الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «الفرقان»
وبعد سورة «يس» وما قدمته من إحياء القلوب بالقرآن كما تحيا الأرض بالغيث، وإحياء الناس بعد الموت وحال الناس مع هذا الكتاب الحكيم، تنزل سورة الفرقان لتفصّل القول فى التوحيد فهو الأهم، وهو الأساسى وكذلك تفصّل القول فى النبوة وتصحح مفهومها للناس ثم فى المعاد وما يتعلق به، فسورة الفرقان مكية كلّها فى قول الجمهور، وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة وهى قوله تعالى:
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70).
وقد أخرج البخارى ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أى الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» . قلت: ثم أى؟ قال:
«أن تزانى حليلة جارك» ، فأنزل الله تصديق ذلك: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ، وأخرجا وغيرهما أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ناسا من أهل الشرك قد قتّلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم: فقالوا: إن الذى تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أنّ لما عملنا كفارة، فنزلت وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ الآية، ونزلت: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
…
الآية [الزمر: 53]. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية اشتد ذلك على المسلمين، فقالوا: ما منا أحد إلا أشرك وقتل وزنى، فأنزل الله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
…
الآية، يقول لهؤلاء الذين أصابوا هذا فى الشرك، ثم نزلت هذه الآية: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ فأبدلهم الله بالكفر الإسلام، وبالمعصية الطاعة، وبالإنكار المعرفة، وبالجهالة العلم، وأخرج ابن المنذر والطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) ثم نزلت: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بها وفرحه ب إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.
وتبدأ السورة الكريمة فى بيان عظمة الخالق الكاملة وتفرده بالوحدانية وكثرة خيراته وإحسانه، ومن أعظم هذه الخيرات أن ينزل الفرقان علي عبده ليكون فارقا بين الحق والباطل فى كل شىء، وهاديا للتى هى أقوم فى كل أمر: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1).
ومع بيان التوحيد الخالص يذكر وصف المنزّل عليه، وخير وصف له وصفه بالعبودية لله سبحانه، كما يعرّف الناس بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه الفرقان لينذر العالمين فرسالته عامة وليست لقومه فحسب. وأساس هذه الرسالة التوحيد الخالص ويذكر من جوانبه: أنه سبحانه له ملك السموات والأرض، فله التصرف فيهما وحده وكل من فيهما عبيد له خاضعون لربوبيته فقراء إلى رحمته، وأنه سبحانه منزه عما وصفه به الضالون من نسبة الولد إليه أو الشركاء فى الملك. وتجاور هذه الصفات الجليلة لله سبحانه تعين السامع والقارئ على التنزيه، فكيف يكون له الملك والكل عبيد له خاضعون لربوبيته ثم يزعم قوم أن له ولدا أو شريكا وهو القاهر وغيره مقهور والغنى والمخلوقون مفتقرون إليه قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3).
ثم تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك مزاعم الكافرين الذين واجهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه. فطعنوا فى القرآن الكريم وطعنوا فى المنزّل عليه صلى الله عليه وسلم. وهى مطاعن مزيّفة قادهم إليها الهوى والحقد والحسد وخشية فوات المغانم المادية، وسوء فهمهم للنبوة واصطفاء الله سبحانه لمن شاء من خلقه ليكون للناس رسولا.
فوصفوا القرآن وهو أصدق الكلام وأعظمه وأجلّه بأنه كذب وافتراء، ووصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم وهم الذين لقبوه بالصادق الأمين، وأقروا بصدقه وأمانته نتيجة عشرة ومعرفة بحقيقته أكثر من أربعين سنة «1» - بالكذب على الله، وأنه ينسب هذا الكلام إلى الله وقد علّمه إياه قوم آخرون، وترد الآيات عليهم بأنهم ظالمون كاذبون فى مطاعنهم هذه. قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6).
وتذكر الآيات بعد ذلك فساد تصور هؤلاء عن الرسالة والرسول وصفاته وما يكون
(1) القرطبى 10/ 329.
