المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة «يس» نزلت بعد سورة «الجن» وهى مكية بإجماع إلا أن - تاريخ نزول القرآن

[محمد رأفت سعيد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التعريف بالوحى

- ‌صور الوحى وما تحقق منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌رؤية النبى صلى الله عليه وسلم للملك

- ‌صورة مجىء ملك الوحى فى هيئة رجل

- ‌النفث فى الرّوع

- ‌كيفية إتيان الوحى إلى النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌صلصلة الجرس:

- ‌ما فرض من الله تعالى ليلة المعراج

- ‌تنزلات القرآن الكريم

- ‌الحكمة من هذه التنزلات

- ‌حاجة الأمة للنزول المفرق

- ‌نقل الناس من الضلال إلى الهدى

- ‌أول ما نزل من القرآن

- ‌ترتيب الآيات القرآنية

- ‌دليل هذا الإجماع (وجمع المصحف)

- ‌ترتيب السور القرآنية

- ‌ليلة نزول القرآن الكريم

- ‌تفصيل ما تضمنته سورة العلق

- ‌سورة «القلم»

- ‌سورة «المزمل»

- ‌سورة «المدثر»

- ‌سورة «الفاتحة»

- ‌سورة «المسد»

- ‌سورة «التكوير»

- ‌سورة «الأعلى»

- ‌سورة «الليل»

- ‌سورة «الفجر»

- ‌سورة «الضحى»

- ‌سورة «الشرح»

- ‌سورة «العصر»

- ‌سورة «العاديات»

- ‌سورة «الكوثر»

- ‌سورة «التكاثر»

- ‌سورة «الماعون»

- ‌سورة «الكافرون»

- ‌سورة «الفيل»

- ‌سورة «الفلق» و «الناس»

- ‌سورة «الإخلاص»

- ‌سورة «النجم»

- ‌سورة «عبس»

- ‌سورة «القدر»

- ‌سورة «الشمس»

- ‌سورة «البروج»

- ‌سورة «التين»

- ‌سورة «قريش»

- ‌سورة «القارعة»

- ‌سورة «القيامة»

- ‌سورة «الهمزة»

- ‌سورة «المرسلات»

- ‌سورة «ق»

- ‌سورة «البلد»

- ‌سورة «الطارق»

- ‌سورة «القمر»

- ‌سورة «ص»

- ‌سورة «الأعراف»

- ‌سورة «الجن»

- ‌سورة «يس»

- ‌سورة «الفرقان»

- ‌سورة «فاطر»

- ‌سورة «مريم»

- ‌سورة «طه»

- ‌سورة «الواقعة»

- ‌سورة «الشعراء»

- ‌سورة «النمل»

الفصل: ‌ ‌سورة «يس» نزلت بعد سورة «الجن» وهى مكية بإجماع إلا أن

‌سورة «يس»

نزلت بعد سورة «الجن» وهى مكية بإجماع إلا أن فرقة قالت: إن قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) نزلت فى بنى سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أى أنها مدنية «1» . أخرج عبد الرزاق والترمذى وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقى فى الشعب عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: «كان بنو سلمة فى ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه يكتب آثاركم» . ثم قرأ عليهم الآية، فتركوا «2» وأخرج الفريابى وأحمد فى الزهد وعبد بن حميد وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر والطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس

نحوه. وفى صحيح مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه قال:

إن بنى سلمة أرادوا أن يبيعوا ديارهم ويتحوّلوا قريبا من المسجد، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا بنى سلمة دياركم تكتب آثاركم» «2» وعلى ذلك فالآية مدنية وأما بقية السورة فمكية.

أخرج ابن مردويه وأبو نعيم فى الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ فى المسجد فيجهر بالقراءة، حتى تأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا هم عمى لا يبصرون، فجاءوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، قال: ولم يكن بطن من بطون قريش إلا للنبى صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، فدعا النبى صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد يقول الإمام الشوكانى رحمه الله:

وفى الباب روايات فى سبب نزول ذلك هذه الرواية أحسنها وأقربها إلى الصحة «4» .

(1) القرطبى 15/ 5، وفتح القدير 4/ 362، 363.

