الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «طه»
وهى مكية فى قول الجميع نزلت بعد سورة «مريم» ، وكان نزولها قبل إسلام عمر رضي الله عنه روى الدارقطنى فى سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له: خبّاب، وكانوا يقرءون «طه» فقال: أعطونى الكتاب الذى عندكم فأقرأه- وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب- فقالت له أخته: إنك رجس ولا يمسّه إلا المطهّرون، فقم فاغتسل أو توضأ فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ:«طه» .
وذكره ابن إسحاق مطولا: فإن عمر خرج متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله، فلقيه نعيم بن عبد الله، فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ الذى فرّق أمر قريش وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسبّ آلهتها فأقتله، فقال له نعيم: والله لقد غرّتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟ فقال: وأىّ أهل بيتى؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما. قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه وعندهما خبّاب بن الأرتّ معه صحيفة فيها «طه» يقرئهما إياها، فلما سمعوا حسّ عمر تغيّب خبّاب فى مخدع لهم أو فى بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خبّاب عليهما، لما دخل قال: ما هذه الهينمة التى سمعت؟ (والهينمة: الكلام الخفىّ الذى لا يفهم) قالا له:
ما سمعت شيئا. قال: بلى والله لقد أخبرت أنّكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفّه عن زوجها فضربها فشجّها.
فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك. ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته:
أعطنى هذه الصحيفة التى سمعتكم تقرءونها آنفا أنظر ما هذا الذى جاء به محمد. وكان عمر كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها. قال لها: لا تخافى وحلف لها بآلهته ليردّنّها إذا قرأها، فلما قال ذلك طمعت فى إسلامه، فقالت له: يا أخى إنك نجس على شركك وأنه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر واغتسل فأعطته الصحيفة وفيها
طه فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خبّاب خرج إليه، فقال له: يا عمر والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه فإنى سمعته أمس وهو يقول: «اللهم أيّد الإسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب» فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك: فدلنى يا خبّاب على محمد حتى آتيه فأسلم، وذكر الحديث «1» .
وعلى ذلك فإن سورة «طه» مكية نزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه وأما ما ذكره بعض الناس من أن الآيتين الكريمتين: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131). مدنيّتان فليس لهذا القول دليل يعتدّ به، وقد أشار إلى ذلك القرطبى رحمه الله فى مسألة ذكر فيها قول ابن عطية فقال القرطبى:«قال بعض الناس: سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلنى عليه الصلاة والسلام إلى رجل من اليهود، وقال: قل له يقول لك محمد: نزل بنا ضيف ولم يلف عندنا بعض الذى يصلحه فبعنى كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفنى إلى هلال رجب» ، فقال: لا، إلا برهن. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال:
«والله إنى لأمين فى السماء، أمين فى الأرض، ولو أسلفنى أو باعنى لأدّيت إليه، اذهب بدرعى إليه» ونزلت الآية تعزية له عن الدنيا، قال ابن عطية: وهذا معترض أن يكون سببا؛ لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية فى آخر عمر النبى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودى بهذه القصة التى ذكرت وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها، وذلك أن الله تعالى وبّخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعّدهم بالعذاب المؤجّل، ثم أمر نبيه بالاحتقار بشأنهم والصبر على أقوالهم، والإعراض عن أموالهم وما فى أيديهم من الدنيا، إذ ذلك منصرم عنهم صائر إلى خزى «2» .
وعند ما نتناول ما تضمنته سورة «طه» من المعانى على ترتيب نزولها فأول ما نظفر به من هذه المعانى، ما خوطب به النبى صلى الله عليه وسلم من بيان خصائص الوحى المنزل عليه، وأنه يرفع الحرج ويدفع المشقة وهو اليسر كلّه ومع بيان الغاية من تنزيل القرآن الكريم، وأنه تذكرة يأتى البيان بأن أهل التذكرة والانتفاع به هم أهل
الخشية. كما يأتى البيان الذى يطمئن الناس على كمال هذا الوحى وشموله وعلاجه لما خفى وما ظهر، وهدايته العامة
(1) القرطبى 11/ 163، 164.
(2)
القرطبى 11/ 262.
للتى هى أقوم فى كل شىء تذكر الآيات الكريمة صفات من أنزله سبحانه، قال جل شأنه: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8).
وهذا التنزيل المبارك على رسول الله صلى الله عليه وسلم امتداد لفضل الله على عباده منذ آدم عليه السلام، ولكنّ الناس مع الوحى المبارك مختلفون، فتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك قصة الوحى مع نبى الله موسى عليه السلام وكيف بدأ نزوله معه، فكما بدأ نزول الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غار حراء فكانت أولى آيات القرآن الكريم فإنه بدأ مع نبى الله موسى بالواد المقدس طوى وأن ما خوطب به موسى عليه السلام هو ما خوطب به رسل الله جميعا عليهم الصلاة والسلام من توحيد الله سبحانه، وعبادته وحده، والاستقامة على وحيه، والاستعداد لليوم الآخر، والتحذير من المعوقات التى تقف فى طريق الدعاة إلى الله من شياطين الإنس والجن، قال تعالى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16).
