الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «القيامة»
وهى سورة مكية نزلت بعد سورة القارعة فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة القيامة، وفى لفظ سورة «لا أقسم بمكة» «1» ، وعن ابن الزبير قال: أنزلت سورة «لا أقسم بمكة» «2» .
ونزول سورة القيامة بعد سورة القارعة يعالج مجموعة من القضايا منها ما يتعلق بأخطرها وهى قضية البعث وموقف الإنسان منه بين مؤمن وكافر، وكيف يقدّم الإقناع العقلى والإشباع القلبى للانتفاع بركن الإيمان باليوم الآخر، فالسورة السابقة سميت بصفة من صفات هذا اليوم فهى القارعة. وهذه السورة سميت كذلك بما يحدث فى هذا اليوم من قيام الناس لرب العالمين، قال تعالى فى شأن هذا القيام: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)[المطففين] فهى سورة القيامة، وفيها بيان علاقة النفس بهذا اليوم ومعالجة هذه العلاقة وتحذير الإنسان من عاقبة الإنكار ومن عاقبة التغافل أيضا وبيان حقيقة المصير الذى إليه يصير الإنسان فى هذا اليوم.
ولصلة هذه القضية بالوحى المنزل وما يخبر به عن حقائق هذا اليوم كان البيان القرآنى فى السورة، والذى يطمئن النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والبيان لغيرهم- أيضا- فى أن هذا الوحى فى حفظه وبيانه يعود إلى الله وحده.
وتعرض السورة قضية النفس بين العاجلة والآخرة، وحالة الوجوه المتباينة، وأصحابها فى الآخرة، وكيف يساق الإنسان إلى مصيره سوقا لا يجدى معه عمل بشرى فى رقية أو مداواة، وكيف يكون حال المكذب المعرض عند ما يجد نفسه أمام هذا المصير، وهل يحسب الإنسان أنه يترك بلا أمر أو نهى بعد أن خلقه الله بهذا الإحكام من نطفة ومرورا بالأطوار الدالة على كمال القدرة. كل هذه القضايا تبسطها السورة أمام الناس فى مكة المكرمة؛ حتى لا يبقى مجال للإنكار، فالحجة واضحة والبرهان جلى والأدلة مقنعة ومشاهدة، وما حضر يدل على ما غاب وخفى دلالة قوية، وحتى
(1) أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقى فى الدلائل من طرق عن ابن عباس، انظر: فتح القدير 5/ 334.
(2)
أخرجه ابن مردويه، انظر: المرجع السابق، وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبى 19/ 91.
لا يبقى مجال للنسيان، والغفلة فالتذكير والتفضيل يأخذ باللب من كل جانب ليدرك الإنسان موقعه ولتصحّح النفس من حالها، ولترتقى فى شأنها حتى يكون صاحبها من أصحاب الوجوه الناضرة.
فالمقسم به فى السورة الكريمة على ما أجمع عليه المفسرون يوم القيامة والنفس اللوامة، وإقسامه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيمه ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وأقسم سبحانه بالنفس اللوامة كما أقسم بيوم القيامة. والنفس اللوامة هى التى تلوم صاحبها على تقصيره، أو تلوم جميع النفوس على تقصيرها. قال الحسن:
هى والله نفس المؤمن لا يرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بكذا ما أردت بكذا، والفاجر لا يعاتب نفسه، قال مجاهد: هى التى تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر لم لم تعمله؟ وعلى الخير لم لم تستكثر منه؟ قال الفراء: ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وهى تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا قالت: هلا ازددت، وإن كانت عملت سوءا قالت: ليتنى لم أفعل «1» .
وعلى ذلك «فلا أقسم» بمعنى أقسم وهذا ما ذكره أبو عبيدة وجماعة من المفسرين وقال السمرقندى: أجمع المفسرون أن معنى لا أقسم: أقسم واختلفوا فى تفسير لا، فقال بعضهم: هى زائدة وزيادتها جارية فى كلام العرب كما فى قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12]- يعنى أن تسجد- وقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29].
وقال بعضهم: هى ردّ لكلامهم حيث أنكروا البعث كأنه قال: ليس الأمر كما ذكرتم أقسم بيوم القيامة، وهذا قول الفراء وكثير من النحويين وقيل: هى للنفى، لكن لا لنفى الإقسام بل لنفى ما ينبئ عنه من إعظام المقسم به وتفخيمه، كأن معنى لا أقسم بكذا: لا أعظمه بإقسامه به حق إعظامه، فإنه حقيق بأكثر من ذلك، وقيل: إنها لنفى الإقسام لوضوح الأمر. ويرى الشوكانى رحمه الله ترجيح القول الأول «1» .
فالقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة وذكر الاثنين فى موضع واحد يحرك النفس الإنسانية؛ كى تعرف موقعها فى هذا اليوم وصلتها به وإعدادها له، وتجنب ما يعكر صفوها ونضارتها فى هذا اليوم.
