الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «فاطر»
نزلت بعد سورة الفرقان، وهى مكية، قال القرطبى: فى قول الجميع، وأخرج البخارى وابن مردويه والبيهقى فى الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزلت سورة فاطر بمكة.
وتوجه السورة الكريمة أنظارنا من الآية الأولى فيها إلى جملة من المعانى التى توقظ فى القلب الإحساس بالنعم، والعرفان بالجميل من الخيرات التى منّ الله بها على خلقه والتى تقتضى إفراد الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه بالعبودية فلا إله إلا هو سبحانه. فالآية الأولى تعلمنا هذا المعنى من تقدير النعم والثناء على المنعم سبحانه الْحَمْدُ لِلَّهِ، ويقترن الحمد فى الآية الأولى وما بعدها من آيات السورة الكريمة بدلائل النعم ودلائل القدرة، لتؤكد معنى الحب والخشية، وليكون توجّه العباد إلى الله وحده رغبة ورهبة. فهو سبحانه فاطر السموات والأرض، وهو الذى جعل الملائكة بهذا الخلق العظيم وأرسلها لتنفيذ ما أمروا به فهو سبحانه على كل شىء قدير، ولا ينبغى لأحد من خلقه أن يتعلق بغيره سبحانه فرحمته تصل لمن شاء من خلقه لا يقوى على إمساكها أحد، وما يمسك فلا قوة تستطيع إرسال ذلك فهو سبحانه القاهر فوق عباده وهو الذى يضع الأشياء فى موضعها. فلا عبودية إلا له سبحانه. هذا المعنى الذى تفتتح به السورة الكريمة يدعّم فى السورة كلّها بعد ذلك، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2).
ويأتى بعد ذلك الأمر الصريح بتذكر هذه النعم؛ لأن بعض الناس يمرّ بالآيات مرور الغافلين اللاهين، وبعضهم يغمر بالنعم فينسى المنعم سبحانه، ولذلك فإنه بعد ذكر السموات والأرض وما يتعلق بهما من آيات النعم والقدرة يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) فهو الخالق سبحانه ومظاهر الخلق دالة على كمال قدرته وهو الرازق سبحانه ولا رازق سواه فكيف يتوجه إلى غيره بالعبودية. فإذا حدث هذا ولم يفده مع بعض الناس التصريح بذلك فلا تحزن فقد حدث مثل هذا مع المرسلين قبلك: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4).
ولكن رحمة بهذه الأمة فإن الله سبحانه قد ذكر لها من أنباء السابقين ومن سائر صنوف التنبيه ما يعينها على تخطّى العقبات وتجاوز المعوقات التى تقف فى طريقها وتريد فتنتها. فوعد الله حق فلا ينبغى أن تفتن الدنيا الإنسان، لتصرفه عن مصيره ومرجعه إلى ربه ووصوله إلى الآخرة وصولا حسنا فتؤخذ بمنهج الله ويسعى فيها
الإنسان بما أمر به ونهى عنه، ولا ينبغى كذلك أن يفتنه الشيطان فهو عدوّ وغايته واضحة، وهو يريد بمدعوّيه الوصول إلى السعير. وأمام هذا التنبيه كذلك توقف الآيات المنزلة الناس على حالهم وانقسامهم إلى كافرين لهم عذاب شديد وإلى مؤمنين صالحين لهم المغفرة والأجر الكبير، وإلى من وقع تحت فتنة تزيين الشيطان للسوء فيراه الغافلون حسنا، وإلى أهل البصيرة الذين لا يقعون تحت تأثيره ولذلك فلا تحزن عليهم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8).
وتعين الآيات الكريمة المنزلة الناس على حسن السير فى الطريق المستقيم فتمزج بين الآيات الدالة على قدرة الله سبحانه، ليثق الناس بوعد الله وأن مظاهر البعث يشاهدونها فى آيات قدرة الخالق سبحانه، وبين آيات النعم السابغة وما يقتضى ذلك من صلاح الكلمة والعمل وتجنب السيئات، فآية الرياح وما تثيره من السحاب والذى يسوقه الله لإحياء البلاد والأرض بعد موتها آية قدرة ودليل على النشور. ومقتضى ذلك أن يسلك الإنسان سبيل الاستقامة فى الكلمة والعمل فتكتب له العزة، لأنها لله سبحانه وكتبها لأهل طاعته، وخلق الإنسان من تراب ثم من ماء، والزوجية والحمل والوضع والعمر المتعدد طولا وقصرا للإنسان آيات قدرة قال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11).