عليه. ذكر ابن إسحاق وغيره أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضوا به معجزة اجتمع رؤساء قريش بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلي محمد صلى الله عليه وسلم فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فآتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بدو وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم. فكان مما قالوه فى هذا المجلس:«سل ربّك أن يبعث معك ملكا يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك، واسأله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة» يغنيك بها عما زاك تبتغى، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى تعرف فضلك ومنزلتك من ربّك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«وما أنا بفاعل وما أنا بالذى يسأل ربه هذا وما بعثت بهذا إليكم ولكن بعثنى بشيرا ونذيرا- أو كما قال- فإن تقبلوا فى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة
وإن تردوا علىّ أصبر لأمر الله حتى يحكم بينى وبينكم» «1» .
فهؤلاء عيّروا الرسول صلى الله عليه وسلم بأكل الطعام؛ لأنهم تصوروا أن يكون الرسول ملكا، وعيّروه بالمشى فى الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة يترفعون عن الأسواق وكان عليه الصلاة والسلام يخالطهم فى أسواقهم ويأمرهم وينهاهم فكان ردّ القرآن الكريم عليهم مع تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10).
وتبين الآيات الكريمة بعد ذلك أن سبب هذا الفساد لدى المشركين تكذيبهم بالساعة، وجهل هؤلاء الوعيد الشديد من الله سبحانه لمن كذب بالساعة، فإن التكذيب بالساعة يفعل بالإنسان مثل ما حدث من هؤلاء المشركين من ظنون فاسدة وأعمال سيئة، ويعقبه ويل وهلاك. وفى نفسه ينعم المؤمنون المتقون بوعد الله الصادق جزاء إيمانهم وتقواهم واستقامتهم قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ
(1) القرطبى 13/ 8، 9.
عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا (16).
ثم تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك- كيف تتقطع الأسباب بين الضالين المكذبين ومن عبدوهم من دون الله. وكيف يتبرأ هؤلاء المعبودون بالباطل من عابديهم الضالين. وأن السبب فى ضلالهم وافتراءاتهم انغماسهم فى المتع التى غمرهم الله بها ولكن بدلا من أن يشكروا ربّهم نسوا الذكر وكانوا من الهالكين. ويقع المكذبون فى العذاب ولا يستطيعون أو يستطيع أحد أن يصرفه عنهم، قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19).
وتخاطب الآيات بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلّية له فى مواجهة المكذبين وافتراءاتهم وبيان حكمة الله فى اختبار خلقه فالكل يبتلى والله بصير بعباده ويعلم من يظفر فى الاختبار ومن لا يوفق فيه قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20).
قال ابن عباس: لما عيّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ
…
الآية حزن النبى صلى الله عليه وسلم لذلك، فنزلت تعزية له؛ فقال جبريل عليه السلام:
السلام عليك يا رسول الله، الله ربّك يقرئك السلام ويقول لك: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أى يبتغون المعايش فى الدنيا «1» . وأما قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ فقد نزلت فى أبى جهل ابن هشام والوليد بن المغيرة والعاصى بن وائل، وعقبة بن أبى معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث حين رأوا أبا ذرّ وعبد الله بن مسعود وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة وسالما مولى أبى حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبرا مولى الحضرمى، وذويهم؛ فقالوا على سبيل الاستهزاء: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟
فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين أَتَصْبِرُونَ خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أى اختبارا لهم.
ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا [المؤمنون: 111]«2» .
(1) القرطبى 13/ 12، 13.
(2)
القرطبى 13/ 18، 19.