(2)

فتح القدير 4/ 362، 363.

(4)

فتح القدير 4/ 362.

ص: 296

وعلى ذلك فإن الآيات الكريمة تؤكد بهذا القسم صدق الرسول فى رسالته، ووصف القرآن الكريم بالحكمة فهو يهدى للتى هى أقوم، ويضع أمور الناس فى مواضعها لتستقيم حياتهم فى شتى صورها، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم على صراط مستقيم فى كل شىء فيما جاء به من عقيدة التوحيد، وفيما دعا إليه من مكارم الأخلاق، وفيما يبسطه للناس من وحى ربه ليخرجهم فى معاملاتهم من الظلمات إلى النور. وأن الله سبحانه هو الذى أنزل على رسوله كتابه وهو العزيز الذى يحمى كتابه بعزته عن التغيير والتبديل وهو الرحيم بعباده فى بعثة رسوله إليهم بهذا الكتاب الكريم، لينذر الناس الذين غرقوا فى الغفلة والجهالة وعمتهم الضلالة. وتكاشفهم الآيات الكريمة بما صاروا إليه مع التنزيل الحكيم فمنهم من أعرض ورفض الحق وهؤلاء حق القول عليهم فلم يؤمنوا وظلوا على شركهم وكفرهم وكان فيهم قول الله تعالى بعد ذلك: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10).

وأما الآخرون الذين يفيدون من البشير النذير صلى الله عليه وسلم فهم الذين يخشون الرحمن بالغيب وهم الذين يتبعون النبىّ الكريم وهؤلاء لهم البشرى بالمغفرة والأجر الكريم، قال تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11).

تأتى بعد ذلك الآية الكريمة المدنية لتقرر ما سبق تأكيده فى السور الكريمة السابقة من إحياء الله سبحانه للموتى وتذكر ما يصحب هذا الإحياء من المحاسبة على ما قدّم الإنسان من أعمال وعلى آثار هذه الأعمال. فالمسئولية ليست عن العمل فحسب وإنما المسئولية عن العمل وعن أثر هذا العمل. وهذا تنبيه للفريقين معا فإن من استجاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ستكتب استجابته وسيكتب عمله الصالح، فإن دعا غيره إلى الاستجابة والهدى فله من الأجر مثل أجور من اتبعه. ومن أعرض وكذب وعمل سوءا فسيكتب إعراضه وسيكتب عمله. فإذا ما صدّ عن سبيل الله وآذى غيره فسيكتب أثر عمله فمن دعا إلى ضلالة فعليه مثل آثام من اتبعه. قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12).

ويضرب المثل لهؤلاء المكذبين بما يشبه حالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم وكيف كانت عاقبة المكذبين بعد حرص الرسل على هدايتهم، وفى هذا المثل كشف لفساد تصور المكذبين للرسل، واصطفاء الله لهم من البشر، وبيان مهمة الرسل فى التبليغ.

وسوء ظن المكذبين وتطيرهم وإيذائهم للرسل. وموقف بعض العقلاء فى القوم الذين يدركون حقائق الأمور وينصحون أقوامهم ليهتدوا، ويسلكون فى نصحهم الأدلّة

ص: 297

القوية. فهذا رجل يسعى لنصح قومه ويأمرهم باتباع المرسلين ويذكر لهم أن المرسلين لا يريدون منهم مقابل دعوتهم أجرا وأنهم مهتدون، وكيف لا يعبد من خلقه ومن إليه المرجع وهو الذى بيده ملكوت كل شىء وليس للشركاء نفع ولا ضر. وعاقبة أمثال هذا الرجل الجنة ويتمنى هؤلاء أن يعرف القوم هذه العاقبة حتى يهتدوا. ولكنّ المكذبين لا ينتفعون حتى يقع بهم الهلاك، فليعتبر المخاطبون بالقرآن الكريم بهذا المثل.

وفى قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي

شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ

(29)

.

إن العباد تدركهم الحسرة فى الدنيا والآخرة إن استقبلوا دعوة الرسل بالاستهزاء، ولم يبصروا عبرة التاريخ وما حدث للسابقين عبر القرون، قال تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32).

