الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «المدثر»
ومع روضة أخرى من رياض الذكر الحكيم مع سورة «المدثر» ، والتى نزلت بعد سورة «المزمل» وهى مكية فى قول الجميع «1» ، وهى ست وخمسون آية، والمدثر هو:
الذى قد تدثر بثيابه، أى تغشى بها ونام، وجاء فى سبب نزولها ما جاء فى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وكان يحدث، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحى: «فبينما أنا أمشى سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالسا على كرسى بين السماء والأرض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«فجئثت منه فرقا- أى ذعرت وخفت «2» - فرجعت فقلت: زملونى زملونى، فدثرونى فأنزل الله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)».
ثم تتابع الوحى والخطاب «3» فى هذه السورة الكريمة- كما كان فى السورة السابقة سورة المزمل فيه ملاطفة، إذ ناداه الكريم سبحانه بحاله، وعبر عنه بصفته ولم يقل:
يا محمد، ويا فلان؛ ليستشعر اللين ومثل ذلك فى الأساليب قول النبى صلى الله عليه وسلم لعلى رضي الله عنه إذ نام فى المسجد:«قم أبا تراب» ، وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها، فسقط رداؤه، وأصابه ترابه، أخرجه مسلم. وهذه الملاطفة كان لها وقعها الكريم، وهى عنصر من عناصر التكوين النفسى لمواجهة التحديات الخطيرة فى تلك الفترة فالمشركون يكيدون كيدا، ويقفون فى طريق الدعوة، ويحاولون تشويه شخصية النبى صلى الله عليه وسلم لدى من لا يعرفه من القادمين إلى
مكة، ويتعرضون بالأذى للنبى صلى الله عليه وسلم ولمن آمن معه فكان- كما سبق أن ذكرنا مع سورة المزمل- البناء والتدعيم من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
ويستمر هذا العطاء الكريم فى هذه السورة الكريمة ففي المزمل قال الله لرسوله:
«قم» ، وفى المدثر قال له أيضا:«قم» ، ولكن القيام السابق فى المزمل قيام الليل لبناء النفس وتقويتها فى حسن وقوفها بين يدى الله فى صلاة خاشعة، وفى المدثر قيام بهذه النفسية القوية لمواجهة الناس بالإنذار مع استمرار التدعيم والتقوية لاستمرار عناد
(1) القرطبى 19/ 59.
(2)
القاموس المحيط 1/ 169.
(3)
القرطبى 19/ 60.
المشركين وتحديهم، فقد اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاصى بن وائل ومطعم بن عدى، وقالوا: قد اجتمعت وفود العرب فى أيام الحج، وهم يتساءلون عن أمر محمد، وقد اختلفتم فى الإخبار عنه، فمن قائل يقول: مجنون، وآخر يقول: كاهن، وآخر يقول: شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع فى رجل واحد، فسموا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه وتسميه العرب به، فقام منهم رجل فقال: شاعر، فقال الوليد: سمعت كلام ابن الأبرص، وأمية بن أبى الصلت، وما شبه كلام محمد كلام واحد منهما، فقالوا:
كاهن، فقال: الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط، فقام آخر فقال:
مجنون، فقال الوليد: المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط. وانصرف الوليد إلى بيته، فقالوا: صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل، وقال: مالك يا أبا عبد شمس، هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونك، زعموا أنك قد احتجت وصبأت فقال الوليد: ما لى إلى ذلك حاجة، ولكن فكرت فى محمد، فقلت: ما يكون من الساحر؟ فقيل: يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فقلت: إنه ساحر. شاع هذا فى الناس وصاحوا يقولون: إن محمدا ساحر.
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته محزونا، فتدثر بقطيفة ونزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) نزلت بما يقوى نفس النبى صلى الله عليه وسلم ونفوس أصحابه، وبما بين حال هؤلاء المعاندين المشوهين، وما توعدهم الله به من عقاب، ويذكر الناس باليوم العسير على الكافرين، ويكون التدعيم والتقوية النفسية بما يلى فى هذه السورة الكريمة:
«النشاط فى الدعوة والإعلان بها» يتمثل ذلك فى قوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ (2) أى قم بجد ونشاط، ودع التدثر لتواجه أهل مكة بتخويفهم وتحذيرهم العذاب- إن لم يسلموا- وهذا يؤكد أن ما نزل سابقا من القرآن الكريم، ومن أمر الدعوة قد انتشر بين الناس، وأن الكافرين يصدون الناس عن اتباع الهدى والحق، فهم فى حاجة إلى الإنذار، فلا تحزن على ما يفعلون، وواجه هؤلاء بتخويفهم وبيان عاقبة كفرهم وعنادهم.
