الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «الفاتحة»
ومع روضة قرآنية كريمة نمتع بها قلوبنا فى كل صلاة، إنها سورة الفاتحة، فاتحة الكتاب. وهى السبع المثانى، وأم القرآن، وأم الكتاب، وقد جاءت السنة الصحيحة بهذه الأسماء، فأما تسميتها بفاتحة الكتاب فقد جاء فى ذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وروى الترمذى عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله
…
أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثانى» قال: هذا حديث حسن صحيح، وفى البخارى قال: وسميت أم الكتاب لأنه يبتدأ بكتابتها فى المصاحف ونبدأ بقراءتها فى الصلاة. وقال يحيى بن يعمر: أم القرى: مكة، وأم خراسان: مرد، وأم القرآن: سورة الحمد، وعلى ذلك يكون الفهم الصحيح لمعنى تسميتها بفاتحة الكتاب، وليس المراد إذن بصفة الفتح للكتاب أنها أول الكتاب الكريم نزولا، فهذا رأى ضعيف يعتمد على حديث منقطع لا يقوى فى الاحتجاج به، وقد ذكر هذا الحديث البيهقى فى دلائل النبوة عن أبى ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة:«إنى إذا خلوت وحدى سمعت نداء وقد- والله- خشيت أن يكون هذا أمرا» ، قالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فوالله إنك لتؤدى الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر- وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ (أى هناك) ذكرت خديجة حديثا له، قالت: يا عتق، اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده، فقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال:
«ومن أخبرك» ، قال: خديجة، فانطلقنا إليه فقصا عليه، فقال:«إذا خلوت وحدى سمعت نداء خلفى يا محمد يا محمد، فأنطلق هاربا فى الأرض» ، فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتنى فأخبرنى، فلما خلا ناداه: يا محمد، قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) حتى بلغ وَلَا الضَّالِّينَ (7)[الفاتحة] قل: لا إله إلا الله.
فأتى ورقة فذكر ذلك له، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذى بشر به عيسى ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبى مرسل، وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، وإن يدركنى ذلك لأجاهدنّ معك، فلما توفى ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيت القس فى الجنة عليه ثياب الحرير لأنه أحسن بى
وصدقنى- يعنى ورقة» قال البيهقى رحمه الله: هذا منقطع يعنى: هذا الحديث، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزل عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «1» . ولا يفهم من قول الإمام البيهقى رحمه الله أنها السورة الثالثة، ولكن يعنى أن بداية التنزيل كان فى الآيات الأولى من سورة اقرأ باسم ربك، وأن سورة الفاتحة لم تكن الأولى فى ترتيب النزول، وإنما كانت بعد يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وهذا هو الترتيب الراجح وإلا فقد حكى الخلاف فى تحديد زمن نزولها على ما يلى:
الجمهور على أنها نزلت بمكة لقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)[الحجر]، والحجر مكية بإجماع، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه كان فى الإسلام صلاة بغير الفاتحة.
وذكر هذا الرأى ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياض- واسمه رفيع- وغيرهم.
وأما أبو هريرة رضي الله عنه ومجاهد وعطاء بن يسار والزهرى وغيرهم فيرون أنها مدنية.
وجمع بعض العلماء بين القولين بأنها تكرر نزولها فنزلت بمكة ونزلت بالمدينة حين حولت القبلة وحكى أبو الليث السمرقندى أن نصفها نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة، ويعلق ابن كثير على هذا بقوله: وهو غير مجاهد نقله القرطبى عنه، وعلى ذلك نصل إلى تقرير أن سورة الفاتحة فى ترتيب نزولها بعد سورة المدثر، وأنها نزلت كاملة غير منجمة، وأن المسلمين قرءوا بها فى الصلاة عند فرضها، وأنها فاتحة الكتاب المنزل المتضمنة لمقاصد الكتاب العزيز إجمالا، فالقرآن الكريم فيه البيان لحقوق الخالق على خلقه، وحاجة الخلق إلى خالقهم، وتنظيم الصلة بين الخالق والمخلوق، فهذا من جملة المقاصد التى جاء بها القرآن الكريم، وقد أشارت إليها الفاتحة- على ما سنفصل إن شاء الله تعالى- فآياتها الأولى بيان لحقوق الله على خلقه، وإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) مع طلب الهداية منه تعالى إلى الصراط المستقيم بيان لحاجة الخلق إلى خالقهم، والصراط المستقيم هو نظام هذه الصلة بين المخلوق والخالق سبحانه، كما تضمنت الفاتحة كذلك الإشارة إلى الرد على كل طوائف المبطلين الخارجين عن الصراط المستقيم، وبيان أسباب هذا الخروج، وهى لا تتعدى الغضب عليهم أو الضلال منهم، وبهذا استحقت الفاتحة أن يطلق عليها أم القرآن «2» .