وتقدم الآيات الكريمة بعد ذلك آيات بينات تجمع بين دلائل القدرة وتحقيق البعث الذى ينكره المكذبون. فالأرض الميتة يشاهدونها ويشاهدون الحياة تدب فيها، إن الذى أحياها هو الله القادر سبحانه وهو الذى أخرج منها حبا يأكل منه هؤلاء. أى أنهم يلمسون موتها ويلمسون حياتها بالرؤية والأكل وما يتبعه من حواس. وجعل الله سبحانه فيها ما يجدونه من جنات ومن عيون. ومع الإيمان بقدرة الخالق سبحانه الذى لا يعجزه شىء تنبه الآيات الكريمة إلى مظاهر النعمة فى هذه الآيات، فهذه الخيرات التى جعلها الله فى الأرض ليأكل منها هؤلاء وليؤدوا حق الشكر للمنعم جل جلاله،

ص: 298

فسبحانه خلق الأزواج كلها مما يعلمه الناس من الأرض ومن أنفسهم وكذلك مما لا يعلمون. فهذه مظاهر القدرة والنعمة والإحياء بعد الموت فيما يشاهد الناس فى الأرض، قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36).

ثم تقدم الآيات الكريمة آية أخرى تتصل بالسماء وما فيها من آيتى الشمس والقمر وما يتبع ذلك من آيتى الليل والنهار، وفيها كذلك آيات القدرة والنعمة والإحياء والإحكام، فالليل يسلخ منه النهار فتكون الظلمة والشمس تجرى فيكون النهار، وتغيب فيكون الليل ومعه القمر بمنازله، والكل يسبح وفق تقدير الخالق سبحانه. قال تعالى:

وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40).

ثم تقدم الآيات الكريمة آية أخرى فى الفلك المشحون وما يكون من أمر تطورها بفضل الله فى تعليم الإنسان وتوجيهه ليصل إلى تسييرها بما يكتشف من قوى حتى يصل بها إلى أقصى سرعة مستطاعة فى السير، ثم ما يكون على شاكلتها من مخترعات أخرى، فيحمل الإنسان على الماء كما يحمل فى الهواء وهذه من الآيات الباهرات كذلك والدالة على قدرة الله سبحانه فى تسيير الإنسان فى البر والبحر والجو برعايته وعنايته وحفظه، قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44).

وتكشف الآيات الكريمة بعد ذلك لهؤلاء المكذبين حقيقة موقفهم مع هذه الآيات البينة وأن نظرهم إليها لا يثمر؛ لأنهم معرضون ولا تجعلهم كذلك أهلا للنصح بل يظل هؤلاء فى تخبط أفكارهم الباطلة.

فإذا دعوا إلى التقوى لا يتقون، وإذا دعوا إلى ملء بطون الجائعين أعماهم فكرهم السقيم. قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ

ص: 299

أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47).

فمن المعانى على ترتيب نزولها، كشف الآيات الكريمة لحال المعرضين المكذبين وكيف فسدت تصوراتهم وضلّ فكرهم، ومن هذا ما حكاه القرآن الكريم من قولهم:

أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بمكة زنادقة؛ فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله، أيفقره الله ونطعمه نحن؟. وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئة فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا، لو شاء الله لأعز، ولو شاء الله لكان كذا. فأخرجوا هذا الجواب فخرج الاستهزاء بالمؤمنين، وبما كانوا يقولون من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى «1» ، وقيل:

إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال: يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال: نعم. قال: فما باله لم يطعمهم؟ قال:

ابتلى قوما بالفقر، وقوما بالغنى، وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالإعطاء. فقال:

والله يا أبا بكر ما أنت إلا فى ضلال، أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت؟ فنزلت هذه الآية «1» .

وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك قول المكذبين بالبعث، واستبعادهم وقوعه وأن ذلك قريب وسيجدون أنفسهم مأخوذين فجأة وهم فى لهوهم وجدالهم، وسيجدون أنفسهم بعد نفخة الصور مسرعين إلى ربهم للحساب العادل، قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54).