«التكبير والتقديس والتنزيه لله سبحانه» وذلك يمنح النفس قوة فلا ترى فعلا إلا له، ولا نعمة إلا منه، ولا تتخذ النفس وليا غيره، ولا تعبد سواه كما أن وصف الرب سبحانه وتعالى ب «أكبر» فذلك- أيضا- ينبه ويحذر الكافرين من اتخاذ الأنداد والأصنام، ولذلك روى أن أبا سفيان لما قال يوم أحد: أعل هبل، قال النبى صلى الله عليه وسلم:
ولذلك لمّا قرأ النبى صلى الله عليه وسلم: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) قام وقال: الله أكبر، فكبرت خديجة وعلمت أنه الوحى من الله تعالى وصار هذا اللفظ فى تكبير العبادات كلها أذانا- بعد ذلك- وصلاة وذكرا، وصار من موارده أوقات الإهلال بالذبائح لله تخليصا له من الشرك وإعلانا باسمه فى النسك.
«طهارة المظهر» فالدعوة التى جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لا تفرق بين ظاهر وباطن، بل تجمل الاثنين معا وترى أنهما مترابطان وينبغى أن يكونا معا ظاهرين، فتبنى النفس على الطهر ويجمل الظاهر كذلك بالطهر، فالمسلم جميل نظيف طاهر فى مجتمعه وينبغى أن يرى الناس منه ذلك: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)، ولذلك جاء فى بيان هذه الآية الكريمة أقوال متضافرة لأداء هذا المعنى، فمنها: تطهير الثياب الظاهرة، ومنها: الأعمال كلها يقصد بتطهيرها؛ تخليصها والنصح بها وإبقائها على أكمل الوجوه وتنقيتها من المبطلات والمفسدات والمنقصات ومن شر ورياء ونفاق وعجب وتكبر وغير ذلك.
ومن مدعمات النفس فى سورة «المدثر» ما جاء فى قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وجاء فى بيان الرجز ما ذكره مجاهد وعكرمة من هجر الأوثان، ودليله قوله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] وأما ابن عباس يزيد على هذا المعنى هجر المآثم أى تركها ويذكر ذلك أيضا إبراهيم النخعى حيث يقول: الرجز الإثم، والرّجز والرّجز لغتان مثل الذّكر والذّكر، وأصل الرجز: العذاب، قال الله تعالى:
لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ [الأعراف: 134]، وقال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [الأعراف: 162]، فسميت الأوثان رجزا لأنها تؤدى إلى العذاب وكذلك الآثام، وتكون تقوية النفس- إذن- بهجر أصل الشرور والآثام من الشرك والتعلق بالأوثان، واقتران الآثام بالبناء المبكر للنفس المسلمة يأخذ بيدها جملة وتصفيتها ظاهرا
وباطنا.
ثم يأتى توجيه آخر فى تدعيم النفس يتمثل فى قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6). وهذا بناء قوى تحتاجه النفس المسلمة فى هذا الوقت المبكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المربين وقدوة المؤمنين فيخاطب فى هذه السورة بجملة هذه الآداب والأخلاق، فالنعمة عظيمة وهى منة الله على خلقه جميعا، والأذى شديد من المشركين ولا بدّ من توجيه النفس حتى تضع كل أمر فى موضعه، فلا تمنن النفس على الرب سبحانه بما تتحمله من أثقال، ولا تضعف أن تستكثر من الخير، ولا تعظم النفس عملها فى عينها، فإنه مما أنعم الله به عليها قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من
نفسك، إنما عملك منّة من الله عليك إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته. كما أنه لا ينبغى للنفس أن تمن على الله بالعمل فتستكثره، وإذا قامت النفس بعمل جليل فليكن تعلقها فى طلب الأجر والثواب من الله وليس من الناس.
هذه المعانى وغيرها قيلت فى بيان هذه الآية الكريمة، وأظهرها ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال، يقال: مننت فلانا كذا، أى أعطيته، ويقال للعطية: المنة، فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا ارتقاب ثواب من الخلق عليها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ما كان يجمع الدنيا، ولهذا قال:«ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم» ، وكان ما يفضل من نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين، ولهذا لم يورث؛ لأنه كان لا يملك لنفسه الادخار والاقتناء وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة فى شىء من الدنيا، ولذلك حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية فكان يقبلها، ويثيب عليها. وقال:«لو دعيت إلى كراع لأجبت (والكراع مسترق الساق من الرجل) ولو أهدى إلىّ ذراع لقبلت» .