(1) فتح القدير 5/ 335.
والسورة الكريمة تبين للناس جرم ما وقع فيه الإنسان من إنكار البعث: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) ويرد عليه بتذكيره بقدرة الله سبحانه وأنه سبحانه قادر على تسوية البنان، ومعنى ذلك أن البعث يرجع إلى قدرة الله فى إعادة الأشياء إلى ما كانت عليه بدقتها وتميزها عن غيرها وقد نبه المفسرون على هذا المعنى الدقيق فقال الشوكانى: على أن نجمع بعضها إلى بعض فنردها كما كانت مع لطافتها وصغرها فكيف بكبار الأعضاء فنبه سبحانه بالبنان، وهى الأصابع على بقية الأعضاء، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أولى فى القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق.
فهذا وجه تخصيصها بالذكر، وبهذا قال الزجاج وابن قتيبة «1» ، وفى ختام السورة يستمر التدليل على البعث بالتذكير بقدرة الله سبحانه فى خلق الإنسان؟
ومع معالجة السورة الكريمة لقضية البعث بالتذكير بقدرة الله سبحانه وفى ختام السورة نجد هذا التذكير أيضا بالنظر إلى خلق الإنسان من نطفة ثم تحول النطفة إلى علقة وكيف سوى خلقه فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى. فهل ينكر الإنسان مظاهر هذه القدرة فى هذا الخلق؟ أليس من خلق هذا بقادر على أن يبعث الإنسان.
إن بداية السورة ونهايتها فى معالجة هذه القضية؛ لأنها أساس ما بين البداية والنهاية، وهى التى تؤثر فى السلوك الإنسانى، والنفس الإنسانية وهذا ما عولج فى القضايا المبثوثة فى السورة الكريمة، ومنها: ما أخبر عنه الله سبحانه من سوء حال الإنسان وإصراره على المعصية والفجور، وأنه لا يرعوى، ولا يخاف يوما يجمع الله فيه عظامه ويبعثه حيا، بل هو مريد للفجور ما عاش، فيفجر فى الحال ويريد الفجور فى غد وما بعده، وهذا ضد الذى يخاف الله والدار الآخرة، فهذا لا يندم على ما مضى منه ولا يقلع فى الحال ولا يعزم فى المستقبل على الترك، بل هو عازم على الاستمرار، وهذا ضد التائب المنيب.
ثم نبّه سبحانه على الحامل له على ذلك، وهو استبعاده ليوم القيامة وليس هذا استبعادا لزمنه مع إقراره بوقوعه، بل هو استبعاد لوقوعه كما حكى عنه فى موضع آخر
(1) فتح القدير 5/ 336.
قوله: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)[ق].
أى بعيد وقوعه، وليس المراد أنه واقع بعيد زمنه. هذا قول جماعة من المفسرين منهم ابن عباس وأصحابه قال ابن عباس: يقدّم الذنب ويؤخر التوبة وقال قتادة وعكرمة: قدما قدما فى معاصى الله لا ينزع عن فجوره «1» .
وتنبه السورة المكذبين بالبعث وبيوم القيامة وما يحدث فيه فتذكر حال المكذب إذا شاهد اليوم الذى كذّب به فقال تعالى: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) فبرق بصره أى يشخص لما يشاهده من العجائب التى كان يكذب بها وخسف القمر ذهب ضوؤه وانمحى، وجمع الشمس والقمر ولم يجتمعا قبل ذلك بل يجمعهما الذى يجمع عظام الإنسان بعد ما فرقها البلى ومزقها، ويجمع للإنسان يومئذ جميع عمله الذى قدمه وأخّره من خير أو شر، ويجمع ذلك من جمع القرآن فى صدر رسوله، ويجمع المؤمنين فى دار الكرامة، فيكرم وجوههم بالنظر إليه، ويجمع المكذبين فى دار الهوان، وهو قادر على ذلك كله كما جمع خلق الإنسان من نطفة من منىّ يمنى ثم جعله علقة مجتمعة الأجزاء بعد ما كانت نطفة متفرقة فى جميع بدن الإنسان، وكما يجمع بين الإنسان وملك الموت ويجمع بين الساق والساق، ساق الميت أو ساق من يجهز بدنه من البشر، ومن يجهز روحه من الملائكة، أو تجمع عليه شدائد الدنيا والآخرة فكيف أنكر هذا الإنسان أن يجمع بينه وبين عمله وجزائه، وأن يجمع مع بنى جنسه ليوم الجمع، وأن يجمع عليه بين أمر الله ونهيه، وعبوديته فلا يترك سدى مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب فلا يجمع عليه ذلك. يقول ابن القيم: فما أجمع هذه السورة لمعانى الجمع والضم وقد افتتحت بالقسم بيوم القيامة الذى يجمع الله فيه بين الأولين والآخرين، وبالنفس اللوامة التى اجتمع فيها همومها وعمومها وإرادتها واعتقاداتها.