(1) القرطبى 1/ 116، وروح المعانى 1/ 31.
(2)
محاسن التأويل 1/ 3، 4، وروح المعانى 1/ 31، 32، والدر المنثور فى التفسير بالمأثور 1/ 2، وابن كثير 1/ 18، 19، رسالتان فى التفسير: حسن البنا ص 45، والتحرير والتنوير 1/ 134.
ونتابع الحديث فى سورة الفاتحة، وقد تناولنا فى الجزء السابق تسمية الفاتحة بأم القرآن وخاتمة الكتاب، وسميت السورة الكريمة بالسبع المثانى، ففي صحيح البخارى عن أبى سعيد بن المعلى رضي الله عنه، قال: كنت أصلى فدعا فى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، حتى صليت، قال فأتيته. فقال:«ما منعك أن تأتينى؟» ، قال: قلت: يا رسول الله إنى كنت أصلى قال: «ألم يقل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» [الأنفال: 24] ثم قال: «لأعلمنك أعظم سورة فى
القرآن قبل أن تخرج من المسجد»، قال: فأخذ بيدى، فلما أراد أن يخرج من المسجد، قلت: يا رسول الله إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة فى القرآن، قال:«نعم «الحمد لله رب العالمين» ، هى السبع المثانى والقرآن العظيم الذى أتيته» «1» ، ووجه تسميتها بالسبع المثانى أنها سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين، ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصرى فقال: هى ثمان آيات، وإلا الحسن الجعفى فقال: هى ست آيات، ولا يعنى هذا أنهم يزيدون أو ينقصون شيئا من الفاتحة وإنما يرجع ذلك إلى عد البسملة من الفاتحة، أو يرجع إلى إدماج آيتين فى آية واحدة أو الفصل. فعلى السبع وهو ما عليه الاتفاق تجد حديث الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«قال الله عز وجل: قسمت الصلاة نصفين بينى وبين عبدى فنصفها إلىّ، ونصفها لعبدى، ولعبدى ما سأل، يقول العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)، فأقول:
حمدنى عبدى
…
وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)، قال الله: هذا بينى وبين عبدى، وإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)، قال الله: هؤلاء لعبدى ولعبدى ما سأل».
فهنّ ثلاث ثم واحدة ثم ثلاث، فعند أهل المدينة لا تعد البسملة آية وتعد أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية، وعند أهل مكة وأهل الكوفة تعد البسملة آية، وتعد أنعمت عليهم جزء آية، والحسن البصرى عد البسملة آية، وعد أنعمت عليهم آية «2» .
وأما وصفها بالمثانى فلأنها تثنى فى الصلاة أى تكرر فتكون التثنية بمعنى التكرير، وهذا ما عرف من الأسلوب العربى من استعمال المثنى فى مطلق المكرر نحو ثُمَّ ارْجِعِ
(1) رواه أحمد فى مسنده وأبو داود والنسائى وماجة من طرق. تفسير التحرير والتنوير 1/ 134.
(2)
التحرير والتنوير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور 1/ 136.
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] وقولهم: لبيك وسعديك، وعلى ذلك يكون المراد بالمثانى فى وصف الفاتحة مثل المراد بالمثانى فى قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] أى مكرر القصص والأغراض «1» .