وتستمر الآيات الكريمة المنزلة فى بيان هذه الآيات الموجهة إلى مظاهر نعم الله على الإنسان، ومظاهر قدرة الخالق سبحانه فى هذه الآيات وما يقتضى ذلك. فهذان بحران أحدهما: عذب فرات، والآخر: ملح أجاج منهما يأكل الناس اللحم الطرى ويستخرجون
ما يتحلوا به لبسا، وفيهما تسير الفلك التى تحمل الناس فى أسفارهم، ويقتضى مع هذه النعم ومظاهر قدرة الله فيها أن يعرف الإنسان فضل الله عليه فيشكره. وهذا الإيلاج لليل فى النهار وللنهار فى الليل وتسخير الشمس والقمر فيهما، وهذا الجرى للأجل المسمى دليل على قدرة الرب الخالق سبحانه وعظيم نعمه وفضله على خلقه، ومقتضى ذلك التوجه الخالص إليه بالعبادة، فله الملك والذين يدعون من دونه لا يملكون شيئا ولا يسمعون دعاء المشركين؛ لأن هؤلاء المدعوّين جمادات أو أموات أو ملائكة مشغولون بطاعة ربهم، ولو سمع هؤلاء فإنهم لا يملكون شيئا ولا يرضى أكثرهم بعبادة من عبده، ولذلك سيتبرءون من عابديهم يوم القيامة وبهذا تجتث الآيات القرآنية الكريمة ما وقع فيه بعض الناس من الشرك، وتوجه القلوب إلى المعبود بحق سبحانه ولا يستحق سواه شيئا من العبادة وأن عبادة ما سواه باطلة ومتعلقة بباطل. قال تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14).
وتقرّر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك مجموعة من المبادئ والحقائق التى لا غنى للناس عنها منها: الافتقار إلى الله سبحانه فى كل شىء فى الخلق والرزق والهداية والنجاة وغير ذلك فهو الغنى الحميد، قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) وفيها أن الناس لا يملكون وجودهم فالله وحده الذى خلقهم هو الذى يميتهم وهو الذى يحييهم وهو القادر على أن يذهبهم- إن شاء- وأن يأتى بخلق جديد يكونون أحسن حالا منهم. قال جل شأنه: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17). ومنها تقرير المسئولية الشخصية، ولا تفريط فيها ولو مع الأقربين، قال تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18).
ومن هذه الحقائق: أن الذى ينتفع بوحى الله هو الذى يخشى ربّه بالغيب ويقيم الصلاة، ومنها: أن منافع الهداية بوحى الله تعود على النفس فى ذاتها وفى علاقاتها بغيرها، ومنها: اليقين فى أن مصير الناس إلى الله سبحانه الذى خلقهم ورزقهم وأمرهم
ونهاهم وهو سائلهم ومحاسبهم ومجازيهم.
وأمام هذه الحقائق وغيرها بما فصّل للناس فمنهم المؤمن ومنهم الكافر ومنهم المستجيب ومنهم المعرض ومنهم السعيد ومنهم الشقى. وإذا كانت الأضداد لا تتساوى فإن هذه المعانى السابقة لا تتساوى كذلك، قال تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً (24).
وتعطى الآيات الكريمة ما يدعّم النبى صلى الله عليه وسلم فى مواجهته لقومه بالتأكيد على بعثته بشيرا ونذيرا. وأن سنة الله مع الأمم أن يرسل فى كل أمة نذيرا، وإن وجد الرسول من أمته من يكذّب فإن الأمم السابقة قد حدث فيها هذا أيضا. وقد أخذ الكافرون أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26).
وتوجّه الآيات الكريمة الأنظار بعد ذلك فى آيات قدرة الله سبحانه فيما يشاهده الناس فالماء ينزل من السماء بقدرة الله سبحانه فيخرج به ثمرات مختلفة فالمادة واحدة والأصل واحد ويرى التفاوت واضحا فيما يخرج من هذا الأصل الواحد، قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28). هذه الآيات يقف أمامها العقلاء موقف التأمل والتدبر فتغرس فى نفوسهم الخشية وبقدر العلم بالله سبحانه وآيات قدرته تكون الخشية: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28).