وتضمنت ذكر المبدأ والمعاد، والقيامة الصغرى والكبرى، وأحوال الناس فى المعاد، وانقسام وجوههم إلى ناظرة منعمة وباسرة معذبة وتضمنت وصف الروح بأنها جسم ينتقل من مكان إلى مكان فتجمع من تفاريق البدن حتى تبلغ التراق ويقول الحاضرون: مَنْ راقٍ (27)[القيامة] أى من يرقى من هذه العلة التى أعيت
(1) التبيان فى أقسام القرآن لابن قيم الجوزية ص: 94.
على الحاضرين، أى التمسوا له من يرقيه، والرقية آخر الطب «1» .
ومما يتصل بالإيمان بيوم القيامة أن الملك فيه لله وحده فلا مفر، ولا ملجأ من الله إلا إليه: كَلَّا لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12). فالمرجع والمنتهى والمصير إليه سبحانه.
ومما يتصل بذلك أيضا أن الإنسان يخبر يوم القيامة بما عمل من خير وشر يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) أى بما أسلف من عمل سيئ أو صالح، أو أخّر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود «2» .
وفى هذا توجيه إلى مسئولية الإنسان عن عمله وعن أثر عمله فيمن حوله وفيمن يأتى بعده، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علّمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورّثه أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله فى صحته وحياته تلحقه من بعد موته» «3» .
وخرّجه أبو نعيم الحافظ بمعناه من حديث قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبع يجرى أجرهن للعبد بعد موته وهو فى قبره: من علّم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورّث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته» .
ومع ما يتصل بقضية البعث ويوم القيامة، وما يكون من أمر الإنسان فيه يقول الله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)[القيامة] وفى
(1) التبيان فى أقسام القرآن لابن قيم الجوزية ص 96.
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبى 19/ 98.
(3)
أخرجه ابن ماجة فى سننه من حديث الزهرى أبو عبد الله الأغر عن أبى هريرة. الجامع لأحكام القرآن 19/ 98.
(4)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبى 19/ 99.
هذا تنبيه آخر إلى حقيقة يغفل عنها الإنسان الذى يلهو فى هذه الحياة ويلعب دون أن يدرى أن الشواهد عليه من نفسه وجوارحه. قال الأخفش: جعله هو البصيرة كما تقول للرجل: أنت حجة على نفسك. وقال ابن عباس: «بصيرة» أى شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة: الشاهد. ودليل هذا قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)[النور] وجاء تأنيث البصيرة لأن المراد بالإنسان هاهنا الجوارح؛ لأنها شاهدة على نفس الإنسان فكأنه قال: بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة، ولو اعتذر وقال: لم أفعل شيئا. وقال مقاتل: لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك نظيره قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [غافر: 52] وقوله: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)[المرسلات]«1» .
ومن القضايا التى تعالجها السورة الكريمة وهى من أسس الإيمان بالدين كله قضية الاطمئنان إلى الوحى وحفظه وذكرت فى السورة فى قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ.
روى الترمذى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرّك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله تبارك وتعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) قال: فكان يحرّك به شفتيه. وحرّك سفيان شفتيه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، فقال لى ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه فأنزل الله عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ قال: جمعه فى صدرك ثم تقرؤه فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قال:
فاستمع له وأنصت. ثم إن علينا أن نقرأه قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع، وإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبى صلى الله عليه وسلم كما أقرأه» خرّجه البخارى أيضا «2» ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ
(1) القرطبى 19/ 100، 101.
(2)
القرطبى 19/ 106، وانظر: لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطى ص 224، 225.
وَحْيُهُ [طه: 114] وقال عامر الشعبى: إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبّه له، وحلاوته فى لسانه، فنهى عن ذلك حتى يجتمع؛ لأن بعضه مرتبط ببعض. وقيل:
كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحى حرّك لسانه مع الوحى مخافة أن ينساه، فنزلت: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ونزل: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6)[الأعلى] ونزل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ قاله ابن عباس. وَقُرْآنَهُ أى وقراءته عليك. وقال قتادة: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أى فاتبع شرائعه وأحكامه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أى تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام قاله قتادة وقيل: ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما «1» .
وهذا يطمئن من عقل إلى مصدر الوحى، وأنه من عند الله، وأن وعد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بحفظ كتابه يتضمن جمعه وقراءته وبيانه ورسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله سبحانه، فلا ريب فى الكتاب ولا فيما تضمنه الكتاب العزيز.
