسيرة الوحى منذ آدم عليه السلام مستمرة إلى خاتمة الوحى فى رسالة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى العالمين، وتؤكد الآيات على معنى الأخذ بهمة وقوة لوحى الله؛ حتى يثمر فى الأخذ كما تأخذ الآيات على من يفصل بين العلم والعمل فلا يأخذها للعمل بهمة ونشاط، فلا ينتفع بها، ولا يتجمل بها ويصبح كالإنسان الذى انسلخ من جلده، فصار فى منظر كريه تشمئز منه النفس السوية فالجلد يجمّل الإنسان، وبه عناصر الحسّ الإنسانى فمن ينسلخ منه يفقد زينته، ويفقد حسّه وكذلك الذى تأتيه الآيات، فلا يحسن فى أخذها والانتفاع بها والعمل بما تضمنته من المعانى.

ويخرج كذلك الإنسان بهذا الإهمال وهذا التعطيل من دائرة التكريم الذى جعل الله عليه الإنسان، فهو تكريم مرتبط بمدى استجابة الإنسان لربّه، وإذا لم يستجب خرج من دائرة التكريم إلى دوائر مهينة- كما ذكر فى الآيات الكريمة هنا- حيث يكون كالكلب إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ كما تحذر الآيات من الغفلة والتقليد الأعمى للمبطلين وأن هذا لا يصلح للتبرير يوم الحساب قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا

إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ

ص: 286

الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178).

وتستمر الآيات الكريمة فى بيان أن الإنسان يبقى فى دائرة التكريم الإلهى ما دام مستجيبا لوحى ربه فإذا لم يكن كذلك خرج من هذه الدائرة إلى دوائر أخرى مهينة فالذى آتاه الله قلبا ولكن لا يفقه به وآتاه عينا ولكن لا يبصر بها الحق وآتاه الله أذنا ولكن لا يسمع بها. إن الذى أوتى هذه الأجهزة، ورزق هذه النعم فلم يحسن الانتفاع بها فى حسن تلقيها لوحى ربها خرج من دائرة التكريم وصار فى دائرة الأنعام، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179).

وتقدم الآيات الكريمة بعد ذلك تعريفا للناس بالله سبحانه فله جل شأنه الأسماء الحسنى وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180).

وتبين الآيات الكريمة انقسام الخلق إلى أمة تهدى بالحق، وإلى المكذبين بالآيات وهؤلاء يستدرجون من حيث لا يعلمون. ثم تنبه المخاطبين بالوحى فى أن يفكروا، لأنهم بالفكر السليم والنظر الثاقب سيدركون خطورة تكذيبهم وسيعلمون منّة الله عليهم فى بعثة الرسول من أنفسهم لينذرهم، قال تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186).

وتقدم الآيات بعد ذلك جوابا عن سؤال وجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة ومتى هى فتبين الآيتان علمها عند الله وأنها ستأتى فجأة. وفى هذا بيان للناس أن ما يتعلق بعلم الغيب فلا أحد يعلم عنه إلا ما شاء الله وأن رسوله صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ

ص: 287

إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188).

تأتى بعد ذلك الآيات الكريمة لتنبه الناس إلى حقيقة الخلق وما ينبغى أن يكون الإنسان عليه مع تذكّره، قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) فالخالق هو الله سبحانه وتعالى فله الخلق وحده. والناس جميعا خلقهم الله من نفس واحدة، ومنّ الله على الإنسان بنعمة السكن النفسى فجعل من آدم عليه السلام زوجة ليسكن إليها فهذه بداية البشرية. فالكل يعود إلى أصل واحد «كلكم لآدم» وزوجته منه، وليست من شىء آخر منفصل عنه. فلا تمايز- إذن- بين الناس من ناحية الخلق يجعلهم فى تحاسد وتباغض وكبر وأمراض تدفع بهم إلى الصدود عن الهدى، وعدم الاستجابة للداعى إلى الحق والرشاد. والخالق سبحانه الذى أنعم على الإنسان بنعمة الخلق والسكن والذرية من حقه على خلقه أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، ولكنّ البشرية قد نكبت بوقوع الشرك فيها من الشرك فى التسمية، كأن يسمّى الإنسان بعبد الحارث وعبد العزى وهكذا، أو ما حدث من بعض البشر من الشرك فى العبادة. وقد نبّه المفسرون إلى الانتقال من النوع إلى الجنس، فإن أوّل الكلام فى آدم وحواء ثم انتقل الكلام فى الجنس أى ما حدث من الذرية.