والنفس تقوى بهذا التوجيه الكريم، لأنها سترى المنة فى كل شىء لله سبحانه فلن يكون العمل إلا له، ولن يكون التعلق إلا به، ولن يكون الطمع إلا فى رحمته وثوابه، ولن تستكثر شيئا من الأعمال التى ترضيه، فلو أطاع ابن آدم ربه العمر كله من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.
ثم نجد التوجيه الكريم المتكرر فى بناء النفس، والذى وجدناه فى السور السابقة وهو الأمر بالصبر لله وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) أى ولسيدك ومالكك فاصبر على أداء رسالته وعلى حسن عبادته، وعلى ما أوذيت فى سبيله، وعلى ما حملت من أمر عظيم، وعلى مواجهة التحديات الخطيرة من قبل المشركين، وعلى موارد القضاء، وعلى البلوى، وعلى الأوامر والنواهى، وعلى فراق الأهل والأوطان. وكل ذلك كان يتعرض له المؤمنون فى تلك الفترة.
فهذه مجموعة من المدعمات فى أول سورة المدثر تتبع ببيان ما ينبغى أن يحسب الناس له حسابا من اليوم العسير على الكافرين: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) وعلى ذلك تعطى الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم مادة الإنذار باليوم الآخر ثم تقديم الإنذار فى عرض نموذج لرجل من الكافرين خص بكفر النعمة، وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يسمى بالوحيد فى قومه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الوليد يقول: أنا الوحيد بن الوحيد ليس لى فى العرب نظير ولا لأبى المغيرة نظير وكان يسمى بالوحيد فقال الله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) أى وحيدا بزعمه لا أن الله تعالى صدقه بأنه وحيد، وذرنى ومن خلقت وحيدا تهديد ووعيد لهذا المتكبر الذى حمله كبره على الكفر بالنعم والإيذاء لك وللمؤمنين، ويرى مجاهد أن هذه الصفة تعنى كيف خلق وحيدا فى بطن أمه لا مال له ولا ولد، فأنعم الله عليه فكفر، وقيل: الوحيد الذى لا يعرف أبوه، وكان الوليد معروفا بأنه دعى كما جاء فى تفسير قوله تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13)[القلم] فهو فى صفة الوليد أيضا «1» .
فالإنذار باليوم الآخر والإنذار بتقديم النماذج البشرية الفاسدة وما توعد الله به هذه النماذج من أساليب التربية المبكرة مع نزول السور الأولى من سور التنزيل الكريم.
لقد أشرنا إلى تقديم سورة المدثر لوجهين من وجوه الإنذار التى ينبغى أن يعرفها الناس، الأول: التذكير باليوم العسير على الكافرين، الثانى: تقديم نموذج للبشر يظهر ما منح من نعم كانت تقتضى التعرف على المنعم وتقديم الشكر له والاستجابة لأمره ونهيه، ولكن حدث غير هذا ففصلت الآيات الكريمة مظاهر هذه النعم، ومظاهر عناده ورتبت العقوبات الرادعة، فيكون الإنذار بالخبر، ويكون كذلك بمعاينة النماذج التى عاصرت نزول الوحى، ويشاهدها الناس ويعرفونها معرفة يقينية فيقول الله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) فهو الوحيد- كما زعم- بمعنى، خلقه الله وحيدا فى بطن أمه لا مال له ولا ولد فأنعم الله عليه، فكفر «1» .
ومظاهر النعم التى يعرف بها، المال والبنون، فالمال جعله الله له ممدودا أى خوله وأعطاه مالا ممدودا يتمثل فيما كان له بين مكة والطائف من الإبل والخيل والنعم والجنان وتشير كلمة «ممدود» إلى ما لا ينقطع رزقه، بل يتوالى كالزرع والضرع والتجارة. وأما البنون فجعل الله له البنين شهودا أى حضورا لا يغيبون عنه فى تصرف. وفضلا عن ذلك بسط له فى العيش بسطا حتى أقام ببلدته مترفا يرجع إلى رأيه.
وهذا النموذج من البشر لا تجد لأطماعه حد فيطمع دائما فى الزيادة على الرغم من موقفه المعاند للدعوة، وكفره، بل يذكر بعض المفسرين أن الطمع قد زاد إلى حد
(1) القرطبى 19/ 71.