ومما يتصل بيوم القيامة والنفس الإنسانية ما تذكره الآيات الكريمة كاشفة ميول النفس التى لم تركن إلى الحق، ولم تؤمن به فأحبت الدنيا وتعلقت بها وتركت الآخرة والعمل لها، وهذا من الأسباب القوية فى عناد الكافرين واستمساكهم بكفرهم ظنا منهم أن الإيمان وتبعاته ستذهب عنهم متعة الحياة الدنيا. قال تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وما علم هؤلاء أن الدنيا عاجلة ولن يطول مكثهم فيها وأن الآخرة خير وأبقى لمن آمن وعمل صالحا ونظير هذا قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا (27)[الإنسان].
ومما يتصل بيوم القيامة والنفس الإنسانية انقسام الناس إلى قسمين قسم له الوجوه الناضرة الممتعة بالنظر إلى وجه ربها الكريم، وقسم له وجوه كالحة كاسفة عابسة توقن بالهلاك قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25). فوجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة تنظر إلى ربها وكان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم تلا هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وكان الحسن يقول: نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم «2» . ووجوه الكفار كالحة كاسفة عابسة يوم القيامة.
ومما يتصل بيوم القيامة والنفس الإنسانية أنها ستساق سوقا إلى هذا اليوم ولا يجدى عندئذ أن يلوذ الإنسان برقية أو دواء يؤخر النفس إذا جاء أجلها: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ
(1) القرطبى 19/ 106.
(2)
المرجع السابق 19/ 107.
التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (29).
فكيف يكون حالها عند ما تأتى إلى هذا المصير وهى مكذبة معرضة: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) فلا صدق بالرسالة ولا بالقرآن ولا صلى لربه. قال قتادة: فلا صدق بكتاب الله ولا صلى لله، وقيل فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه «1» ولكن كذب بالرسول وبما جاء به وتولى عن الطاعة والإيمان. وهذا الإنسان الذى كذب وتولى لم يكتف بهذا العمل السيئ بل تفاخر به، وذهب إلى أهله يتبختر ويختال فى مشيته افتخارا بذلك. قال الواحدى: قال المفسرون: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أبى جهل، ثم قال: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) فقال أبو جهل: بأى شىء تهددنى لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بى شيئا، وإنى لأعز أهل هذا الوادى، فنزلت هذه الآية «2» .
وأخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس قال: لما نزلت: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)[المدثر] قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم يخبركم ابن أبى كبشة أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم، فأوحى الله إلى رسوله أن يأتى أبا جهل، فيقول له: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى
لَكَ فَأَوْلى
(35)
«3» .
ومعناه: الويل لك، وقيل: ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات: الويل لك حيا والويل لك ميتا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار. وقيل المعنى: إن الذم لك أولى لك من تركه، وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب قاله ثعلب، وقال الأصمعى: أولى فى كلام العرب معناه مقاربة الهلاك «4» .
ومما يتصل بيوم القيامة والنفس الإنسانية أن يدرك الإنسان أنه مع خلقه قد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بوحى الله له يأمره وينهاه وأنه سيحاسب أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36)[القيامة: 36] أى هملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يحاسب ولا يعاقب.
إن تأمل الإنسان فى خلقته من نطفة، وما مرّ به من أطوار يجعله مدركا لفضل الله
(1) فتح القدير 5/ 341.
(2)
المرجع السابق 5/ 342.
(3)
لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطى ص 255.
(4)
فتح القدير 5/ 341، 342.
عليه ومقدرا لعظمة الله وقدرته ومؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر:
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) بلى قادر. فهذه الكلمة الأخيرة نتيجة التأمل فى هذه الأطوار وفى مظاهر هذه القدرة ولذلك أخرج عبد بن حميد وابن الأنبارى عن صالح أبى الخليل قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية:
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) قال: «سبحانك اللهم وبلى» وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحانك ربى وبلى» وأخرج ابن النجار فى تاريخه عن أبى أمامة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول عند قراءته لهذه الآية: «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» وأخرج أحمد وأبو داود والترمذى وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فانتهى إلى آخرها أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل: بلى، ومن قرأ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فبلغ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) فليقل: آمنا بالله» . وعلى الرغم من أن فى إسناد هذا الحديث رجل مجهول إلا أنه يرشدنا مع غيره من الأحاديث إلى تأمل الآيات وتدبرها والتفاعل مع معانيها. ومنها هذه السور الكريمة التى بدأت بذكر يوم القيامة والنفس اللوامة فى أسلوب قسم يبرز المعنى ثم تتابعت الآيات الكريمة، التى تبين ما يتعلق بيوم القيامة والنفس الإنسانية فى حالاتها، وعرض أخطر القضايا فى هذه العلاقة وهى قضية البعث والاطمئنان إلى الوحى، والتصديق بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من القضايا التى كانت قريش فى أمس الحاجة إليها فى الفترة المكية، وما بعدها.