وتقدم الآيات الكريمة ما يعين الإنسان على التخلى عن عبادة غير الله سبحانه والتطهر من الشرك. فإن هؤلاء الشركاء لا يخلقون شيئا بل هم مخلوقون ولا

ص: 288

يستطيعون دفع مكروه عمن يعبدونهم ولا عن أنفسهم. إنهم لا يسمعون ولا يبصرون.

إنهم يشتركون مع عابديهم فى أنهم مملوكون لله سبحانه فهى مخلوقة كذلك. بل الإنسان له رجل يمشى عليها وله يد يبطش بها وله عين يبصر بها وله أذن يسمع بها، أما هؤلاء فحجارة وأخشاب فكيف تعبد من الإنسان.

وإذا ذكّرت الآيات الكريمة الإنسان بهذه الحقائق فإنها توجهه إلى العبودية الحقّة لله سبحانه وحده إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ كما ترشده إلى سبيل الصلاح وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196).

ومن المعانى التى تذكر فى الآيات الكريمة بعد بيان بطلان الشركاء ما يدعّم مكارم الأخلاق وحسن المعاملة، قال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) ونزول الآية الكريمة بهذه المعانى فى الفترة المكية تعين الرسول صلى الله عليه وسلم على مواجهة الأذى من المشركين، كما تعين المؤمنين على ذلك، قال جابر بن سليم أبو جرىّ: ركبت قعودى ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنخت قعودى بباب المسجد فدلّونى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال:«وعليك السلام» . فقلت: إنا معشر أهل البادية، قوم فينا الجفاء؛ فعلّمنى كلمات ينفعنى الله بها. قال:«ادن» ثلاثا، فدنوت، فقال:«أعد علىّ» فأعدت عليه، فقال:«اتق الله ولا تحقرنّ من المعروف شيئا، وأن تلقى أخاك بوجه منبسط، وأن تفرغ من دلوك فى إناء المستسقى وإن امرؤ سبّك بما لا يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبّن شيئا مما خوّلك الله تعالى» قال أبو جرىّ: فو الذى نفسى بيده، ما سببت بعده شاة ولا بعيرا. أخرجه أبو بكر البزار فى مسنده بمعناه «1». فهذه الأخلاق التى تبلغ الذروة من المكارم يوجّه الناس إليها فى مواجهة الجاهليين والمسيئين والقاطعين. روى البخارى من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير فى قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا فى أخلاق الناس. وجاء فى تفسيرها: «إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطى من حرمك وتصل من قطعك» «2» .

وبعد ذكر هذه المكارم الخلقية يأتى التوجيه إلى التحصين من الشيطان إذا استثار الإنسان ليغضبه أو ليأمره بالسوء والفحشاء أو القول على الله بما لا يعلم الإنسان. وأن

(1) القرطبى 7/ 233، 345.

(2)

القرطبى 7/ 345.

ص: 289

المتقين على بصيرة ووعى، لا يستطيع الشيطان أن يدخل إليهم وأما إخوانه الشياطين وأولياؤهم فإنهم إذا اقترفوا الذنوب لا يزالون يمدونهم فى الغى ذنبا بعد ذنب. قال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202).

وتختم سورة الأعراف بذكر قضية كبرى ينبغى أن يعرفها الناس، وهى أن الوحى يتنزل بأمر ربك وأن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم التبليغ واتباع الوحى بما فيه من حجج وهدى ورحمة. وأن الواجب مع القرآن الكريم الاستماع والإنصات حتى يؤخذ بهمة، وينال المتلقى رحمة الله. وأن يتحصن الإنسان بذكر ربه وألا يقع فى دائرة الغفلة، وأن ما يؤديه المرء من وجوه العبادات، فإنما هى لخيره وسعادته، فالناس فى أشد الحاجة إلى عبادتهم لله سبحانه وهو الغنى عنهم، قال تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206).

ص: 290