كما تستمر الآيات الكريمة فى بيان تصورات الكافرين الفاسدة فى أن الرسالة تكون عن طريق الملائكة، أو تشهد الملائكة للرسول بالرسالة، أو أن يكلمهم الله سبحانه ويقول: هذا رسولى فاتبعوه، وهذا منطق الكبر والعتوّ، ويوم يرى هؤلاء المجرمون الملائكة فلن تكون الرؤية البشرى لكفرهم وعنادهم كما أن أعمالهم التى بنيت على الكفر لن ننفعهم شيئا فى الآخرة. فى الوقت الذى ينعم فيه المؤمنون الصالحون بالجنة، قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ
اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً
(26)
.
ومن المعانى التى تضمنتها سورة الفرقان على ترتيب نزولها ما جاء فى قوله تعالى:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) بعد ذلك تذكر الآيات نوعا من الكافرين الظالمين الذين يشتد ندمهم وتشتدّ حسرتهم لأنهم كفروا بعد إيمانهم وكان كفرهم بسبب سماعهم لخليل السوء الذى يحرّض خليله على الضلال وفى هذا تنبيه للناس إلى عداوة شياطين الإنس وشياطين الجن الذين يحرصون على إضلال من آمن واهتدى، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (29) أخرج ابن مردويه وأبو نعيم فى الدلائل بسند قال السيوطى: صحيح من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس: أن أبا معيط كان يجلس مع النبى صلى الله عليه وسلم بمكة لا يؤذيه، وكان رجلا حليما، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبى معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أبو معيط، وقدم خليله من الشام ليلا فقال لامرأته:
ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشدّ ما كان أمرا، فقال: ما فعل خليلى أبو معيط؟ فقالت: صبأ، فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو معيط فحيّاه فلم يردّ عليه التحية، فقال: مالك لا تردّ علىّ تحيتى؟ فقال: كيف أردّ عليك تحيتك وقد صبوت؟
قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال: نعم، قال: مما يبرئ صدورهم إن أنا فعلته؟ قال:
تأتيه فى مجلسه فتبزق فى وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم، ففعل فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن مسح وجهه من البزاق، ثم التفت إليه فقال:«إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا» ، فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن
يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا، قال: وعدنى هذا الرجل إن وجدنى خارجا من جبال مكة أن يضرب عنقى صبرا، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه. فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين وحمل به جمله فى جدود من الأرض، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيرا فى سبعين من قريش، وقدّم إليه أبو معيط، فقال: أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: «نعم بما بزقت فى وجهى» ، وفى رواية قال:
«نعم بكفرك وعتوّك» «1» فأنزل الله فى أبى معيط وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ إلى قوله تعالى: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (29)«2» وأخرج أبو نعيم هذه القصة من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، وذكر أن خليل أبى معيط هو أبىّ بن خلف.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضا فى قوله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قال: أبىّ بن خلف وعقبة بن أبى معيط، وهما الخيلان فى جهنم «3» .
ومع إعراض الكافرين عن وحى ربهم ونكوصهم، ومع حرص الرسول على هداية الناس أجمعين يأتى ذكر القرآن الكريم لحال رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إلى الله إعراض هؤلاء. ويسلّيه القرآن الكريم بما حدث لكل نبى من وجود هذا الفريق الذى أجرم ولم يهتد، قال تعالى: وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31).
ومع الإعراض من الكافرين يكون التصور الفاسد للأشياء وما يتعلق بالوحى والنبوة ومن هذا نظرهم إلى نزول القرآن الكريم مفرّقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدوّا ذلك نوعا من التعذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وغاب عنهم ما يكون من الحكم المصاحبة لنزول القرآن الكريم مفرقا فمنها: ما يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبيت فؤاده وتقويته فى مواجهة التحديات الشديدة والمستمرة، ومنها: ما يتصل بالناس وتلقيهم للقرآن الكريم ليحسنوا سماعه وفهم معانيه وحفظه والعمل به، ومنها: ما يتصل بالمنهج الذى يتم به نقل هؤلاء الناس من الضلال إلى الهدى ومن الظلمات إلى النور بصورة مناسبة تجعلهم خير أمة أخرجت للناس.