أنه يطمع أن يدخله الله الجنة استمرارا لنعمة المال والبنين، وما لذ وطاب من النعيم فينسب إلى الوليد قوله: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لى. وقطع الله رجاءه
فى الجانبين كَلَّا أى لن أزيده، فلم يزل يرى النقصان فى ماله وولده حتى هلك، كما توعده سبحانه بقوله سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) قال ابن عباس: المعنى:
سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيه، وقيل: إنه تصاعد نفسه للنزع، وإن لم يعقبه موت ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه «1» .
وأما وعيد الله سبحانه له فى الآخرة فيقول الله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) أى سأدخله سقر لكى يصلى حرها. وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) أى وما أعلمك أى شىء هى؟ وهذه كلمة تعظيم ومبالغة فى وصفها، ثم فسر حالها لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لا تذر لهم عظاما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته ثم يعادون خلقا جديدا، فلا تزد أن تعاود إحراقهم هكذا أبدا لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) أى مغيرة فتلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وهذا الوعيد بتلك الحالة ينبه أصحاب الأموال الممدودة والبنين الشهود أن العواقب خطيرة، لا تبقى ولا تذر فى الدنيا ولا فى الآخرة، فالذى أعطى هو الذى يمنع فى الدنيا، والكفر والعناد من سبل الحرمان والنقم، ومن سبل الوصول إلى سقر التى لا تبقى ولا تذر.
وتفصل الآيات بعد مظاهر النعم ومن خلالها مظاهر العناد من هذا البشر العجيب الذى يمنح الرزق فيكفر بالرازق ويعاند. فمن هذه المظاهر: كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) أى معاندا للنبى صلى الله عليه وسلم وما جاء به من آيات ربه، كما يعنى العناد مخالفة الحق ورده مع معرفته بأنه حق، وقيل: يعنى المجاهر بعداوته، وعن مجاهد قال:
مجانبا للحق معاندا له معرضا عنه.
والمعانى كما نرى متقاربة فى بيان هذا النموذج من الناس الذين لم يكتفوا بالإعراض بل عاندوا وجاهروا بالعدوان والصد عن دين الله، واستمروا على ذلك بتدبر خبيث وإصرار واستمرار لهذه العداوة، ومن مظاهر ذلك ما ذكر فى حق الوليد هذا من قوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)
(1) القرطبى 19/ 74.
إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25).
وهذا الوصف الدقيق له دلالات متعددة، إنه وصف لهذا العناد الذى أعمل فيه الوليد فكره، وخالط هذا الفكر نفسه، وخرج هذا فى سلوكه، فى فطرته، فى عيونه، فى سواد وجهه حقدا وغيظا، فى حركته إدبارا، واستكبارا، فى قوله وإشاعاته وحكمه الباطل على الحق بما ليس فيه. إنه فكر وقدر يعنى: فى شأن النبى صلى الله عليه وسلم والقرآن الذى استمع إليه ونطق لسانه بما عرف فقال: «والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر» «1» ، وفكّر فى موقف زعماء المشركين منه، ومكانته فيهم فلم تنفعه هذه المعرفة لما سمع، وغلبه هواه وغلبته عصبيته، واستكباره فيهم فهيأ الكلام فى نفسه، والعرب تقول: قدّرت الشيء إذا هيأته: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) أى لعن على أى حال قدر، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) إنه لأمر مهول أن يغالط الإنسان نفسه، فيعرف أمرا على وجهه الصحيح ثم يهيئ فى نفسه ما يخالف هذا الأمر، لعن لعنا بعد لعن كيف يكون هذا حاله؟ وبدأ أثر التفكير والتقدير يظهر فى نظراته الحسية غيظا، وفى نظره المعنوى بأى شىء يرد هذا الحق ويدفعه، ويظهر فى عبوسه فى وجوه المؤمنين عند ما دعوه إلى الإسلام، ويظهر كذلك فى كلاحة وجهه وتغير لونه، ويظهر كذلك فى إدباره وإعراضه وذهابه إلى جانب أهله المشركين، وفى استكباره أن يؤمن ويصير مع المؤمنين.
ولكن ماذا يقول فى الرسول صلى الله عليه وسلم وفى القرآن الكريم الذى عبر عنه التعبير السابق ولامه عليه المشركون، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) لقد كذب الوليد وكذب نفسه فى الوصفين، فقد رد على الناس وصفهم للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، وقال كذلك بعد سماعه القرآن الكريم: وما يقول هذا بشر.