وبعد ذكر الحساب العادل تذكر الآيات الكريمة ما يصير إليه الناس من فريقين:

فريق الجنة وما أعدّ لهم من نعيم، وفريق المجرمين الذين اتبعوا الشيطان كفرا وضلالا ليجدوا عاقبة كفرهم جهنم وليجدوا أن جوارحهم تنطق بما صنع هؤلاء فى حياتهم.

قال تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى

(1) القرطبى 15/ 37.

ص: 300

الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) ومن آيات القدرة المشاهدة فى خلق الإنسان أن الإنسان إذا بلغ ثمانين سنة- مثلا- تغير جسمه وضعفت قوته فطول العمر لا تتبعه زيادة فى القوة بل يصير الشباب هرما، والقوة ضعفا، والزيادة نقصا. إن الإنسان فى هذه السنن يرد إلى أرذل العمر. فالآية تذكر هؤلاء بأن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم.

قال تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68).

وتستمر الآيات الكريمة في معالجة البعث والإحياء وإقناع الإنسان عقلا بالبعث وتحريكه قلبا ليعمل بمقتضى هذا الاقتناع وتتناول الآيات الذكر المنذر به صلى الله عليه وسلم ومعجزته، فدليل إعجازه هذا الذكر وهذا القرآن الكريم، وليس كما ألف الناس الشعر فما علّمه ربه الشعر وما ينبغى له. كما تذكر الآيات الكريمة أن من يفيد من الرسول صلى الله عليه وسلم هو من كان له قلب وفيه حياة، وأما الكافرون فلا ينتفعون وأمرهم عجب حيث يعيشون بين مظاهر النعم والقدرة، ولا يهتدون بل يتخذون من دون الله آلهة يستنصرون بها.

فالأنعام نعمة ودليل قدرة لخالقها سبحانه وتذليلها حتى يستطيع الناس جميعا الانتفاع بها مع قوتها وضخامتها كذلك، وما جعل فيها من منافع ومشارب كذلك أيضا فلماذا لا يشكرون ويستجيبون؟ وإذا كان هذا الموقف العجيب يحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الآيات تسليه، قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76).

وتنبه الآيات الكريمة الإنسان إلى خلقه الأول وأنه من نطفة ونسيان هذا الخلق من أسباب إنكار البعث؛ لأن الإنسان لو تذكر كيف خلق من ماء مهين، ورأى مظاهر قدرة الله فى تحوّل الماء إلى علقة ثم إلى مضغة ثم خلق العظام المتعددة فى أشكالها وطبيعتها

ص: 301

ثم كسو العظام لحما. والتصوير فى هذا القرار المكين وكيف يسّر للإنسان سبيل الخروج. إذا تذكر كل هذا الخلق الأول لن يسأل هذا السؤال: من يحيى العظام وهى رميم؟ ولكن الإنسان الكافر سأل بعد نسيانه وتأتى الإجابة القرآنية الكريمة فى سورة «يس» لتخاطبه عقلا فى أن الذى خلق أوّل مرة هو الذى سيعيد الإنسان فى المرة الثانية فهل هذا مستحيل عقلا؟ ثم بعد هذا الإقناع العقلى تأخذ الآيات الكريمة الإنسان فى جولة فكرية فى السموات والأرض ليرى مظاهر قدرة الخالق سبحانه فى السموات كيف رفعت؟ وهل خلق الإنسان وبعثه أشدّ من خلق السموات؟ وفى الأرض كيف سطحت. ثم ما يراه فى الأرض فالذى خلق ويبعث خلقه هو الذى جعل من الشجر الأخضر نارا. إن الإنسان يخرج من هذه الجولة الفكرية بقوله: أعلم أن الله على كل شىء قدير. فإذا أيقن بهذا لم يستبعد أن يعود إلى الحياة مرة أخرى. أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم فى معجمه والحاكم وصحّحه وابن مردويه والبيهقى فى البعث والضياء فى المختارة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففتّه بيده، فقال: يا محمد، أيحيى الله هذا بعد ما أرى؟، قال:«نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنّم» فنزلت الآيات الكريمة: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83).

ص: 302