وكان إعراض هؤلاء الكافرين وفساد تصورهم حاجبا لهم عن رؤية هذه الحكم وغيرها، وإعراضهم هذا وكفرهم يصل بهم إلى جهنم. أخرج ابن أبى حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء فى المختارة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال
(1) القرطبى 13/ 25.
(2)
فتح القدير للشوكانى 4/ 74.
(3)
المرجع السابق 4/ 75.
المشركون: لو كان محمد كما يزعم نبيا فلم يعذّبه ربّه؟ ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، ينزل عليه الآية والآيتين والسورة والسورتين، فأنزل الله على نبيه جواب ما قالوا: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34).
ومع سوء فهم الكافرين لحكمة نزول القرآن الكريم مفرقا وإعراضهم الذى وصل بهم إلى جهنم. تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث مع أنبياء الله ورسله من أقوامهم وكيف كان إعراضهم وعاقبة هذا الإعراض، وكيف أن هؤلاء الكافرين يرون آثار ما وقع بهؤلاء الكافرين السابقين، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40).
وتذكر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك أسلوبا وصورة من صور التحدى التى يراد بها التأثير على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وهو أسلوب السخرية والاستهزاء. فكان أبو جهل يقول للنبى صلى الله عليه وسلم مستهزئا: «أهذا الذى بعث الله رسولا» فنزل فيه قوله تعالى:
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41).
كما تذكر الآيات ما كان من شأن الكافرين فى قلب الحقائق حيث يصفون من يهدى إلى التوحيد وإلى الصراط المستقيم بأنه يضلهم عن آلهتهم، ولكنهم صبروا واستمسكوا بآلهتهم، ويكشف القرآن ضلالهم فى أنهم يتبعون أهواءهم فى عبادتهم لهذه الآلهة المزعومة، ومن هنا يكون العجب من إضمارهم الشرك، وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه سبحانه خالقهم ورازقهم، ثم يقصدون حجرا يعبدونه من غير حجّة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زمانا من الدهر فى الجاهلية، فإذا وجد حجرا أحسن منه رمى به وعبد الآخر «1». قال تعالى: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43).
(1) فتح القدير 4/ 78، 79.
وتبين الآيات الكريمة بعد ذلك ضلال هؤلاء الكافرين الذين لا يسمعون الوحى سماع قبول والذين لا يفكرون فيما يقوله الرسول فيعقلونه فصاروا بمنزلة الأنعام فى الأكل والشرب ولا يفكرون فى الآخرة، وفيما ينفعهم بل هم أضل من الأنعام إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام، والأنعام تمضى فيما سخّرت له، وإن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك. وعلى ذلك فإن الآيات الكريمة تربط كرامة الإنسان باستجابته لوحى ربّه وحسن تلقيه له بالسمع والفهم والطاعة وإلا خرج من دائرة الإنسان إلى دوائر الأنعام المهينة، قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا.
وللسموّ بالعقل الإنسانى ليخرج من دائرة الضلال، وللوقوف به على آيات القدرة والنعمة فى هذا الكون الذى يعيش فيه الإنسان، ووصولا إلى الحبّ والخشية للمنعم القادر سبحانه تبسط الآيات الكريمة بعد ذلك آية الظل وكيف مدّه الله سبحانه لينتفع الناس به، وآية الليل ليسكن الناس فيه، وآية النوم ليستريح الناس به، وآية النهار ليسعى الناس فيه، وآية الرياح وما تحمل من آثار رحمة الله بخلقه وآية الماء الطهور الذى تحيا به البلاد ويشرب منه الناس والأنعام، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (50).
فهكذا تكون الآيات للتذكير ولكن لا ينتفع بها من الناس إلا من كان له سمع وتدبر وعقل وهؤلاء من الناس قليلون. وإذا كانت هذه الآيات تحمل مظاهر النعمة والقدرة من الله على خلقه فإن أجلّ هذه النعم من الله على عباده نعمة الوحى لخلقه واختيار المنذرين منهم ليرشدوهم ولو شاء الله لبعث فى كل قرية نذيرا منهم ولكن شاء الله أن تكون معية الرسول صلى الله عليه وسلم نعمة عامة للناس أجمعين قال تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52).