ولقد أراد بهذا تشويه شخصية النبى صلى الله عليه وسلم عند ما لا يعرفه من القادمين إلى مكة، وأراد أن يقول لهم: إن من يتبعه ليس عن اقتناع منه بل نتيجة سحره، وبهذا يكون قد طعن فى القرآن الكريم- أيضا- ولذلك استحق لعنا بعد لعن: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20).
ومن وجوه الإنذار التى أمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يبلغها الناس فى سورة «المدثر» والتى
(1) القرطبى 19/ 74.
بدأت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) ما يتعلق «بسقر» والتى ذكرنا شيئا عنها، ونذكر بقية ذلك الآن، قال تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31).
فعلى سقر تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها ويلقون فيها أهلها، ويذكر القرطبى فى تفسير هذه الآية الكريمة قوله: «والصحيح- إن شاء الله- أن هؤلاء التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها كما قال الله تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وقد ثبت فى الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» . وقد وصف أصحاب النار من الملائكة بأنهم غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6)[التحريم] وذلك ليقوموا بما أمروا به من جزاء عادل وليحذر الكافرون من ذلك فيجتنبوا سبل سقر، ولا يكون الحال كما كان من أبى جهل- لعنه الله- ومن معه من المشركين، قال ابن عباس وقتادة والضحاك: لما نزل عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبى كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدّهم- أى العدد- والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، قال السدى: فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحى: لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبى الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبى الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة، يقولها مستهزئا.
وقيل: إن أبا جهل قال: أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟ فنزل قول الله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أى لم يجعلهم رجالا فتتصورون فعاليتهم، وقيل كذلك: جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة ولا يستريحون إليهم؛ ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له، فتؤمن هوادتهم، ولأنهم أشد خلق الله بأسا وأقواهم بطشا «1» .
وإذا كان من وجوه الإنذار التى جاءت فى هذه السورة الكريمة ما يتعلق بالغيب
(1) القرطبى 19/ 81.
كالإنذار بسقر وما فيها، والإنذار بأصحابها فإن الله تعالى جعل فى هذا الإنذار آية اختبار فيما يتعلق بعدة أصحاب النار من الملائكة، فإن المنتسبين إلى التوراة والإنجيل سيجدون أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم، ويكون ذلك مدخلا لليقين إن كانوا أهلا لتقبل الحق والتسليم له، وأما المؤمنون المصدقون فيزدادون بهذا إيمانا، لأنهم يؤمنون بالغيب، وكل اخبار جديد فى آية منزلة تزيدهم إيمانا وتزيدهم معرفة يقينية بعالم الغيب، وأما الذين فى قلوبهم مرض من شك وارتياب، وهذا كان الحال فى الفترة المكية وفى بدايات التنزيل وذلك ما جعل الحسن بن الفضل يقول: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق، فالمرض فى هذه الآية الخلاف «1» ، ولكن أكثر المفسرين يذهبون إلى القول: بأن الذين في قلوبهم مرض هم الذين فى صدورهم شك ونفاق من منافقى أهل المدينة الذين ينجمون فى مستقبل الزمان بعد الهجرة- سيقول هذا الفريق المريض: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أى ماذا أراد بهذا العدد الذى ذكر عن خزنة جهنم، وهذا موقف المرضى أمام التنزيل، فهم لا يريدون العمل به فيكثرون من التساؤلات والتشكيك ويضيعون الوقت فى ذلك بدلا من التلبية والإذعان والعمل، ولقد جمع الله- سبحانه وتعالى بين الذين فى قلوبهم مرض، وطائفة الكافرين فى هذا التساؤل لا تحادهم فى الهدف واتحادهم من حيث نفوسهم مع خطورة إخفاء المنافقين لحالهم وإظهارهم الإسلام.
وعلى ذلك تكون هذه السورة الكريمة قد نبهت إلى طوائف التحدى لهذا الدين من وقت مبكر ليكون الرسول الكريم والذين معه على بينة من أمرهم فيتعرفون على أساليب الطوائف التى ظهرت، والطوائف التى ستظهر بعد ذلك. ولا يعلمها إلا الله:
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) وبهذا يعطى القرآن الكريم عظته مع بيان حال الناس منها وقت التنزيل، وتبقى الآيات وما ذكر منها من المعانى ذكرى للبشر، ليحسنوا التعامل معها إيمانا وتصديقا وامتثالا وعملا بمقتضى هذه العظة، ولا يكونوا كالذين حرموا من الانتفاع بهذه الآيات. فالقرآن الكريم للأجيال كلها إلى يوم القيامة، وما يذكره من وجوه الإنذار يخاطب به الناس إلى يوم القيامة. فبعد هذا الذكر لهذا الإخبار عن أمر غيب، تأتى الآيات الكريمة لتؤكد الإنذار بما شاهده الناس من آيات كونية يقسم الله بها إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) أى أن هذه النار لإحدى الكبر الدواهى وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الوحى لكبيرة من الكبائر الخطيرة التى تهلك الإنسان فى حياته الدنيا والآخرة.