ومع مظاهر قدرة الله سبحانه فى تعدد الأشكال والألوان وغيرها والأصل واحد والمادة واحدة وأن أهل العلم هم أهل الخشية الذين ينتفعون بهذه الآيات. بعد ذلك تعرض الآيات تجارة رابحة لمن يقوم بعناصرها المتمثلة فى الإقبال على كتاب الله سبحانه تلاوة، وفى إقامة الصلاة، وفى الإنفاق مما رزقه الله سبحانه سرا وعلانية. وسيجد التاجر مع الله سبحانه الأجر العظيم والفضل الكبير ومغفرة الذنوب. قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30).
وتذكر الآيات المنزلة بعد ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينبغى أن يعيه الجميع من أن
الموحى به من الكتاب هو الحق الذى يوافق ما كان من وحى سابق فى كتب سابقة، وجاء به رسل سابقون وقد بشّر بهذا الحق فى هذه الكتب وعلى ألسنة هؤلاء الرسل فمسيرة وحى الله فى خلقه سابقة منذ الجماعة البشرية الأولى فى آدم وزوجته وخاتمة الوحى فى هذا الكتاب العزيز، وعلى لسان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. وضمّن الله وحيه ما يناسب خلقه وما يسعدهم فى شئون حياتهم ومعادهم، فهو سبحانه الخبير البصير وكان من فضل الله الكبير على هذه الأمة أن اصطفاها واصطفى لها الإسلام دينا، وأورثها الكتاب المهيمن والمصدق لما قبله ولكن تعادت أفراد هذه الأمة فمنهم من ظلم نفسه بالمعاصى، ومنهم من اقتصر على أداء الواجبات ومنهم من سارع فى الخيرات واجتهد فسبق بتوفيق الله له. وشملهم جميعا فضل الله فأسكنهم جنات عدن على درجاتهم، وفى هذا حثّ لهذه الأمة أن تكون من القسم السابق بالخيرات بإذن الله، قال تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35).
ومع ذكر أهل الجنة مع تفاوت مراتبهم تذكر الآيات الكريمة الكافرين وجزاءهم الذى يصيرون إليه فى نار جهنم، وحالتهم الشديدة فى هذا العذاب والذى يتفق مع تماديهم فى الكفر وإصرارهم عليه، وكيف يطلبون العودة فى غير وقتها وتنبه الآيات الناس إلى هذه الحقيقة، وتضع أمامهم مثل هذا المطلب ليكون فى أدائه ويتدارك الإنسان موقفه قبل أن تضيع فرصة العمل فى هذه الحياة، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37).
وتعين الآيات المنزلة بعد ذلك الناس للنجاة من الكفر وأعماله فإن الكفر لا سند له من العقل أو النقل، وأنه لا معبود بحق إلا الله. فهو عالم غيب السموات والأرض، وهو الذى خلقهما وخلق ما فيهما وما بينهما، ويعلم ما تكنّه صدور الناس ويعلم أن الذين يطلبون العودة إلى الدنيا بعد فوات الأوان كاذبون، وأنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه. ولذلك فإن من أراد النجاة من الكفر فلينظر إلى حقيقة أمره وكيف كانت مسيرة
الخلق فقد جعل الله الناس خلائف فى الأرض خلفا بعد خلف، وقرنا بعد قرن وقد رأى الناس عاقبة من كفر فى الدنيا من الضلال والهلاك والمقت والغضب والخسران.
ثم لينظر الكافر إلى من اتخذه معبودا له من دون الله هل خلق شيئا من الأرض أم له مشاركة فى خلق السموات وتدبيرها؟. فإن لم يكن هؤلاء المعبودون قد خلقوا بل خلقوا بأيدى عابديهم من الكافرين فكيف يعبدون؟ وهل زعم أحد أن الله سبحانه أمر أحدا من خلقه باتخاذ هؤلاء شركاء له فى العبادة سبحانه؟. الأمر إذن ليس إلا تزيين الشيطان لضعاف العقول باتخاذ هؤلاء شركاء لله سبحانه واستمرار هؤلاء المغرورين بتزيين الشيطان فى توارث هذا الضلال والكفر. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40).
ومع تزيين الشيطان لضعاف العقول باتخاذ الشركاء واستمرار هؤلاء المغرورين فى توارث هذا الضلال والكفر، وأن آلهتهم المزعومة لا تقدر على خلق شىء من السموات والأرض. بعد ذلك تخبر الآيات الكريمة أن خالق السموات والأرض وممسكهما هو الله فلا يوجد حادث إلا بإيجاده ولا يبقى إلا ببقائه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (40).