وتستمر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك فى تذكير الناس بآيات النعم والقدرة فهذان البحران يلتقيان بقدرة الخالق سبحانه، ويحافظ كل منهما على خصائصه لينتفع الناس من كل بحر بما جعل الله فيه من خصائص دون أن يبغى بحر على بحر. وهو سبحانه القادر الذى خلق من الماء البشر على كثرتهم.
وكل هذه الآيات تقتضى من البشر أن يعبدوا الله وحده، ولكن الكافرين لم
ينتفعوا بالآيات قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55).
ومع وقوفنا عند آيات القدرة والنعمة التى يفيد منها المؤمنون ولا ينتفع بها الكافرون فيعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وهذا يحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحريص على هداية الناس، تخاطبه الآيات الكريمة بعد ذلك بما يخفف عنه هذا وبما يوقظ فى نفوس الناس رغبة اتباع الرسول الذى لا يطلب منهم على هدايتهم أجرا. فهو يدعو إلى الله وحده ويتوكل عليه ويسبح بحمده وكل ذلك من أسباب تقوية النفس «فى مواجهة هذه المواقف من الناس، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59).
وفى هذه الآيات تعريف للناس بكيفية معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا فليس الأمر فيها على الهوى، وإنما نثبت ما أثبته الله سبحانه لنفسه وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم، وننفى ما نفاه عن نفسه سبحانه من غير تأويل أو تعطيل أو تشبيه. فالله سبحانه الخبير الذى عرفنا بنفسه فى كتابه الكريم وفى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم النافع هم الذين يلتزمون بهذا ويسألون من قبل غيرهم ليخبروهم بهذا. وإذا كان هذا منهج سلف الأمة فإن الكافرين المستكبرين الجاحدين يتساءلون كبرا عن الرحمن سبحانه، وهو الذى خلق ورزق ورحم عباده ببعثه رسوله، وكثر خيره على خلقه فجعل لهم ما يرونه فى السماء من بروج، وجعل فيها شمسا وقمرا وجعل لهم الليل والنهار. وإذا كان موقف الكافرين الاستكبار فإن للرحمن عبادا زانهم إيمانهم بربهم فعاملوا الناس بمكارم الأخلاق، وعبدوا الله بصدق وإخلاص فصلوا بالليل والناس نيام وعرفوا عاقبة الكافرين والمعرضين فاستعاذوا بالله من النار وعرفوا الوسطية فى إنفاقهم. قال تعالى:
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66)
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67).
وأما الآيات الثلاث التى تلا الآية السابقة فى سورة الفرقان والتى تذكر من صفات عباد الرحمن، قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) فإنها آيات مدنية فى قول ابن عباس وقتادة.
وأما بقية آيات سورة الفرقان فتذكر من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور الذى يمكن أن يقع فيه غيرهم، ومعنى ذلك أنهم لا يقولون الزور ولا يفعلونه وأنهم كرام لا يشهدون لغوا ولا يأتونه، وأنهم يحسنون الإقبال على آيات الله بكل ما أوتوا من قدرات. وهم الذين يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يهبهم من المحيطين بهم من أزواج وذرية ما تقر به أعينهم، وأن يجعلهم فى الخير أئمة يقتدى بهم، وجملة هذه الصفات تدل على سمو حال هؤلاء وصلاحهم مع ربهم ومع أقرب الناس إليهم ومع الذين يتعاملون معهم، ولذلك استحقوا الجزاء من جنس حالهم فجزاهم الله الغرفة بهذه الخصال التى لا ينال إلا بالصبر فبمثل هذه الخصال يكون قدر الإنسان عند الله سبحانه قال تعالى: وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77).