(1) حكى هذا القرطبى 19/ 80.
وهذه النار التى وضعت فى هذه السورة نذيرا للبشر. حتى قال الحسن: والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها.
ومن وجوه الإنذار التى أمر النبى صلى الله عليه وسلم بتوجيهها إلى الناس، الإنذار بوعيد الله بنماذج من البشر كفرت بأنعم الله، وأنذر بسقر وما يتعلق بها من أخبار غيبية: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) وأكد هذا الإنذار بآيات كونية يلفت القرآن الكريم النظر إليها:
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37). فالقسم بآيات كونية هنا ينبه إلى أمور يحتاجها الإنسان فى إنذاره وبنائه على العقيدة الصحيحة التى بعث بها النبى صلى الله عليه وسلم، منها: التأمل والنظر فى مظاهر قدرة الله سبحانه فى آياته الكونية فالقمر الذى جعله نورا، والليل الذى ولى بظلامه، والصبح الذى أضاء، آيات كونية تنبه الإنسان إلى عظيم خلق الله وقدرته، وتنبهه إلى منة الله عليه ونعمته، وكيف سخر له هذه الآيات لينتفع بها، وإذا كانت هذه الآيات الكونية المذكورة تنكشف بها الأشياء انكشافا لا خفاء فيه فالقمر بنوره الهادئ والصبح كذلك، وذهاب ظلمات الليل تجعل الإنسان يبصر الأشياء ويدرك وجودها فالذى جلى الأشياء للإنسان بهذه الآيات الكونية وكشفها هو الذى يخبر عن سقر ويقسم: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37).
ومن هنا ندرك من بدايات التنزيل كيف يوجه القرآن الكريم الإنسان إلى النظر والتفكير فى آيات الله المبثوثة فى هذا الكون، وفى النفس الإنسانية نظرة تأمل
واعتبار، ونظرة إدراك تسخير الله سبحانه لهذه الآيات الكونية لانتفاع الإنسان بها، ونظرة التوافق التى تجعل الإنسان لا يشعر برهبة أمام هذه الآيات الكونية، لأنها مخلوقة ومسخرة، ولا حول لها ولا قوة إلا بخالقها ومسيرها سبحانه وتعالى.
ومع وجوه الإنذار فى هذه السورة الكريمة يأتى تقرير المسئولية الفردية والتى تقوم على ما منح الله الإنسان من القدرة على الفعل والترك والتقدم والتأخر والاختيار لما يعمل من خير أو شر، فالنذارة كذلك لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة، أو يتأخر إلى الشر والمعصية نظيره: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ [الحجر: 24]، أى فى الخير وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) [الحجر] أى عنه. ويذكر الحسن أن قوله تعالى:
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر كقوله
تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29]، ويجمع ابن عباس بين المعنيين فيقول: هذا تهديد وإعلام أن من تقدّم إلى الطاعة والإيمان جوزى بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع، وأما السدى فيقول: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ- إلى النار (المتقدم ذكرها) - أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) - عنها إلى الجنة.
وعلى كل حال فتقرير المسئولية عما يكتسب الإنسان تنبيه «مبكر» يجعل الإنسان يسأل نفسه عن الإقدام والإحجام، ويربى فى النفس هذه الملكة التى تسأل وتراجع وتراقب قبل العمل، وبعده لنجد النفس المحامية المراقبة اللوامة قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) أى مرتهنة بكسبها، مأخوذة بعملها، إما خلصها وإما أوبقها.
إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) وهذا الاستثناء الحكيم ليس فيه ما قد يفهمه البعض من الخروج عن قاعدة المسئولية الفردية، بل هو تدعيم لها فإن أصحاب اليمين لا يرتهنون بذنوبهم؛ لأنهم إما أن يكونوا غير مكتسبين للذنوب، أو أدوا ما كان عليهم. ولذلك اختلف فى تعيينهم، فابن عباس فى الدين يقول: إنهم الملائكة وهؤلاء لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وعلىّ بن أبى طالب رضي الله عنه يقول: إنهم أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم، وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين لأنهم أدوا ما كان عليهم، وقيل: هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم.