وبعد هذا تذكر الآيات الكريمة سنة الله مع رسله من تأييدهم بالآيات الدالة على صدقهم ومعرفة رسل الله بهذه الآيات التى يجريها الله على أيديهم ومن هذه الآيات- هنا- العصا. واليد. ومع هذه الآيات لا غنى للداعى إلى الله من شرح صدر الله له وتيسير أمره. كما تدل الآيات الداعين على أهمية التعاون والتآزر فى تبليغ الدعوة وعبادة الله سبحانه قال تعالى لنبيه موسى عليه السلام بعد ذكر اختياره: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36).
ومن بيان أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يختارون لتبليغ رسالات الله وتشملهم عنايته ورعايته فى جميع أحوالهم، وحياتهم يأتى ذكر منّة الله على موسى عليه السلام طفلا حيث أنقذه من عدو الله فرعون وعدو موسى الذى أراد ذبحه باعتباره طفلا من أطفال بنى إسرائيل، وأما كيف تم الإنقاذ؟ فإنه توجيه آخر لبيان كيفية إنفاذ الله لما يريد بقدرته وكيف يتم المراد بالإمهال على عكس ما يتصور البشر، فإلقاء الطفل فى التابوت ثم إلقاؤه فى اليم ثم وصول التابوت إلى مصدر الخطر. كل ذلك فى نظر الناس إلقاء بالنفس إلى التهلكة، ولكن مع رعاية الله سبحانه تتحول المخاطر إلى وسائل للنجاة فألقى الله المحبة فى قلب زوج فرعون ليلغى الأمر بالذبح، وحرّم الله عليه المراضع ودلّت أخته على أمّه باعتبارها مرضعة لا تعرفه ليتحقق وعد الله، ويعود موسى إلى أمه. كما يذكّر الله سبحانه بما يدل على عنايته به فى حياته إذ نجاه من القتل عند ما وكز الرجل، وكان فيها القضاء وكيف رعاه وهو فى أهل مدين ليجد أهلا وترحيبا وأمنا.
كل هذه النعم دلالة على الاختيار للرسل وفيه ما يطمئن المرسل إليهم إلى اصطفاء الله لرسلهم، قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41).
ومع ذكر مظاهر عناية الله بالمرسلين فى حياتهم كلها، وذكّر الله نبيه موسى عليه السلام بذلك. تذكر الآيات الكريمة بعد هذا تكليف موسى وأخيه بالذهاب إلى فرعون، ومداومة ذكر الله سبحانه مع بيان منهج الدعوة الذى ييسر للمدعو سبيل التذكر والخشية، وهو القول الليّن الذى يجعل المستمع فى هدوء أما القول المعبر عن الشدة فإنه يشغل المدعو بمواجهة الداعى، ولا يترك له فرصة التفكير فيما يدعى إليه.
ولكن قد يحدث أن يكون المدعو فى قمة الطغيان التى يتوقع معها أن يفرط على الداعى، ويكون سبيل الأمان أن يستشعر الداعى إلى الله سبحانه أن الله معه يسمع ويرى، كما تبين الآيات الكريمة بعد هذا الأهداف التى من أجلها يبعث الرسل والمذكور منها- هنا- إنقاذ البشر من ظلم الطغاة، وإشاعة السلام بين الناس باتباع الهدى، وإنذارهم من التكذيب والإعراض، ومواجهة المدعوين بالحجة وبيان ما غمض عليهم
وإقحامهم إذا أرادوا الجدل بالباطل ببيان ما ينبغى أن يشغل الإنسان به مما يعود عليه بالمنفعة، وبعد هذا البيان لكل الدعاة ينبغى أن يعلموا أن من الناس من يعرض على الرغم من الالتزام بالمنهج الرشيد فى الدعوة فإذا حدث ذلك لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فإن الآيات الكريمة تذكّره بما حدث من فرعون مع قوة الآيات ووضوحها فلا يحزن قال جل شأنه مخاطبا موسى عليه السلام: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56).
بل قد لا يكتفى المدعو بالإعراض وإنما يوجّه التهم إلى الداعى، ويقلب حقائق الأمور. فرماه بمثل ما عرف من تخييل السحرة، وأنه سحرهم بهذه الآيات ليخرجهم من الأرض وأيّد الله رسوله فى اللقاء الجامع الذى جمع فيه فرعون كيده ثم أتى.
وأبطل الله ما صنع السحرة على الرغم من شدة التمويه، وإحكام الصنعة حتى أوجس فى نفسه خيفة موسى وثبّته الله. وأيّده بالعصا التى تلقف ما صنع هؤلاء. وأدرك السحرة أن ما جرى على يد موسى ليس من قبيل سحرهم وبضاعتهم، ولذلك آمنوا برب هارون وموسى.