فالآية الكريمة تحرّك العقول والقلوب أمام هذا الخلق العظيم الذى لا يقدر عليه إلا الله، وهذه النعمة الكبرى فى أنه سبحانه يمسك السموات والأرض عن الزوال ليحصل لخلقه القرار والانتفاع بهما، فيتحقق للناظر المعتبر ما يكون من الإجلال والتعظيم للقادر العظيم جل جلاله، والحب له تبارك وتعالى لعظيم نعمه على خلقه، وليستحى
الكافرون من التعلق بالضعفاء العاجزين ولتتوجّه قلوبهم إلى الخالق المنعم الرحيم بعباده سبحانه.
كما يمكن أن يفهم السامع لهذا التقرير الكريم شؤم الشرك والمخالفة لأمر الله سبحانه فشركهم يقتضى زوال السموات والأرض كما جاء فى قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)[مريم]. ولكنه سبحانه وتعالى حليم ويمهل ولا يهمل، كما سيتضح من المعانى الآتية فى هذه السورة الكريمة. فقد كشفت الآيات المنزلة بعد ذلك حال هؤلاء المشركين، ومنه ما كان من غيّهم أن يكون منهم رسول كما كان الرسل فى بنى
إسرائيل فلما جاءهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ما وفّوا بما أقسموا عليه بالأيمان الغليظة بل زادهم مجيئه نفورا وتوقف الآيات الكريمة الناس على سببين خطيرين لهذا الموقف من المشركين وهما سببان نفسيان خطيران: إنهما الاستكبار فى الأرض، والمكر السيئ.
فالاستكبار جاء من تصورهم الفاسد للنبوة، وأنها تكون لمن كان عظيما فى تصورهم بكثرة المال والعصبة وهذا العتوّ والاستكبار تبعه السبب الثانى، وهو المكر وخداع الضعفاء من الناس حتى يتبعوهم ويصدوهم عن الإيمان برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. ومع ذكر السببين تذكر الآيات الكريمة خطورة مسلك هؤلاء المشركين، وفى الوقت نفسه تطهّر المؤمنين من مثل هذه الأخلاق المرذولة ففي الحديث:«المكر والخديعة فى النار» .
وهذا يعنى دخول أصحابها فى النار لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار ولهذا جاء فى سياق هذا الحديث: «وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة والخيانة» «1» .
والآية الكريمة تؤكد للناس هذا المعنى فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن كعبا قال له: إنى أجد فى التوراة: «من حفر لأخيه حفرة وقع فيها» فقال ابن عباس: فإنى أوجدك فى القرآن ذلك. قال: وأين؟ قال: فاقرأ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «2» وفى أمثال العرب: «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا» . وروى الزهرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
ومعنى هذا أن الآيات الكريمة ترسى القيم الخلقية المؤسسة على التوحيد الخالص فى نفوس الناس. قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) وإذا لم يجد مع هؤلاء نصح بعد كشف حالهم وكذلك فإن سنة الله ماضية لا تتخلف فقد أنزل العذاب بالكافرين، وجعل ذلك سنة فيهم فهو سبحانه يعذب بمثله من استحق لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ولا أن يحوّل العذاب عن نفسه إلى غيره.
وهذه السنة الإلهية يراها هؤلاء فى الذين من قبلهم وعليهم أن يسيروا وينظروا ماذا
(1) القرطبى 14/ 360.
(2)
القرطبى 14/ 359.
(3)
القرطبى 14/ 360.
حدث بعاد وثمود وبمدين وأمثالهم لما كذّبوا الرسل، وهذه مساكنهم ودورهم وهؤلاء المشركون ليسوا خيرا من أولئك ولا أقوى، قال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44).
وتختم السور الكريمة ببيان عظيم حلم الله سبحانه بخلقه مع بيان شؤم المعصية والمخالفة لأمر الله سبحانه. وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ أما بنو آدم فلذنوبهم وأما غيرهم فلشؤم معاصى بنى آدم، قال ابن مسعود رضي الله عنه: كاد الجعل أن يعذّب فى جحره، بذنب ابن آدم، وقال يحيى بن أبى كثير:
أمر رجل بالمعروف ونهى عن المنكر، فقال له رجل: عليك بنفسك؛ فإن الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال أبو هريرة: كذبت؟ والله الذى لا إله إلا هو- ثم قال: والذى نفسى بيده، إن الحبارى لتموت هزلا فى وكرها بظلم ظالم. وقال الثّمالى ويحيى بن سلام فى هذه الآية: يحبس الله المطر فيهلك كل شىء «1» .
قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45).
(1) القرطبى 14/ 361.