فالمسئولية- إذن- مقررة كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38).
ويأخذ الإنذار وجها آخر فى هذه السورة الكريمة المنذرة، وهو عرض للمقارنة بين تبصير المؤمنين والكافرين، وذكر ما يتصل بالفريقين من أعمال، ومعنى ذلك أن من فضل الله على خلقه أن تتعدد الأساليب تشجيعا لأهل الإيمان، وحفزا لهممهم للقيام بتبعات الدعوة ومسئولياتها، وتحذيرا لأهل الشرك حتى يعودوا إلى الحق والرشاد ويتخذوا سبيل المؤمنين وإلا فالمصير أليم، فالمؤمنون الصالحون أصحاب اليمين فى الجنات وما أعد الله لهم فيها، والمشركون يوصفون بالإجرام؛ لأنهم أجرموا فى حق أنفسهم، وفى حق غيرهم ممن وقفوا منهم موقف الإيذاء والتعذيب والسخرية والاستهزاء، وحال الفريقين مكشوف وظاهر، أما أهل الإيمان فهم فى أمن وسلام ونعيم يسمح لهم بهذا التساؤل عن غيرهم، والتساؤل- هنا- عن المجرمين، وعن الأعمال التى أدخلتهم سقر وكانوا بها مجرمين، وتعرض السورة الكريمة المنذرة أقوال أهل سقر والتى تتضمن
قواعد الفساد فى علاقة الإنسان بربه سبحانه، وفى علاقته بصفات قومه، وفى مساندته ووقوفه مع أهل الباطل، وفى فساد معرفته وتصوراته، وفى استمرار هذا الفساد طيلة حياتهم الدنيا
…
قال تعالى: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48).
إن أساس الإجرام والفساد عدم الإيمان الذى يجعل المجرم يقطع صلته بربه بترك الصلاة، ويتبع هذا الفساد قسوة القلب على الضعفاء فلا يطعمون المسكين ولا يتصدقون، ويغذى هذا الفساد مخالطة أهل الباطل فى باطلهم، والخوض فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل قولهم- لعنهم الله:«كاهن أو مجنون» ، أو «شاعر أو ساحر» ، ومما يزيد من حجم هذا الإجرام التكذيب بيوم الجزاء والحكم. ومما يدل على تعمق الإجرام وتحكمه فى هؤلاء الاستمرار على هذا الحال إلى الموت. فهؤلاء بهذا الإجرام محرومون من الشفاعة التى جعلها الله للمذنبين من أهل التوحيد الذين يعذبون بذنوبهم ثم شفع فيهم، فرحمهم الله بتوحيدهم والشفاعة فأخرجوا من النار وليس للكفار شفيع يشفع فيهم «1» .
ونتابع القول فى وجوه الإنذار التى جاءت فى سورة المدثر، والتى فصلت فيها من بدايتها إلى آخر السورة الكريمة حيث يقول الله تعالى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56).
فالإنذار- هنا- له وجهان عظيمان، الوجه الأول: التذكرة بالقرآن الكريم، والوجه الثانى: الإنذار بالآخرة والتخويف بما يكون فيها.
فأما الوجه الأول: فيكون فى هذا التساؤل عن إعراض أهل مكة، وتوليهم عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إعراض عجيب بنى على تصور فاسد، إنه إعراض عن التذكرة بالقرآن الكريم يتمثل فى الجحود والإنكار، ويتمثل تبعا لذلك فى ترك العمل بما
(1) القرطبى 19/ 88.
فيه، وأما فساد التصور الذى قام عليه هذا الإعراض فيتمثل فى فهمهم الفاسد للنبوة ووظيفتها ومهمة الرسل فى تبليغ ما أمروا به، وأن الله مصطف من عباده من يشاء لهذه المهمة، ولا يخاطب كل فرد من خلقه خطابا منفردا كما أراد أبو جهل، وجماعة من قريش حين قالوا: يا محمد: ائتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها: إنى قد أرسلت إليكم محمدا صلى الله عليه وسلم «1» ، وقال ابن عباس: كانوا يقولون: إن كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. قال مطر الوراق: أرادوا أن يعطوا بغير عمل.
وقال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بلغنا أن الرجل من بنى إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك، قال مجاهد: أرادوا أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عز وجل: إلى فلانا بن فلان. إنه فساد فى تصور النبوة من جانب وحقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جانب آخر لفساد نفوس المشركين، وفساد مقاييسهم للبشر، فهم لا يريدون هذا الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقياس العظمة عندهم لم يكن فيما يرزق الإنسان من كمال الأخلاق ومكارمها، بل من كثر ماله وكثر رجاله يعد عظيما فيهم، وحصروا بهذا المقياس الأمر فى رجلين ذكر القرآن الكريم قولهم فيهما:
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)[الزخرف] ورد عليهم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الزخرف: 32].