ومن أسمائها كذلك «2» ما ذكره القرطبى فى تفسيره زيادة على ما ذكر: إنها سميت بالصلاة، وهذا الاسم مأخوذ من الحديث القدسى الذى يقول الله عز وجل فيه:
«قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين» وهذه القسمة تتناول آيات الفاتحة التى يقرأها المصلى فى كل ركعة.
وسميت كذلك سورة الحمد، لأن فيها ذكر الحمد كما يقال: سورة الأعراف، والأنفال والتوبة ونحوها.
وسميت كذلك بالشفاء لما جاء فى مسند الدارمى عن عبد الله بن عمير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فى فاتحة الكتاب شفاء من كل داء» . وفى رواية عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فاتحة الكتاب شفاء من كل سم» .
وسميت كذلك بالرقية لما أخرجه أبو عبيدة وأحمد والبخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجة والحاكم والبيهقى عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال:
بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سريّة: ثلاثين راكبا فنزلنا بقوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا فلدغ سيدهم فأتونا فقالوا: فيكم أحد يرقى من العقرب، فقلت: نعم أنا، ولكن لا أفعل حتى تعطونا شيئا، قالوا: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة، فقال: فقرأنا عليه «الحمد» سبع مرات، فبرأ فلما قبضنا الغنم عرض فى أنفسنا منها فكففنا حتى أتينا النبى صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال:
«أما علمت أنها رقية، اقتسموها واضربوا لى معكم بسهم» «3» .
فجاء فى هذه الرواية تسمية السورة باسم الحمد على لسان أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه، وجاء تسميتها بالرقية على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزادهم اطمئنانا على سلامة ما صنعوا وعدم تحرجهم مما أخذوا بأن قال لهم:«واضربوا لى معكم سهم» .
(1) التحرير والتنوير 1/ 135، وروح المعانى 1/ 38.
(2)
فتح القدير 1/ 15، التحرير والتنوير 1/ 131، والدر المنثور 1/ 14، والقرطبى 1/ 111، 112.
(3)
الدر المنثور 1/ 4، المطبعة الشعبية ببيروت.
وسميت كذلك بالوافية ذكر ذلك سفيان بن عيينة، لأنها لا تقبل التنصيف وقال الثعلبى: ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو قرئ نصفها فى ركعة والنصف الآخر فى ركعة أخرى لجاز، وهذا التنصيف غير جائز فى هذه السورة.
وسميت كذلك بالكافية، جاء ذلك عن عبد الله بن يحيى بن أبى كثير أنه سأله سائل عن قراءة الفاتحة خلف الإمام، فقال: عن الكافية تسأل؟ قال السائل: وما الكافية؟ قال:
الفاتحة، أما علمت أنها تكفى عن سواها ولا يكفى سواها عنها «1» .
بهذه الأسماء والصفات والألقاب سميت الفاتحة، وسميت ووصفت بغيرها أيضا، فقد ذكر الإمام السيوطى فى الأنقاض منها أكثر من ذلك بين ألقاب وصفات جرت على ألسنة القراء والعلماء، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى.
ونتابع القول فى سورة الفاتحة بعد أن تناولنا نزولها وأسماءها، بقى أمامنا أمران:
الأول: ما قيل فى البسملة وعدّها من آيات، سورة الفاتحة، والثانى: يحمل المعانى على ترتيبها من التنزيل الكريم.
فأما الأمر الأول: فإن ذكر البسملة بصيغتها الكاملة «بسم الله الرحمن الرحيم» مع سورة الفاتحة وإن كان معناها تقدم فى أولى آيات الكتاب الكريم من سورة العلق فى قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)[العلق] وفى هذا توجيه من بداية التنزيل إلى أن يعود الأمر كله لله سبحانه، فهو رب العالمين، وهو الله الرحمن الرحيم، فبسم الله أى: بالله، ومعنى بالله أى: بخلقه وتقديره، وكذلك من معانيها باسم الله يعنى: بعون الله وتوفيقه وبركته فيذكر اسم الله تعالى عند افتتاح القراءة وغيرها؛ حتى يكون الافتتاح ببركة الله- عز وجل وعلى هذا جاءت التوجيهات القرآنية لتؤكد هذا المعنى وكذلك وردت أحاديث للنبى صلى الله عليه وسلم لتأكيده فى أول كل فعل كالأكل والشرب والنحر والجماع والطهارة وركوب البحر إلى غير ذلك من الأفعال قال الله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 118]، وقال تعالى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: 41]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وقمر إناءك واذكر اسم الله، وأوكئ سقاءك واذكر اسم الله» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتى
(1) فتح القدير 1/ 15، والقرطبى 1/ 111، 112، والتفسير الكبير للرازى 1/ 173 - 177.
أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدّر بينهما ولد فى ذلك لم يضره شيطان أبدا». وقال- عليه الصلاة والسلام لعمر بن أبى سلمة:«يا غلام سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك» وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان لا يستحل الطعام الذى يذكر اسم الله عليه» . وقال: «من لم يتربح فليتربح باسم الله» ، وشكا إليه عثمان بن أبى العاص وجعا يجده فى جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ضع يدك على الذى تألم من جسدك وقل: باسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» ، فهذه التوجيهات كلها ثابتة فى الصحيح كما روى ابن ماجة والترمذى عن النبى صلى الله عليه وسلم:«ستر ما بين الجن وعورات بنى آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله» ، وروى الدارقطنى عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مس طهوره سمى الله تعالى ثم يفرغ الماء على يديه.
فهذا ما وجه الشرع الحنيف إليه نحو البسملة وذكرها في بداية الأقوال والأفعال وما جعل الله فى ذكر هامش الخير والبركة، وأما اعتبارها من آيات سورة الفاتحة وغيرها فإن للعلماء أقوالا فى ذلك منها:
أولا: إنها آية من القرآن الكريم فى سورة النمل باتفاق الجميع وهى قوله تعالى:
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30)[النمل].
ثانيا: إنها آية من كل سورة، وهو قول عبد الله بن المبارك.
ثالثا: إنها آية فى الفاتحة، قال بذلك الشافعى، أما فى سائر السور فتردد قوله، فمرة قال: هى آية من كل سورة، ومرة قال: ليست آية إلا فى الفاتحة وحدها.
رابعا: إنها ليست آية من الفاتحة ولا غيرها، وهو قول مالك وقدم أصحاب هذه الأقوال حججهم فى ذلك، فأما حجة ابن المبارك وكذلك الحجة لأحد قولى الشافعى ما رواه مسلم عن أنس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟
قال: «نزلت على آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)» [الكوثر]، ومعنى ذلك أن البسملة ذكرت فيما أنزل من السور الأخرى كسورة الكوثر «1» .
(1) القرطبى 20/ 216.
وأما حجة الشافعى فى أنها آية من سورة الفاتحة ففيما رواه الدارقطنى من حديث أبى بكر الحنفى عن عبد الحميد بن صفر عن نوح بن أبى بلال عن سعيد بن أبى سعيد المقبرى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين» فاقرءوا:
«بسم الله الرحمن الرحيم» إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثانى وبسم الله الرحمن الرحيم أحد آياتها».
رفع هذا الحديث عبد الحميد بن جعفر، وعبد الحميد هذا وثّقه أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد ويحيى بن معين وأبو حاتم يقول فيه: محله الصدق، وكان سفيان الثورى مضيفه ويحمل عليه ونوح بن أبى بلال ثقة مشهور.
لقد ذكرنا فى الجزء السابق بعضا من أقوال العلماء فى اعتبار البسملة من آيات سورة الفاتحة، ونكمل القول فى ذلك مع ذكر الأدلة. فأما قول مالك: بأنها ليست من الفاتحة
ولا غيرها، فإن القرطبى يصحح هذا القول، ويذكر أن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعى الذى لا يختلف فيه.
والأخبار الصحاح التى لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا فى النمل وحدها، ويعنى بذلك قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30)[النمل] ويورد القرطبى على ذلك الأدلة الآتية:
ما رواه مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)، قال الله تعالى: حمدنى عبدي، وإذا قال العبد: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) قال الله تعالى أثنى علىّ عبدى، وإذا قال العبد:
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) قال: مجدنى عبدى- وقال مرة: فوض إلىّ عبدى- فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) قال: هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) قال: هذا لعبدى ولعبدى ما سأل». فقوله سبحانه: «قسمت الصلاة» يريد الفاتحة، وسماها الصلاة لأن الصلاة؛ لا تصح إلا بها، فجعل الثلاث الآيات الأولى لنفسه، واختص بها تبارك اسمه، ولم يختلف المسلمون فيها.
ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده؛ لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة
منه، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى، ثم ثلاث آيات تتمة سبع آيات. ومما يدل على أنها ثلاث قوله: هؤلاء لعبدى أخرجه مالك ولم يقل: هاتان، فهذا يدل على أن أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية، قال ابن بكير قال مالك: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية ثم الآية السابعة إلى آخرها، فثبت بهذه القسمة التى قسمها الله تعالى، وبقوله- عليه الصلاة والسلام لأبيّ:«كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟» قال: فقرأت الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) حتى أتيت على آخرها- إن البسملة ليست آية منها، وكذا عد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة وأكثر القراء عدوا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية وكذا روى قتادة عن أبى نضرة عن أبى هريرة قال: الآية السادسة: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وأما أهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها «بسم الله الرحمن الرحيم» ولم يعدوا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.
وبعد أن يصحح القرطبى قول مالك السابق يورد بعض الاعتراضات، ويجيب عنها فيقول «1»: إن قيل: فإنها ثابتة فى المصحف ومكتوبة بخطه ونقلب نقله كما نقلت فى النمل، وذلك متواتر عنهم. قلنا: ما ذكرتموه صحيح، ولكن لكونها قرآنا، أو لكونها فاصلة بين السور، كما روى عن الصحابة- رضوان الله عليهم: كنا لا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل: «بسم الله الرحمن الرحيم» أخرجه أبو داود، أو تبركا بها، كما قد اتفقت الأمة على كتابتها فى أوائل الكتب والرسائل، كل ذلك محتمل. وقد قال الجريرى: سئل الحسن عن «بسم الله الرحمن الرحيم» قال: فى صدور الرسائل، وقال الحسن أيضا: لم تنزل «بسم الله الرحمن الرحيم» فى شيء من القرآن إلا فى «طس» (آية) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30)[النمل] والفيصل وأن القرآن لا يثبت بالنظر والاستدلال، وإنما يثبت بالنقل المتواتر القطعى الاضطرارى، ثم قد اضطرب قول الشافعى فيها فى أول كل سورة فدل على أنها ليست بآية من كل سورة، والحمد لله.
فإن قيل: فقد روى جماعة قرآنيتها، وقد تولى الدارقطنى جمع ذلك فى جزء صححه، قلنا: لسنا نفكر الرواية بذلك وقد أشرنا إليه، ولنا أخبار ثابتة فى مقابلتها رواها الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات، فقد روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فى صحيح مسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين. الحديث.
(1) القرطبى 1/ 94 - 97.
وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك قال: صليت خلف النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون «بسم الله الرحمن الرحيم» لا فى أول قراءة ولا فى آخرها.
يقول القرطبى: ثم إن مذهبنا يترجح فى ذلك بوجه عظيم، وهو المعقول وذلك أن مسجد النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرت عليه الأزمنة والدهور، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط:«بسم الله الرحمن الرحيم» اتباعا للسنة، وهذا يرد أحاديثكم.
بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها فى النفل، وعليه تحمل الآثار الواردة فى قراءتها، أو على السنة فى ذلك. قال مالك: ولا بأس أن يقرأ بها فى النافلة، ومن يعرض القرآن الكريم عرضا.
هذه مجموعة الأقوال فى البسملة ومنها يتضح لنا أنه لا خلاف بين العلماء فى أن «بسم الله الرحمن الرحيم» من القرآن الكريم كما جاء فى قوله تعالى من سورة النمل:
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30)[النمل] فهى جزء من آية.
وإنما الخلاف فى هل هى آية من سورة الفاتحة، ومن أوائل السور غير براءة أى أن الاختلاف ليس فى كونها قرآنا، ولكنه فى تكرر قرآنيتها، والله الهادى إلى سواء السبيل.