وهنا يظهر الطغيان فى صورته التى لا يقبلها عقل، فإن فرعون بطغيانه تصوّر أنه يملك قلوب الناس وعقولهم، فكيف يؤمن السحرة قبل أن يأذن لهم فرعون بالإيمان ثم أكّد اتهامه وقوّاه بزعم لا سند له من الواقع فى أن موسى عليه السلام هو كبيرهم الذى علمهم السحر ثم هدد بالتعذيب البدنى، وهذه نهاية الإفلاس لدى الطغاة أن يهددوا بالتعذيب، ولكنّ صدق إيمان السحرة جعلهم يستهينون بتهديد فرعون ولا يعبئون به ويرون قصر الحياة الدنيا، ويرجون ربهم أن يغفر لهم ما بدر منهم. ثم تذكر الآيات عاقبة من أجرم، وعاقبة من آمن: قال تعالى فى موقف فرعون: قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ
وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73).
ومع بيان نتيجة الإجرام ونتيجة الإيمان تعقيبا على موقف فرعون من موسى وهارون عليهما السلام والموقف من السحرة الذين آمنوا وذلك فى قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (47) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76).
فإنه قبل أن يلقى فرعون مصيره يرى آية أخرى فى الطريق الذى جعله الله لموسى ومن آمن معه فى البحر، ولكن العمى كان قد تحكم من فرعون فلم ينتفع بالآيات كلّها بل أضلّ قومه وكان مصيره أن يموت فى البحر. قال تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79).
وإذا كان هذا نذيرا للطغاة فى كل عصر فإن الآيات الكريمة بعد ذلك تحكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث من قوم موسى؛ ليقف على ما كان من أمر بنى اسرائيل، وما كان من شأن هذه الأمة. لقد ذكرت الآيات ما منّ الله به على بنى إسرائيل من النجاة من عدوهم وما نزّل عليهم من المنّ والسلوى وطيبات الرزق، ولكن بعد نجاتهم من إضلال فرعون وقعوا تحت تأثير إضلال السامرىّ لهم، فلما تركهم موسى أضلّهم السامرىّ بالعجل ونهاهم هارون ولكن لم يستجيبوا له. وعاقب الله المضلّ وحرّق العجل ونسف
فى اليمّ نسفا، قال تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ
رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً
(97)
.
وبعد هذا تستخلص العبرة وصولا إلى التوحيد الخالص والتأكيد على أهمية الذكر الحكيم وعدم الإعراض عنه، والتذكير بيوم القيامة وما يحدث فيه. والعود إلى ذكر التنزيل وغايته، وبيان شوق الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، وضمان جمعه فى صدره تأكيدا لما ذكر فى أول السورة الكريمة، قال تعالى: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً (104).
أخرج «1» ابن المنذر وابن جريج قال: قالت قريش: كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107). وتستمر الآيات فى بيان ما سيحدث يوم القيامة فيقول الله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ
(1) فتح القدير 3/ 387.
فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114).
وتستمر الآيات الكريمة لتعطى الأمة الخاتمة خلاصة تجارب السابقين وما كان منهم فتذكر لنا ما كان من أبى البشر آدم عليه السلام حيث عهد إليه وأمر فالتزم وأذعن ومع ذلك نسى وانتقضت عزيمته وتاب وتاب الله عليه كما تبصّر الآيات الكريمة بنى آدم بتكريم الله لأبيهم وعداوة إبليس وإغوائه لآدم عليه السلام وأسلوبه فى الإغواء ونزول الوحى والهدى وانقسام الناس فى قبول الوحى إلى قسمين. قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127).
وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك العبرة التاريخية فيما حدث للسابقين وكيف تكون سنة الله فى خلقه فى الإمهال. قال تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129).
ثم توجه الآيات الكريمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقويته فى مواجهة التحديات بالصبر على ما يقولون، والتسبيح بحمد الله وصولا إلى الرضا، والرضا بما قسم الله، وأمر الأهل بالصلاة والاطمئنان على رزق الله، وهذه سبل تدعيم الشخصية لكل مؤمن. قال تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ
اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132).
وتختم السورة الكريمة بذكر مطلب المشركين فى أن يأتيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بآية كالناقة والعصا، أو أن يأتيهم بالآيات التى يقترحونها كما جاء فى قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً
رَسُولًا (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا
(94)
[الإسراء].
وهذا مطلب عجيب فقد جاءهم البينات فى هذا الذكر الحكيم فهو كتاب معجز وقص عليهم أخبار السابقين وأحوالهم؛ ومنها: ما ذكر فى سورة «طه» من ظهور الآيات أمام فرعون ولم ينتفع بها. فمع التعنت والعناد والظلم لا تغنى الآيات.
لقد أقيمت الحجة عليهم بما جاءهم من الحق والبينات، وليس لديهم ما يتعللون به حين يرون العذاب والخزى. وإذا كان المشركون يتربصون بالنبى صلى الله عليه وسلم فإن العاقبة ستظهر من كان على صراط مستقيم ومن اهتدى، قال تعالى: وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135).