وأما العجب فى هذا الإعراض فإنه يكمن فى مظهر هذا الإعراض، إن الإعراض يكون طبيعيا عند ما يكون من شىء يضر الإنسان، أما الإعراض عما ينفع فهذا يدعو إلى العجب، ويدل على أسباب فاسدة وراء هذا الإعراض، وقد ذكرنا بعضها من فساد التصورات والحقد والحسد، والذى يجعل هذا العجب شديدا أن ترى هذا الإعراض مصحوبا بحركات هستيرية، كأن الداعى لهم يريد الفتك بهم، فتراهم يفرون منه يمينا وشمالا وهم فى ذعر وخوف عجيب، وهذا دليل على أن الجوانب الإنسانية التى تقدر ما يفيدها قد امتهنت فيهم، وصاروا كما وصفهم القرآن الكريم فى هذا الإعراض كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) فوصفهم بالحمر يدل على أن الإنسان الذى جعله الله فى محل التكريم قد يتدنى وينزل من دائرة التكريم إلى دائرة الحيوانية المهينة بإعراضه عن وحى ربه، إن الوحى يحمله ويرقيه ويجعله إنسانا كريما،
(1) القرطبى 19/ 90.
وإعراضه بشقه يجعله كالأنعام التى لا تدرى قيمة ما تدعى إليه، ولا تفرق بين دعوة إلى مرعى، أو دعوة متربح.
إن صورة فرار الحمر من الرماة- على ما يذكر بعض أهل اللغة من تفسير القسورة بالرامى والصياد، أو من الأسد على ما ذكر أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما أو من طلبه أول الليل على ما يذكر ابن الأعرابى «1» . صورة ذعر وخوف لا تنسجم أبدا مع الداعى إلى الحق، والداعى إلى الخير والذى يهدى للتى هى أقوم. ولكن ليس هذا بالمستغرب لمن تساوى بإعراضه مع الحمر وكان هذا شأن المعرضين فى كل عصر كلما دعوا إلى الحق جعلوا أصابعهم فى آذانهم، واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا.
وأما ما يتعلق بالوجه الثانى، وهو مرتبط بالوجه السابق هو التخويف بالآخرة وما يكون فيها من صنوف العذاب التى لا يقوى عليها الإنسان الضعيف. فهؤلاء لو كانوا يقدرون هذا المصير ما سلكوا سبيل الإعراض، بل الإعراض بهذه الصورة العجيبة.
إن الفطنة بالقرآن الكريم وما يتضمنه من صور وجوه الإنذار فيه الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54). وتختم السورة التى فصلت وجوه الإنذار بتنبيه الإنسان بما منحه الله من القدرة على العقل والترك، وبما منحه من المشيئة والاختيار تقريرا لهذه المسئولية التى سبق ذكرها فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) ولكن هذه المشيئة التى منحت من الله للإنسان لا غنى لها عن المشيئة العليا لمن خلق وسير، ومن بيده ملكوت كل شىء فعليه نتوكل وهو رب العرش العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
فذكر المشيئة فى السورة الكريمة فى قوله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) وفى قوله جل شأنه: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) تقرير لهذه المشيئة من الله للإنسان فى اختيار العمل الذى سيحاسب عليه الإنسان ولا يتعارض ذلك مع الحقيقة الكبرى فى مشيئة الله المهيمن القدير الذى أحاط كل شىء علما، وأحصى كل شىء عددا، والذى خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، ويمنحه بما يعلمه من شأنه وحاله ونيته.
وعلى ذلك فالمؤمن يشغل بمشيئة الخير وفعله والإقدام عليه وترك المنكر والإحجام عنه، ولا يقع فيما يقع فيه من قصر نظره، وترك العمل؛ لأن العبد مأمور ولا يعلم ماذا يشاء الله به. ولكن عليه من حسن ظنه بربه أن يطمئن إلى فضله ورحمته وكرمه ومغفرته
(1) القرطبى 19/ 86.
فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.
هذه مجموعة المعانى على ترتيبها فى نزولها على البشير النذير صلى الله عليه وسلم فى سورة المدثر والتى تتضمن وجوه الإنذار التى أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى فى بداية السورة يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2).