لقد تناولنا فى الأجزاء السابقة. ما يتصل بنزول الفاتحة وما يتعلق بآياتها، ونتناول الآن ترتيب ما تضمنته من المعانى حسب النزول، لقد جاءت معانى سورة الفاتحة جامعة حتى عدت السورة ولقبت بأم الكتاب، وكان نزولها بعد السور السابقة، وما تضمنته من توجيه الخلق إلى الله والقراءة باسمه والعمل له وتدبر آياته، وأن المصير
إليه، وما تضمنت من تدعيم للمؤمنين، والشد من أزرهم بدءا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان حال الطوائف المعادية من المشركين وغيرهم، والتفصيل فى وجوه الإنذار، وكل هذه المعانى جعلت حركة الدعوة تزداد قوة ونشاطا وظهورا كما ازداد عدد المؤمنين، وأصبح لهم كيان بشرى ملموس أى صاروا جماعة تتكون من الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه من المؤمنين والمؤمنات، وكان نزول الفاتحة لتعليم المؤمنين وتوجيههم إلى أصول عامة وقواعد كلية فى علاقتهم بربهم، وفى علاقتهم فيما بينهم، وفى سلوكهم، وفى الحذر مما يضرهم،
فهى إذن رعاية من الله تبارك وتعالى لهؤلاء المؤمنين فى مسيرتهم، وهذه الأصول الجامعة فيما يلى:
أولا: توجيه المؤمنين إلى الحمد أى إلى الثناء الكامل على الله وحده، فله الثناء الحسن الجميل، وهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه، إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ومع بذل غاية الجهد البشرى فى الثناء على الله لا يصلون إلى ما يستحق الخالق البارئ المصور المنعم- جل جلاله ولذلك جاء فى دعوات النبى صلى الله عليه وسلم:«لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» فلله الحمد وله الشكر كذلك على ما أولى من الإحسان؛ ولذلك روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الحمد لله كلمة كل شاكر، وإن آدم عليه السلام قال حين عطس: الحمد لله، وقال الله لنوح عليه السلام: فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)[المؤمنون]، وقال إبراهيم عليه السلام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [إبراهيم: 39]، وقال فى قصة داود وسليمان وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) [النمل] وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الإسراء: 111] وقال أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34]، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس:
10] فهى كلمة كل شاكر.
فتوجيه المؤمنين إلى الحمد توجيه إلى ما يرضى الرب سبحانه، ويربى فى المؤمنين الحسن المرهف الذى يقدر النعمة ويقدم الشكر لمسديها، وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام والإيمان والهداية، فعن أبى هريرة رضي الله عنه وكذلك عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:«إذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ قال: صدق عبدى، الحمد لى» وروى مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها» .
فالحمد لله.
ثانيا: التوجيه الثانى يتضمن الإقرار بالربوبية، فالله سبحانه الذى يستحق الحمد وحده هو رب العالمين مالكهم ومربيهم. والعالمون جمع عالم وهو كما يقول قتادة:
كل موجود سوى الله تعالى «1» فيشمل كل مخلوق وموجود، وهذا ما ذكر من قوله
(1) القرطبى 1/ 139.
تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا [الشعراء].
ثالثا: التوجيه إلى التعيين فى ربكم «رحمن رحيم» ، وعلى ذلك يكون المؤمن دائما بين الخشية والرغبة فما يستشعره من الربوبية مع الرحمة تجعله خائفا من غضب الله وعذابه راجيا فى رحمته وثوابه ورضاه.
رابعا: إن الذى بيده الملك فى الدنيا هو مالك يوم الدين فدنياكم بيده وأخراكم بيده فلا تجعلوا له أندادا.
خامسا: التوجيه إلى الشعور بالانتماء إلى جماعة المؤمنين، والتكلم بلسان هذه الجماعة فى بيان منهج حياتها، وفى بيان صلتها بربها، وفى طلب الخير والنجاة لها فى سلامتها من انحراف الخارجين. ويبدأ هذا التوجيه والإرشاد فى قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) فالحديث هنا بلسان الجماعة التى عرفت ربها، وأيقنت بهيمنته وأنه رحمن رحيم يستحق العبادة وحده ومنه العون والتوفيق.